عرض مشاركة واحدة
  #312  
قديم 02-12-2024, 07:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,416
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الاعراف
المجلد الثامن
الحلقة( 312)

من صــ 376 الى صـ 390






(فصل في أن ما حرمه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس نسخا للقرآن وإنما زيادة عليه)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
قال - صلى الله عليه وسلم -: {لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: بيننا وبينكم هذا القرآن فما وجدنا فيه من حلال أحللناه؛ وما وجدنا فيه من حرام حرمناه. ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله تعالى} وهذا المعنى محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه.
وعلموا أن ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو زيادة تحريم ليس نسخا للقرآن؛ لأن القرآن إنما دل على أن الله لم يحرم إلا الميتة والدم ولحم الخنزير وعدم التحريم ليس تحليلا وإنما هو بقاء للأمر على ما كان وهذا قد ذكره الله في سورة الأنعام التي هي مكية باتفاق العلماء ليس كما ظنه أصحاب مالك والشافعي أنها من آخر القرآن نزولا وإنما سورة المائدة هي المتأخرة وقد قال الله فيها: {أحل لكم الطيبات} فعلم أن عدم التحريم المذكور في سورة الأنعام ليس تحليلا وإنما هو عفو. فتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع للعفو ليس نسخا للقرآن.
(سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون (148)
فصل:
وأما قول القائل: الزنا وغيره من المعاصي مكتوب علينا؛ فهو كلام صحيح لكن هذا لا ينفعه الاحتجاج به؛ فإن الله كتب أفعال العباد خيرها وشرها وكتب ما يصيرون إليه من الشقاوة والسعادة. وجعل الأعمال سببا للثواب والعقاب وكتب ذلك كما كتب الأمراض وجعلها سببا للموت وكما كتب أكل السم وجعله سببا للمرض والموت فمن أكل السم فإنه يمرض أو يموت. والله قدر وكتب هذا وهذا؛ كذلك من فعل ما نهي عنه من الكفر والفسق والعصيان فإنه يعمل ما كتب عليه وهو مستحق لما كتبه الله من الجزاء لمن عمل ذلك. وحجة هؤلاء بالقدر على المعاصي من جنس حجة المشركين الذين قال الله عنهم: {وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم} وقال تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} قال الله تعالى: {كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون} {قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين}.

(ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ... (152)
فذكر أنه لم يكلف نفسا إلا وسعها حين أمر بتوفية الكيل والميزان بالقسط؛ لأن الكيل لا بد له أن يفضل أحد المكيلين على الآخر ولو بحبة أو حبات وكذلك التفاضل في الميزان قد يحصل بشيء يسير لا يمكن الاحتراز منه فقال تعالى: {لا نكلف نفسا إلا وسعها}.
ولهذا كان القصاص مشروعا إذا أمكن استيفاؤه من غير جنف كالاقتصاص في الجروح التي تنتهي إلى عظم.
وفي الأعضاء التي تنتهي إلى مفصل فإذا كان الجنف واقعا في الاستيفاء عدل إلى بدله وهو الدية؛ لأنه أشبه بالعدل من إتلاف زيادة في المقتص منه وهذه حجة من رأى من الفقهاء أنه لا قود إلا بالسيف في العنق قال: لأن القتل بغير السيف وفي غير العنق لا نعلم فيه المماثلة بل قد يكون التحريق والتغريق والتوسيط ونحو ذلك أشد إيلاما؛ لكن الذين قالوا: يفعل به مثل ما فعل قولهم أقرب إلى العدل؛ فإنه مع تحري التسوية بين الفعلين يكون العبد قد فعل ما يقدر عليه من العدل وما حصل من تفاوت الألم خارج عن قدرته.
(وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون (153)
{وقال عبد الله بن مسعود خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا وخط خطوطا عن يمينه وشماله ثم قال: هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه. ثم قرأ: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}.

وإذا تأمل العاقل - الذي يرجو لقاء الله - هذا المثال وتأمل سائر الطوائف من الخوارج ثم المعتزلة ثم الجهمية والرافضة ومن أقرب منهم إلى السنة من أهل الكلام مثل الكرامية والكلابية والأشعرية وغيرهم وأن كلا منهم له سبيل يخرج به عما عليه الصحابة وأهل الحديث ويدعي أن سبيله هو الصواب - وجدت أنهم المراد بهذا المثال الذي ضربه المعصوم الذي لا يتكلم عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى. والعجب أن من هؤلاء من يصرح بأن عقله إذا عارضه الحديث - لا سيما في أخبار الصفات - حمل الحديث على عقله وصرح بتقديمه على الحديث وجعل عقله ميزانا للحديث فليت شعري هل عقله هذا كان مصرحا بتقديمه في الشريعة المحمدية فيكون من السبيل المأمور باتباعه أم هو عقل مبتدع جاهل ضال حائر خارج عن السبيل؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وهؤلاء الاتحادية وأمثالهم إنما أتوا من قلة العلم والإيمان بصفات الله التي يتميز بها عن المخلوقات وقلة اتباع السنة وطريقة السلف في ذلك بل قد يعتقدون من التجهم ما ينافي السنة تلقيا لذلك عن متفلسف أو متكلم فيكون ذلك الاعتقاد صادا لهم عن سبيل الله كلما أرادت قلوبهم أن تتقرب إلى ربها وتسلك الصراط المستقيم إليه وتعبده - كما فطروا عليه وكما بلغتهم الرسل من علوه وعظمته - صرفتهم تلك العوائق المضلة عن ذلك حتى تجد خلقا من مقلدة الجهمية يوافقهم بلسانه وأما قلبه فعلى الفطرة والسنة وأكثرهم لا يفهمون ما النفي الذي يقولونه بألسنتهم؟ بل يجعلونه تنزيها مطلقا مجملا. ومنهم من لا يفهم قول الجهمية. بل يفهم من النفي معنى صحيحا ويعتقد أن المثبت يثبت نقيض ذلك ويسمع من بعض الناس ذكر ذلك. مثل أن يفهم من قولهم: ليس في جهة ولا له مكان ولا هو في السماء: أنه ليس في جوف السموات وهذا معنى صحيح؛ وإيمانه بذلك حق ولكن يظن أن الذين قالوا هذا النفي اقتصروا على ذلك وليس كذلك. بل مرادهم: أنه ما فوق العرش شيء أصلا ولا فوق السموات إلا عدم محض؛ ليس هناك إله يعبد ولا رب يدعى ويسأل ولا خالق خلق الخلائق ولا عرج بالنبي إلى ربه أصلا هذا مقصودهم.
(فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون (157)
فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون}
فذكر سبحانه انه يجزي الصادف عن آياته مطلقا ـ سواء كان مكذبا أو لم يكن ـ سوء العذاب بما كانوا يصدفون، يبين ذلك أن كل من لم يقر بما جاء به الرسول فهو كافر، سوء العذاب بما كانوا يصدفون، يبين ذلك أن لك من لم يقر بما جاء به الرسول فهو كافر، سواء اعتقد كذبه أو استكبر عن الإيمان به، أو أعرض عن اتباعا لما يهواه، أو ارتاب فيما جاء به، فكل مكذب بما جاء به فهو كافر، وقد يكون كافرا من لا يكذبه إذا لم يؤمن به.

ولهذا أخبر الله في غير موضع من كتابه بالضلال والعذاب لمن ترك اتباع ما أنزله وإن كان له نظر وجدل واجتهاد في عقليات وأمور غير ذلك، وجعل ذلك من نعوت الكفار والمنافقين.
(إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون (159)
[فصل: اجتماع المسلمين بإجماعهم وتفرق النصارى بابتداعهم]
وكذلك تعظيمهم للصليب، واستحلالهم لحم الخنزير، وتعبدهم بالرهبانية، وامتناعهم من الختان، وتركهم طهارة الحدث والخبث، فلا يوجبون غسل جنابة ولا وضوءا، ولا يوجبون اجتناب شيء من الخبائث في صلاتهم لا عذرة ولا بولا ولا غير ذلك من الخبائث إلى غير ذلك.
كلها شرائع أحدثوها وابتدعوها بعد المسيح عليه السلام، ودان بها أئمتهم وجمهورهم، ولعنوا من خالفهم فيها، حتى صار المتمسك فيهم بدين المسيح المحض مغلوبا مقموعا قبل أن يبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، وأكثر ما هم عليه من الشرائع والدين لا يوجد منصوصا عن المسيح عليه السلام.
وأما المسلمون: فكل ما أجمعوا عليه إجماعا ظاهرا يعرفه العامة والخاصة فهو منقول عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، لم يحدث ذلك أحد لا باجتهاده ولا بغير اجتهاده، بل ما قطعنا بإجماع أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يوجد مأخوذا عن نبيهم.
وأما ما يظن فيه إجماعهم ولا يقطع به:
فمنه ما يكون ذلك الظن خطأ، ويكون بينهم فيه نزاع، ثم قد يكون نص الرسول صلى الله عليه وسلم مع هذا القول، وقد يكون مع هذا القول.
ومنه ما يكون ظن الإجماع عليه صوابا، ويكون فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أثر خفيت دلالته أو معرفته على بعض الناس.
وذلك أن الله تبارك وتعالى أكمل الدين بمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وبينه، وبلغه البلاغ المبين، فلا تحتاج أمته إلى أحد بعده يغير شيئا من دينه، وإنما تحتاج إلى معرفة دينه الذي بعث به فقط، وأمته لا تجتمع على ضلالة، بل لا يزال في أمته طائفة قائمة بالحق، حتى تقوم الساعة، فإن الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فأظهره بالحجة والبيان، وأظهره باليد والسنان، ولا يزال في أمته أمة ظاهرة بهذا وهذا حتى تقوم الساعة.

والمقصود هنا: أن ما اجتمعت عليه الأمة إجماعا ظاهرا تعرفه العامة والخاصة، فهو منقول عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، ونحن لا نشهد بالعصمة إلا لمجموع الأمة، وأما كثير من طوائف الأمة ففيهم بدع مخالفة للرسول، وبعضها من جنس بدع اليهود والنصارى، وفيهم فجور ومعاصي، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بريء من ذلك، كما قال تعالى له: {فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون} [الشعراء: 216].
وقال تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} [الأنعام: 159].
وقال صلى الله عليه وسلم: «من رغب عن سنتي فليس مني» وذلك مثل إجماعهم على أن محمدا صلى الله عليه وسلم أرسل إلى جميع الأمم أهل الكتاب وغير أهل الكتاب، فإن هذا تلقوه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، وهو منقول عندهم نقلا متواترا يعلمونه بالضرورة.
وكذلك إجماعهم على استقبال الكعبة البيت الحرام في صلاتهم، فإن هذا الإجماع منهم على ذلك مستند إلى النقل المتواتر عن نبيهم وهو مذكور في كتابهم.
وكذلك الإجماع على وجوب الصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، وحج البيت العتيق الذي بناه إبراهيم خليل الرحمن، ودعا الناس إلى حجه وحجته الأنبياء، حتى حجه موسى بن عمران ويونس بن متى وغيرهما، وإجماعهم على وجوب الاغتسال من الجنابة وتحريم الخبائث وإيجاب الطهارة للصلاة، فإن هذا كله مما تلقوه عن نبيهم، وهو منقول عنه صلى الله عليه وسلم نقلا متواترا وهو مذكور في القرآن.
وأما النصارى، فليست الصلوات التي يصلونها منقولة عن المسيح عليه السلام ولا الصوم الذي يصومونه منقولا عن المسيح، بل جعل أولهم الصوم أربعين يوما، ثم زادوا فيه عشرة أيام، ونقلوه إلى الربيع، وليس هذا منقولا عندهم عن المسيح عليه السلام.
وكذلك حجهم للقمامة، وبيت لحم، وكنيسة صيدنايا ليس شيء من ذلك منقولا عن المسيح عليه السلام، بل وكذلك عامة أعيادهم مثل عيد القلندس، وعيد الميلاد، وعيد الغطاس - وهو القداس - وعيد الخميس وعيد الصليب الذي جعلوه في وقت ظهور الصليب، لما أظهرته هيلانة الحرانية الفندقانية أم قسطنطين بعد المسيح عليه السلام بمائتين من السنين، وعيد الخميس والجمعة والسبت التي في آخر صومهم، وغير ذلك من أعيادهم التي رتبوها على أحوال المسيح والأعياد التي ابتدعوها لكبرائهم، فإن ذلك كله من بدعهم التي ابتدعوها بلا كتاب نزل من الله تعالى، بل هم يبنون الكنائس على اسم بعض من يعظمونه، كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنهم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» وهذا بخلاف المساجد التي تبنى لله عز وجل كما قال تعالى: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} [الجن: 18].
وقال: {في بيوت أذن الله أن ترفع} [النور: 36].
وقال تعالى: {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} [الأعراف: 29].
وقال تعالى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} [التوبة: 18].
والنصارى كأشباههم من المشركين يخشون غير الله، ويدعون غير الله.
(قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (161)

" والحنيف " للسلف فيه ثلاث عبارات. قال محمد بن كعب: مستقيما. وقال عطاء: مخلصا. وقال آخرون: متبعا. فهو مستقيم القلب إلى الله دون ما سواه قال الله تعالى: {فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين} وقال تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة. فلم يلتفتوا بقلوبهم إلى ما سواه لا بالحب ولا بالخوف ولا بالرجاء؛ ولا بالسؤال؛ ولا بالتوكل عليه؛ بل لا يحبون إلا الله ولا يحبون معه أندادا ولا يحبون إلا إياه؛ لا لطلب منفعة ولا لدفع مضرة ولا يخافون غيره كائنا من كان ولا يسألون غيره ولا يتشرفون بقلوبهم إلى غيره. ولهذا {قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا متشرف فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك} - فالسائل بلسانه والمتشرف بقلبه - متفق على صحته.
(قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (164)
فصل:
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وأما قول السائل: هل يؤذيه البكاء عليه؟. فهذه مسألة فيها نزاع بين السلف والخلف والعلماء. والصواب أنه يتأذى بالبكاء عليه كما نطقت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه} - وفي لفظ - {من ينح عليه يعذب بما نيح عليه} " وفي الحديث الصحيح أن عبد الله بن رواحة لما أغمي عليه جعلت أخته تندب وتقول: واعضداه واناصراه فلما أفاق قال: ما قلت لي شيئا إلا قيل لي: أكذلك أنت؟. وقد أنكر ذلك طوائف من السلف والخلف واعتقدوا أن ذلك من باب تعذيب الإنسان بذنب غيره فهو مخالف لقوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى} ثم تنوعت طرقهم في تلك الأحاديث الصحيحة. فمنهم من غلط الرواة لها كعمر بن الخطاب وغيره، وهذه طريقة عائشة والشافعي وغيرهما. ومنهم من حمل ذلك على ما إذا أوصى به فيعذب على إيصائه وهو قول طائفة: كالمزني وغيره. ومنهم من حمل ذلك على ما إذا كانت عادتهم فيعذب على ترك النهي عن المنكر وهو اختيار طائفة: منهم جدي أبو البركات وكل هذه الأقوال ضعيفة جدا. والأحاديث الصحيحة الصريحة التي يرويها مثل عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبي موسى الأشعري وغيرهم لا ترد بمثل هذا. وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لها مثل هذا نظائر ترد الحديث بنوع من التأويل والاجتهاد لاعتقادها بطلان معناه ولا يكون الأمر كذلك، ومن تدبر هذا الباب وجد هذا الحديث الصحيح الصريح الذي يرويه الثقة لا يرده أحد بمثل هذا إلا كان مخطئا.
وعائشة رضي الله عنها روت عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظين - وهي الصادقة فيما نقلته - فروت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: {إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه} وهذا موافق لحديث عمر فإنه إذا جاز أن يزيده عذابا ببكاء أهله جاز أن يعذب غيره ابتداء ببكاء أهله؛ ولهذا رد الشافعي في مختلف الحديث هذا الحديث نظرا إلى المعنى، وقال: الأشبه روايتها الأخرى: {أنهم يبكون عليه وإنه ليعذب في قبره}. والذين أقروا هذا الحديث على مقتضاه ظن بعضهم أن هذا من باب عقوبة الإنسان بذنب غيره وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، واعتقد هؤلاء أن الله يعاقب الإنسان بذنب غيره فجوزوا أن يدخلوا أولاد الكفار النار بذنوب آبائهم، وهذا وإن كان قد قاله طوائف منتسبة إلى السنة فالذي دل عليه الكتاب والسنة أن الله لا يدخل النار إلا من عصاه كما قال: {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} فلا بد أن يملأ جهنم من أتباع إبليس فإذا امتلأت لم يكن لغيرهم فيها موضع فمن لم يتبع إبليس لم يدخل النار.
سورة الأعراف
(اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون (3)
فصل:
قد أمرنا الله تعالى باتباع ما أنزل إلينا من ربنا وباتباع ما يأتي منه من الهدى وقد أنزل علينا الكتاب والحكمة كما قال تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} والحكمة من الهدى قال تعالى: {وإن تطيعوه تهتدوا} والأمر باتباع الكتاب والقرآن يوجب الأمر باتباع الحكمة التي بعث بها الرسول وباتباعه وطاعته مطلقا. وقال تعالى: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} وقال تعالى: {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم} وقال تعالى: {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} وقال تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} وقال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم}.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 31.92 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 31.29 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.97%)]