عرض مشاركة واحدة
  #314  
قديم 02-12-2024, 08:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,201
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الاعراف
المجلد الثامن
الحلقة( 314)

من صــ 406 الى صـ 420






وكذلك قوله: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا} علل النهي عنه بما اشتمل عليه من أنه فاحشة وأنه ساء سبيلا فلو كان إنما صار فاحشة وساء سبيلا بالنهي لما صح ذلك؛ لأن العلة تسبق المعلول لا تتبعه ومثل ذلك كثير في القرآن. وأما في الأمر فقوله: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} دليل على أنه أمر به؛ لأنه خير لنا؛ ولأن الله علم فيه ما لم نعلمه. ومثله قوله في آية الطهور {ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} دليل على أنه أمر بالطهور؛ لما فيه من الصلاح لنا وهذا أيضا في القرآن كثير.
سئل - رحمه الله تعالى -:
عمن يعتقد أن الخير من الله والشر من الشيطان؟ وأن الشر هو بيد العبد، إن شاء فعله، وإن شاء لم يفعله، فإذا أنكر عليه في هذه يقول: قال الله تعالى: {إن الله لا يأمر بالفحشاء} {فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر} وإن عقيدة هذا، أن الخير من الله وأن الشر بيده، فإذا أراد أن يفعل الشر فعله؛ فإنه قال: إن لي مشيئة فإذا أردت أن أفعل الشر فعلته، فهل له مشيئة فعالة أم لا؟.
فأجاب:

الحمد لله، أصل هذا الكلام له مقدمتان:
إحداهما: أن يعلم العبد أن الله يأمر بالإيمان والعمل الصالح، ويحب الحسنات ويرضاها، ويكرم أهلها، ويثيبهم ويواليهم، ويرضى عنهم، ويحبهم ويحبونه، وهم جند الله المنصورون، وحزب الله الغالبون، وهم أولياؤه المتقون، وحزبه المفلحون، وعباده الصالحون أهل الجنة، وهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، وهم أهل الصراط المستقيم. صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. وأن الله نهى عن السيئات من الكفر والفسوق والعصيان، وهو يبغض ذلك ويمقت أهله، ويلعنهم ويغضب عليهم، ويعاقبهم ويعاديهم، وهم أعداء الله ورسوله، وهم أولياء الشيطان، وهم أهل النار
وهم الأشقياء. لكنهم يتقاربون في هذا ما بين كافر وفاسق، وعاص ليس بكافر ولا فاسق.

والمقدمة الثانية: أن يعلم العبد أن الله رب كل شيء وخالقه ومليكه. لا رب غيره؛ ولا خالق سواه، وأنه ما شاء كان؛ وما لم يشأ لم يكن؛ لا حول ولا قوة إلا به؛ ولا ملجأ منه إلا إليه؛ وأنه على كل شيء قدير. فجميع ما في السماوات والأرض: من الأعيان وصفاتها؛ وحركاتها؛ فهي مخلوقة له؛ مقدورة له؛ مصرفة بمشيئته، لا يخرج شيء منها عن قدرته وملكه؛ ولا يشركه في شيء من ذلك غيره؛ بل هو سبحانه لا إله إلا هو وحده لا شريك له؛ له الملك وله الحمد؛ وهو على كل شيء قدير، فالعبد فقير إلى الله في كل شيء، يحتاج إليه في كل شيء لا يستغني عن الله طرفة عين؛ فمن يهده الله فلا مضل له؛ ومن يضلل فلا هادي له. فإذا ثبتت هاتان " المقدمتان ".
فنقول: إذا ألهم العبد أن يسأل الله الهداية ويستعينه على طاعته، أعانه وهداه، وكان ذلك سبب سعادته في الدنيا والآخرة، وإذا خذل العبد فلم يعبد الله؛ ولم يستعن به، ولم يتوكل عليه، وكل إلى حوله وقوته. فيوليه الشيطان، وصد عن السبيل، وشقي في الدنيا والآخرة وكل ما يكون في الوجود هو بقضاء الله وقدره؛ لا يخرج أحد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المحفوظ، وليس لأحد على الله حجة؛ بل {فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل. وعلى العبد أن يؤمن بالقدر، وليس له أن يحتج به على الله؛ فالإيمان به هدى؛ والاحتجاج به على الله ضلال وغي، بل الإيمان بالقدر يوجب أن يكون العبد صبارا شكورا؛ صبورا على البلاء، شكورا على الرخاء، إذا أصابته نعمة علم أنها من عند الله فشكره، سواء كانت النعمة حسنة فعلها، أو كانت خيرا حصل بسبب سعيها، فإن الله هو الذي يسر عمل الحسنات، وهو الذي تفضل بالثواب عليها، فله الحمد في ذلك كله.

وإذا أصابته مصيبة صبر عليها، وإن كانت تلك المصيبة قد جرت على يد غيره، فالله هو الذي سلط ذلك الشخص، وهو الذي خلق أفعاله، وكانت مكتوبة على العبد؛ كما قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير} {لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} وقال تعالى: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه}.

قالوا: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. وعليه إذا أذنب أن يستغفر ويتوب، ولا يحتج على الله بالقدر، ولا يقول: أي ذنب لي وقد قدر علي هذا الذنب؛ بل يعلم أنه هو المذنب العاصي الفاعل للذنب، وإن كان ذلك كله بقضاء الله وقدره ومشيئته، إذ لا يكون شيء إلا بمشيئته وقدرته وخلقه؛ لكن العبد هو الذي أكل الحرام، وفعل الفاحشة،وهو الذي ظلم نفسه؛ كما أنه هو الذي صلى وصام وحج وجاهد، فهو الموصوف بهذه الأفعال؛ وهو المتحرك بهذه الحركات، وهو الكاسب بهذه المحدثات، له ما كسب وعليه ما اكتسب، والله خالق ذلك وغيره من الأشياء لما له في ذلك من الحكمة البالغة بقدرته التامة ومشيئته النافذة. قال تعالى: {فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك}. فعلى العبد أن يصبر على المصائب، وأن يستغفر من المعائب.
والله تعالى لا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر؛ ولا يحب الفساد، وهو سبحانه خالق كل شيء؛ وربه ومليكه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. فمن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ ومشيئة العبد للخير والشر موجودة، فإن العبد له مشيئة للخير والشر، وله قدرة على هذا وهذا. وهو العامل لهذا وهذا، والله خالق ذلك كله وربه ومليكه؛ لا خالق غيره؛ ولا رب سواه؛ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

وقد أثبت الله " المشيئتين " مشيئة الرب؛ ومشيئة العبد؛ وبين أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الرب في قوله تعالى {إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما} وقال تعالى: {إن هو إلا ذكر للعالمين} {لمن شاء منكم أن يستقيم} {وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} وقد قال تعالى: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}.

وبعض الناس يظن أن المراد هنا بالحسنات والسيئات الطاعات والمعاصي؛ فيتنازعون هذا يقول: قل كل من عند الله، وهذا يقول الحسنة من الله، والسيئة من نفسك، وكلاهما أخطأ في فهم الآية؛ فإن المراد هنا بالحسنات والسيئات، النعم والمصائب. كما في قوله: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} أي امتحناهم واختبرناهم بالسراء والضراء.
ومعنى الآية في المنافقين: كانوا إذا أصابتهم حسنة مثل النصر والرزق والعافية. قالوا: هذا من الله، وإذا أصابتهم سيئة - مثل ضرب ومرض وخوف من العدو - قالوا: هذا من عندك يا محمد أنت الذي جئت بهذا الدين الذي عادانا لأجله الناس، وابتلينا لأجله بهذه المصائب، فقال الله تعالى: {فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} أنت إنما أمرتهم بالمعروف ونهيتهم عن المنكر، وما أصابك من نعمة: نصر وعافية ورزق فمن الله، نعمة أنعم الله بها عليك، وما أصابك من سيئة: فقر وذل وخوف ومرض وغير ذلك، فمن نفسك وذنوبك وخطاياك. كما قال في الآية الأخرى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} وقال تعالى: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} وقال تعالى: {وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور}.
فالإنسان إذا أصابته المصائب بذنوبه وخطاياه كان هو الظالم لنفسه، فإذا تاب واستغفر جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب، والذنوب مثل أكل السم. فهو إذا أكل السم مرض أو مات فهو الذي يمرض ويتألم ويتعذب ويموت، والله خالق ذلك كله، وإنما مرض بسبب أكله، وهو الذي ظلم نفسه بأكل السم. فإن شرب الترياق النافع عافاه الله، فالذنوب كأكل السم، والترياق النافع كالتوبة النافعة، والعبد فقير إلى الله تعالى في كل حال، فهو بفضله ورحمته يلهمه التوبة، فإذا تاب تاب عليه، فإذا سأله العبد ودعاه استجاب دعاءه. كما قال: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون}. ومن قال: لا مشيئة له في الخير ولا في الشر فقد كذب.

ومن قال: إنه يشاء شيئا من الخير أو الشر بدون مشيئة الله فقد كذب؛ بل له مشيئة لكل ما يفعله باختياره من خير وشر، وكل ذلك إنما يكون بمشيئة الله وقدرته فلا بد من الإيمان بهذا وهذا، ليحصل الإيمان بالأمر والنهي والوعد والوعيد، والإيمان بالقدر خيره وشره، وأن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
ومن احتج بالقدر على المعاصي فحجته داحضة، ومن اعتذر به فعذره غير مقبول، بل هؤلاء الضالون. كما قال فيهم بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به. فإن هؤلاء إذا ظلمهم ظالم، بل لو فعل الإنسان ما يكرهونه، وإن كان حقا لم يعذروه بالقدر، بل يقابلوه بالحق والباطل، فإن كان القدر حجة لهم فهو حجة لهؤلاء، وإن لم يكن حجة لهؤلاء لم يكن حجة لهم؛ وإنما يحتج أحدهم بالقدر عند هواه ومعصية مولاه، لا عند ما يؤذيه الناس ويظلمونه. وأما المؤمن فهو بالعكس في ذلك إذا آذاه الناس نظر إلى القدر، فصبر واحتسب، وإذا أساء هو تاب واستغفر.

كما قال تعالى: {فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك} فالمؤمن يصبر على المصائب ويستغفر من الذنوب والمعايب، والمنافق بالعكس لا يستغفر من ذنبه بل يحتج بالقدر، ولا يصبر على ما أصابه، فلهذا يكون شقيا في الدنيا والآخرة؛ والمؤمن سعيدا في الدنيا والآخرة. والله سبحانه أعلم.
(قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون (29)
وقال شيخ الإسلام:

فصل جامع:
قد كتبت فيما تقدم في مواضع قبل بعض القواعد: وآخر مسودة الفقه: أن جماع الحسنات العدل وجماع السيئات الظلم وهذا أصل جامع عظيم. وتفصيل ذلك: أن الله خلق الخلق لعبادته فهذا هو المقصود المطلوب لجميع الحسنات وهو إخلاص الدين كله لله وما لم يحصل فيه هذا المقصود: فليس حسنة مطلقة مستوجبة لثواب الله في الآخرة وإن كان حسنة من بعض الوجوه له ثواب في الدنيا.
وكل ما نهى عنه فهو زيغ وانحراف عن الاستقامة ووضع للشيء في غير موضعه فهو ظلم. ولهذا جمع بينهما سبحانه في قوله: {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} فهذه الآية في سورة الأعراف المشتملة على أصول الدين والاعتصام بالكتاب وذم الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله كالشرك وتحريم الطيبات أو خالفوا ما شرعه الله من أمور دينهم كإبليس ومخالفي الرسل من قوم نوح إلى قوم فرعون والذين بدلوا الكتاب من أهل الكتاب فاشتملت السورة على ذم من أتى بدين باطل ككفار العرب ومن خالف الدين الحق كله كالكفار بالأنبياء أو بعضه ككفار أهل الكتاب. وقد جمع سبحانه في هذه السورة وفي الأنعام وفي غيرهما ذنوب المشركين في نوعين.
أحدهما: أمر بما لم يأمر الله به كالشرك ونهي عما لم ينه الله عنه كتحريم الطيبات. فالأول: شرع من الدين ما لم يأذن به الله.
والثاني: تحريم لما لم يحرمه الله. وكذلك في الحديث الصحيح حديث عياض بن حمار: عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى: {إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين فحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا}.
ولهذا كان ابتداع العبادات الباطلة من الشرك ونحوه: هو الغالب على النصارى ومن ضاهاهم من منحرفة المتعبدة والمتصوفة، وابتداع التحريمات الباطلة هو الغالب على اليهود ومن ضاهاهم من منحرفة المتفقهة بل أصول دين اليهود فيه آصار وأغلال من التحريمات ولهذا قال لهم المسيح: {ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم} وأصل دين النصارى فيه تأله بألفاظ متشابهة وأفعال مجملة فالذين في قلوبهم زيغ اتبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. قررته في غير هذا الموضع بأن توحيد الله الذي هو إخلاص الدين له والعدل الذي نفعله نحن هو جماع الدين يرجع إلى ذلك فإن إخلاص الدين لله أصل العدل كما أن الشرك بالله ظلم عظيم.

(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
والمقصود هنا: أن المقصود بذلك كله هو أن يقوم الناس بالقسط؛ ولهذا لما كان المشركون يحرمون أشياء ما أنزل الله بها من سلطان ويأمرون بأشياء ما أنزل الله بها من سلطان أنزل الله في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما يذمهم على ذلك وذكر ما أمر به هو وما حرمه هو فقال: {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} وقال تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}.

وهذه الآية تجمع أنواع المحرمات كما قد بيناه في غير هذا الموضع وتلك الآية تجمع أنواع الواجبات كما بيناه أيضا وقوله: {أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} أمر مع القسط بالتوحيد الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له وهذا أصل الدين وضده هو الذنب الذي لا يغفر قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وهو الدين الذي أمر الله به جميع الرسل وأرسلهم به إلى جميع الأمم قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقال تعالى: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} وقال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}.
وقال تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم} {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون}.
ولهذا ترجم البخاري في صحيحه " باب ما جاء في أن دين الأنبياء واحد " وذكر الحديث الصحيح في ذلك وهو الإسلام العام الذي اتفق عليه جميع النبيين. قال نوح عليه السلام {وأمرت أن أكون من المسلمين} وقال تعالى في قصة إبراهيم: {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} {وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين} وقال تعالى: {قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون}. وقال في قصة بلقيس: {رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} وقال: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا}.
وهذا التوحيد الذي هو أصل الدين هو أعظم العدل وضده وهو الشرك أعظم الظلم كما أخرجا في الصحيحين عن {عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال: ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {إن الشرك لظلم عظيم} "؟ وفي الصحيحين عن {ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك فأنزل الله تصديق ذلك: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون} الآية}.

(ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين (55) ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين (56)

وقال الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية على قول الله عز وجل: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين} {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين}: هاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعي الدعاء: دعاء العبادة ودعاء المسألة؛ فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة وهذا تارة ويراد به مجموعهما؛ وهما متلازمان.
فإن دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي وطلب كشف ما يضره ودفعه. وكل من يملك الضر والنفع فإنه هو المعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر. ولهذا أنكر تعالى على من عبد من دونه ما لا يملك ضرا ولا نفعا. وذلك كثير في القرآن كقوله تعالى: {ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك} وقال: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم} فنفى سبحانه عن هؤلاء المعبودين الضر والنفع القاصر والمتعدي فلا يملكون لأنفسهم ولا لعابديهم. وهذا كثير في القرآن يبين تعالى أن المعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع.
والضر فهو يدعو للنفع والضر دعاء المسألة ويدعو خوفا ورجاء دعاء العبادة فعلم أن النوعين متلازمان فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة. وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة. وعلى هذا فقوله: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} يتناول نوعي الدعاء. وبكل منهما فسرت الآية. قيل: أعطيه إذا سألني.

وقيل: أثيبه إذا عبدني. والقولان متلازمان. وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه؛ بل هذا استعماله في حقيقته المتضمنة للأمرين جميعا فتأمله فإنه موضوع عظيم النفع وقل ما يفطن له. وأكثر آيات القرآن دالة على معنيين فصاعدا فهي من هذا القبيل. مثال ذلك قوله تعالى {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} فسر " الدلوك " بالزوال وفسر بالغروب وليس بقولين؛ بل اللفظ يتناولهما معا؛ فإن الدلوك هو الميل. ودلوك الشمس ميلها. ولهذا الميل مبتدأ ومنتهى فمبتدؤه الزوال ومنتهاه الغروب واللفظ متناول لهما بهذا الاعتبار. ومثاله أيضا تفسير " الغاسق " بالليل وتفسيره بالقمر.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 32.28 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 31.66 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.95%)]