عرض مشاركة واحدة
  #618  
قديم 23-11-2024, 12:44 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,565
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (616)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 189 إلى صـ 203


تنبيه

إذا كان هذا كله خطر الوسواس الخناس من الجنة والناس ، وهما عدو مشترك ومتربص حاقد حاسد ، فما طريق النجاة منه ؟

الذي يظهر ، والله تعالى أعلم : أن طريق النجاة تعتمد على أمرين :

الأول : يؤخذ من عمومات الكتاب والسنة .

[ ص: 189 ] والثاني : سمعته من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه .

أما الأول فهو : إذا كانت مهمة الوسوسة التشكيك والذبذبة والتردد ، فإن عمومات التكليف تلزم المسلم بالعزم واليقين والمضي دون تردد كما في قوله : فإذا عزمت فتوكل على الله [ 3 \ 159 ] ، وامتدح بعض الرسل بالعزم وأمر بالاقتداء بهم : فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل [ 46 \ 35 ] .

وقال صلى الله عليه وسلم : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " .

والقاعدة الفقهية " اليقين لا يرفع بشك " .

والحديث : " يأتي الشيطان لأحدكم وهو في الصلاة فينفخ في مقعدته ، فيخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث ، فلا ينصرف حتى يسمع صوتا ، أو يجد ريحا " .

ومن هنا كانت التكاليف كلها على اليقين ، فالعقائد لا بد فيها من اليقين .

والفروع في العبادات لا بد فيها من النية " إنما الأعمال بالنيات " .

والشرط في النية الجزم واليقين ، فلو نوى الصلاة على أنه إن حضر فلان تركها ، لا تنعقد نيته ، ولو نوى صوما أنه إن شاء أفطر ، لا ينعقد صومه .

ونص مالك في الموطأ : أنه إن نوى ليوم الشك في ليلته الصوم غدا ، على أنه إن صح من رمضان فهو لرمضان ، وإلا فهو نافلة ، لا ينعقد صومه لا فرضا ولا نفلا حتى لو جاء رمضان لا يعتبر له منه ، وعليه قضاؤه لعدم الجزم بالنية .

والحج : لو نواه لزمه ولزمه المضي فيه ، ولا يملك الخروج منه باختياره .

وهكذا المعاملات في جميع العقود مبناها على الجزم حتى في المزح واللعب ، يؤاخذ في البعض كالنكاح والطلاق والعتاق .

فمن هذا كله كانت دوافع العزيمة مستقاة من التكاليف ، مما يقضي على نوازع الشك والتردد ، ولم يبق في قلب المؤمن مجال لشك ولا محل لوسوسة .

وقد كان الشيطان يفر من طريق عمر رضي الله عنه .

[ ص: 190 ] أما الذي كنت سمعته من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه فقوله : لقد علمنا الله كيفية اتقاء العدو من الإنس ومن الجن .

أما العدو من الإنس ففي قوله تعالى : ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم [ 41 \ 34 ] .

فدل على أن مقابلة إساءة العدو بالإحسان إليه تذهب عداوته ، وتكسب صداقته ، كما قال تعالى : ادفع بالتي هي أحسن السيئة .

وأما عدو الجن ففي قوله تعالى : وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم [ 41 \ 36 ] .

وهو ما يدل عليه ما تقدم من الآثار من أن الشيطان يخنس إذا سمع ذكر الله .

وعلى قوله رحمه الله : فإن شيطان الجن يندفع بالاستعاذة منه بالله ، ويكفيه ذلك ; لأن كيد الشيطان كان ضعيفا .

أما شيطان الإنس فهو في حاجة إلى مصانعة ومدافعة والصبر عليه ، كما يرشد إليه قوله تعالى : وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم [ 41 \ 35 ] .

رزقنا الله تعالى وجميع المسلمين حظا عظيما في الدنيا والآخرة ، إنه المسئول ، وخير مأمول .

روى ابن كثير حديث أبي سعيد رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان يتعوذ من أعين الجن والإنس ، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سواهما " رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه ، وقال الترمذي : حسن صحيح .

وروي عن عبد الله الأسلمي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره ثم قال : " قل " : فلم أدر ما أقول . ثم قال لي : " قل " . فقلت : هو الله أحد ، ثم قال لي : قل . قلت : أعوذ برب الفلق من شر ما خلق حتى فرغت منها ، ثم قال لي قل . قلت : أعوذ برب الناس حتى فرغت منها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هكذا فتعوذ ; وما تعوذ المتعوذون بمثلهن قط " .

[ ص: 191 ] والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله على أفضل خلقه وأكرمهم عليه ، من اصطفاه لرسالته وشرفنا ببعثته ، وختم به رسله وكرمنا به وهدانا لاتباعه ، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعلينا معهم أجمعين ، إنه سميع مجيب .
بيان الناسخ والمنسوخ من آي الذكر الحكيم

كتبها فضيلة الوالد الشيخ الأمين رحمه الله على أبيات للسيوطي في الإتقان ونقلتها عن خطه وقرأتها عليه

نص الأبيات من الإتقان :


قد أكثر الناس من المنسوخ من عدد وأدخلوا فيه أباليس تنحصر وهاك تحرير آي لا مزيد لها
عشرين حررها الحذاق والكبر ( آي التوجه 1 ) حيث المرء كان ( وأن
يوصى لأهليه 2 ) عند الموت مختصر ( وحرمة الأكل بعد النوم مع رفث 3 )
( وفدية لمطيق 4 ) الصوم مشتهر ( وحق تقواه 5 ) فيما صح من أثر
( وفي الحرام قتال 6 ) للأولى كفروا ( والاعتداد بحول مع وصيتها 7 )
( وأن يدان حديث النفس والفكر 8 ) ( والحلف 9 ) ( والحبس للزاني 10 ) ( وترك أولى
كفر 11 ) ( وإشهادهم 12 ) ( والصبر 13 ) ( والنفر 14 ) ( ومنع عقد لزان أو لزانية 15 )
( وما على المصطفى في العقد محتظر 16 ) ( ودفع مهر لمن جاءت 17 ) ( وآية نجـ
ـواه 18 ) ( كذلك قيام الليل 19 ) مستطر [ ص: 196 ] ( وزيد آية الاستئذان من ملكت 20 )
( وآية القسمة 21 ) الفضلى لمن حضروا
شرحها الشيخ رحمه الله بقوله :

1 - قوله : " آي التوجه " ، يشير إلى أن قوله تعالى : فأينما تولوا فثم وجه الله منسوخة على رأي ابن عباس بقوله تعالى : فول وجهك شطر المسجد الحرام .

2 - وقوله : " وأن يوصى لأهليه " : أشار به إلى أن آية كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية الآية . منسوخة ، قيل بآية المواريث ، وقيل بحديث : " لا وصية لوارث " ، وقيل : بالإجماع . حكاه ابن العربي .

3 - وقوله : " وحرمة الأكل بعد النوم مع رفث " يشير إلى أن آية : كتب عليكم الصيام المتضمنة حرمة الأكل والجماع بعد النوم كما في صوم من قبلنا منسوخة بآية أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم .

4 - وقوله : " وفدية لمطيق " يشير إلى أن آية وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين منسوخة بآية فمن شهد منكم الشهر فليصمه ، وقيل محكمة و " لا " مقدرة ، يعني : وعلى الذين لا يطيقونه .

5 - وقوله : " وحق تقواه " يشير إلى أن قوله تعالى : اتقوا الله حق تقاته منسوخ بقوله : فاتقوا الله ما استطعتم وقيل محكمة .

6 - وقوله : " وفي الحرام قتال " يشير إلى قوله تعالى : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه وقوله : ولا الشهر الحرام منسوخان بقوله تعالى : وقاتلوا المشركين كافة الآية . أخرجه ابن جرير عن عطاء بن ميسرة .

7 - وقوله : " والاعتداد بحول مع وصيتها " يعني أن قوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم الآية ، منسوخ بقوله : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا .

[ ص: 197 ] 8 - قوله : " وأن يدان حديث النفس والفكر " ، يشير إلى قوله تعالى : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ، منسوخ بقوله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها .

9 - قوله : " والحلف " أي المحالفة ، يشير إلى قوله تعالى : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم منسوخة بقوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله الآية .

10 - وقوله : " والحبس للزاني " يشير إلى أن قوله تعالى : فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت منسوخ بقوله تعالى : فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة .

11 - قوله : " وترك أولى كفر " يشير إلى قوله تعالى : فاحكم بينهم أو أعرض عنهم منسوخ بقوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله .

12 - وقوله : " وإشهادهم " يشير إلى قوله تعالى : أو آخران من غيركم منسوخ بقوله تعالى : وأشهدوا ذوي عدل منكم .

13 - وقوله : " والصبر " يشير به إلى قوله تعالى : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ، الآية . منسوخ بما بعده وهو قوله تعالى : الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين .

14 - قوله " والنفر " يشير إلى أن قوله تعالى : انفروا خفافا وثقالا منسوخ بقوله تعالى : ليس على الضعفاء ولا على المرضى أو ليس على الأعمى حرج الآية ، أو قوله تعالى : وما كان المؤمنون لينفروا كافة الآية .

15 - قوله : " ومنع عقد لزان أو لزانية " يشير إلى قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك الآية ، منسوخ بقوله تعالى : وأنكحوا الأيامى منكم .

16 - وقوله : " وما على المصطفى في العقد محتظر " يشير إلى قوله تعالى : لا يحل لك النساء من بعد . . . الآية . منسوخ بقوله تعالى : إنا أحللنا لك أزواجك الآية .

[ ص: 198 ] 17 - قوله : " ودفع مهر لمن جاءت " يشير إلى أن قوله تعالى : فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا منسوخ ، قيل بآيات السيف ، وقيل : بآيات الغنيمة .

18 - وقوله " وآية نجواه " يشير إلى أن قوله تعالى : فقدموا بين يدي نجواكم صدقة منسوخ بقوله تعالى : فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم وبقوله فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم .

19 - وقوله : " كذلك قيام الليل " يشير إلى أن قوله : ياأيها المزمل قم الليل منسوخ بقوله تعالى : علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن ، وبقوله تعالى : فاقرءوا ما تيسر منه .

وهذا الناسخ أيضا منسوخ بالصلوات الخمس .

20 - قوله : " وزيد آية الاستئذان من ملكت " . آية الاستئذان ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والأصح فيها عدم النسخ ، لكن تساهل الناس بالعمل بها .

21 - " وآية القسمة " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه والصحيح فيها أيضا عدم النسخ .

ومثال نسخ الناسخ آخر سورة المزمل ، فإنه منسوخ بفرض الصلوات الخمس .

وقوله انفروا خفافا وثقالا فإنه ناسخ لآية الكف ، منسوخ بآية العذر .

تمت بحول الله رسالة فضيلة الشيخ محمد الأمين المختصرة في بيان أبيات السيوطي الرمزية تقريبا في هذا الفن . وهي على إيجازها واختصارها كافية شافية للطالب الدارس أملاها علي فضيلته في ذي الحجة سنة 1373 هـ .

أما المدرس والباحث المدقق والمناقش للأقوال فإن هناك المطولات لتتمة البحث لبيان إثبات النسخ على منكريه ، وبيان حكمة النسخ وبيان أقسامه ، وقوة الناسخ من كتاب أو سنة ، ومراتبه من شدة إلى ضعف والعكس . إلى غير ذلك .
بسم الله الرحمن الرحيم

سُورَةُ الْبَقَرَةِ

قوله تعالى : الم ذلك الكتاب .

أشار الله تعالى إلى القرءان في هذه الآية إشارة البعيد ، وقد أشار له في آيات أخر إشارة القريب كقوله : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 71 9 ] ، وكقوله : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل الآية [ 27 76 ] .

وكقوله : وهذا كتاب أنزلناه مبارك [ 6 92 ] .

وكقوله : نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن [ 12 \ 3 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وللجمع بين هذه الآيات أوجه :

الوجه الأول : ما حرره بعض علماء البلاغة من أن وجه الإشارة إليه بإشارة الحاضر القريب ، أن هذا القرءان قريب حاضر في الأسماع والألسنة والقلوب ، ووجه الإشارة إليه بإشارة البعيد هو بعد مكانته ومنزلته من مشابهة كلام الخلق ، وعما يزعمه الكفار من أنه سحر أو شعر أو كهانة أو أساطير الأولين .

الوجه الثاني : هو ما اختاره ابن جرير الطبري في تفسيره من أن ذلك إشارة إلى ما تضمنه قوله : الم ، وأنه أشار إليه إشارة البعيد لأن الكلام المشار إليه منقض ، ومعناه في الحقيقة القريب لقرب انقضائه ، وضرب له مثلا بالرجل يحدث الرجل فيقول له مرة : والله إن ذلك لكما قلت ، ومرة يقول : والله إن هذا لكما قلت ، فإشارة البعيد نظرا إلى أن الكلام مضى وانقضى ، وإشارة القريب نظرا إلى قرب انقضائه .

الوجه الثالث : أن العرب ربما أشارت إلى القريب إشارة البعيد ، فتكون الآية على [ ص: 200 ] أسلوب من أساليب اللغة العربية ، ونظيره قول خفاف بن ندبة السلمي ، لما قتل مالك بن حرملة الفزاري :


فإن تك خيلي قد أصيب صميمها فعمدا على عيني تيممت مالكا أقول له والرمح يأطر متنه
تأمل خفافا إنني أنا ذلكا
يعني أنا هذا ، وهذا القول الأخير حكاه البخاري عن عمر بن المثنى أبي عبيدة ، قاله ابن كثير ، وعلى كل حال فعامة المفسرين على أن ذلك الكتاب بمعنى هذا الكتاب .
قوله تعالى : لا ريب فيه .

هذه نكرة في سياق النفي ركبت مع " لا " ، فبنيت على الفتح .

والنكرة إذا كانت كذلك فهي نص في العموم ، كما تقرر في علم الأصول و " لا " هذه التي هي نص في العموم هي المعروفة عند النحويين : " لا " التي لنفي الجنس ، أما " لا " العاملة عمل ليس فهي ظاهرة في العموم لا نص فيه ، وعليه فالآية نص في نفي كل فرد من أفراد الريب عن هذا القرءان العظيم ، وقد جاء في آيات أخر ما يدل على وجود الريب فيه لبعض من الناس ، كالكفار الشاكين كقوله تعالى : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا [ 2 ] .

وكقوله : وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون [ 9 45 ] .

وكقوله : بل هم في شك يلعبون [ 44 \ 9 ] .

ووجه الجمع في ذلك أن القرءان بالغ من وضوح الأدلة وظهور المعجزة ما ينفي تطرق أي ريب إليه ، وريب الكفار فيه إنما هو لعمى بصائرهم ، كما بينه بقوله تعالى : أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى [ 13 \ 19 ] ، فصرح بأن من لا يعلم أنه الحق أن ذلك إنما جاءه من قبل عماه ، ومعلوم أن عدم رؤية الأعمى للشمس لا ينافي كونها لا ريب فيها لظهورها :


إذا لم يكن للمرء عين صحيحة فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر
وأجاب بعض العلماء : بأن قوله : لا ريب فيه خبر أريد به الإنشاء ، أي : لا ترتابوا فيه ، وعليه فلا إشكال .
قوله تعالى : هدى للمتقين .

خصص في هذه الآية هدى هذا الكتاب بالمتقين ، وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أن هداه عام لجميع الناس ، وهي قوله تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس الآية [ 2 \ 185 ] . ووجه الجمع بينهما أن الهدى يستعمل في القرءان استعمالين : أحدهما عام ، والثاني خاص ، أما الهدى العام فمعناه إبانة طريق الحق وإيضاح المحجة ، سواء سلكها المبين له أم لا ، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى : وأما ثمود فهديناهم [ 41 \ 17 ] ، أي بينا لهم طريق الحق على لسان نبينا صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، مع أنهم لم يسلكوها بدليل قوله عز وجل : فاستحبوا العمى على الهدى [ 41 \ 17 ] .

ومنه أيضا قوله تعالى : إنا هديناه السبيل [ 76 \ 3 ] ، أي بينا له طريق الخير والشر ، بدليل قوله : إما شاكرا وإما كفورا [ 76 \ 3 ] .

وأما الهدى الخاص فهو تفضل الله بالتوفيق على العبد ، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى : أولئك الذين هدى الله الآية [ 6 ] .

وقوله : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام [ 6 \ 125 ] .

فإذا علمت ذلك ، فاعلم أن الهدى الخاص بالمتقين هو الهدى الخاص ، وهو التفضل بالتوفيق عليهم ، والهدى العام للناس هو الهدى العام ، وهو إبانة الطريق وإيضاح المحجة ، وبهذا يرتفع الإشكال أيضا بين قوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت [ 28 \ 56 ] ، مع قوله : وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم [ 42 \ 52 ] ، لأن الهدى المنفي عنه صلى الله عليه وسلم هو الهدى الخاص ، لأن التوفيق بيد الله وحده : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا [ 5 \ 41 ] .

والهدى المثبت له هو الهدى العام الذي هو إبانة الطريق ، وقد بينها صلى الله عليه وسلم حتى تركها محجة بيضاء ليلها كنهارها : والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [ 10 \ 25 ] .
قوله تعالى : إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون .

[ ص: 202 ] هذه الآية تدل بظاهرها على عدم إيمان الكفار ، وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن بعض الكفار يؤمن بالله ورسوله كقوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف الآية [ 8 \ 38 ] ، وكقوله : كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم [ 4 \ 94 ] ، وكقوله : ومن هؤلاء من يؤمن به [ 29 \ 47 ] .

ووجه الجمع ظاهر ، وهو أن الآية من العام المخصوص ، لأنها في خصوص الأشقياء الذين سبقت لهم في علم الله الشقاوة المشار إليهم بقوله : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [ 10 \ 96 - 97 ] ، ويدل لهذا التخصيص قوله تعالى : ختم الله على قلوبهم الآية [ 2 \ 7 ] .

وأجاب البعض بأن المعنى لا يؤمنون ، ما دام الطبع على قلوبهم وأسماعهم والغشاوة على أبصارهم ، فإن أزال الله عنهم ذلك بفضله آمنوا .
قوله تعالى : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم الآية .

هذه الآية تدل بظاهرها على أنهم مجبورون لأن من ختم على قلبه وجعلت الغشاوة على بصره سلبت منه القدرة على الإيمان ، وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن كفرهم واقع بمشيئتهم وإرادتهم ، كقوله تعالى : فاستحبوا العمى على الهدى [ 41 \ 17 ] .

وكقوله تعالى : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة [ 2 \ 175 ] .

وكقوله : فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر الآية [ 18 \ 29 ] ، وكقوله ذلك بما قدمت أيديكم الآية [ 3 \ 182 ] .

وكقوله : لبئس ما قدمت لهم أنفسهم الآية [ 5 \ 80 ] .

والجواب أن الختم والطبع والغشاوة المجعولة على أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم ، كل ذلك عقاب من الله لهم على مبادرتهم للكفر وتكذيب الرسل باختيارهم ومشيئتهم ، فعاقبهم الله بعدم التوفيق جزاء وفاقا ، كما بينه تعالى بقوله : بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] .

[ ص: 203 ] وقوله : ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم [ 63 \ 3 ] .

وبقوله : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة [ 6 \ 110 ] .

وقوله : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] .

وقوله : في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا الآية [ 2 \ 10 ] .

وقوله : بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [ 83 \ 14 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا الآية .

أفرد في هذه الآية الضمير في قوله : استوقد وفي ما حوله ، وجمع الضمير في قوله : ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون [ 2 \ 17 ] ، مع أن مرجع كل هذه الضمائر شيء واحد وهو لفظة " الذي " من قوله : مثلهم كمثل الذي .

والجواب عن هذا أن لفظة : " الذي " مفرد ومعناها عام لكل ما تشمله صلتها وقد تقرر في علم الأصول أن الأسماء الموصولة كلها من صيغ العموم ، فإذا حققت ذلك فاعلم أن إفراد الضمير باعتبار لفظة : " الذي " وجمعه باعتبار معناها ، ولهذا المعنى جرى على ألسنة العلماء أن : " الذي " تأتي بمعنى الذين ، ومن أمثلة ذلك في القرءان هذه الآية الكريمة ، فقوله : كمثل الذي استوقد أي كمثل الذي استوقدوا بدليل قوله : ذهب الله بنورهم وتركهم الآية [ 2 \ 17 ] .

وقوله : والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون الآية [ 39 \ 33 ] . وقوله : لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس [ 2 \ 264 ] ، أي كالذين ينفقون بدليل قوله : لا يقدرون على شيء مما كسبوا [ 2 \ 264 ] .

وقوله : وخضتم كالذي خاضوا [ 9 ] ، بناء على الصحيح ، من أن : " الذي " فيها موصولة لا مصدرية ، ونظير هذا من كلام العرب قول الراجز :


يا رب عبس لا تبارك في أحد في قائم منهم ولا في من قعد إلا الذي قاموا بأطراف المسد


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 40.73 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.11 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.54%)]