عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 03-12-2024, 11:44 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,565
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الاعراف
المجلد الثامن
الحلقة( 316)

من صــ 436 الى صـ 450



وقوله: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} فيه تنبيه ظاهر على أن فعل هذا المأمور هو الإحسان المطلوب منكم ومطلوبكم أنتم من الله رحمته ورحمته قريب من المحسنين الذين فعلوا ما أمروا به من دعائه تضرعا وخفية وخوفا وطمعا. فقرر مطلوبكم منه وهو الرحمة بحسب أدائكم لمطلوبه وإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم. وقوله تعالى {إن رحمة الله قريب من المحسنين} له دلالة بمنطوقه ودلالة بإيمائه وتعليله بمفهومه. فدلالته بمنطوقه على قرب الرحمة من أهل الإحسان ودلالته بإيمائه وتعليله على أن هذا القرب مستحق بالإحسان وهو السبب في قرب الرحمة منهم ودلالته بمفهومه على بعده من غير المحسنين.
فهذه ثلاث دلالات لهذه الجملة؛ وإنما اختص أهل الإحسان بقرب الرحمة لأنها إحسان من الله عز وجل أرحم الراحمين وإحسانه تبارك وتعالى إنما يكون لأهل الإحسان؛ لأن الجزاء من جنس العمل وكلما أحسنوا بأعمالهم أحسن إليهم برحمته وأما من لم يكن من أهل الإحسان فإنه لما بعد عن الإحسان بعدت عنه الرحمة بعد ببعد وقرب بقرب فمن تقرب إليه بالإحسان تقرب الله إليه برحمته ومن تباعد عن الإحسان تباعد الله عنه برحمته. والله سبحانه يحب المحسنين ويبغض من ليس من المحسنين ومن أحبه الله فرحمته أقرب شيء منه ومن أبغضه الله فرحمته أبعد شيء منه والإحسان هاهنا هو فعل المأمور به سواء كان إحسانا إلى الناس أو إلى نفسه فأعظم الإحسان الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله تعالى والإقبال إليه والتوكل عليه وأن يعبد الله كأنه يراه إجلالا ومهابة وحياء ومحبة وخشية.
فهذا هو مقام " الإحسان " كما {قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان؛ فقال: أن تعبد الله كأنك تراه} " فإذا كان هذا هو الإحسان فرحمته قريب من صاحبه؛ وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان يعني هل جزاء من أحسن عبادة ربه إلا أن يحسن ربه إليه قال ابن عباس - رضي الله عنهما - هل جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة؟. وقد ذكر ابن أبي شيبة وغيره من حديث الزبير بن عدي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: {قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} ثم قال: هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة} ". آخر الكلام على الآيتين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين (88) قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين (89)
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
قوله سبحانه: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين} {قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا} ظاهره دليل على أن شعيبا والذين آمنوا معه كانوا على ملة قومهم؛ لقولهم: {أو لتعودن في ملتنا} ولقول شعيب: (أنعود فيها {أولو كنا كارهين} ولقوله: {قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم} فدل على أنهم كانوا فيها. ولقوله: {بعد إذ نجانا الله منها}.
فدل على أن الله أنجاهم منها بعد التلوث بها؛ ولقوله: {وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا} ولا يجوز أن يكون الضمير عائدا على قومه؛ لأنه صرح فيه بقوله: {لنخرجنك يا شعيب} ولأنه هو المحاور له بقوله: {أولو كنا كارهين} إلى آخرها وهذا يجب أن يدخل فيه المتكلم ومثل هذا في سورة إبراهيم {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين} الآية.
وقال شيخ الإسلام:
هذا تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ فيها،
ومنها قوله: {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا} الآية وما في معناها. التحقيق: أن الله سبحانه إنما يصطفي لرسالته من كان خيار قومه حتى في النسب كما في حديث هرقل. ومن نشأ بين قوم مشركين جهال لم يكن عليه نقص إذا كان على مثل دينهم إذا كان معروفا بالصدق والأمانة وفعل ما يعرفون وجوبه وترك ما يعرفون قبحه. قال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} فلم يكن هؤلاء مستوجبين العذاب وليس في هذا ما ينفر عن القبول منهم؛ ولهذا لم يذكره أحد من المشركين قادحا. وقد اتفقوا على جواز بعثة رسول لا يعرف ما جاءت به الرسل قبله من النبوة والشرائع وأن من لم يقر بذلك بعد الرسالة فهو كافر،كافر والرسل قبل الوحي لا تعلمه فضلا عن أن تقر به. قال تعالى: {ينزل الملائكة بالروح من أمره} الآية. وقال: {يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق} فجعل إنذارهم بالتوحيد كالإنذار بيوم التلاق وكلاهما عرفوه بالوحي.

وما ذكر أنه صلى الله عليه وسلم بغضت إليه الأوثان لا يجب أن يكون لكل نبي فإنه سيد ولد آدم والرسول الذي ينشأ بين أهل الكفر الذين لا نبوة لهم يكون أكمل من غيره من جهة تأييد الله له بالعلم والهدى وبالنصر والقهر كما كان نوح وإبراهيم. ولهذا يضيف الله الأمر إليهما في مثل قوله: {ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم} الآية. {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم} الآية. وذلك أن نوحا أول رسول بعث إلى المشركين وكان مبدأ شركهم من تعظيم الموتى الصالحين. وقوم إبراهيم مبدؤه من عبادة الكواكب ذاك الشرك الأرضي وهذا السماوي؛ ولهذا سد صلى الله عليه وسلم ذريعة هذا وهذا.

(وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون (137)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
قد أخبر الله بأنه بارك في أرض الشام في آيات: منها قوله: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها}. ومنها قوله: {ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين}. ومنها قوله: {تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين}. ومنها قوله: {وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة} وهي قرى الشام وتلك قرى اليمن والتي بينهما قرى الحجاز ونحوها وبادت. ومنها قوله: {إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله}.
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
وقال تعالى: {ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون} وإنما دمر ما بنوه وعرشوه فأما الأعراض التي قامت بهم فتلك فنيت قبل أن يغرقوا وقوله: {وما كانوا يعرشون} دليل على أن العروش مفعول لهم هم فعلوا العرش الذي فيه وهو التأليف.
(سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين (146)
وقال شيخ الإسلام:

فصل:
جاء في حديث {إن أكبر الكبائر الكفر والكبر} وهذا صحيح فإن هذين الذنبين أساس كل ذنب في الإنس والجن فإن إبليس هو الذي فعل ذلك أولا وهو أصل ذلك. قال الله تعالى: {إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} وقال: {إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين} وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ولا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر} فجعل الكبر يضاد الإيمان. وكذلك الشرك في مثل قوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} وقال ابن مسعود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {من مات وهو لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة} قال: وأنا أقول: من مات وهو يشرك بالله شيئا دخل النار.
ثم من الناس من يجمع بينهما ومنهم من ينفرد له أحدهما والمؤمن الصالح عافاه الله منهما فإن الإنسان إما أن يخضع لله وحده أو يخضع لغيره مع خضوعه له أو لا يخضع لا لله ولا لغيره فالأول هو المؤمن والثاني هو المشرك والثالث هو المتكبر الكافر وقد لا يكون كافرا في بعض المواضع والنصارى آفتهم الشرك واليهود آفتهم الكبر كما قال تعالى عن النصارى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} وقال عن اليهود: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} ولهذا عوقبت اليهود بضرب الذلة والمسكنة عليهم والنصارى بالضلال والبدع والجهالة.
(الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال ... (157)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
فإن أميته - صلى الله عليه وسلم - لم تكن من جهة فقد العلم والقراءة عن ظهر قلب فإنه إمام الأئمة في هذا. وإنما كان من جهة أنه لا يكتب ولا يقرأ مكتوبا. كما قال الله فيه: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك}.
وقد اختلف الناس هل كتب يوم الحديبية بخطه معجزة له؟ أم لم يكتب؟ وكان انتفاء الكتابة عنه مع حصول أكمل مقاصدها بالمنع من طريقها من أعظم فضائله وأكبر معجزاته فإن الله علمه العلم بلا واسطة كتاب معجزة له ولما كان قد دخل في الكتب من التحريف والتبديل وعلم هو صلى الله عليه وسلم أمته الكتاب والحكمة من غير حاجة منه إلى أن يكتب بيده وأما سائر أكابر الصحابة كالخلفاء الأربعة وغيرهم فالغالب على كبارهم الكتابة لاحتياجهم إليها إذ لم يؤت أحد منهم من الوحي ما أوتيه صارت أميته المختصة به كمالا في حقه من جهة الغنى بما هو أفضل منها وأكمل ونقصا في حق غيره من جهة فقده الفضائل التي لا تتم إلا بالكتابة.
وقال - رحمه الله تعالى
فالله تعالى أحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث والخبائث نوعان:
ما خبثه لعينه لمعنى قام به كالدم والميتة ولحم الخنزير. وما خبثه لكسبه كالمأخوذ ظلما؛ أو بعقد محرم كالربا والميسر. فأما الأول فكل ما حرم ملابسته كالنجاسات حرم أكله وليس كل ما حرم أكله حرمت ملابسته كالسموم والله قد حرم علينا أشياء من المطاعم والمشارب وحرم أشياء من الملابس.
(قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت ... (158)
(فصل)

قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
فمحمد صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى جميع الثقلين: إنسهم وجنهم عربهم وعجمهم ملوكهم وزهادهم الأولياء منهم وغير الأولياء فليس لأحد الخروج عن متابعته باطنا وظاهرا ولا عن متابعة ما جاء به من الكتاب والسنة في دقيق ولا جليل لا في العلوم ولا الأعمال وليس لأحد أن يقول له كما قال الخضر لموسى وأما موسى فلم يكن مبعوثا إلى الخضر.
الثاني: أن قصة الخضر ليس فيها مخالفة للشريعة بل الأمور التي فعلها تباح في الشريعة إذا علم العبد أسبابها كما علمها الخضر ولهذا لما بين أسبابها لموسى وافقه على ذلك ولو كان مخالفا لشريعته لم يوافقه بحال. وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع فإن خرق السفينة مضمونه أن المال المعصوم يجور للإنسان أن يحفظه لصاحبه بإتلاف بعضه؛ فإن ذلك خير من ذهابه بالكلية كما جاز للراعي - على عهد النبي صلى الله عليه وسلم - أن يذبح الشاة؛ التي خاف عليها الموت وقصة الغلام مضمونها جواز قتل الصبي الصائل ولهذا قال ابن عباس لنجدة: وأما الغلمان فإن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم وإلا فلا تقتلهم.
وأما إقامة الجدار ففيها فعل المعروف بلا أجرة مع الحاجة إذا كان لذرية قوم صالحين.
[فصل: شخصية الرسول وشريعته وأمته، وكرامات الصالحين منها، كل ذلك من آياته]
وسيرة الرسول وأخلاقه وأقواله وأفعاله وشريعته من آياته، وأمته من آياته، وعلم أمته ودينهم من آياته، وكرامات صالح أمته من آياته. وذلك يظهر بتدبر سيرته من حين ولد وإلى أن بعث، ومن حيث بعث إلى أن مات، وتدبر نسبه وبلده وأصله وفصله، فإنه كان من أشرف أهل الأرض نسبا، من صميم سلالة إبراهيم الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب، فلم يأت نبي بعد إبراهيم إلا من ذريته، ونجعل له ابنين: إسماعيل، وإسحاق، وذكر في التوراة هذا وهذا، وبشر في التوراة بما يكون من ولد إسماعيل، ولم يكن في ولد إسماعيل من ظهر فيما بشرت به النبوات غيره، ودعا إبراهيم لذرية إسماعيل بأن يبعث فيهم رسولا منهم، ثم من قريش صفوة بني إبراهيم، ثم من بني هاشم صفوة قريش، ومن مكة أم القرى وبلد البيت الذي بناه إبراهيم، ودعا الناس إلى حجه، ولم يزل محجوجا من عهد إبراهيم، مذكورا في كتب الأنبياء بأحسن وصف.

وكان من أكمل الناس تربية ونشأة، لم يزل معروفا بالصدق والبر والعدل ومكارم الأخلاق، وترك الفواحش والظلم وكل وصف مذموم، مشهودا له بذلك عند جميع من يعرفه قبل النبوة، وممن آمن به، وممن كفر بعد النبوة لا يعرف له شيء يعاب به؛ لا في أقواله، ولا في أفعاله، ولا في أخلاقه، ولا جرب عليه كذبة قط، ولا ظلم ولا فاحشة، وكان خلقه وصورته من أكمل الصور وأتمها وأجمعها للمحاسن الدالة على كماله، وكان أميا من قوم أميين لا يعرف، لا هو ولا هم ما يعرفه أهل الكتاب: التوراة والإنجيل، ولم يقرأ شيئا عن علوم الناس، ولا جالس أهلها، ولم يدع نبوة إلى أن أكمل الله له أربعين سنة، فأتى بأمر هو أعجب الأمور وأعظمها، وبكلام لم يسمع الأولون والآخرون بنظيره، وأخبرنا بأمر لم يكن في بلده وقومه من يعرف مثله.

، ثم اتبعه أتباع الأنبياء وهم ضعفاء الناس، وكذبه أهل الرياسة وعادوه، وسعوا في هلاكه وهلاك من اتبعه بكل طريق، كما كان الكفار يفعلون بالأنبياء وأتباعهم، والذين اتبعوه لم يتبعوه لرغبة، ولا لرهبة،فإنه لم يكن عنده مال يعطيهم، ولا جهات يوليهم إياها، ولا كان له سيف، بل كان السيف، والمال، والجاه مع أعدائه.

وقد آذوا أتباعه بأنواع الأذى، وهم صابرون محتسبون لا يرتدون عن دينهم لما خالط قلوبهم من حلاوة الإيمان والمعرفة. وكانت مكة يحجها العرب من عهد إبراهيم فتجتمع في الموسم قبائل العرب فيخرج إليهم يبلغهم الرسالة، ويدعوهم إلى الله صابرا على ما يلقاه من تكذيب المكذب، وجفاء الجافي، وإعراض المعرض، إلى أن اجتمع بأهل يثرب وكانوا جيران اليهود قد سمعوا أخباره منهم، وعرفوه، فلما دعاهم علموا أنه النبي المنتظر الذي تخبرهم به اليهود، وكانوا قد سمعوا من أخباره ما عرفوا به مكانته، فإن أمره كان قد انتشر، وظهر في بضع عشرة سنة فآمنوا به، وبايعوه على هجرته وهجرة أصحابه إلى بلدهم، وعلى الجهاد معه، فهاجر هو ومن اتبعه إلى المدينة، وبها المهاجرون والأنصار، ليس فيهم من آمن برغبة دنيوية، ولا برهبة إلا قليلا من الأنصار أسلموا في الظاهر، ثم حسن إسلام بعضهم، ثم أذن له في الجهاد، ثم أمر به، ولم يزل قائما بأمر الله على أكمل طريقة، وأتمها من الصدق والعدل والوفاء، لا يحفظ له كذبة واحدة ولا ظلم لأحد ولا غدر بأحد، بل كان أصدق الناس وأعدلهم، وأوفاهم بالعهد، مع اختلاف الأحوال عليه من حرب وسلم وأمن وخوف وغنى وفقر وقلة وكثرة، وظهوره على العدو تارة وظهور العدو عليه تارة، وهو - على ذلك - لازم لأكمل الطرق وأتمها، حتى ظهرت الدعوة في جميع أرض العرب التي كانت مملوءة من عبادة الأوثان، ومن أخبار الكهان، وطاعة المخلوق في الكفر بالخالق، وسفك الدماء المحرمة، وقطيعة الأرحام، لا يعرفون آخرة ولا معادا، فصاروا أعلم أهل الأرض وأدينهم وأعدلهم وأفضلهم، حتى إن النصارى لما رأوهم - حين قدموا الشام - قالوا:
ما كان الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء، وهذه آثار علمهم وعملهم في الأرض، وآثار غيرهم يعرف العقلاء فرق ما بين الأمرين.
وهو صلى الله عليه وسلم مع ظهور أمره، وطاعة الخلق له، وتقديمهم له على الأنفس والأموال، مات صلى الله عليه وسلم ولم يخلف درهما ولا دينارا، ولا شاة ولا بعيرا له، إلا بغلته وسلاحه، ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين صاعا من شعير ابتاعها لأهله، وكان بيده عقار ينفق منه على أهله، والباقي يصرفه في مصالح المسلمين، فحكم بأنه لا يورث ولا يأخذ ورثته شيئا من ذلك.
وهو في كل وقت يظهر على يديه من عجائب الآيات وفنون الكرامات ما يطول وصفه، ويخبرهم بخبر ما كان وما يكون، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويشرع الشريعة شيئا بعد شيء حتى أكمل الله دينه الذي بعث به، وجاءت شريعته أكمل شريعة، لم يبق معروف تعرف العقول أنه معروف إلا أمر به، ولا منكر تعرف العقول أنه منكر إلا نهى عنه، لم يأمر بشيء فقيل ليته لم يأمر به، ولا نهى عن شيء فقيل ليته لم ينه عنه، وأحل الطيبات لم يحرم شيئا منها كما حرم في شرع غيره، وحرم الخبائث لم يحل منها شيئا كما استحله غيره، وجمع محاسن ما عليه الأمم، فلا يذكر في التوراة والإنجيل والزبور نوع من الخبر عن الله وعن ملائكته وعن اليوم الآخر إلا وقد جاء به على أكمل وجه، وأخبر بأشياء ليست في الكتب.
فليس في الكتب إيجاب لعدل، وقضاء بفضل، وندب إلى الفضائل، وترغيب في الحسنات إلا وقد جاء به وبما هو أحسن منه.
وإذا نظر اللبيب في العبادات التي شرعها، وعبادات غيره من الأمم ظهر فضلها ورجحانها، وكذلك في الحدود والأحكام، وسائر الشرائع.
وأمته أكمل الأمم في كل فضيلة، فإذا قيس علمهم بعلم سائر الأمم ظهر فضل علمهم، وإن قيس دينهم وعباداتهم وطاعتهم لله بغيرهم ظهر أنهم أدين من غيرهم، وإذا قيس شجاعتهم وجهادهم في سبيل الله وصبرهم على المكاره في ذات الله، ظهر أنهم أعظم جهادا وأشجع قلوبا، وإذا قيس سخاؤهم وبذلهم وسماحة أنفسهم بغيرهم، تبين أنهم أسخى وأكرم من غيرهم، وهذه الفضائل به نالوها، ومنه تعلموها، وهو الذي أمرهم بها، لم يكونوا قبله متبعين لكتاب جاء هو بتكميله كما جاء المسيح بتكميل شريعة التوراة.

فكانت فضائل أتباع المسيح وعلومهم بعضها من التوراة، وبعضها من الزبور، وبعضها من النبوات، وبعضها من المسيح، وبعضها ممن بعده كالحواريين، وقد استعانوا بكلام الفلاسفة، وغيرهم حتى أدخلوا - لما غيروا دين المسيح - في دين المسيح أمورا من أمور الكفار المناقضة لدين المسيح.
وأما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يكونوا قبله يقرءون كتابا، بل عامتهم ما آمنوا بموسى وعيسى وداود، والتوراة والإنجيل والزبور إلا من جهته، فهو الذي أمرهم أن يؤمنوا بجميع الأنبياء، ويقروا بجميع الكتب المنزلة من عند الله، ونهاهم أن يفرقوا بين أحد من الرسل، فقال تعالى في الكتاب الذي جاء به:
{قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} [البقرة: 136] (136) {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} [البقرة: 137].

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 32.94 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 32.31 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.91%)]