
02-12-2024, 08:36 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,690
الدولة :
|
|
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 311)
من صــ 361 الى صـ 375
أريد بذا أن الحوادث كلها ... بقدرته كانت ومحض المشيئة
ومالكنا في كل ما قد أراده ... له الحمد حمدا يعتلي كل مدحة
فإن له في الخلق رحمته سرت ... ومن حكم فوق العقول الحكيمة
أمورا يحار العقل فيها إذا رأى ... من الحكم العليا وكل عجيبة
فنؤمن أن الله عز بقدرة ... وخلق وإبرام لحكم المشيئة
فنثبت هذا كله لإلهنا ... ونثبت ما في ذاك من كل حكمة
وهذا مقام طالما عجز الأولى ... نفوه وكروا راجعين بحيرة
وتحقيق ما فيه بتبيين غوره ... وتحرير حق الحق في ذي الحقيقة
هو المطلب الأقصى لوراد بحره ... وذا عسر في نظم هذي القصيدة
لحاجته إلى بيان محقق ... لأوصاف مولانا الإله الكريمة
وأسمائه الحسنى وأحكام دينه ... وأفعاله في كل هذي الخليقة
وهذا بحمد الله قد بان ظاهرا ... وإلهامه للخلق أفضل نعمة
وقد قيل في هذا وخط كتابه ... بيان شفاء للنفوس السقيمة
فقولك: لم قد شاء؟ مثل سؤال من ... يقول: فلم قد كان في الأزلية
وذاك سؤال يبطل العقل وجهه ... وتحريمه قد جاء في كل شرعة
وفي الكون تخصيص كثير يدل من ... له نوع عقل أنه بإرادة
وإصداره عن واحد بعد واحد ... أو القول بالتجويز رمية حيرة
ولا ريب في تعليق كل مسبب ... بما قبله من علة موجبية
بل الشأن في الأسباب أسباب ما ترى ... وإصدارها عن الحكم محض المشيئة
وقولك: لم شاء الإله؟ هو الذي ... أزل عقول الخلق في قعر حفرة
فإن المجوس القائلين بخالق ... لنفع ورب مبدع للمضرة
سؤالهم عن علة السر أوقعت ... أوائلهم في شبهة الثنوية
وإن ملاحيد الفلاسفة الأولى ... يقولون بالفعل القديم لعلة
بغوا علة للكون بعد انعدامه ... فلم يجدوا ذاكم فضلوا بضلة
وإن مبادي الشر في كل أمة ... ذوي ملة ميمونة نبوية
بخوضهمو في ذاكم صار شركهم ... وجاء دروس البينات بفترة
ويكفيك نقضا أن ما قد سألته ... من العذر مردود لدى كل فطرة
فأنت تعيب الطاعنين جميعهم ... عليك وترميهم بكل مذمة
وتنحل من والاك صفو مودة ... وتبغض من ناواك من كل فرقة
وحالهم في كل قول وفعلة ... كحالك يا هذا بأرجح حجة
وهبك كففت اللوم عن كل كافر ... وكل غوي خارج عن محبة
فيلزمك الإعراض عن كل ظالم ... على الناس في نفس ومال وحرمة
ولا تغضبن يوما على سافك دما ... ولا سارق مالا لصاحب فاقة
ولا شاتم عرضا مصونا وإن علا ... ولا ناكح فرجا على وجه غية
ولا قاطع للناس نهج سبيلهم ... ولا مفسد في الأرض في كل وجهة
ولا شاهد بالزور إفكا وفرية ... ولا قاذف للمحصنات بزنية
ولا مهلك للحرث والنسل عامدا ... ولا حاكم للعالمين برشوة
وكف لسان اللوم عن كل مفسد ... ولا تأخذن ذا جرمة بعقوبة
وسهل سبيل الكاذبين تعمدا ... على ربهم من كل جاء بفرية
وإن قصدوا إضلال من يستجيبهم ... بروم فساد النوع ثم الرياسة
وجادل عن الملعون فرعون إذ طغى ... فأغرق في اليم انتقاما بغضبة
وكل كفور مشرك بإلهه ... وآخر طاغ كافر بنبوة
كعاد ونمروذ وقوم لصالح ... وقوم لنوح ثم أصحاب أيكة
وخاصم لموسى ثم سائر من أتى ... من الأنبياء محييا للشريعة
على كونهم قد جاهدوا الناس إذ بغوا ... ونالوا من المعاصي بليغ العقوبة
وإلا فكل الخلق في كل لفظة ... ولحظة عين أو تحرك شعرة
وبطشة كف أو تخطي قديمة ... وكل حراك بل وكل سكينة
همو تحت أقدار الإله وحكمه ... كما أنت فيما قد أتيت بحجة
وهبك رفعت اللوم عن كل فاعل ... فعال ردى طردا لهذي المقيسة
فهل يمكن رفع الملام جميعه ... عن الناس طرا عند كل قبيحة؟
وترك عقوبات الذين قد اعتدوا ... وترك الورى الإنصاف بين الرعية
فلا تضمنن نفس ومال بمثله ... ولا يعقبن عاد بمثل الجريمة
وهل في عقول الناس أو في طباعهم ... قبول لقول النذل ما وجه حيلتي؟
ويكفيك نقضا ما بجسم ابن آدم ... صبي ومجنون وكل بهيمة
من الألم المقضي في غير حيلة ... وفيما يشاء الله أكمل حكمة
إذا كان في هذا له حكمة فما ... يظن بخلق الفعل ثم العقوبة؟
وكيف ومن هذا عذاب مولد ... عن الفعل فعل العبد عند الطبيعة؟
كآكل سم أوجب الموت أكله ... وكل بتقدير لرب البرية
فكفرك يا هذا كسم أكلته ... وتعذيب نار مثل جرعة غصة
ألست ترى في هذه الدار من جنى ... يعاقب إما بالقضا أو بشرعة؟
ولا عذر للجاني بتقدير خالق ... كذلك في الأخرى بلا مثنوية
وتقدير رب الخلق للذنب موجب ... لتقدير عقبى الذنب إلا بتوبة
وما كان من جنس المتاب لرفعه ... عواقب أفعال العباد الخبيثة
كخير به تمحى الذنوب ودعوة ... تجاب من الجاني ورب شفاعة
وقول حليف الشر إني مقدر ... علي كقول الذئب هذي طبيعتي
وتقديره للفعل يجلب نقمة ... كتقديره الأشياء طرا بعلة
فهل ينفعن عذر الملوم بأنه ... كذا طبعه أم هل يقال لعثرة؟
أم الذم والتعذيب أوكد للذي ... طبيعته فعل الشرور الشنيعة؟
فإن كنت ترجو أن تجاب بما عسى ... ينجيك من نار الإله العظيمة
فدونك رب الخلق فاقصده ضارعا ... مريدا لأن يهديك نحو الحقيقة
وذلل قياد النفس للحق واسمعن ... ولا تعرضن عن فكرة مستقيمة
وما بان من حق فلا تتركنه ... ولا تعص من يدعو لأقوم شرعة
ودع دين ذا العادات لا تتبعنه ... وعج عن سبيل الأمة الغضبية
ومن ضل عن حق فلا تقفونه ... وزن ما عليه الناس بالمعدلية
هنالك تبدو طالعات من الهدى ... تبشر من قد جاء بالحنيفية
بملة إبراهيم ذاك إمامنا ... ودين رسول الله خير البرية
فلا يقبل الرحمن دينا سوى الذي ... به جاءت الرسل الكرام السجية
وقد جاء هذا الحاشر الخاتم الذي ... حوى كل خير في عموم الرسالة
وأخبر عن رب العباد بأن من ... غدا عنه في الأخرى بأقبح خيبة
فهذي دلالات العباد لحائر ... وأما هداه فهو فعل الربوبية
وفقد الهدى عند الورى لا يفيد من ... غدا عنه بل يجري بلا وجه حجة
وحجة محتج بتقدير ربه ... تزيد عذابا كاحتجاج مريضة
وأما رضانا بالقضاء فإنما ... أمرنا بأن نرضى بمثل المصيبة
كسقم وفقر ثم ذل وغربة ... وما كان من مؤذ بدون جريمة
فأما الأفاعيل التي كرهت لنا ... فلا ترتضى مسخوطة لمشيئة
وقد قال قوم من أولي العلم لا رضا ... بفعل المعاصي والذنوب الكبيرة
وقال فريق نرتضي بقضائه ... ولا نرتضي المقضي أقبح خصلة
وقال فريق نرتضي بإضافة ... إليه وما فينا فنلقي بسخطة
كما أنها للرب خلق وإنها ... لمخلوقه ليست كفعل الغريزة
فنرضى من الوجه الذي هو خلقه ... ونسخط من وجه اكتساب الخطيئة
ومعصية العبد المكلف تركه ... لما أمر المولى وإن بمشيئة
فإن إله الخلق حق مقاله ... بأن العباد في جحيم وجنة
كما أنهم في هذه الدار هكذا ... بل البهم في الآلام أيضا ونعمة
وحكمته العليا اقتضت ما اقتضت من ... الفروق بعلم ثم أيد ورحمة
يسوق أولي التعذيب بالسبب الذي ... يقدره نحو العذاب بعزة
ويهدي أولي التنعيم نحو نعيمهم ... بأعمال صدق في رجاء وخشية
وأمر إله الخلق بين ما به ... يسوق أولي التنعيم نحو السعادة
فمن كان من أهل السعادة أثرت ... أوامره فيه بتيسير صنعة
ومن كان من أهل الشقاوة لم ينل ... بأمر ولا نهي بتقدير شقوة
ولا مخرج للعبد عما به قضي ... ولكنه مختار حسن وسوأة
فليس بمجبور عديم الإرادة ... ولكنه شاء بخلق الإرادة
ومن أعجب الأشياء خلق مشيئة ... بها صار مختار الهدى بالضلالة
فقولك: هل اختار تركا لحكمة؟ ... كقولك: هل اختار ترك المشيئة؟
وأختار أن لا اختار فعل ضلالة ... ولو نلت هذا الترك فزت بتوبة
وذا ممكن لكنه متوقف ... على ما يشاء الله من ذي المشيئة
فدونك فافهم ما به قد أجبت من ... معان إذا انحلت بفهم غريزة
أشارت إلى أصل يشير إلى الهدى ... ولله رب الخلق أكمل مدحة
وصلى إله الخلق جل جلاله ... على المصطفى المختار خير البرية
(يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين (130)
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
والمقصود أن الجن إذا اعتدوا على الإنس أخبروا بحكم الله ورسوله وأقيمت عليهم الحجة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر كما يفعل بالإنس؛ لأن الله يقول: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} وقال تعالى: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا} ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل حيات البيوت حتى تؤذن ثلاثا كما في صحيح مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن بالمدينة نفرا من الجن قد أسلموا فمن رأى شيئا من هذه العوامر فليؤذنه ثلاثا فإن بدا له بعد فليقتله فإنه شيطان}
وفي صحيح مسلم أيضا {عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته قال: فوجدته يصلي فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته فسمعت تحريكا في عراجين في ناحية البيت فالتفت فإذا حية فوثبت لأقتلها فأشار إلي أن اجلس فجلست فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت: نعم فقال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس قال: فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار ويرجع إلى أهله فاستأذنه يوما فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع فإذا امرأته بين البابين قائمة فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به وأصابته غيرة فقالت:
اكفف عليك رمحك وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ثم خرج فركزه في الدار فاضطربت عليه فما يدرى أيهما كان أسرع موتا الحية أم الفتى؟ قال: فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا له ذلك وقلنا: ادع الله يحييه لنا قال: استغفروا لصاحبكم ثم قال: إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان} وفي لفظ آخر لمسلم أيضا: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن لهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم شيئا منها فحرجوا عليه ثلاثا فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر} وقال لهم: {اذهبوا فادفنوا صاحبكم}.
وذلك أن قتل الجن بغير حق لا يجوز كما لا يجوز قتل الإنس بلا حق والظلم محرم في كل حال، فلا يحل لأحد أن يظلم أحدا ولو كان كافرا بل قال تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}.
والجن يتصورون في صور الإنس والبهائم فيتصورون في صور الحيات والعقارب وغيرها وفي صور الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير وفي صور الطير وفي صور بني آدم كما أتى الشيطان قريشا في صورة سراقة بن مالك بن جعشم لما أرادوا الخروج إلى بدر قال تعالى: {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم} إلى قوله: {والله شديد العقاب}. وكما روي أنه تصور في صورة شيخ نجدي لما اجتمعوا بدار الندوة هل يقتلوا الرسول أو يحبسونه أو يخرجونه؟ كما قال تبارك وتعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} فإذا كان حيات البيوت قد تكون جنا فتؤذن ثلاثا فإن ذهبت وإلا قتلت فإنها إن كانت حية قتلت وإن كانت جنية فقد أصرت على العدوان بظهورها للإنس في صورة حية تفزعهم بذلك والعادي هو الصائل الذي يجوز دفعه بما يدفع ضرره ولو كان قتلا وأما قتلهم بدون سبب يبيح ذلك فلا يجوز. وأهل العزائم والأقسام يقسمون على بعضهم ليعينهم على بعض تارة يبرون قسمه وكثيرا لا يفعلون ذلك بأن يكون ذلك الجني معظما عندهم وليس للمعزم وعزيمته من الحرمة ما يقتضي إعانتهم على ذلك إذ كان المعزم قد يكون بمنزلة الذي يحلف غيره ويقسم عليه بمن يعظمه وهذا تختلف أحواله فمن أقسم على الناس ليؤذوا من هو عظيم عندهم لم يلتفتوا إليه وقد يكون ذاك منيعا فأحوالهم شبيهة بأحوال الإنس لكن الإنس أعقل وأصدق وأعدل وأوفى بالعهد؛ والجن أجهل وأكذب وأظلم وأغدر.
والمقصود أن أرباب العزائم مع كون عزائمهم تشتمل على شرك وكفر لا تجوز العزيمة والقسم به فهم كثيرا ما يعجزون عن دفع الجني وكثيرا ما تسخر منهم الجن إذا طلبوا منهم قتل الجني الصارع للإنس أو حبسه فيخيلوا إليهم أنهم قتلوه أو حبسوه ويكون ذلك تخييلا وكذبا هذا إذا كان الذي يرى ما يخيلونه صادقا في الرؤية فإن عامة ما يعرفونه لمن يريدون تعريفه إما بالمكاشفة والمخاطبة إن كان من جنس عباد المشركين وأهل الكتاب ومبتدعة المسلمين الذين تضلهم الجن والشياطين وأما ما يظهرونه لأهل العزائم والأقسام أنهم يمثلون ما يريدون تعريفه فإذا رأى المثال أخبر عن ذلك وقد يعرف أنه مثال وقد يوهمونه أنه نفس المرئي وإذا أرادوا سماع كلام من يناديه من مكان بعيد مثل من يستغيث ببعض العباد الضالين من المشركين وأهل الكتاب وأهل الجهل من عباد المسلمين إذا استغاث به بعض محبيه فقال: يا سيدي فلان فإن الجني يخاطبه بمثل صوت ذلك الإنسي فإذا رد الشيخ عليه الخطاب أجاب ذلك الإنسي بمثل ذلك الصوت وهذا وقع لعدد كثير أعرف منهم طائفة.
(ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون (131)
أي: هذا بهذا السبب فعلم أنه لا يعذب من كان غافلا ما لم يأته نذير ودل أيضا على أن ذلك ظلم تنزه سبحانه عنه.
وأيضا فإن الله تعالى قد أخبر في غير موضع أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها كقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وقوله تعالى {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها} وقوله: {لا تكلف نفس إلا وسعها} وقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها} وأمر بتقواه بقدر الاستطاعة فقال: {فاتقوا الله ما استطعتم} وقد دعاه المؤمنون بقولهم: {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} فقال: " قد فعلت ". فدلت هذه النصوص على أنه لا يكلف نفسا ما تعجز عنه خلافا للجهمية المجبرة ودلت على أنه لا يؤاخذ المخطئ والناسي خلافا للقدرية والمعتزلة. وهذا فصل الخطاب في هذا الباب.
(قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم (145)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وإنما حرم على الذين هادوا ما ذكره في سورة الأنعام. ولهذا أنكر في سورة الأنعام وغيرها على من حرم ما لم يحرمه كقوله: {قل آلذكرين حرم أم الأنثيين} ثم قال: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} ثم قال تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} الآيات. وقال في سورة النحل: {وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل} الآية وأخبر أنه حرم ذلك ببغيهم فقال: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} وقال: {ذلك جزيناهم ببغيهم}. وهذا كله يدل على أصح قولي العلماء وهو: أن هذا التحريم باق عليهم بعد مبعث محمد لا يزول إلا بمتابعته؛ لأنه تحريم عقوبة على ظلمهم وبغيهم؛ وهذا لم يزل بل زاد وتغلظ فكانوا أحق بالعقوبة.
وأيضا فإن الله تعالى أخبر بهذا التحريم بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ليبين أنه لم يحرم إلا هذا وهذا؛ فلو كان ذلك التحريم قد زال لم يستثنه.
وأيضا فإن التحريم لا يزول إلا بتحليل منه وهو إنما أحل أكل الطيبات للمؤمنين بقوله: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} الآية وقوله: {أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد} وقوله: {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات} إلى قوله: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} وهذا خطاب للمؤمنين ولهذا قال: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} ثم قال: {وطعامكم حل لهم} فلو كان ما أحل لنا حلا لهم لم يحتج إلى هذا وقوله: {وطعامكم حل لهم} لا يدخل فيه ما حرم عليهم كما أن قوله: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} لا يدخل فيه ما حرم علينا مما يستحلونه هم كصيد الحرم وما أهل به لغير الله.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|