عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 23-11-2024, 12:37 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,520
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (615)
سُورَةُ النَّاس
صـ 175 إلى صـ 188




[ ص: 175 ] قوله تعالى : ملك الناس ، في مجيء ملك الناس بعد رب الناس ، تدرج في التنبيه على تلك المعاني العظام ، وانتقال بالعباد من مبدأ الإيمان بالرب لما شاهدوه من آثار الربوبية في الخلق والرزق ، وجميع تلك الكائنات ، كما تقدم في أول نداء وجه إليهم : اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ 2 \ 21 - 22 ] .

كل هذه الآثار التي لمسوها وأقروا بموجبها ، بأن الذي أوجدها هو ربهم ، ومن ثم ينتقلون إلى الدرجة الثانية ، وهي أن ربه الذي هذه أفعاله هو ملكه وهو المتصرف في تلك العوالم ، وملك لأمره وجميع شئونه ، وملك لأمر الدنيا والآخرة جميعا .

فإذا وصل بإقراره إلى هذا الإدراك ، أقر له ضرورة بالألوهية وهي المرتبة النهاية

" إله الناس " أي : مألوههم ومعبودهم وهو ما خلقهم إليه ، وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ 51 \ 56 ] .

وفي إضافة الملك إلى الناس من إشعار الاختصاص ، مع أنه سبحانه ملك كل شيء ، فيه ما في إضافة الرب للناس المتقدم بحثه ، فهو سبحانه مالك الملك كما في قوله : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء [ 3 \ 26 ] .

وقوله تعالى : له الملك وله الحمد [ 64 \ 1 ] .

وقوله : له ملك السماوات والأرض [ 2 \ 107 ] ، وقوله : الملك القدوس [ 59 \ 23 ] .

فهو سبحانه وتعالى المتفرد بالملك لا شريك له في ملكه ، كما قال تعالى : وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك [ 17 \ 111 ] فبدأ بالحمد أولا .

ومثله قوله : فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء [ 36 \ 83 ] ، بدأ بتسبيح نفسه وتنزيهه لعموم الملك ومطلق التصرف ونفي الشريك ; لأن ملكه ملك تصرف وتدبير مع الكمال في الحمد والتقديس .

[ ص: 176 ] وكقوله : تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير [ 67 \ 1 ] .

وبهذه النصوص يعلم كمال ملكه تعالى ، ونقص ملك ما سواه من ملوك الدنيا ، ونعلم أن ملكهم بتمليك الله تعالى إياهم كما في قوله تعالى : والله يؤتي ملكه من يشاء [ 3 \ 26 ] .

وقوله : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء [ 3 \ 26 ] .

ومن المعلوم أن ملوك الدنيا ملكهم ملك سياسة ورعاية ، لا ملك تملك وتصرف ، وكما في قوله تعالى : وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم [ 2 \ 247 ] .

والجدير بالتنبيه عليه بهذه المناسبة أن " بريطانيا " تحترم نظام الملكية إلى هذا الوقت الحاضر ، بدافع من هذا المعتقد ، وأنه لا ملك إلا بتمليك الله إياه ، وأن ملوك الدنيا باصطفاء من الله .

والآية تشير إلى ما نحن بصدد بيانه ، من أن ملوك الدنيا لا يملكون أمر الرعية لأن طالوت ملكا ، وليس مالكا لأموالهم .

بينما ملك الله تعالى ملك خلق وإيجاد وتصرف ، كما في قوله تعالى : لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير [ 42 \ 49 - 50 ] .

وعليم قدير هنا من خصائصه سبحانه وتعالى ، فيتصرف في ملكه بعلم وعن قدرة كاملين سبحانه ، له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير [ 57 \ 2 ] .

وتظهر حقيقة ذلك إذا جاء اليوم الحق ، فيتلاشى كل ملك قل أو كثر ، ويذل كل ملك كبر أو صغر ، ولم يبق إلا ملكه تعالى يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] .

[ ص: 177 ] وفي سورة الفاتحة : مالك يوم الدين [ 1 \ 4 ] .

والقراءة الأخرى : " ملك يوم الدين " [ 1 \ 4 ] .

في القراءتين معا إشعار بالفرق بين ملك الله وملك العباد ، كالفرق بين الملك المطلق والملك النسبي ، إذ الملك النسبي لا يملك ، والملك المطلق ، فهو الملك القدوس ، والذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجع الخلائق كلهم .

ومن كانت هذه صفاته ، فهو المستحق لأن يعبد وحده سبحانه ، ولا يشرك معه أحد ، وهذا هو شعار العبد في الركن الخامس من أركان الإسلام ، حين يهل بالتلبية : إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك .
قوله تعالى : إله الناس

. هذه هي المرتبة الثالثة في كمال العبودية ، وإفراد الله تعالى بالألوهية .

وهذا هو محل الإحالة ، التي عناها الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه فيما يظهر ، لأن العبد إذا أقر بأن الله ربه وخالقه ، ومنعم عليه أوجده من العدم ، ورباه بالنعم ، لا رب له سواه ، ثم تدرج بعلمه ويقينه إلى الإقرار بأن ربه هو مليكه والمتصرف في أمره وحده ، وأنه لا يملك هو نفسه مع الله شيئا ، ولا يملك له أحد من الله شيئا .

وأن كل تصرفات العالم كله بأمره فلا يصل إليه خير إلا بإذنه ، ولا يصرف عنه ضرر إلا بأمره .

وعرف في يقين : أنه عبد مملوك لمن بيده ملكوت السماوات والأرض ، توصل بعلمه هذا أن من كانت هذه صفاته ، كان هو وحده المستحق لإفراده بالعبادة وبالألوهية ، لا إله إلا هو .

فيكون في خاتمة المصحف الشريف انتزاع الإقرار من العبد لله سبحانه بطريق الإلزام ، بالمعنى الذي أرسل الله به رسله ، وأنزل من أجله كتبه ، وهو أن يعبد الله وحده ، وهو ما صرح الشيخ به في الإحالة السابقة .

وإذا كان الشيخ رحمه الله ، قد نبه على مراعاة خاتمة المصحف ، فإنا لو رجعنا إلى أول المصحف وآخره لوجدنا ربطا بديعا ، إذ تلك الصفات الثلاث في سورة الناس [ ص: 178 ] موجودة في سورة الفاتحة ، فاتفقت الخاتمة مع الفاتحة في هذا المعنى العظيم ، إذ في الفاتحة الحمد لله رب العالمين ، وملك يوم الدين ، فجاءت صفة الربوبية والملك والألوهية في لفظ الجلالة .

وتكون الخاتمة الشريفة من باب عود على بدء ، وأن القرآن كله فيما بين ذلك شرح وبيان لتقدير هذا المعنى الكبير .

وسيأتي لذلك زيادة إيضاح في النهاية ، إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : من شر الوسواس الخناس

. كلاهما صيغة مبالغة من الوسوسة والخنس ، بسكون النون .

وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان معنى الوسوسة والوسواس لغة وشرعا ، أي المراد عند كلامه على قوله تعالى : فوسوس إليه الشيطان قال ياآدم هل أدلك على شجرة الخلد الآية [ 20 \ 120 ] .

وبين مشتقاتهما وأصل اشتقاقهما ، وهو يدور على أن الوسوسة : الحديث الخفي . والخنس : التأخر ، كما تكلم على ذلك في دفع إيهام الاضطراب ، حيث اجتمع المعنيان المتنافيان .

لأن الوسواس : كثير الوسوسة ، ليضل بها الناس . والخناس : كثير التأخر والرجوع عن إضلال الناس .

والجواب أن لكل مقام مقالا ، فهو يوسوس عند غفلة العبد عن ذكر ربه ، خانس عند ذكر العبد ربه تعالى ، كما دل عليه قوله تعالى : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين [ 43 \ 36 ] ، إلى آخره . ا هـ .
قوله تعالى : الذي يوسوس في صدور الناس

. اختلف في الظرف هنا ، هل هو ظرف للوسواس حينما يوسوس ، فيكون موجودا في الصدور ، ويوسوس للقلب ، أو هو ظرف للوسوسة . ويكون المراد بالصدور القلوب ; لكونها حالة في الصدور من باب إطلاق المحل وإرادة الحال على ما هو جار في الأساليب البلاغية .

[ ص: 179 ] وعلى حد قوله تعالى : فليدع ناديه [ 96 \ 17 ] ، أطلق النادي ، وأراد من يحل فيه من القوم .

وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بحث تعدية الوسوسة تارة بإلى وتارة باللام ، ففي سورة الأعراف : فوسوس لهما الشيطان [ 7 \ 20 ] ، وفي طه : فوسوس إليه الشيطان [ 20 \ 120 ] .

وحاصل ما ذكره في الجمع بينهما أحد أمرين : إما أن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض ، وذكر شواهده ، وإما أن يكون وسوس ، أي : لأجله ووسوس إليه أي أنهى إليه الوسوسة ، ولكن هنا قال : في صدور الناس ، ولم يقل : إلى صدور الناس ، فهل هو من باب نيابة حروف الجر بعضها عن بعض أيضا ؟ أم هي ظرف محض ؟

والظاهر أنها ظرف ، ولكن هل من الظرف للوسواس ، أو ظرف للوسوسة نفسها ؟

وبالنظر إلى كلام المفسرين ، فإن كلام ابن جرير يحتمل اعتبار المعنيين بدون تعيين .

وأما القرطبي ، والألوسي ، فصرحا بما ظهر لهما ووصلا إليه .

فقال القرطبي ، قال مقاتل : إن الشيطان في صورة خنزير يجري من مجرى الدم في العروق ، سلطه الله على ذلك وذكر الحديث : " إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه " .

وقال : إن أبا ثعلبة الخشني قال : سألت ربي أن يريني الشيطان ، ومكانه من ابن آدم ، فرأيته يداه في يديه ، ورجلاه في رجليه ، ومشاعيه في جسده ، غير أن له خطما كخطم الكلب ؟ فإذا ذكر الله خنس ، وإذا سكت عن ذكر الله أخذ بقلبه .

أما الألوسي فقد صرح بالتقسيم الذي أوردناه ، فقال : الذي يوسوس في صدور الناس . قيل : أريد قلوبهم مجازا .

وقال بعضهم : إن الشيطان يدخل الصدر الذي هو بمنزلة الدهليز ، فيلقي منه ما يريد إلقاءه إلى القلب ويوصله إليه ، ولا مانع عقلا من دخوله في جوف إنسان . وساق الحديث أيضا : " إن الشيطان يجري " إلى آخره .

[ ص: 180 ] ومراده بالمجاز ما قدمنا من إطلاق المحل وإرادة الحال .

وذكر ابن كثير عن ابن عباس ومجاهد أن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس ، وإذا ذكر الله خنس .

والذي يظهر والله تعالى أعلم : أن الصدر ظرف للوسواس ، وأنه يوقع الوسوسة في القلب . على ما قاله ابن عباس ومجاهد رحمهم الله .

وفي لفظ الناس هنا المضاف إليه الصدور : اختلاف في المراد منه ، فقيل : الإنس الظاهر الاستعمال .

وقيل : الثقلان : الإنس والجن .

وإن إطلاق الناس على الجنس مسموع ، كما حكاه القرطبي . قال عن بعض العرب : إنه كان يحدث فجاء قوم من الجن فوقفوا ، فقيل : من أنتم : فقالوا : ناس من الجن ، وهذا معنى قول الفراء .

واستدل صاحب هذا القول بطريق القياس باستعمال لفظي رجال ونفر في قوله تعالى : وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن [ 72 \ 6 ] ، وقوله : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن .

وعليه يكون الوسواس المستعاذ منه يوسوس في صدور الجن والإنس .

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الوجه : ولكنه رده وضعفه ; لأن لفظ الناس أظهر وأشهر في الإنس ، وهو المعروف في استعمال القرآن ، ولأنه على هذا يكون قسم الشيء قسما منه ; لأنه يجعل الناس قسيم الجن ، ويجعل الجن نوعا من الناس ا هـ . ملخصا .

وعلى كل فإن منهج الأضواء أن ما كان محتملا ، وكان أكثر استعمالات القرآن لأحد الاحتمالين ، فإن كثرة استعماله إياه تكون مرجحا ، وجميع استعمالات القرآن للفظ الناس إنما هو في خصوص الإنس فقط ، ولم تستعمل ولا مرة واحدة في حق الجن مع مراعاة استعمالها في هذه السورة وحدها خمس مرات ، حتى سميت سورة الناس .

[ ص: 181 ] أما القياس على لفظتي رجل ونفر ، فقد رده شيخ الإسلام ابن تيمية أيضا بأنهما وردا مقيدين " رجال من الجن " ، " نفرا من الجن " .

أما على الإطلاق فلم يردا ، وهكذا لفظ الناس فلا مانع من استعماله مقيدا ناس من الجن . أما على الإطلاق فلا .

وعليه فحيث ورد لفظ الناس هنا مطلقا فلا يصح حمله على الجن والإنس معا ، بل يكون خاصا بالإنس فقط ، ويكون في صدور الناس أي : في صدور الإنس .

وقد ذكر أبو السعود معنى آخر في لفظ الناس : وهو أن الناسي عن النسيان ، حذفت الياء تخفيفا لأن الوسواس لا يوسوس إلا في حين النسيان والغفلة .

وعليه يكون حذف الياء كحذفها من " الداع " في قوله : يوم يدعو الداعي [ 54 \ 6 ] ونحوه .

ولكن يبقى على هذا القول بيان من المراد بالناسي ، أهو من الإنس أم من الجن ، فلم يخرج عن الاحتمالين السابقين ، مع أن هذا القول من لوازم معنى الوسواس الخناس .

ويرد على هذا القول جمع الصدور وإفراد الناس ، والجمع لا يضاف إلا إلى جمع ، أي جمع الصدور ، لأن الفرد ليس له جمع من الصدور ، فيقابل الجمع بجمع ، أو يكتفي بالمفرد بمفرد .

وقد جاء في إضافة الجمع إلى المثنى في قوله : فقد صغت قلوبكما [ 66 \ 4 ] .

قال أبو حيان : وحسنه أن المثنى جمع في المعنى ، والجمع في مثل هذا أكثر استعمالا من المثنى ، والتثنية دون الجمع .

كما قال الشاعر :


فتخالسا نفسيهما بنوافذ كنوافذ العبط التي لا ترفع


[ ص: 182 ] وهذا كان القياس وذلك أن المعبر عن المثنى بالمثنى ، لكن كرهوا اجتماع تثنيتين فعدلوا إلى الجمع بأن التثنية جمع في المعنى والإفراد ، لا يجوز عند أصحابنا إلا في الشعر .

كقوله :


حمامة بطن الواديين ترنمي


يريد بطني ، وغلط ابن مالك في التسهيل إذ قال : ونختار الإفراد على لفظ التثنية ، فتراه غلط ابن مالك في اختياره جواز إضافة الجمع إلى المفرد ، كما أنه قال : ولا يجوز ذلك إلا في الشعر ، وأنه مع المثنى لكراهية اجتماع التثنيتين ، فظهر بطلان قول أبي السعود .

أما الراجح في الوجهين في معنى الناس المتقدم ذكرهما . فهو الوجه الأول ، وهو أنهم الإنس ، وأن قوله تعالى : من الجنة والناس [ 114 \ 6 ] ، بيان لمن يقوم بالوسوسة ، أي : بيان للوسواس الخناس وأنه من كل من وسواس الجنة ووسواس الناس .

ويظهر ذلك من أمور : منها : أن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ولأمته تبعا له فهو في حق الناس أظهر .

ومنها : أننا لو جعلنا الناس الأولى عامة لمن يوسوس إليه كان من الجنة والناس مصدر الوسوسة ، فيكون من وسواس الناس من يوسوس في صدور الجن . وهذا بعيد .

ومنها : أنه لو كان لفظ الناس يشمل الجن والإنس ، لما احتيج إلى هذا التقسيم " الجنة والناس " ، واكتفى في الثانية بما اكتفى به في الأولى ، وكان يكون الذي يوسوس في صدور الناس من الناس ، ولكن جاء بيان محل الوسوسة " صدور الناس " ، ثم جاء مصدر الوسوسة " الجنة والناس " ، والله تعالى أعلم .
تنبيه

ذكر أبو حيان في آخر تفسيره مقارنة لطيفة بين سورتي المعوذتين ، فقال : ولما كانت مضرة الدين ، وهي آفة الوسوسة أعظم من مضرة الدنيا وإن عظمت ، جاء البناء في الاستعاذة منها بصفات ثلاث : الرب ، والملك ، والإله ، وإن اتحد المطلوب .

[ ص: 183 ] وفي الاستعاذة من ثلاث : الغاسق ، والنفاثات ، والحاسد ، بصفة واحدة وهي الرب ، وإن تكثر الذي يستعاذ منه .

وهذه الأخرى لفتة كريمة ، طالما كنت تطلعت إليها في وجهتي نظر ، إحداهما : بين السورتين ، والأخرى بين سورة الناس ونسق المصحف الشريف ، سيأتي إيرادهما إن شاء الله .

إلا أنه على وجهة نظر أبي حيان ، وهي أنه تعالى في سورة الفلق جاء في الاستعاذة بصفة واحدة وهي " برب الفلق " .

وفي سورة الناس جاء في الاستعاذة بثلاث صفات ، مع أن المستعاذ منه في الأولى ثلاثة أمور ، والمستعاذ منه في الثانية أمر واحد ، فلخطر الأمر الواحد جاءت الصفات الثلاث .

ويقال أيضا من جهة أخرى : إن المستعاذ منه في السورة الأولى أمور تأتي من خارج الإنسان ، وتأتيه اعتداء عليه من غيره ، وقد تكون شرورا ظاهرة ، ومثل ذلك قد يمكن التحرز منه أو اتقاؤه قبل وقوعه ، وتجنبه إذا علم به . بينما الشر الواحد في الثانية يأتيه من داخليته وقد تكون هواجس النفس وما لا يقدر على دفعه ، إذ الشيطان يرانا ولا نراه ، كما في قوله : إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم [ 7 \ 27 ] .

وقد يثير عليه خلجات نفسه ونوازع فكره ، فلا يجد له خلاصا إلا بالاستعاذة واللجوء إلى رب الناس ملك الناس إله الناس .

أما الوجهتان اللتان نوهنا عنهما ، فالأولى بين السورتين وهي مما أورده أبو حيان : إذ في سورة الفلق قال : قل أعوذ برب الفلق [ 113 \ 1 ] ، ورب الفلق تعادل قوله : رب العالمين لأنه ما من موجود في هذا الكون إلا وهو مفلوق عن غيره .

ففي الزرع : فالق الحب والنوى [ 6 \ 95 ] .

وفي الزمن فالق الإصباح [ 6 \ 96 ] .

[ ص: 184 ] وفي الحيوانات : الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء [ 4 \ 1 ] .

وفي الجمادات يشير إليه قوله تعالى : أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم [ 21 \ 30 - 31 ] .

فرب الفلق تعادل رب العالمين ، فقابلها في الاستعاذة بعموم المستعاذ منه ، من شر ما خلق .

ثم جاء ذكر الخاص بعد العام للاهتمام به ، وهو " من شر غاسق إذا وقب " ، و " النفاثات في العقد " ، " وحاسد إذا حسد " .

فالمستعاذ به صفة واحدة ، والمستعاذ منه عموم ما خلق جملة وتفصيلا ، بينما في السورة الثانية جاء بالمستعاذ به ثلاث صفات هي صفات العظمة لله تعالى : الرب والملك والإله .

فقابل المستعاذ منه وهو شيء واحد فقط ، وهو الوسواس الخناس ، وهذا يدل على شدة خطورة المستعاذ منه .

وهو كذلك ; لأننا لو نظرنا في واقع الأمر لوجدنا مبعث كل فتنة ومنطلق كل شر عاجلا أو آجلا ، لوجدناه بسبب الوسواس الخناس . وهو مرتبط بتاريخ وجود الإنسان .

وأول جناية وقعت على الإنسان الأول ، إنما هي من هذا الوسواس الخناس ، وذلك أن الله تعالى لما كرمآدم ، فخلقه بيده وأسجد الملائكة له وأسكنه الجنة هو وزوجه لا يجوع فيها ولا يعرى ، ولا يظمأ فيها ولا يضحى ، يأكلان منها رغدا حيث ما شاءا ، إلا من الشجرة الممنوعة ، فوسوس إليهما الشيطان حتى أكلا منها ودلاهما بغرور ، حتى أهبطوا منها جميعا بعضهم لبعض عدو .

وبعد سكناهما الأرض أتى ابنيهما قابيل وهابيل فلاحقهما أيضا بالوسوسة ، حتى طوعت نفس أحدهما قتل أخيه فأصبح من النادمين .

وهكذا بسائر الإنسان في حياته بالوسوسة حتى يربكه في الدنيا ، ويهلكه في [ ص: 185 ] الآخرة ، ولقد اتخذ من المرأة جسرا لكل ما يريد . وها هو يعيد الكرة في نزع اللباس عن أبوينا في الجنة ، فينتزعه عنهما في ظل بيت الله الحرام في طوافهم قبل البعثة ولا يزال يغويه ، وعن طريق المرأة في كل زمان ومكان ليخرجه عن الاستقامة كما أخرج أبويه من الجنة .

ولا يزال يجلب على الإنسان بخيله ورجله بارا بقسمه بين يدي الله بعزته ليغوينهم أجمعين .

وإن أخطر أبواب الفساد في المجتمعات لهي عن المال أو الدم أو العرض ، كما في الحديث في حجة الوداع : " ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا " إلى آخره .

وهل وجدت جناية على واحد منها إلا من تأثير الوسواس الخناس ؟ اللهم لا .

وهكذا في الآخرة .

وقد بين تعالى الموقف جليا في مقالة الشيطان البليغة الصريحة : وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل الآية [ 14 \ 22 ] .

ولقد علم عدو المسلمين أن أخطر سلاح على الإنسان هو الشك ولا طريق إليه إلا بالوسوسة ، فأخذ عن إبليس مهمته وراح يوسوس للمسلمين في دينهم وفي دنياهم ، ويشككهم في قدرتهم على الحياة الكريمة مستقلين عنه ، ويشككهم في قدرتهم على التقدم والاستقلال الحقيقي ، بل وفي استطاعتهم على الإبداع والاختراع ، ليظلوا في فلكه ودائرة نفوذه ، فيبقى المسلمون يدورون في حلقة مفرغة ، يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى .

والمتشكك في نتيجة عمل لا يقدم عليه أبدا ، بل ما يبنيه اليوم يهدمه غدا ، وقد أعلن عن هذه النتيجة الخطيرة رئيس مؤتمر المستشرقين في الشرق الأوسط ، منذ أكثر من ثلاثين عاما ، حينما انعقد المؤتمر في ( بيروت ) لعرض نتائج أعمالهم ودراسة أساليب تبشيرهم .

[ ص: 186 ] فتشكى المؤتمرون من أن لهم زهاء أربعين سنة من عملهم المتواصل ، لم يستطيعوا أن ينصروا مسلما واحدا ، فقال رئيس المؤتمر : إذا لم نستطع أن ننصر مسلما ، ولكن استطعنا أن نوجد ذبذبة في الرأي ، فقد نجحنا في عملنا .

وهكذا منهج العدو ، تشكيك في قضايا الإسلام ليوجد ذبذبة في عقيدة المسلمين ، فعن طريق الميراث تارة ، وعن طريق تعدد الزوجات أخرى ، وعن دوافع القتال ، وعن استرقاق الرقيق ، وعن وعن .

حتى وجد من أبناء المسلمين من يتخطى حدود الشك إلى التصديق ، وأخذ يدعو إلى ما يدعو إليه العدو ، وما ذاك كله إلا حصاد ونتائج الوسواس الخناس .

فلا غرو إذا أن تجمع الصفات الجليلة الثلاث : برب الناس 30 ملك الناس 30 إله الناس .

هذه وجهة النظر الأولى بين سورتي الفلق والناس .

أما الوجهة الثانية وهي بين سورة الناس ونسق المصحف الشريف ، بقوله تعالى : الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم [ 1 \ 2 - 7 ] .

وفي هذه البداية الكريمة بث الطمأنينة في القلب المعبر عنها بالحمد ، عنوان الرضى والسعادة والإقرار لله بالربوبية ، ثم الإيمان بالبعث والإقرار لله بملك يوم الدين ، ثم الالتزام بالعبادة لله وحده والالتجاء إليه مستعينا به ، مستهديا الصراط المستقيم ، سائلا صحبة الذين أنعم عليهم .

ثم يأتي بعدها مباشرة في أول سورة البقرة : ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين [ 2 \ 2 ] أي : إن الهدى الذي تنشده إلى الصراط المستقيم ، فهو في هذا الكتاب لا ريب فيه ، ثم بين المتقين الذين أنعم الله عليهم بقوله : الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون [ 2 \ 3 - 4 ] .

ومرة أخرى للتأكيد : أولئك لا سواهم على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون [ 2 \ 5 ] .

[ ص: 187 ] ثم تترسل السورة في تقسيم الناس إلى الأقسام الثلاثة : مؤمنين ، وكافرين ، ومذبذبين بين بين ، وهم المنافقون .

ثم يأتي النداء الصريح وهو أول نداء في المصحف لعموم الناس ياأيها الناس اعبدوا ربكم [ 2 \ 21 ] ، ويقيم البراهين على استحقاقه للعبادة وعلى إمكان البعث بقوله : الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون [ 2 \ 21 - 22 ] .

وبعد تقرير الأصل وهي العقيدة ، تمضي السورة في ذكر فروع الإسلام ، فتشتمل على أركان الإسلام كلها وعلى كثير من مسائل المعاملات والجهاد ، وقل باب من أبواب الفقه إلا وله ذكر في هذه السورة ، ويأتي ما بعدها مبينا لما أجمل فيها أو لما يذكر ضمنها .

وهكذا حتى ينتهي القرآن بكمال الشريعة وتمام الدين .

ولما جاء في وصف المتقين المهتدين في أول المصحف ، أنهم يؤمنون بالغيب ومنه الإيمان باليوم الآخر وما فيه من حساب وعقاب وثواب - أمور الغيب تستلزم اليقين - لترتب الجزاء عليه ثوابا أو عقابا .

والثواب والعقاب هما نتيجة الفعل والترك .

والفعل والترك : هما مناط التكليف ، لأن الإنسان يمتثل الأمر رجاء الثواب ، ويكف عن متعلق النهي مخافة العقاب .

فلكأن نسق المصحف الشريف يشير إلى ضرورة ما يجب الانتباه إليه من أن القرآن بدأ بالحمد ثناء على الله بما أنعم على الإنسان بإنزاله ، وإرسال الرسول صاحبه به ، ثم نقله من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة ، وهو الأعظم قدرا وخطرا ، ثم رسم له الطريق الذي سلكه المهتدون أهل الإنعام والرضى ، ثم أوقفه عليه ليسلك سبيلهم .

وهكذا إلى أن جاء به بعد كمال البيان والإرشاد والهداية ، جاء به إلى نهاية هذا الصراط المستقيم ، فاستوقفه ليقول له إذا اطمأننت لهذا الدين ، وآمنت بالله رب [ ص: 188 ] العالمين ، واعتقدت مجيء يوم الدين ، وعرفت طريق المهتدين ورأيت أقسام الناس الثلاث مؤمنين وكافرين ومنافقين ، ونهاية كل منهم ، فالزم هذا الكتاب ، وسر على هذا الصراط ورافق أهل الإنعام ، وجانب المغضوب عليهم والضالين ، واحذر من مسلك المنافقين المتشككين ، وحاذر كل الحذر من موجب ذلك كله ، وهو الوسواس الخناس ، أن يشككك في متعلقات الإيمان ، أو في استواء طريقك واستقامته أو في عصمة كتابك وكماله ، وكن على يقين مما أنت عليه ، ولا تنس خطره على أبويك من قبل ، إذ هما في الجنة دار السلام ولم يسلما منه ، ودلاهما بغرور فحاذر منه ولذ بي كلما ألم بك أو مسك طائف منه ، وكن كسلفك الصالح إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون [ 8 \ 201 ] .

وقد علمت عداوته لك من بعد ، وعداوته ناشئة عن الحسد .

ولكأن ارتباط السورتين ليشير إلى منشأ تلك العداوة وارتباطها بهذا التحذير ، إذ في الأولى : ومن شر حاسد إذا حسد ، فحسد الشيطان آدم على إكرام الله إياه كما أسلفنا .

والعدو الحاسد لا يرضيه إلا زوال النعمة عن المحسود ، ولئن كانت توبة آدم هي سبيل نجاته ، كما في قوله تعالى : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه [ 2 \ 37 ] .

فنجاتك أيضا في كلمات تستعيذ بها من عدوك : برب الناس ملك الناس إله الناس ; لأن الرب هو الذي يرحم عباده ، وملك الناس هو الذي يحميهم ويحفظهم ويحرسهم . وإله الناس الذي يتألهون إليه ويتضرعون ويلوذون به سبحانه .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 45.38 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 44.75 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.38%)]