عرض مشاركة واحدة
  #319  
قديم 03-12-2024, 11:08 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,416
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
المجلد الثامن
الحلقة( 319)

من صــ 481 الى صـ 495



قيل: يجب " وقيل لا يجب " وقيل يجب إذا قرئت السجدة في الصلاة وهو رواية عن أحمد والذي يتبين لي أنه واجب: فإن الآيات التي فيها مدح لا تدل بمجردها على الوجوب لكن آيات الأمر والذم والمطلق منها قد يقال: إنه محمول على الصلاة كالثانية من الحج والفرقان واقرأ وهذا ضعيف فكيف وفيها مقرون بالتلاوة كقوله {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون} فهذا نفي للإيمان بالآيات عمن لا يخر ساجدا إذا ذكر بها. وإذا كان سامعا لها فقد ذكر بها. وكذلك " سورة الانشقاق " {فما لهم لا يؤمنون} {وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون} وهذا ذم لمن لا يسجد إذا قرئ عليه القرآن كقوله: {فما لهم عن التذكرة معرضين} {وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم} {فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا}.
وكذلك " سورة النجم " قوله: {أفمن هذا الحديث تعجبون} {وتضحكون ولا تبكون} {وأنتم سامدون} {فاسجدوا لله واعبدوا} أمر بالغا عقب ذكر الحديث الذي هو القرآن يقتضي أن سماعه سبب الأمر بالسجود لكن السجود المأمور به عند سماع القرآن كما أنه ليس مختصا بسجود الصلاة فليس هو مختصا بسجود التلاوة فمن ظن هذا أو هذا فقد غلط بل هو متناول لهما جميعا كما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم. فالسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه.
فالسجود عند سماع آية السجدة هو سجود مجرد عند سماع آية السجدة سواء تليت مع سائر القرآن أو وحدها ليس هو سجودا عند تلاوة مطلق القرآن فهو سجود عند جنس القرآن. وعند خصوص الأمر بالسجود فالأمر يتناوله. وهو أيضا متناول لسجود القرآن أيضا وهو أبلغ فإنه سبحانه وتعالى قال: {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون} فهذا الكلام يقتضي أنه لا يؤمن بآياته إلا من إذا ذكر بها خر ساجدا وسبح بحمد ربه وهو لا يستكبر. ومعلوم أن قوله: {بآياتنا} ليس يعني بها آيات السجود فقط بل جميع القرآن فلا بد أن يكون إذا ذكر بجميع آيات القرآن يخر ساجدا وهذا حال المصلي فإنه يذكر بآيات الله بقراءة الإمام والإمام يذكر بقراءة نفسه فلا يكونون مؤمنين حتى يخروا سجدا وهو سجودهم في الصلاة وهو سجود مرتب ينتقلون أولا إلى الركوع ثم إلى السجود والسجود مثنى كما بينه الرسول ليجتمع فيه خروران: خرور من قيام وهو السجدة الأولى وخرور من قعود وهو السجدة الثانية. وهذا مما يستدل به على وجوب قعدة الفصل والطمأنينة فيها كما مضت به السنة؛ فإن الخرور ساجدا لا يكون إلا من قعود أو قيام. وإذا فصل بين السجدتين كحد السيف أو كان إلى القعود أقرب لم يكن هذا خرورا. ولكن الذي جوزه ظن أن السجود يحصل بوضع الرأس على الأرض كيف ما كان. وليس كذلك. بل هو مأمور به كما قال: {إذا ذكروا بها خروا سجدا} ولم يقل: سجدوا. فالخرور مأمور به كما ذكره في هذه الآية ونفس الخرور على الذقن عبادة مقصودة كما أن وضع الجبهة على الأرض عبادة مقصودة.
يدل على ذلك قوله تعالى {إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا} {ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا} {ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا} فمدح هؤلاء وأثنى عليهم بخرورهم للأذقان أي على الأذقان سجدا. والثاني بخرورهم للأذقان: أي عليها يبكون. فتبين أن نفس الخرور على الذقن عبادة مقصودة يحبها الله وليس المراد بالخرور إلصاق الذقن بالأرض كما تلصق الجبهة والخرور على الذقن هو مبدأ الركوع والسجود منتهاه فإن الساجد يسجد على جبهته لا على ذقنه لكنه يخر على ذقنه والذقن آخر حد الوجه وهو أسفل شيء منه وأقربه إلى الأرض.
فالذي يخر على ذقنه يخر وجهه ورأسه خضوعا لله. ومن حينئذ قد شرع في السجود فكما أن وضع الجبهة هو آخر السجود فالخرور على الذقن أول السجود وتمام الخرور أن يكون من قيام أو قعود وقد روي عن ابن عباس {يخرون للأذقان} أي للوجوه. قال الزجاج: الذي يخر وهو قائم إنما يخر لوجهه والذقن مجتمع اللحيين وهو غضروف أعضاء الوجه. فإذا ابتدأ يخر فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض الذقن.
وقال ابن الأنباري: أول ما يلقى الأرض من الذي يخر قبل أن يصوب جبهته ذقنه فلذلك قال: {للأذقان} ويجوز أن يكون المعنى يخرون للوجوه فاكتفى بالذقن من الوجه. كما يكتفي بالبعض من الكل. وبالنوع من الجنس. قلت: والذي يخر على الذقن لا يسجد على الذقن فليس الذقن من أعضاء السجود بل أعضاء السجود سبعة. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء: الجبهة وأشار بيده إلى الأنف واليدين والركبتين والقدمين} ولو سجد على ذقنه ارتفعت جبهته والجمع بينهما متعذر أو متعسر؛ لأن الأنف بينهما وهو ناتئ يمنع إلصاقهما معا بالأرض في حال واحدة فالساجد يخر على ذقنه ويسجد على جبهته. فهذا خرور السجود. ثم قال: {ويخرون للأذقان يبكون} فهذا خرور البكاء قد يكون معه سجود وقد لا يكون.

فالأول كقوله: {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} فهذا خرور وسجود وبكاء. والثاني: كقوله: {ويخرون للأذقان يبكون} فقد يبكي الباكي من خشية الله مع خضوعه بخروره وإن لم يصل إلى حد السجود وهذا عبادة أيضا؛ لما فيه من الخرور لله والبكاء له. وكلاهما عبادة لله فإن بكاء الباكي لله كالذي يبكي من خشية الله. من أفضل العبادات. وقد روي {عينان لا تمسهما النار: عين باتت تحرس في سبيل الله وعين يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله} وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين}.

فذكر صلى الله عليه وسلم هؤلاء السبعة إذ كل منهم كمل العبادة التي قام بها وقد صنف مصنف في نعتهم سماه (اللمعة في أوصاف السبعة. فالإمام العادل: كمل ما يجب من الإمارة والشاب الناشئ في عبادة الله كمل ما يجب من عبادة الله والذي قلبه معلق بالمساجد كمل عمارة المساجد بالصلوات الخمس لقوله: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله}. والعفيف: كمل الخوف من الله والمتصدق كمل الصدقة لله؛ والباكي: كمل الإخلاص.
وأما قوله عن داود عليه السلام {وخر راكعا وأناب} لا ريب أنه سجد. كما ثبت بالسنة وإجماع المسلمين أنه سجد لله والله سبحانه مدحه بكونه خر راكعا وهذا أول السجود وهو خروره. فذكر سبحانه أول فعله وهو خروره راكعا ليبين أن هذا عبادة مقصودة وإن كان هذا الخرور كان ليسجد. كما أثنى على النبيين بأنهم كانوا {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} {الذين أوتوا العلم من قبله} أنهم {إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا} {ويخرون للأذقان يبكون} وذلك لأن الخرور هو أول الخضوع المنافي للكبر فإن المتكبر يكره أن يخر ويحب أن لا يزال منتصبا مرتفعا إذا كان الخرور فيه ذل وتواضع وخشوع؛ ولهذا يأنف منه أهل الكبر من العرب وغير العرب. فكان أحدهم إذا سقط منه الشيء لا يتناوله لئلا يخر وينحني.
فإن الخرور انخفاض الوجه والرأس وهو أعلى ما في الإنسان وأفضله وهو قد خلق رفيعا منتصبا فإذا خفضه لا سيما بالسجود كان ذلك غاية ذله؛ ولهذا لم يصلح السجود إلا لله فمن سجد لغيره فهو مشرك ومن لم يسجد له فهو مستكبر عن عبادته وكلاهما كافر من أهل النار.
قال تعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} وقال تعالى: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون} وقال في قصة بلقيس: {وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون} {ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون} {الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم} والشمس أعظم ما يرى في عالم الشهادة وأعمه نفعا وتأثيرا.
فالنهي عن السجود لها نهي عما هو دونها بطريق الأولى من الكواكب والأشجار وغير ذلك. وقوله: {واسجدوا لله الذي خلقهن} دلالة على أن السجود للخالق لا للمخلوق وإن عظم قدره؛ بل لمن خلقه.
وهذا لمن يقصد عبادته وحده. كما قال: {إن كنتم إياه تعبدون} لا يصلح له أن يسجد لهذه المخلوقات قال تعالى: {فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون} فإنه قد علم سبحانه أن في بني آدم من يستكبر عن السجود له فقال: الذين هم أعظم من هؤلاء لا يستكبرون عن عبادة ربهم " بل يسبحون له بالليل والنهار ولا يحصل لهم سآمة ولا ملالة. بخلاف الآدميين فوصفهم هنا بالتسبيح له ووصفهم بالتسبيح والسجود جميعا في قوله: {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون}وهم يصفون له صفوفا كما قالوا: {وإنا لنحن الصافون} {وإنا لنحن المسبحون}. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها قال: يسدون الأول فالأول ويتراصون في الصف}.
فصل:
فآياته سبحانه توجب شيئين: أحدهما: فهمها وتدبرها ليعلم ما تضمنته.
والثاني: عبادته والخضوع له إذا سمعت فتلاوته إياها وسماعها يوجب هذا وهذا فلو سمعها السامع ولم يفهمها كان مذموما ولو فهمها ولم يعمل بما فيها كان مذموما بل لا بد لكل أحد عند سماعها من فهمها والعمل بها. كما أنه لا بد لكل أحد من استماعها فالمعرض عن استماعها كافر والذي لا يفهم ما أمر به فيها كافر. والذي يعلم ما أمر به فلا يقر بوجوبه ويفعله كافر. وهو سبحانه يذم الكفار بهذا وهذا. وهذا كقوله: {فما لهم عن التذكرة معرضين} {كأنهم حمر مستنفرة} {فرت من قسورة} وقوله: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} وقوله: {كتاب
فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون} {بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون} ونظائره كثيرة. وقال فيمن لم يفهمها ويتدبرها: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} فذمهم على أنهم لا يفهمون ولو فهموا لم يعملوا بعلمهم. وقال تعالى: {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون} {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم} وقال: {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا}. قال ابن قتيبة: لم يتغافلوا عنها فكأنهم صم لم يسمعوها عمن لم يروها.
وقال غيره من أهل اللغة: لم يبقوا على حالهم الأولى كأنهم لم يسمعوا ولم يروا وإن لم يكونوا خروا حقيقة. تقول العرب شتمت فلانا فقام يبكي وقعد يندب وأقبل يعتذر وظل يفتخر وإن لم يكن قام ولا قعد. قلت: في ذكره سبحانه لفظ الخرور دون غيره حكمة فإنهم لو خروا وكانوا صما وعميانا لم يكن ذلك ممدوحا بل معيبا. فكيف إذا كانوا صما وعميانا بلا خرور. فلا بد من شيئين: من الخرور والسجود. ولا بد من السمع والبصر لما في آياته من النور والهدى والبيان.
وكذلك لما شرعت الصلاة شرع فيها القراءة في القيام ثم الركوع والسجود. فأول ما أنزل الله من القرآن: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} فافتتحها بالأمر بالقراءة وختمها بالأمر بالسجود فقال: {واسجد واقترب} فقوله تعالى: {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم} يدل على أن التذكير بها كقراءتها في الصلاة موجب للسجود والتسبيح وإنه من لم يكن إذا ذكر بها يخر ساجدا ويسبح بحمد ربه فليس بمؤمن وهذا متناول الآيات التي ليس فيها سجود وهي جمهور آيات القرآن ففي القرآن أكثر من ستة آلاف آية وأما آيات السجدة فبضع عشرة آية.
وقوله: {ذكروا بها} يتناول جميع الآيات فالتذكير بها جميعها موجب للتسبيح والسجود وهذا مما يستدل به على وجوب التسبيح والسجود. وعلى هذا تدل عامة أدلة الشريعة من الكتاب والسنة تدل على وجوب جنس التسبيح فمن لم يسبح في السجود فقد عصى الله ورسوله وإذا أتى بنوع من أنواع التسبيح المشروع أجزأه.
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
(إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون (2)
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
فإن قيل: إذا كان المؤمن حقا هو الفاعل للواجبات التارك للمحرمات: فقد قال: {أولئك هم المؤمنون حقا} ولم يذكر إلا خمسة أشياء. وكذلك قال في الآية الأخرى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون}. وكذلك قوله: {إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله}. قيل عن هذا جوابان:
(أحدهما): أن يكون ما ذكر مستلزما لما ترك؛ فإنه ذكر وجل قلوبهم إذا ذكر الله، وزيادة إيمانهم إذا تليت عليهم آياته مع التوكل عليه وإقام الصلاة على الوجه المأمور به باطنا وظاهرا، وكذلك الإنفاق من المال والمنافع؛ فكان هذا مستلزما للباقي؛ فإن وجل القلب عند ذكر الله يقتضي خشيته والخوف منه. وقد فسروا (وجلت) بفرقت. وفي قراءة ابن مسعود: (إذا ذكر الله فرقت قلوبهم). وهذا صحيح؛ فإن " الوجل في اللغة " هو الخوف يقال: حمرة الخجل وصفرة الوجل. ومنه قوله تعالى {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون} {قالت عائشة: يا رسول الله هو الرجل يزني ويسرق ويخاف أن يعاقب؟ قال: لا يا ابنة الصديق هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه}.
وقال السدي في قوله تعالى {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فينزع عنه. وهذا كقوله تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى} {فإن الجنة هي المأوى} وقوله: {ولمن خاف مقام ربه جنتان}. قال مجاهد وغيره من المفسرين: هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه بين يدي الله؛ فيتركها خوفا من الله. وإذا كان " وجل القلب من ذكره " يتضمن خشيته ومخافته؛ فذلك يدعو صاحبه إلى فعل المأمور وترك المحظور. قال سهل بن عبد الله: ليس بين العبد وبين الله حجاب أغلظ من الدعوى، ولا طريق إليه أقرب من الافتقار، وأصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله.
ثم قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وقد جمع الله بين وصفهم بوجل القلب إذا ذكر وبزيادة الإيمان إذا سمعوا آياته. قال الضحاك: زادتهم يقينا. وقال الربيع بن أنس: خشية. وعن ابن عباس تصديقا. وهكذا قد ذكر الله هذين الأصلين في مواضع قال تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون}.
(فصل فيمن يصعق أو يخر ميتا عند سماع القرآن)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
غالب ما يحكى من المبالغة في هذا الباب إنما هو عن عباد أهل البصرة مثل حكاية من مات أو غشي عليه في سماع القرآن ونحوه. كقصة زرارة بن أوفى قاضي البصرة فإنه قرأ في صلاة الفجر: {فإذا نقر في الناقور} فخر ميتا وكقصة أبي جهير الأعمى الذي قرأ عليه صالح المري فمات وكذلك غيره ممن روي أنهم ماتوا باستماع قراءته وكان فيهم طوائف يصعقون عند سماع القرآن ولم يكن في الصحابة من هذا حاله؛ فلما ظهر ذلك أنكر ذلك طائفة من الصحابة والتابعين: كأسماء بنت أبي بكر وعبد الله بن الزبير ومحمد بن سيرين ونحوهم. والمنكرون لهم مأخذان: منهم من ظن ذلك تكلفا وتصنعا.

يذكر عن محمد بن سيرين أنه قال: ما بيننا وبين هؤلاء الذين يصعقون عند سماع القرآن إلا أن يقرأ على أحدهم وهو على حائط فإن خر فهو صادق. ومنهم من أنكر ذلك لأنه رآه بدعة مخالفا لما عرف من هدي الصحابة كما نقل عن أسماء وابنها عبد الله. والذي عليه جمهور العلماء أن الواحد من هؤلاء إذا كان مغلوبا عليه لم ينكر عليه وإن كان حال الثابت أكمل منه؛ ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن هذا. فقال: قرئ القرآن على يحيى بن سعيد القطان فغشي عليه ولو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه لدفعه يحيى بن سعيد فما رأيت أعقل منه ونحو هذا. وقد نقل عن الشافعي أنه أصابه ذلك وعلي بن الفضيل بن عياض قصته مشهورة وبالجملة فهذا كثير ممن لا يستراب في صدقه.

لكن الأحوال التي كانت في الصحابة هي المذكورة في القرآن وهي وجل القلوب ودموع العين واقشعرار الجلود كما قال تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون} وقال تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} وقال تعالى: {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} وقال: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق}وقال: {ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا}.
وقد يذم حال هؤلاء من فيه من قسوة القلوب والرين عليها والجفاء عن الدين ما هو مذموم وقد فعلوا ومنهم من يظن أن حالهم هذا أكمل الأحوال وأتمها وأعلاها وكلا طرفي هذه الأمور ذميم. بل المراتب ثلاث: (أحدها حال الظالم لنفسه الذي هو قاسي القلب لا يلين للسماع والذكر وهؤلاء فيهم شبه من اليهود.
قال الله تعالى: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون} وقال تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون}.
و (الثانية) حال المؤمن التقي الذي فيه ضعف عن حمل ما يرد على قلبه فهذا الذي يصعق صعق موت أو صعق غشي فإن ذلك إنما يكون لقوة الوارد وضعف القلب عن حمله وقد يوجد مثل هذا في من يفرح أو يخاف أو يحزن أو يحب أمورا دنيوية يقتله ذلك أو يمرضه أو يذهب بعقله. ومن عباد الصور من أمرضه العشق أو قتله أو جننه وكذلك في غيره ولا يكون هذا إلا لمن ورد عليه أمر ضعفت نفسه عن دفعه بمنزلة ما يرد على البدن من الأسباب التي تمرضه أو تقتله أو كان أحدهم مغلوبا على ذلك. فإذا كان لم يصدر منه تفريط ولا عدوان لم يكن فيه ذنب فيما أصابه فلا وجه للريبة.
كمن سمع القرآن السماع الشرعي ولم يفرط بترك ما يوجب له ذلك وكذلك ما يرد على القلوب مما يسمونه السكر والفناء ونحو ذلك من الأمور التي تغيب العقل بغير اختيار صاحبها؛ فإنه إذا لم يكن السبب محظورا لم يكن السكران مذموما بل معذورا فإن السكران بلا تمييز.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 35.25 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 34.62 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.78%)]