
26-11-2024, 06:17 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 168,832
الدولة :
|
|
رد: تفسير سورة المطففين
إِثْبَاتُ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُون * لِيَوْمٍ عَظِيم ﴾: دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ. قَالَ ابْنُ عَاشُوْرٍ رحمه الله: "وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: ﴿ لِيَوْمٍ عَظِيم ﴾: لَامُ التَّوْقِيتِ...، وَفَائِدَةُ لَامِ التَّوْقِيتِ: إِدْمَاجُ الرَّدِّ عَلَى شُبْهَتِهِمُ الْحَامِلَةِ لَهُمْ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ بِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَعْثٌ لَبُعِثَتْ أَمْوَاتُ الْقُرُونِ الْغَابِرَةِ، فَأَوْمَأَ قَوْلُهُ: ﴿ لِيَوْمٍ ﴾: أَنَّ لِلْبَعْثِ وَقْتًا مُعَيَّنًا يَقَعُ عِنْدَهُ لَا قَبْلَهُ"[70].
بَيَانُ عَظَمَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ لِيَوْمٍ عَظِيم * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِين ﴾: بَيانٌ لِحالِ يَوْمِ الْقِيامَةِ وَأَنَّهُ يَوْمٌ عَظيمٌ. قالَ الشَّوْكَانِيُّ رحمه الله: "وَوَصَفَهُ بِالْعِظَمِ لِكَوْنِهِ زَمَانًا لِتِلْكَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَالْعِقَابِ، وَدُخُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلِ النَّارِ النَّارَ"[71]. وَقَالَ الْبِقَاعِيُّ رحمه الله: "وَزَادَ التَّهْوِيْلَ بِقَوْلِهِ: ﴿ عَظِيم ﴾، أيْ: لِعَظَمَةِ مَا يَكُوْنُ فِيْهِ مِنْ الْجَمْعِ وَالْحِسَابِ الذِيْ يَكُوْنُ عَنْهُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ عَلَىْ حَقِيْقَتِهِ إِلَّا هُوَ سبحان وتعالى"[72]. وَقَالَ ابْنُ عُثَيْمِيْن رحمه الله: "هَذَا الْيَوْمُ عَظِيْمٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ عَظِيْمٌ كَمَا قَالَ تَعَالَىْ: ﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيم ﴾ [سورة الحج: 1]؛ عَظِيْمٌ فِيْ طُوْلِهِ، فِيْ أَهْوَالِهِ، فِيْمَا يَحْدُثُ فِيْهِ، فِيْ كُلِّ مَعْنَىً تَحْمِلُهُ كَلِمَةُ: (عَظِيْمٍ)، لَكِنَّ هَذَا الْعَظِيْمَ هُوَ عَلَىْ قَوْمٍ عَسِيْرٌ، وَعَلَىْ قَوْمٍ يَسِيْرٌ، قَالَ تَعَالَىْ: ﴿ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ﴾ [المدثر: 10]، وَقَالَ تَعَالَىْ: ﴿ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ﴾ [القمر: 8]"[73].
إِثْبَاتُ رُبُوبِيَّةِ اللهِ تَعَالَى لِجَمِيْعِ الخَلْقِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِين ﴾: إِثْباتُ رُبوبِيَّةِ اللهِ تَعَالَى الْعَامَّةِ لِجَميعِ الْخَلائِقِ. قَالَ ابنُ عَاشُوْرٍ رحمه الله: "وَاللَّامُ فِي: ﴿ لِرَبِّ الْعَالَمِين ﴾ لِلْأَجْلِ، أَي: لِأَجْلِ رُبُوْبِيَّتِهِ وَتَلَقِّي حُكْمِهِ"[74].
يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْلَمُ الْمُطَفِّفُونَ سُوءَ عَمَلِهِمْ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُون * لِيَوْمٍ عَظِيم * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِين ﴾ [سورة المطففين:4-6]: أَنَّهُ عِنْدَمَا يَقومُ النَّاسُ مِنْ قُبورِهِمْ لِلْبَعْثِ وَالحِسابِ يَعْلَمُ الْمُطَفِّفُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى خَطَأٍ عَظِيمٍ وجُرْمٍ كَبيرٍ. قَالَ الشِّنْقِيْطِيُّ رحمه الله: "قَوْله تَعَالَى: ﴿ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِين ﴾: يُفْهَمُ أَنَّ مُطَفِّفَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ هَذَا حَقِيقَةً غَالِبًا، وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الطَّرَفُ الْآخَرُ، فَيَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُطَّلِعُ عَلَى فِعْلِهِ، فَهُوَ الَّذِي سَيُحَاسِبُهُ وَيُنَاقِشُهُ؛ لِأَنَّهُ خَانَ اللَّهَ الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ سُبْحَانَهُ؛ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِين ﴾، وَلَمْ يَقُلْ: يَوْمَ يُقْتَصُّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ غَرِيمِهِ، وَيَسْتَوْفِي كُلُّ ذِي حَقٍ حَقَّهُ"[75].
إِثْبَاتُ قِيَامِ النَّاسِ يَوْمَ الْحِسَابِ وذِكْرُ مَا يَقَعُ فِيْهِ مِنْ الشِدَّةِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِين ﴾: الْإِشارَةُ إِلى حَشْرِ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قُبُورِهِمْ إِلى أَرْضِ الْمَحشَرِ، فيُجْمَعونَ في صَعيدٍ واحِدٍ قيامًا لِانتِظَارِ مُحَاسَبَتِهِمْ في يَوْمٍ عَظيمٍ. قال ابن كثير رحمه الله: "أَيْ: يَقُومُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرلا فِي مَوْقِفٍ صَعْبٍ حَرج ضَيِّقٍ ضنَك عَلَى الْمُجْرِمِ، وَيَغْشَاهُمْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا تَعْجزُ الْقُوَى وَالْحَوَاسُّ عَنْهُ"[76]، وَقَدْ وَرَدَ مِنْ أَهْوَالِ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ الَّناسَ يتَعَرَّقونَ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ في السُّنَّةِ: فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ﴿ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِين ﴾: حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ»[77]، وَعَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسودِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ، فَيَكُونَ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إْلَى كَعْبَيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا»[78].قَالَ الْمَرَاغِيُّ رحمه الله: "أَيْ: هَذَا الْيَوْمُ هُوَ الْيَوْمُ الذِيْ يَقِفُ فِيْهِ النَّاسُ لِلْعَرْضِ وَالْحِسَابِ، وَيَطُوْلُ بِهِمْ الْمَوْقِفُ إِعْظَامًا لِجَلَالِهِ تَعَالَى"[79].
بَيَانُ جَزَاءِ الْفُجَّارِ وَالْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّين ﴾: أَنَّ مَصيرَ الْفُجارِ مَكانٌ ضَيِّقٌ في أَسْفَلِ الْأَرْضِ السّابِعَةِ؛ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَعَدَمِ إِيمانِهِمْ[80]، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِين ﴾؛ حَيْثُ فِيْهِ الْوَعيدُ الشَّديدُ لِلْمُكَذِّبينَ بِيَوْم الْحسَابِ وَالْجَزاءِ.
إِحْصَاءُ أَعْمَالِ الْفُجَّارِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّين * كِتَابٌ مَّرْقُوم ﴾: أَنَّ لِلْفُجَّارِ كِتَابًا مُثْبَتة فيهِ أَعْمالُهُمْ، لا يُزادُ فِيهِ، وَلا يُنْقَصُ مِنْهُ. قَالَ الْمَرَاغِيُّ رحمه الله: "ذكَرَ أَنَّ الفُجَّارَ قَدْ أُعِدَّ لَهُمْ كِتَابٌ أُحْصِيَتْ فِيْهِ جَمِيْعُ أَعْمَالِهِمْ لِيُحَاسَبُوْا بِهَا"[81].
مِنْ أَسْبَابِ رَدِّ القُرْآن وَتَكْذِيْبِ الْحَقِّ اكْتِسَابِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِين * كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُون ﴾: أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ القُرْآنَ أَسَاطِيرُ الْأوَّلِينَ هُوَ: مَا يَكْسِبونَهُ مِنَ الذُّنوبِ وَالْمَعَاصِي. قَالَ ابْنُ الْقيِّمِ رحمه الله: "الذُّنُوبَ إِذَا تَكَاثَرَتْ طُبِعَ عَلَى قَلْبِ صَاحِبِهَا، فَكَانَ مِنَ الْغَافِلِينَ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُون ﴾ [سورة المطففين:14]: «هو الذَّنْبُ بَعْدَ الذَّنْبِ»[82]، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ، حَتَّى يُعْمِيَ القَلْبَ، وَقالَ غَيْرُهُ: لَمّا كَثُرَتْ ذُنُوبُهُمْ وَمَعَاصِيهِمْ أَحَاطَتْ بِقُلُوبِهِمْ، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْقَلْبَ يَصْدَأُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، فَإذَا زَادَتْ غَلَبَ الصَّدَأُ حَتَّى يَصِيرَ رَانًا، ثُمَّ يَغْلِبُ حَتَّى يَصِيرَ طَبْعًا وَقُفْلًا وَخَتْمًا، فَيَصِيرُ الْقَلْبُ في غِشَاوَةٍ وَغِلَافٍ، فَإِذَا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْهُدَى وَالْبَصِيرَةِ انْعَكَسَ فَصَارَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ، فَحِينَئِذٍ يَتَوَلَّاهُ عَدُوُّهُ وَيَسُوقُهُ حَيْثُ أَرَادَ"[83].
قَسْوَةُ الْقُلُوبِ بِكَثْرَةِ الذُّنُوبِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُون ﴾ [سورة المطففين:14]: أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبابِ قَسْوَةِ الْقَلْبِ كَثْرَةُ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، وَقَدْ جَاءَ في السُّنَّةِ ما يُؤَيِّدُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ، صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ، حَتَّى يَعْلُوَ قَلْبَهُ ذَاكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ عز وجل فِي الْقُرْآنِ: ﴿ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُون ﴾ [سورة المطففين:14]»[84].
وكذلك: حَديثُ حُذيفَةَ بْنِ الْيَمانِ رضي الله عنه قالَ: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِصلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا؛ فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ بَيْضاءُ، حتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَواتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ»[85].
ومن هنا: فإِنَّ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَحْذَرَ الذُّنُوبَ وَالْمَعاصِي مَهْمَا قَلَّتْ وَصَغُرَتْ؛ لأَنَّهَا إِذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى الْمَرْءِ أَهْلَكَتْهُ[86]، كَمَا قَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ رحمه الله:
خَلِّ الذُّنُوبَ صَغيرَهَا 
وَكَبيرَهَا، ذَاكَ التُّقَى 
وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْقَ أَرْ 
ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى 
لَا تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً 
إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الحَصَى[87] 
الْكُفَّارُ لَا يَرَوْنَ رَبّهمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِيْنَ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ وَيَتَلَذَّذُوْنَ بِرُؤْيَتِهِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُون ﴾ [سورة المطففين:15]: أَنَّ الْكُفَّارَ مَمْنُوعُونَ مِنْ رُؤْيةِ رَبِّهِمْ يَوْمَ الْقَيامَةِ عُقوبَةً لَهُمْ، وَهَذِهِ الْعُقوبَةُ أَعْظَمُ عَلَيْهِمْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، أَمَّا الْمُؤمِنونَ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بِأَبْصَارِهِمْ في الْجنَّةِ رُؤْيَةَ فَرَحٍ وَسُرُورٍ، وَتَلَذُّذٍ وَحُبورٍ، يَتَلَذَّذونَ بِالنَّظَرِ إلى وَجْهِهِ الْكَريمِ، وَذَلِكَ غَايَةُ النَّعيمِ، وَأَعَلَى الْكَرامَاتِ، وَأَفْضَلُ الْمَقَاماتِ، وَأَعْظَمُ مِنْ سَائِرِ اللَّذاتِ، وَهَذا مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعونَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى وَمَصَابِيحِ الدُّجَى[88].
وَقَدْ جاءَ عَنِ الشّافِعِيّ رحمه الله: أَنَّ الرَّبيعَ بْنَ سُلَيْمَانَ قَالَ لَهُ: مَا تَقُولُ في قَوْلِ اللهِ عز وجل: ﴿ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُون ﴾ [سورة المطففين:15]؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمَّا أَنْ حَجَبَ هَؤُلاءِ في السَّخَطِ كَانَ في هَذا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَوْلِياءَهُ يَرَوْنَهُ في الرِّضَا، قالَ الرَّبيعُ: فَقُلْتُ: يا أَبا عَبْدِ اللهِ! وَبِهِ تَقولُ؟ قالَ: نَعَمْ، وَبِهِ أَدِينُ اللهَ، وَلَوْ لَمْ يُوقِنْ مُحمَّدُ بْنُ إِدْريسَ أَنَّهُ يَرَى اللهَ لَمَا عَبَدَ اللهَعز وجل[89].
عِظَمُ شَأْنِ كِتَابِ الْأَبْرَارِ بِسُؤَالِ اللهِ تَعَالَى عَنْهُ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:﴿ كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّين * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّون * كِتَابٌ مَّرْقُوم * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُون ﴾ [سورة المطففين:18-21]: أَنَّ اللهَ تَعَالَى عَظَّمَ شَأْنَ كِتَابِ الْأَبْرارِ بِالسُّؤالِ عَنْهُ، وَهُوَ كِتَابٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبونَ مِنَ الْمَلائِكَةِ، وَيَشْهَدونَ لِمَا لِصاحِبِهِ مِنَ النَّعيمِ العَظيمِ.
بَعْضُ نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيم ﴾: بَيَانٌ لِبَعْضِ مَا أَعَدَّهُ اللهُ تَعَالَى لِلْأَبْرارِ مِنَ النَّعيمِ الْعَظِيمِ، فَفِي الْجَنَّةِ ما لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذْنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، كَما في حَدِيثِ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَالَ اللهُ عز وجل: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رأتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ: ﴿ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون ﴾ [سورة السجدة:17]»[90].
ذُكْرُ بَعْضِ أَشْرِبَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُوم ﴾ [سورة المطففين:25]: أَنَّ مِنْ أَشْرِبَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْخَمْرُ، وَهُوَ شَرابٌ يَتَلَذَّذُ بِهِ أَهْلُ الْجَنَّةِ. وَكذلك فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيم * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُون ﴾[سورة المطففين:27-28]: أَنَّ الْجَنَّةَ فِيهَا عُيُونٌ يَتَفَجَّرُ مِنْهَا الشَّرَابُ اللَّذِيذُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ في قُصورِهِمْ، وَمِنْ هَذِهِ الْعُيونِ عَيْنٌ تُسَمَّىْ: تَسْنِيمٌ، وَهِيَ في أَعَلَى الجَنَّةِ، يَشْرَبُها الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا، ويُمْزَجُ رَحِيقُ الْأَبْرَارِ بِهَا، كَمَا قَالَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرينَ[91]، وَعَلَى هَذَا: تَكُونُ مَنْزِلَةُ الْأبْرَارِ دُونَ الْمُقَرَّبِينَ، وَأَنَّ الْأبْرارَ هُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ، وَأَنَّ الْمُقَرَّبِينَ هُمُ السَّابِقُونَ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رحمه الله: "وَهَذَا لِأَنَّ الْجَزاءَ وِفاقُ الْعَمَلِ، فَكَمَا خَلُصَتْ أَعمالُ الْمُقَرَّبينَ كُلُّها للهِ خَلُصَ شَرابُهُمْ، وَكَمَا مَزَجَ الْأَبْرارُ الطَّاعَاتِ بِالْمُبَاحَاتِ مُزِجَ لَهُم شَرابُهُمْ؛ فَمَنْ أَخْلَصَ أخْلصَ شَرَابُهُ، وَمَنْ مَزَجَ مزجَ شَرَابُهُ"[92].
الْحَثُّ عَلَىْ التَّنَافُس لِنَيْلِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَتَفَاضُلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الدَّرَجَاتِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون ﴾ [سورة المطففين:26]: أنَّ الشَّيءَ النَّفِيسَ تَحْرِصُ النَّفْسُ عَلَيْهِ، وَتُبادِرُ إليْهِ، وَتُنَافِسُ الْمُتَسابِقينَ فِيهِ، وأَنْفَسُ مَطْلُوبٍ وَأَعْظَمُ مَرْغُوبٍ: مَغْفِرَةُ اللهِ ورِضْوَانُهُ، وَالْفَوْزُ بِجَنَّاتِهِ، وَالتَّنافُسُ فِي الصَّالِحَاتِ، وَالتَّسَابُقُ إِلى الْخَيْراتِ؛ مَطْلَبٌ شَرْعِيٌّ، وَأَمْرٌ إِلَهِيٌّ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ ﴾ [سورة الحديد:21][93].
وَذلِكَ لِأَنَّ الْجَنَّةَ تَتَفَاضَلُ فِيهَا الدَّرَجَاتُ بِحَسَبِ السَّبْقِ وَالْمُسَارَعَةِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُون * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُون * فِي جَنَّاتِ النَّعِيم ﴾[سورة الواقعة:10-12]، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ؛ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قَالَ: بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ»[94].
ذِكْرُ بَعْضِ صِفَاتِ الْكُفَّارِ فِي تَعَامُلِهِمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ والتَّحْذِيرُ مِنْهَا:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُون ﴾ [سورة المطففين:29]: ذِكْرُ بَعْضِ صِفَاتِ الْكُفَّارِ الَّذينَ كَانُوا وَمَا زالُوا يُمارِسونَهَا مَعَ الْمُؤمِنينَ:
• الضَّحِكُ مِنَ الْمُؤمِنينَ عَلَى سَبيلِ السُّخْرِيَةِ وَالاسْتِهْزاءِ بِهِمْ.
• التَّغامُزُ بِالْعُيونِ اسْتِهْزاءً وَتَهَكُّمًا وَاحْتِقَارًا.
• تَفَكُّهُ الْكُفارِ وَتَلَذُّذُهُمْ بِمَا يَسْخَرُونَ بِهِ مِنَ الْمُؤمنِينَ عِنْدَ رُجوعِهِمْ إِلى أَهْلِهِمْ، وَفي مَجالِسِهِمْ وَنَوَادِيهِمْ.
• وَصْفُ الْكُفَّارِ لِلْمُؤمِنينَ بِالضَّلالِ[95].
إِنْصَافُ اللهِ لِلْمُؤْمِنينَ مِنَ الْكَافِرِيْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعمَلِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُون ﴾ [سورة المطففين:34]: أَنَّ الْجزاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَكَمَا يَدينُ الْمَرْءُ يُدَانُ، فُهَؤلاءِ الْكُفَّارِ كَانُوا يَضْحَكُونَ مِنَ الَّذينَ آمَنُوا في الدُّنيَا، وَفي يَوْمِ الْقِيامَةِ يَضْحَكُ الَّذينَ آمَنُوا مِنَ الْكَافِرينَ.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|