وهذه الحيلة صنعها الله لنبيه يوسف ﷺ، وما كان ليعملها لولا مشيئة الله؛ فيوسف يعامل إخوانه وفق قانون الملك، وقانون الملك لا يسمح بهذا التصرف، فجعل الله في قلوبهم أن صرحوا بالعقوبة التي يرضون، فكان التصرف مقبولا في قانون الملك، لكونه برضى الطرفين، ومقبولا أيضا عند إخوة يوسف لكونهم من جعلوه الحكم في هذه النازلة.
ولأن الأسرار التخطيطية محلها الكتمان، وليس البث، فإن القرآن لا يحدثنا عن نية يوسف، هل كان يريد أن يزيد أخاه بكيل بعير فيحتال له بجعل الصواع فيه، أم كان يريد ما آلت إليه الأمور من استبقاء أخيه معه، وكل ذلك محتمل، وإن كان الثاني أقرب من الأول.
وكان شقيق يوسف عند حسن الظن كذلك، كاتما للسر، صالحا للمهمة التي وكلت إليه، فلا يبتئس ولا يحزن، فلم ينبس بكلمة، وظهر كأنه دِينَ بالمخالفة، وحقت عليه العقوبة، وهو سلوك يليق بالثقات كاتمي الأسرار متحملي الإساءات في سبيل المصالح التي يطمحون إليها، والمقاصد التي يرمون إليها، فلم يبرئ نفسه من السرقة، ولم يعتذر، ولم يكشف السر حين اتهم أخوه بالسرقة، وهو يعلم براءتهما من التهم، ولم يستقو بالملك في مواجهة إخوانه، بل ظهر كالضحية، وسكت وهو في نظرهم مقر بالسرقة، وهو متيقن براءة نفسه واثق من إخبار أخيه له بالأخوة، غير مبتئس بما يعل إخوانه.
ويستمر يوسف في حلمه وعلمه، ويستمر إخوته في تسديد الإساءة إليه كلما سنحت سانحة، فيقولون له أمام وجهه، ورحالهم مملوءة من متاعه، وهم ضيوف مملكته، وكرمه كان سبب عودتهم إليه، يقولون له رغم كل هذا: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [سورة يوسف:77]، وسواء كان هذا القول تبرئة لأنفسهم من السرقة، واتهاما لإخوانهم بها، أو كان تذكرا لسرقة اتهم بها يوسف في طفولته، أو كان كذبا محضا، فكل ذلك إساءة لملك يملك أدوات التأثير، لكنه يؤثر العفو والصفح، ويرفض أن يعاقب رغم الاستفزاز المتكرر.
ويصور لنا القرآن صورة موقف يوسفي بأسلوب في غاية الإيجاز {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} [سورة يوسف:77]، ولا ندري جزما ما الذي أسر يوسف، هل هو مقالة إخوانه، أم مقالته الآتية، أم آثار مقالة إخوانه في نفسه، أم براءته مما قيل في حقه, كما لا ندري على سبيل الجزم ما الذي أظهر هل هو قوله: {أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُون} [سورة يوسف:77]، أم قوله: {وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُون} [سورة يوسف:77]، وعلى كل فيوسف لم يبد أنه يوسف، ولا أنه يعلم شيئا عن الموضوع وهذا هو المهم في القصة، وغاية من في الأمر أنه إن كان قال قولا فقد قال ما مضمونه: إن كان أخوه سرق كما زعمتم فهي أمامنا مجرد دعوى منكم، وأنتم سارقون الآن سرقة واضحة، وسرقة أخيه التي اتهمتموه بها دعوى الله أعلم بحقيقتها. وإن كان أخفاه ولم يقله فذلك آكد في بعده عن التعريف بنفسه، وهو مقصد القصة هنا.
ويفاوض إخوان يوسف الملك في شأن أخيهم وفي بديل عنه، وذلك لعدم إدراكم للتخطيط الذي يقوم به يوسف، وللسياسة التي ينتهج، وهي سياسة سيتضح لاحقا أنها جزاء لهم على جرائمهم جزاء حليم، ووجه الجزاء فيها يتضح من عدة زوايا:
أنه أدخل عليهم الحزن كما أدخلوه عليه
أنه سبب لهم تغييب وجه أبيهم عنه، وصده عنهم خلافا لقصدهم من تغييب يوسف وأخيه {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [سورة يوسف:9].
أن غايته سامية وهي لم شمل العائلة، خلافا لغايتهم الساقطة التافهة قتل يوسف وحسده على نعمة الله عليه.
أن إحسانه لم ينقطع عنهم رغم الإساءة، فالحزن الذي أدخل عليهم جزئي يقابله إحسان مستمر في الأولى والثانية، وميرته معهم مستمرة، لم يقطعها عنهم حين بدوا سارقين.
أن يوسف حين تمكن لم ينتقم لنفسه لا ظاهرا ولا باطنا، وليست حيلته بإبقاء أخيه بأقرب من حيلة يصنعها لهم ليسجنهم، ويجعلهم جواسيس وخونة، لكنه حلم النبوة، وحكمة النبي المسدد بالوحي من ربه الفعال لما يريد.
ويصور القرآن صحوة ضمير عابرة من إخوة يوسف، وكيف تناجوا بينهما جنبا عن الناس، وتذكروا كيف خرجوا من عند والدهم، وكيف سيظن أن تفريطهم في أخي يوسف من جنس تفريطهم في يوسف من قبل، فيصر كبيرهم (سواء كان كبير سن أو كبير رأي) أن يبقى راهنا نفسه هناك، حتى يأذن له والده أو يحكم الله فيه.
وحين يأتون يعقوب، وقد قرروا الصدق معه يأتونه والجفاء في ألسنتهم باد، {إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} [سورة يوسف:81]، وكان بإمكانهم أن يقولوا: إن أخانا سرق، أو إن فلانا سرق، ولكنه التعود على استبعاد أولئك الإخوة لا لذنب سوى حب والدهم لهم. ويقدمون البراهين الدالة على براءتهم لكنها لا تنفع، بل لا ينظر فيها يعقوب أصلا لما علم منهم من الكذب السابق.
وهذا الجفاء وتأكيد القرآن له في هذه السياقات المختلفة يؤكد أن العدو لا يكون صديقا، إلا بتوبة صالحة صادقة، فقد ظل هؤلاء يعنفون يعقوب كلما ذكر يوسف: {تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِين} [سورة يوسف:85]، {تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيم} [سورة يوسف:95].
وحين كان أبناء يعقوب صادقين عددوا براهين صدقهم، {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُون} [سورة يوسف:82] ولكن لسابقة الكذب أكدوا صدقهم {وَإِنَّا لَصَادِقُون} [سورة يوسف:82] ولم يقولوا ما قالوا في قصة يوسف: {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِين} [سورة يوسف:17].
وبين التعبيرين ما يسهم من خلال لحن القول عند المتأمل في التفريق بين الصادق والكاذب، فحين الكاذب.
وقد رد يعقوب عليه السلام باتهام مباشر لهم بالكذب والخيانة؛
ويؤخذ من اتهامه لأبنائه بأن صاحب المعصية يجوز لنا الظن به في نحو ما تقدم منه فعله، وليس ذلك من الظن الظالم، ولا يمنع منه احتمال توبته وبراءته ما لم نتيقن ذلك، فقد اتهم يعقوب أبناءه في التخطيط لتغييب أخي يوسف كما غيبوا يوسف، كما أكد هذا الاتهام حين أخبروه أنه سرق.
وتؤخذ منه قاعدة عامة أن الإنسان الذي بدر منه خطأ قل أن يقبل الناس توبته ولو تاب، وقل أن يصدقوا الذي كذب مرة ولو كان بالفعل صادقا.
وهذه العصبة من الإخوة تعودت أن لا تُصدَّق في القول بسبب ما مارست من كذب لذلك حين تقول القول لا بد أن تؤكده لأنها تشعر أن المخاطب لا يصدقها من ذلك قولهم هنا: {سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُون} [سورة يوسف:61] وقولهم ليعقوب حين كادوا ليوسف: {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِين} [سورة يوسف:17]، وقولهم ليعقوب عند غياب أخيهم الثاني بعد العهود والمواثيق: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُون} [سورة يوسف:82].
وقد عامل القدر إخوة يوسف بنقيض قصدهم الفاسد، فقد كان الغرض من كيدهم في الأصل أن يخلو لهم وجه يعقوب، ولكن كلما جاءت محنة تذكر يعقوب يوسف وحن إليه، وخلا له وجهه، ولم يحجبه عنه أي وجه آخر، وكما قالت الخنساء:
يذكرني طلوع الشمس صخرا
وأذكره لكل غروب شمس
كذلك تذكر يعقوب الحوادث ابنه يوسف.
ويتجلى هذا التذكر والحضور في قوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم} [سورة يوسف:83] وقد يوهم ذلك أنه جمع مع يوسف وأخيه أخاهم الذي قرر البقاء في مصر، ولكن السياق يؤكد لاحقا أن ليس في ذهنه غير يوسف وأخيه، لذلك قال لهم:{اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [سورة يوسف:87]
ولا سلوان ليعقوب مع المصائب إلا الاستعانة بالله والاعتماد عليه واللجأ إليه في الحوادث والدواهي والمطمات، فقد قال عند تغييب يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُون} [سورة يوسف:18] وقال هنا لما اشتد الكرب، ولحق بيوسف أخوه: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [سورة يوسف:83]، وهنا ظهر أمل لم يكن في المرة الأولى، وهو أمر مهم للمسلم أن يزداد أملا كلما ازدادت المحنة، وأن يوقن بالخير كلما عربد الشر، وبالفجر كلما احلولك الظلام، وبالنصر كلما استعلت نار الصبر…
وما يعكر على هذا من ظواهر الشكوى أو البكاء والحزن ونحو ذلك أجاب عنه يعقوب بقوله: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ} [سورة يوسف:86]، ولذلك فهو لا ييأس ولا يستلم، ويعلم أن وعد الله حق، فيوصي أبناءه: {يَابَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُون} [سورة يوسف:87]، وهذا الخلق من الرجاء والطمع فيما عند الله، واليقين بموعوده حري بالمؤمنين التخلق به على كل حال، مهما اشتد البلاء وطالت المحنة، فإن “أمر المؤمن كله له خير”([20])، وهذا الشعور والثقة الناشئة عن الرضا باختيار الله مهما كان لا بد منها في كل حال؛ لأن الاحتمالات إما أن تتعدد أو لا؛ فإن تعددت الاحتمالات وجهل المرء المآل، فلا بد أن يصبر وستمر ويمتثل الأمر الشرعي ويرضى بالنتيجة القدرية كما قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُون} [سورة التوبة:52]، وأما إن كان الاحتمال واحدا بشرع أو بقدر فلا بد أن نثق في صدق الوحي، ونعلم أنه لن يكون إلا ما أخبر الله به. ومن أمثلة الاحتمال الواحد الشرعي: الأمر الشرعي المكروه للفرد، فلا بد من امتثاله، واليقين أن الخير فيه، والشر في مخالفته، ومثاله في الأمر القدري: حالة يعقوب، فاليقين أنه سيلقى يوسف كما جاءت بذلك رؤيا يوسف و”رؤيا الأنبياء وحي”([21])، ولكن متى؟ لم يكن يعقوب يدري متى، وإنما يثق أنه لاقيه لا محالة.
ويصور القرآن مستوى الانكسار في حال إخوة يوسف، وهم يواجهون ملكا لا يعرفونه مسرتشدين بنصائح والدهم {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِين} [سورة يوسف:88]، فهم يصورون أنفسهم وقد مسهم الضر والجهد، وجاءوا ببضاعة أقل من التي كانوا يأتون بها، ويبحثون عن وفاء في الكيل، وحسن في التعامل، وهذا ينبئ أنهم لا يتصورن يوسف في هذا الموقف، ولا يكترثون بأمر والدهم في التحسس من شأنه لبعد ذلك عادة عندهم.
وأمام هذا الانكسار يواجه يوسف إخوته بالتعريف بنفسه وأخيه في كل أدب وكياسة ولباقة، فيقول لهم: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُون} [سورة يوسف:89]، وهو التعبير الوحيد الذي يفهم منه أن يوسف يذكر إخوانه بما فعلوا به هو وأخيه، ولم يعيرهم بذلك بعد هذا، وحين عرفهم بنفسه ذكر نعمة الله عليه ورد هذه النعمة لتوفيه الله له ولأخيه إلى التقوى والصبر، حيث اتقيا الله فيما يخص أوامر الله لهما، واتقياه فيما يخص إخوانهما فلم يردا الظلم بالظلم، ثم صبرا على ما أصابهما من أذى، ليذكرهم أن هذا التمكين عاجل من عاجل فضل الله للصابرين، {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين} [سورة يوسف:90]، وأما فضل الله على الصابرين المتقين فليست الدنيا بجزاء له مهما كان فيها من تمكين وتوفيق ونصر على الأعدادء.
والقرآن يبين أن يوسف أخر الإعلان عن نفسه، والتعرف على إخوته وتعجيل البشرى لوالده، ولم يبين تعليل ذلك؛ ليترك للعقل البشري المدرِكِ لعصمة الأنبياء المسترشدِ بالوحي المجالَ للتدبر في الأسباب، ومعرفة العلل والدوافع، وسواء كان السبب الخوف من أن يذعرهم فيهلكوا بسبب الخوف من ملك لا يعرفونه، أو أن يخافوا بطشه فلا يعلموا يعقوب، أو أن يهربوا منه فلا يرجعون إليه، بغض النظر عن الأسباب فإن هذا التأخير من الحكم اللصيقة بالملك المتعلقة بالتدبير التي تجعل العاقل المتبع ليوسف يحسن التدبير، ولا تستعجله العواطف ولا تستفزه المواقف.
وهنا يعترف المندهشون بتفضيل الله ليوسف عليهم وهم في هذا المشهد المهول، وكأن الصور تعود لذاكرتهم وتستعرض يوسف مدللا بين يدي والده محببا مكرما، ثم تستعرض أمامهم شريط ذاكرة الكيد بما فيه من مشاعر عدائيه وأحاسيس عدوانية، وكذب ومكر وخيانة… حتى تنتهي الصور بيوسف معززا في مصر عزيزا على أهلها وهم أذلة بين يديه يتستمطرون عطفه ورحمته وشفقته… {تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِين} [سورة يوسف:91].
ويبادر يوسف عليه السلام فيعلن العفو عن هؤلاء الظلمة، ويكتفي من تفاصيل الظلم والعدوانية بالإجمال الأول حين سأل عما فعلوا بيوسف، وقد ترك لهم حينها منفذا للهرب، وهو لا بد لقائد الدولة منه، فحصار المجرم حتى لا يبقى له منذ يدفعه مضطرا لمواصلة الأفعال الجرمية والاحتيال على الدولة، لذلك قال في الأولى: {إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُون} [سورة يوسف:89]، وكأن رشدا طرأ لهم وتوبة حدثت لهم، وقال في الثاني: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ} [سورة يوسف:92] وكل هذا قد طبقه رسول الله ﷺ في حياته حتى كان آخر شأنه مع قومه: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”([22]).
من شأن القائد ألا يتسنفد على المذنب الفرص والمخارج، وقد جعل يوسف لإخوته مخرجين الأول حين أوهمهم أنه يعلم أن توبة حدثت منهم، وكأنه يشير إلى إحداثها حتى لا يبقوا مصرين على الذنب، والثاني أنه بين أن سؤاله عما فعلوا بيوسف ليس سؤال تثريب، فالله يغفر لهم ما داموا استغفروه وهو أهل للمغفرة رحيم بعباده.
ولأن الكذابين لا يُصَدَّقون حتى ولو كانوا صادقين احتاج يوسف لإرسال قميصه مع هؤلاء ليثبتوا لوالده أنهم لقوه فعلا حتى لا يقع في نفسه أن ذلك من كيدهم وكذبهم ومكرهم الذي مرت به فصول منه، وفي القميص آية هي أن يعقوب حين يجعله على وجهه يرتد بصيرا، {اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِين} [سورة يوسف:93]، وفي اختيار القميص معنى آخر، وهو أن يعقوب أول ما حزن على يوسف كانت الوسيلة المادية للحزن هي القميص، فناسب أن يكون الوسلة المادية لاستعادة البشر والسرور.
وفي هذا تعليم للقادة أن لا يعرضوا رسائل الدولة للشك، بسبب إرسالها مع الكذابين والمتهمين.
ومع طلب يوسف إحضار أبيه طلب إحضار إخوته وعائلاتهم وعبر عن ذلك بقوله: ولأن الكذابين لا يُصَدَّقون حتى ولو كانوا صادقين احتاج يوسف لإرسال قميصه مع هؤلاء ليثبتوا لوالده أنهم لقوه فعلا حتى لا يقع في نفسه أن ذلك من كيدهم وكذبهم ومكرهم الذي مرت به فصول منه، وفي القميص آية هي أن يعقوب حين يجعله على وجهه يرتد بصيرا، {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِين} [سورة يوسف:93]. ليؤكد لهم عمليا أن قوله اللفظي: {{لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ} [سورة يوسف:92] قول صادر من نفس مؤمنة محتسبة تنتظر جزاء الله على ما لقيت من عنت ومشقة، ولا تنتظر اعتذارا من أحدا ولا قصاصا من أحد، ولا جزاء من أحد غير الله جل جلاله.
ويتوجه إخوة يوسف إلى والدهم فيرسل الله إليه البشائر تحمله الروائح والغوادي،{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُون} [سورة يوسف:94]، وفعلا فندوه واستنكروا عليه ما قال، واستكثروا على يوسف هذا الحضور في حياة يعقوب، وهو الذي غيب ليخلو وجه يعقوب لباقي الأبناء، فقالوا: {تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيم} [سورة يوسف:95]، ويشاء الله أن تأتي العير التي جاءت بالخبر المحزن قبل فترة بالبشائر هذه المرة، ولأن الموقف موقف صدق قل القول، وحسن العمل، فألقى البشير القميص على وجه يعقوب فارتد بصيرا، فقال: {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون} [سورة يوسف:96]، وطلبوا منه الاستغفار، {يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِين} [سورة يوسف:97]؛ فأجل التلبية إلى أن يحين الوقت المناسب لها، فمَن غير الله يعلم ما تجيش به نفوسهم، وما تدبره قلوبهم المريض من كيد وظلم وعدوان {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم} [سورة يوسف:98].
ويطوي القرآن المسافات وكيف مر الناس بها كما في أغلب قصصه، ويخلص للتفاصيل؛ حيث يوسف يؤوي إليه ويخر له الأبوان والإخوة سجدا، ويبين لوالده الكريم أن هذا هو تأويل الرؤيا الذي أجمل الوالد من قبل، {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيم} [سورة يوسف:6]، وأن الله أحسن إليه في كل أحواله، ويتحاشى تخصيص المتعلق بإخوانه منها بل يشير إليه وكأن يوسف كان طرفا فيه، ليس لهم ذنب أكثر من ذنبه، حتى يؤكد أكثر أنه لا يريد التثريب، ولا تكدير الجو، فيذكر من مصائبه ما غابوا عنه ولم تكن لهم يد فيه {هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم} [سورة يوسف:100].
والقائد المؤهل للقيادة لا يستقصي على المذنبين ذنوبهم، ولا ينتقم من المعارضين، ولا يحاول استعادة الأحداث الماضية بطريقة انتقامية، بل يكتفي حين يتعرض لها بالإشارة، وحين يحتاج تصريحا لا ينزه نفسه عن الخطأ كي لا يفتح للآخرين سبيلا للتعليق والتبرير.
ويستمر يوسف في ربانيته يسأل الله من فضله على كل حال ويلجأ إليه في كل موقف: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِين} [سورة يوسف:101]، وقص القرآن لهذا الدعاء بهذا اللفظ يشير إلى حكم عجيبة من أهمها:
أن يوسف يقلل من التمكين الدنيوي إذا ما قورن بالتمكين الأخروي.
أن يوسف يجعل من نعم الدنيا فرصة للطمع في نعم الآخرة.
أن يوسف لا يريد أن يكون جزاؤه ما حصل عليه من تمكين لحقارته مقارنة بجزاء الآخرة، وهذا ما أشار إليه القرآن {وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين * وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُون} [سورة يوسف:56-57]..
أن العبرة بالعاقبة، فمهما كانت إحراقات البدايات، فلا نأمن دون الله إشراقات النهايات، لذلك سأل حسن الخاتمة.
أن الإنسان يحتاج الصحبة الصالحة على كل حال، فلو استغنى الإنسان عن الصالحين لاستغنى الكريم ابن الكريم ابن الكريم([23]) عنهم، فلهذه الحاجة طلب اللحاق بهم، والكينونة معهم عند الله.
وفي هذه المرائي الواردة في السورة وتحققها إشارة أن بعض الرؤيا حق، وقد جعلها النبي ﷺ جزءا من ست وأربعين جزءا من النبوة([24])، فلا ينبغي إهمالها كلية، ولا الاعتماد عليها كلية، إذ قد تكون من الشيطان([25]) أو مما يحدث الرجل به نفسه([26]).
وفي تحقق رؤيا يوسف بعد الزمن الطويل، وتحقق رؤيا الملك الممتدة على بضع عشرة سنة، وتحقق رؤيا السجناء المتراخية عن بفترة أيضا إشارة إلى أن موعود الله في الوحي متحقق لا محالة طال الزمن أو قصر، فلا ينبغي الاستجال في الدعوة.
ثالثا: خاتمة السورة
وتأتي خاتمة السورة جامعة العبر والدلالات المتعلقة بإيراد القصة؛
فهذه القصة الماتعة المؤثرة الصادقة، غيب لا يعلمه إلا من علمه الله له، ما كان لرجل أمي أن يعرفه لو لم يعلمه له معلم، ولما انتفى كل المعلمين تأكد هذا دليلا على نبوة النبي ﷺ، لذلك قال الله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُون} [سورة يوسف:102].
رغم صدق هذه المقدمات فإن الهداية بيد الله، ولا يستلزم كون الدليل صادقا مقنعا إيمان المكذب به {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين} [سورة يوسف:103].
أن تكذيب هؤلاء بالدين والنبي ﷺ ليس لسبب مشقة تستلزم عن هذا التصديق، فالنبي ﷺ يرشدهم لمصالحهم ولا يريد مقابل ذلك أي جزاء منهم
أن هذا التكذيب لا ينبغي أن يشق على النبي ﷺ لأنه لا يفوت عليه مالا كانوا سيعطونه، وإنما تكليفه وتكليف أتباعه البلاغ على بصيرة وبينة فإن أداه آجره الله، والخاسر المكذب. {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [سورة يوسف:104].
أن تكذيبهم بهذا القرآن ليس لنقص فيه فالآيات العظيمة كثيرة يرونها ولكن لا يؤمنون {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُون} [سورة يوسف:105].
أن كثيرا ممن يدعي الإيمان تبقي فيه لوثة شرك، ودخل قل من يتخلص منه {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُون} [سورة يوسف:106].
أن مآل المكذبين العذاب، فلذلك هم من سيخسر فلا تقلق أيها الرسول عليهم.
أن الأدلة الواقعية الدالة على الشبه الكبير بين الظلم الواقع على يوسف والظلم الواقع على النبي ﷺ تؤكد أن هذه سنة الله في الخلق، ولذلك تتكرر مع الأنبياء فكل نبي يأتي برسالة ووحي ثم يعامل بالتكذيب والظلم والعدوان، ويحكم الله بعد ذلك في خلقه بما شاء، ثم تكون العاقبة للرسل والمصدقين والهلاك للمكذبين {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُون * حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِين} [سورة يوسف:109-110].
أن في هذه القصص عبرة، لذلك لم تقص لتسمع وإنما لتؤخذ تلك العبر، من سنن الله في الأنفس والآفاق، وفي قدره في المصدقين والمكذبين، والصادقين والمعتدين {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون} [سورة يوسف:111].
أن هذا القرآن هداية لمن استهداه، ورحمة لمن تمعن فيه، وطبقه على واقعه كائنا ما كان، إذا انطلق من الإيمان والإسلام والإحسان والتزم التقوى، وظاهر الصبر.
خاتمة
إنها جولة مع سورة من سور القرآن المكي تسلي النبي ﷺ عما هو فيه من عناء وتعب ومشقة يلقاها من قومه، وتبين له بعض النظائر لما يقع له، وتنبه المسلم على السير في المسالك الوعرة، والطرق المعقدة، مع الحفاظ على عقيدته ودينه ومبادئه وأخلاقه، تبين له فقه الدولة وإدارة الحكم في الظروف المعقدة، وظروف اختلاط الحق بالباطل، كما تبين له ضرورة مراقبة الله على كل حال، وتقواه في كل موقف، كما تؤكد أن موعود الله آت لا محالة، مهما تأخر، وأن وعده ناجز، فهو لا يخلف الميعاد، وتبين -إلى ذلك- صورا من الصبر تحلى بها هذان النبيان العظيمان تنهد لها الجبال. كما تؤكد أن كيد الكائدين ومكر الماكرين لا يحيق إلا بأهله، ولا يضر المتوكل على الله مكر أحد، وذلك ما يدفع المسلم لمزيد الارتباط بالله، والثقة فيه، ودوام التوكل عليه، والتفويض إليه في كل الأمور.
والله أعلم وأحكم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
([1]) وقد قال بعض السلف: " لا ينبغي لأحد أن يلقن ابنه الشر، فإن بني يعقوب لم يدروا أن الذئب يأكل الناس حتى قال لهم أبوهم: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُون} [سورة يوسف:13] (ابن أبي حاتم، 7/2108)
([2]) مسلم برقم: 2531. ومعلوم أنه اختلف في نبوتهم من عدمها فمن رأى نبوتهم استشهد لها بقول الله تعالى: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ} [سورة البقرة:136] وتأول ما وقعوا فيه مما يستهجن ولا يليق بالأنبياء (من الحسد والكذب ومحاولة القتل والعقوق) على أنه وقع قبل النبوة (الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، )، ومن رآهم غير أنبياء استدل على رأيه بارتكابهم هذه المعاصي التي لا تليق بالأنبياء، وتأول الأسباط في آية البقرة وآل عمران، على أن معناها الأنبياء الذين هم من ذرية هؤلاء الأٍسباط، (ابن عطية، 5/42)، ومعلوم أن الأسباط كانوا أمما {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} [سورة الأعراف:160].
([3]) جاء في صحيح مسلم عن صهيب رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر قال للملك إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر فبعث إليه غلاما يعلمه فكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إلى الراهب فقال إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال اليوم أعلم آلساحر أفضل أم الراهب أفضل فأخذ حجرا فقال اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس فرماها فقتلها ومضى الناس فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني فقال إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك فآمن بالله فشفاه الله فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك من رد عليك بصرك قال ربي قال ولك رب غيري قال ربي وربك الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام فجيء بالغلام فقال له الملك أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل فقال إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب فجيء بالراهب فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمئشار فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ثم جيء بجليس الملك فقيل له ارجع عن دينك فأبى فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك قال كفانيهم الله فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به فاحملوه في قرقور فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك قال كفانيهم الله فقال للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به قال وما هو قال تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل باسم الله رب الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال باسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات فقال الناس آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام فأتي الملك فقيل له أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدت وأضرم النيران وقال من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها أو قيل له اقتحم ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام يا أمه اصبري فإنك على الحق"، (مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام، برقم: 3005).
([4]) مالك الموطأ، كتاب الأقضية، باب الترغيب في القضاء بالحق، برقم: 2103، والبخاري بلفظ مختلف، كتاب المظالم، باب من خاصم في باطل وهو يعلمه، برقم: 7185، ومسلم، كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، برقم: 1713.
([5]) إيثار السلامة أصل، والتعوذ بالله من الفتن كلها أصل كذلك، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا"، (البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس، برقم: 2965)، وقال: "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به"، (البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء بالموت والحياة، برقم: 6351) وقال: "إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه"، (البخاري، كتاب الوضوء، باب الوضوء من النوم، برقم: 212)، وقد فسر السب هنا بدعاء المرء على نفسه، (ابن حجر، فتح الباري، 1/315) فدل على خطورة هذا الأمر وعظمته؛ ولذلك قال بعض المفسرين: "ولو تمنّي العافية بدل ما كان يدعى إليه لعلّه كان يعافى"، (القشيري، 2/183) ورأى بعض المفسرين أنه لو قال السلامة أحب إلي لما سجن، وبعضهم يرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قصة في هذا وأنه أورد فيه أن البلاء موكل بالمنطق، (الكلاباذي، معاني الآثار، ص: 119).
([6]) اختلف المفسرون في هذا الأمر على آراء أهمها رأيان؛ الأول: أن إحسانه بعيادة المرضى وتعزية الموتى، وإعطاء المحرومين ونحو ذلك، والثاني أنه بتأويل الرؤيا، والأولى -ما دام اللفظ يحتمل كل ذلك- حمله على كلا الوجهين؛ إذ كلاهما إحسان الأول في العمل، والثاني في تأويل الرؤيا.
([7]) وهو ما يعبر عنه الأقدمون بالتوسم، ويستشهدون له بقول الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِين} [سورة الحجر:75]، وفي هذا المعنى يقول السهيلي: "وقوله في هذا الحديث: "فإني أرى السيوف ستسل اليوم" يقوي ما قدمناه من التوسم والزجر المصيب وأنه غير مكروه لكنه غير مقطوع به إلا أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقد قدمنا فيه قولا مقنعا في حديث زمزم ونقرة الغراب الأعصم ولله في كل شيء حكمة وإعمال الفكر في الوقوف على حكمة الله عبادة"، (السهيلي، الروض الأنف، 5/304).
([8]) سيرة ابن إسحاق، ص: 325. والروض الأنف، 5/304.
([9]) الأصفهاني، محاضرات الأدباء، 2/370.
([10]) البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد، برقم: 2731.
([11]) أفرد ابن القيم لهذا الموضوع بحثا مفصلا قيما يراجع في كتابه: مفتاح دار السعادة، (2/236-260).
([12]) وتمام الحديث: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته، ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل علي غيرهن؟ قال: لا، إلا أن تطوع، وصيام شهر رمضان، فقال: هل علي غيره؟ فقال: لا، إلا أن تطوع، وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع، قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا، ولا أنقص منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق"، (مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، برقم: 11).
([13]) مسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، أو فوت به حقا، أو لم يفطر العيدين والتشريق وبيان تفضيل صوم يوم وإفطار يوم، رقم: 1159.
([14]) البخاري بلفظ: "اللهم سبع كسبع يوسف"، (البخاري، كتاب الاستسقاء باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف، برقم: 1007)
([15]) سيرة ابن هشام، 2/412، والحديث وإن كان ضعيفا، فقد وردت تسميتهم طلقاء في أحاديث صحاح، (البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف، برقم: 4333).
([16]) البخاري بلفظ: "اللهم سبع كسبع يوسف"، (البخاري، كتاب الاستسقاء باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف، برقم: 1007)
([17]) سواء كان يوسف عليه السلام اتهم إخوته بالتجسس حتى دفعهم للإتيان ببرهان يبرئ ساحتهم كما قال بذلك بعض المفسرين، أو آنسهم حتى ذكروا له عائلتهم وتفاصيلها كما قال بعض آخر، أو طلبوه الزيادة في الكيل بسبب وجود أخ لهم لم يأت لسبب شغف أبيه به، فأي ذلك كان فيوسف أخذ صفة العزيز وتعامل معهم على ذلك النحو وضبط أعصابه حتى يأتوه بالأخبار وحتى يحقق الله رؤياه التي هي وحي من ربك جل جلاله.
([18]) وقد حملها بعض المفسرين على أن المراد رجوعهم ردا للأمانة، واعتقادا منهم أنها إنما وضعت في الأوعية للخطأ، وهذا الوجه له ما يشهد له، لكن الثاني أولى منه؛ إذ لم يرد أنهم ردوها، وورد فرحهم بها حين رأوها، وطمعهم في الزيادة حين شاهدوها {مَا نَبْغِي هَـذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِير} [سورة يوسف:65].
([19]) يحتمل أيضا معنى آخر؛ أن منع الكيل منهم يعني أنه لم يكن وفق التوقع؛ إذ لا يعطي يوسف لأي إنسان إلا بعيرا واحدا، ولعلهم كانت عندهم إبل كثيرة فلم يعطوا منها إلى بقدر عددهم من الأبعرة، ويشهد لهذا الوجه قوله فيما بعد: {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} [سورة يوسف:65] كما يشهد له أنهم قد يكونوا طلبوا من يوسف أن يعطيهم بعيرا زائدا مقابل أخيهم الذي يمنعه أبوه من السفر فرفض فكان ذلك مبرر الإتيان به، والله أعلم.
([20]) وتمام الحديث: «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» (مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله له خير، برقم: 2999).
([21]) البخاري، كتاب الطهارة، باب وضوء الصبيان، برقم: 859.
([22]) سيرة ابن هشام، 2/412، والحديث وإن كان ضعيفا، فقد وردت تسميتهم طلقاء في أحاديث صحاح، (البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف، برقم: 4333).
([23]) أورد البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام»، (البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ}، برقم: 3382)، وسماه في حديث آخر أكرم الناس، ولفظ الحديث: «قيل للنبي صلى الله عليه وسلم من أكرم الناس قال أكرمهم أتقاهم قالوا يا نبي الله ليس عن هذا نسألك قال فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله قالوا ليس عن هذا نسألك قال فعن معادن العرب تسألوني قالوا نعم قال فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا»، (البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} إلى قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}، برقم: 3374).
([24]) ولفظه: "الرؤيا الحسنة، من الرجل الصالح، جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة"، (البخاري، كتاب التعبير، باب رؤيا الصالحين، برقم: 6983).
([25]) جاء ذلك في البخاري بلفظ: "«الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم الحلم يكرهه فليبصق عن يساره، وليستعذ بالله منه، فلن يضره" (البخاري، كتاب التعبير، باب الحلم من الشيطان، برقم: 7005).
([26]) جاء في مسند الإمام أحمد: "الرؤيا ثلاثة: فالرؤيا الصالحة بشرى من الله عز وجل، والرؤيا تحزين من الشيطان، والرؤيا من الشيء يحدث به الإنسان نفسه"، (أحمد المسند، مسند أبي هريرة، برقم: 10590).