عرض مشاركة واحدة
  #329  
قديم 03-12-2024, 08:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,318
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 329)

من صــ 131 الى صـ 145




(قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (29)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وكذلك لفظ " الجزية " و " الدية " فإنها فعلة من جزى يجزي إذا قضى وأدى ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم {تجزي عنك ولا تجزي عن أحد بعدك} وهي في الأصل جزى جزية كما يقال: وعد عدة ووزن زنة. وكذلك لفظ " الدية " هو من ودى يدي دية كما يقال: وعد يعد عدة والمفعول يسمى باسم المصدر كثيرا فيسمى المؤدى دية والمجزي المقضي جزية كما يسمى الموعود وعدا في قوله: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} {قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين} {فلما رأوه زلفة} وإنما رأوا ما وعدوه من العذاب وكما يسمى مثل ذلك الإتاوة لأنه تؤتى أي: تعطى. وكذلك لفظ الضريبة لما يضرب على الناس. فهذه الألفاظ كلها ليس لها حد في اللغة ولكن يرجع إلى عادات الناس فإن كان الشرع قد حد لبعض حدا كان اتباعه واجبا.
ولهذا اختلف الفقهاء في الجزية: هل هي مقدرة بالشرع أو يرجع فيها إلى اجتهاد الأئمة؟. وكذلك الخراج والصحيح أنها ليست مقدرة بالشرع. {وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافريا} قضية في عين لم يجعل ذلك شرعا عاما لكل من تؤخذ منه الجزية إلى يوم القيامة؛ بدليل أنه صالح لأهل البحرين على حالم ولم يقدره هذا التقدير وكان ذلك جزية وكذلك صالح أهل نجران على أموال غير ذلك ولا مقدرة بذلك فعلم أن المرجع فيها إلى ما يراه ولي الأمر مصلحة وما يرضى به المعاهدون فيصير ذلك عليهم حقا يجزونه أي: يقصدونه ويؤدونه.
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وكانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أن من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله من النصارى صار من أمته له ما لهم وعليه ما عليهم. وكان له أجران: أجر على إيمانه بالمسيح وأجر على إيمانه بمحمد. ومن لم يؤمن به من الأمم فإن الله أمر بقتاله كما قال في كتابه: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}.
فمن كان لا يؤمن بالله بل يسب الله ويقول: إنه ثالث ثلاثة وأنه صلب. ولا يؤمن برسله؛ بل يزعم أن الذي حمل وولد وكان يأكل ويشرب ويتغوط وينام: هو الله وابن الله. وأن الله أو ابنه حل فيه وتدرعه ويجحد ما جاء به محمد خاتم المرسلين ويحرف نصوص التوراة والإنجيل؛ فإن في الأناجيل الأربعة من التناقض والاختلاف بين ما أمر الله به وأوجبه ما فيها ولا يدين الحق. ودين الحق هو الإقرار بما أمر الله به وأوجبه من عبادته وطاعته ولا يحرم ما حرم الله ورسوله؛ من الدم والميتة ولحم الخنزير الذي ما زال حراما من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما أباحه نبي قط؛ بل علماء النصارى يعلمون أنه محرم وما يمنع بعضهم من إظهار ذلك إلا الرغبة والرهبة. وبعضهم يمنعه العناد والعادة ونحو ذلك. ولا يؤمنون باليوم الآخر؛ لأن عامتهم وإن كانوا يقرون بقيامة الأبدان؛ لكنهم لا يقرون بما أخبر الله به من الأكل والشرب واللباس والنكاح والنعيم والعذاب في الجنة والنار؛ بل غاية ما يقرون به من النعيم السماع والشم. ومنهم متفلسفة ينكرون معاد الأجساد وأكثر علمائهم زنادقة وهم يضمرون ذلك ويسخرون بعوامهم؛ لا سيما بالنساء والمترهبين منهم: بضعف العقول. فمن هذا حاله فقد أمر الله رسوله بجهاده حتى يدخل في دين الله أو يؤدي الجزية وهذا دين محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} إلى قوله تعالى: {من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} فأمرنا بقتالهم إلى أن يعطوا الجزية وهم صاغرون ولا يجوز الإمساك عن قتالهم إلا إذا كانوا صاغرين حال إعطائهم الجزية ومعلوم أن إعطاء الجزية من حين بذلها والتزامها إلى حين تسليمها وإقباضها فإنهم إذا بذلوا الجزية شرعوا في الإعطاء ووجب الكف عنهم إلى أن يقبضوناها فيتم الإعطاء فمتى لم يلتزموها أو التزموها أولا وامتنعوا من تسليمها ثانيا لم يكونوا معطين للجزية لأن حقيقة الإعطاء لم توجد وإذا كان الصغار حالا لهم في جميع المدة فمن المعلوم أن من أظهر سب نبينا في وجوهنا وشتم ربنا على رؤوس الملإ منا وطعن في ديننا في مجامعنا فليس بصاغر لأن الصاغر الذليل الحقير وهذا فعل متعزز مراغم بل هذا
غاية ما يكون من الإذلال لنا والإهانة قال أهل اللغة: الصغار الذل والضيم يقال: صغر الرجل بالكسر يصغر بالفتح صغرا وصغرا والصاغر: الراضي بالضيم ولا يخفى على المتأمل أن إظهار السب والشتم لدين الأمة التي اكتسب شرف الدنيا والآخرة ليس فعل راض بالذل والهوان وهذا ظاهر لا خفاء به.
وإذا كان قتالهم واجبا علينا إلا أن يكونوا صاغرين وليسوا بصاغرين كان القتال مأمورا به وكل من أمرنا بقتاله من الكفار فإنه يقتل إذا قدرنا عليه.
وأيضا فإنا إذا كنا مأمورين أن نقاتلهم إلى هذه الغاية لم يجز أن نعقد لهم عهد الذمة بدونها ولو عقد لهم كان عقدا فاسدا فيبقون على الإباحة.
ولا يقال فيهم: فهم يحسبون أنهم معاهدون فتصير لهم شبهة أمان وشبهة الأمان كحقيقة فإن من تكلم بكلام يحسبه الكافر أمانا كان في حقه أمانا وإن لم يقصده المسلم.
لأنا نقول: لا يخفى عليهم أنا لم نرض بأن يكونوا تحت أيدينا مع إظهار شتم ديننا وسب نبينا وهم يدرون أنا لا نعاهد ذميا على مثل هذه الحال فدعواهم أنهم اعتقدوا أنا عاهدناهم على مثل هذا مع اشتراطنا عليهم أن يكونوا صاغرين تجري عليهم أحكام الملة دعوى كاذبة فلا يلتفت إليها.
وأيضا فإن الذين عاهدوهم أول مرة هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عمر وقد علمنا أنه يمتنع أن يعاهدهم عهدا خلاف ما أمر الله به في كتابه.
وأيضا فإنا سنذكر شروط عمر رضي الله عنه وأنها تضمنت أن من أظهر الطعن في ديننا حل دمه وماله.

(وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون (30)

سئل - رحمه الله -:
عن قوله تعالى {وقالت اليهود عزير ابن الله} كلهم قالوا ذلك أم بعضهم؟ {وقول النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى باليهود يوم القيامة فيقال لهم ما كنتم تعبدون؟ فيقولون العزير} الحديث. هل الخطاب عام أم لا؟.
فأجاب:
الحمد لله، المراد باليهود جنس اليهود كقوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} لم يقل جميع الناس ولا قال: إن جميع الناس قد جمعوا لكم؛ بل المراد به الجنس. وهذا كما يقال الطائفة الفلانية تفعل كذا وأهل الفلاني يفعلون كذا وإذا قال بعضهم فسكت الباقون ولم ينكروا ذلك فيشتركون في إثم القول. والله أعلم.
[فصل: قوله في التوراة الذي قال لي أنت ابني وأنا اليوم ولدتك]
قالوا: نذكر رابعا، وقال في المزمور الثاني: (الذي قال لي: أنت ابني وأنا اليوم ولدتك).
والجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا ليس فيه تسمية صفات الله - علمه وحياته - ابنا، ولا فيه ذكر الأقانيم الثلاثة، فليس فيه حجة لشيء مما تدعونه.
والثاني: أن هذا حجة عليهم، فإنه هو سمى داود ابنه، فعلم أن اسم الابن ليس مختصا بالمسيح عليه السلام، بل سمى غيره من عباده ابنا، فعلم أن اسم الابن ليس اسما لصفاته، بل هو اسم لمن رباه من عبيده.
وحينئذ فلا تكون تسمية المسيح ابنا لكون الرب أو صفته اتحدت به، بل كما سمى داود ابنا، وكما سمى إسرائيل ابنا فقال: (أنت ابني بكري).
وهذا في كتبهم، كما ذكر، (فإن كان ما في كتبهم قول الله فلا حجة فيه، لأنه أراد المربى، وإن لم يكن قول الله ورسله) فلا حجة فيه، لأن قول غير المعصوم ليس بحجة.
الثالث: أن قوله: (وأنا اليوم ولدتك) يدل على حدوث هذا الفعل، وعندهم تولد الكلمة التي يسمونها الابن من الأب قديم أزلي، كما قالوا في أمانتهم (وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد، المولود من الأب قبل كل الدهور نور من نور إله حق من إله حق من جوهر أبيه، مولود غير مخلوق، مساو الأب في الجوهر الذي به كان كل شيء).
فهذا الابن عندهم مولود من الأب قبل كل الدهور، وذاك ولد في يوم خاطبه بعد خلق داود فلم يكن في هذا المحدث دليل على وجود ذلك القديم.
الوجه الرابع: أنه إذا كان الأب في لغتهم هو الرب الذي يربي عبده، أعظم مما يربي الأب ابنه، كان معنى لفظ الولادة مما يناسب معنى هذه الأبوة، فيكون المعنى: اليوم جعلتك مرحوما مصطفى مختارا.

والنصارى قد يجعلون الخطاب الذي هو ضمير لغير المسيح، يراد به المسيح، فقد يقولون: المراد بهذا المسيح، وهذا باطل لا يدل اللفظ عليه، وبتقدير صحته، فهو يدل على أن المسيح هو الناسوت المخلوق، وهو المسمى بالابن، لقوله (وأنا اليوم ولدتك).
واللاهوت عندهم مولود من قبل الدهور، وحينئذ فإن كان المراد به يوم ولادته، فالمعنى خلقتك، وإن كان يوم اصطفاه، فالمراد اليوم اصطفيتك وأحببتك، كأنه قال: اليوم جعلتك ولدا وابنا، على لغتهم.

(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31)

وقد {قال النبي صلى الله عليه وسلم الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل} قال ابن عباس وأصحابه: كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق. وكذلك قال أهل السنة كأحمد بن حنبل وغيره كما سنذكره - إن شاء الله - وقد قال الله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون}. وفي حديث {عدي بن حاتم - وهو حديث حسن طويل رواه أحمد والترمذي وغيرهما - وكان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو نصراني فسمعه يقرأ هذه الآية قال: فقلت له إنا لسنا نعبدهم؛ قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه قال: فقلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم} وكذلك قال أبو البختري: أما إنهم لم يصلوا لهم، ولو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم، ولكن أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه وحرامه حلاله؛ فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية. وقال الربيع بن أنس: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ قال: كانت الربوبية أنهم وجدوا في كتاب الله ما أمروا به ونهوا عنه فقالوا: لن نسبق أحبارنا بشيء؛ فما أمرونا به ائتمرنا وما نهونا عنه انتهينا لقولهم فاستنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن عبادتهم إياهم كانت في تحليل الحرام وتحريم الحلال لا أنهم صلوا لهم وصاموا لهم ودعوهم من دون الله فهذه عبادة للرجال وتلك عبادة للأموال وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكر الله أن ذلك شرك بقوله: {لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون}.
فهذا من الظلم الذي يدخل في قوله: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون} {من دون الله}. فإن هؤلاء والذين أمروهم بهذا هم جميعا معذبون وقال: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون}. وإنما يخرج من هذا من عبد مع كراهته لأن يعبد ويطاع في معصية الله. فهم الذين سبقت لهم الحسنى كالمسيح والعزير وغيرهما فأولئك (مبعدون).
وأما من رضي بأن يعبد ويطاع في معصية الله فهو مستحق للوعيد ولو لم يأمر بذلك فكيف إذا أمر وكذلك من أمر غيره بأن يعبد غير الله وهذا من " أزواجهم " فإن " أزواجهم " قد يكونون رؤساء لهم وقد يكونون أتباعا وهم أزواج وأشباه لتشابههم في الدين، وسياق الآية يدل على ذلك فإنه سبحانه قال: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون} {من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم}.
ثم قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا - حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين: (أحدهما): أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل فيعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله اتباعا لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر وقد جعله الله ورسوله شركا - وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم - فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله؛ مشركا مثل هؤلاء.
و (الثاني): أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتا لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص؛ فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب (*) كما ثبت في " الصحيح " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إنما الطاعة في المعروف} وقال: {على المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره ما لم يؤمر بمعصية}.
وقال: {لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق}. وقال: {من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه}. ثم ذلك المحرم للحلال والمحلل للحرام إن كان مجتهدا قصده اتباع الرسول لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر وقد اتقى الله ما استطاع؛ فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه.
ولكن من علم أن هذا خطأ فيما جاء به الرسول ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه الله لا سيما إن اتبع في ذلك هواه ونصره باللسان واليد مع علمه بأنه مخالف للرسول؛ فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه. ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه وإنما تنازعوا في جواز التقليد للقادر على الاستدلال وإن كان عاجزا عن إظهار الحق الذي يعلمه؛ فهذا يكون كمن عرف أن دين الإسلام حق وهو بين النصارى فإذا فعل ما يقدر عليه من الحق؛ لا يؤاخذ بما عجز عنه وهؤلاء كالنجاشي وغيره. وقد أنزل الله في هؤلاء آيات من كتابه كقوله تعالى: {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم}. وقوله: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}.
وقوله: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق}. وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزا عن معرفة الحق على التفصيل وقد فعل ما يقدر عليه مثله من الاجتهاد في التقليد؛ فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ كما في القبلة. وأما إن قلد شخصا دون نظيره بمجرد هواه ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق؛ فهذا من أهل الجاهلية. وإن كان متبوعه مصيبا؛ لم يكن عمله صالحا. وإن كان متبوعه مخطئا؛ كان آثما. كمن قال في القرآن برأيه؛ فإن أصاب فقد أخطأ وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار. وهؤلاء من جنس مانع الزكاة الذي تقدم فيه الوعيد ومن جنس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة فإن ذلك لما أحب المال حبا منعه عن عبادة الله وطاعته صار عبدا له. وكذلك هؤلاء؛ فيكون فيه شرك أصغر ولهم من الوعيد بحسب ذلك. وفي الحديث: {إن يسير الرياء شرك}. وهذا مبسوط عند النصوص التي فيها إطلاق الكفر والشرك على كثير من الذنوب.

(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (33)

{هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} بالحجة والبيان؛ وباليد واللسان؛ وهذا إلى يوم القيامة؛ لكن الجهاد المكي بالعلم والبيان؛ والجهاد المدني مع المكي باليد والحديد قال تعالى: {فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا} و " سورة الفرقان " مكية وإنما جاهدهم باللسان والبيان؛ ولكن يكف عن الباطل وإنما قد بين في المكية. {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم}. وقال تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب}.
وقال تعالى: {الم} {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} إلى قوله: {ساء ما يحكمون} فبين سبحانه وتعالى: أنه أرسل رسله. والناس رجلان: رجل يقول: أنا مؤمن به مطيعه؛ فهذا لا بد أن يمتحن حتى يعلم صدقه من كذبه. ورجل مقيم على المعصية؛ فهذا قد عمل السيئات فلا يظن أن يسبقونا بل لا بد أن نأخذهم. وما لأحد من خروج عن هذين القسمين.

(والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (34) يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون (35)

وقد ثبت في " الصحيح " وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمي عليها في نار جهنم فيجعل صفائح فيكوى بها جبينه وجنباه حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار}. وفي حديث أبي ذر: {بشر الكانزين برضف يحمى عليها في نار جهنم فتوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفيه، ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل وتكوي الجباه والجنوب والظهور حتى يلتقي الحر في أجوافهم}. وهذا كما في القرآن ويدل على أنه بعد دخول النار فيكون هذا لمن دخل النار ممن فعل به ذلك أولا في الموقف.
فهذا الظالم لما منع الزكاة يحشر مع أشباهه وماله الذي صار عبدا له من دون الله فيعذب به وإن لم يكن هذا من أهل الشرك الأكبر الذين يخلدون في النار. ولهذا قال في آخر الحديث: {ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار}. فهذا بعد تعذيبه خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يدخل الجنة.

(إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم (40)

{وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: {إن الله معنا} وقال تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} وقال تعالى: {إن الله مع الصابرين}. وكل من وافق الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر خالف فيه غيره فهو من الذين اتبعوه في ذلك؛ وله نصيب من قوله: {لا تحزن إن الله معنا} فإن المعية الإلهية المتضمنة للنصر هي لما جاء به إلى يوم القيامة؛ وهذا قد دل عليه القرآن وقد رأينا من ذلك وجربنا ما يطول وصفه.
__________
Q (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 59):
وقوله هنا (بتحريم الحلال وتحليل الحرام) قد أشار عدد من أهل العلم إلى أنها قد تكون تصحيفا من النساخ، والأظهر أن العبارة هي (بتحريم الحرام وتحليل الحلال).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 35.34 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 34.71 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.78%)]