
23-11-2024, 12:14 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,450
الدولة :
|
|
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (611)
سُورَةُ النصر
صـ 133 إلى صـ 142
قوله تعالى : لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد . قيل : تكرار في العبارات للتوكيد ، كتكرار ويل يومئذ للمكذبين [ 77 \ 15 ] ، وتكرار : فبأي آلاء ربكما تكذبان [ 55 \ 13 ] .
ونظيره في الشعر أكثر من أن يحصر ، من ذلك ما أورده القرطبي رحمه الله :
[ ص: 133 ]
هلا سألت جموع كندة يوم ولو أين أينا
وقول الآخر :
يا علقمة يا علقمة يا علقمه خير تميم كلها وأكرمه
وقول الآخر :
يا أقرع بن حابس يا أقرع إنك إن يصرع أخوك تصرع
وقول الآخر :
ألا يا سلمى ثم اسلمي ثمت اسلمي ثلاث تحيات وإن لم تكلم
وقد جاءت في أبيات لبعض تلاميذ الشيخ رحمه الله تعالى ، ضمن مساجلة له معه قال فيها :
تالله إنك قد ملأت مسامعي درا عليه قد انطوت أحشائي
زدني وزدني ثم زدني ولتكن منك الزيادة شافيا للداء
فكرر قوله : زدني ثلاث مرات
وقيل : ليس فيه تكرار ، على أن الجملة الأولى عن الماضي والثانية من المستقبل .
وقيل : الأولى عن العبادة ، والثانية عن المعبود .
وقيل غير ذلك ، على ما سيأتي إن شاء الله .
والسورة في الجملة نص على أنه صلى الله عليه وسلم لا يعبد معبودهم ، ولا هم عابدون معبوده ، وقد فسره قوله تعالى : فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون [ 10 \ 41 ] .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه الكلام على هذا المعنى ، عند آية يونس تلك ، وذكر هذه السورة هناك .
وقد ذكر أيضا في دفع إيهام الاضطراب جوابا على إشكال في السورة وهو قوله تعالى : لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ، نفي لعبادة كل منهما معبود [ ص: 134 ] الآخر مطلقا ، مع أنه قد آمن بعضهم فيما بعد وعبد ما يعبده صلى الله عليه وسلم ، وأجاب عن ذلك بأحد أمرين : موجزهما أنها من جنس الكفار ، وإن أسلموا فيما بعد فهو خطاب لهم ما داموا كفارا إلى آخره ، أو أنها من العام المخصوص ، فتكون في خصوص من حقت عليهم كلمات ربك . ا هـ . ملخصا .
وقد ذكر أبو حيان وجها عن الزمخشري : أن ما يتعلق بالكفار خاص بالحاضر ; لأن ما إذا دخلت على اسم الفاعل تعينه للحاضر .
وناقشه أبو حيان ، بأن ذلك في مغالب لا على سبيل القطع .
والذي يظهر من سياق السورة قد يشهد لما ذهب إليه الزمخشري ، وهو أن السورة تتكلم عن الجانبين على سبيل المقابلة جهة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وجهة الكفار في عدم عبادة كل منهما معبود الآخر .
ولكنها لم تساو في اللفظ بين الطرفين ، فمن جهة الرسول صلى الله عليه وسلم جاء في الجملة الأولى : لا أعبد ما تعبدون عبر عن كل منهما بالفعل المضارع الدال على الحال أي : لا أعبد الآن ما تعبدون الآن بالفعل . ثم قال : ولا أنتم عابدون ما أعبد فعبر عنهم بالاسمية وعنه هو بالفعلية ، أي : ولا أنتم متصفون بعبادة ما أعبد الآن .
وفي الجملة الثانية قال : ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد . فعبر عنه بأنه ليس متصفا بعبادة ما يعبدون ولا هم عابدون ما يعبد ، فكان وصفه هو صلى الله عليه وسلم في الجملتين بوصفين مختلفين بالجملة الفعلية تارة وبالجملة الاسمية تارة أخرى ، فكانت إحداهما لنفي الوصف الثابت ، والأخرى لنفي حدوثه فيما بعد .
أما هم فلم يوصفوا في الجملتين إلا بالجملة الاسمية الدالة على الوصف الثابت ، أي في الماضي إلى الحاضر ، ولم يكن فيما وصفوا به جملة فعلية من خصائصها التجدد والحدوث ، فلم يكن فيها ما يتعرض للمستقبل فلم يكن إشكال ، والله تعالى أعلم .
فإن قيل : إن الوصف باسم الفاعل يحتمل الحال والاستقبال ، فيبقى الإشكال محتملا .
قيل : ما ذكره الزمخشري من أن دخول ما عليه تعينه للحال ، يكفي في نفي هذا الاحتمال ، فإن قيل : قد ناقشه أبو حيان .
وقال : إنها أغلبية وليست قطعية .
[ ص: 135 ] قلنا : يكفي في ذلك حكم الأغلب ، وهو ما يصدقه الواقع ، إذ آمن بعضهم وعبد معبوده صلى الله عليه وسلم ، وما في قوله : ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ، واقعة في الأولى على غير ذي علم ، وهي أصنامهم وهو استعمالها الأساسي .
وفي الثانية : في حق الله تعالى وهو استعمالها في غير استعمالها الأساسي ، فقيل : من أجل المقابلة ، وقد استعملت فيمن يعلم ، كقوله تعالى : فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ 4 \ 3 ] ; لأنهن في معرض الاستمتاع بهن ، فللقرينة جاز ذلك .
وقيل : إنها مع ما قبلها مصدرية ، أي : ما مصدرية بمعنى عبادتكم الباطلة ، ولا تعبدون عباداتي الصحيحة .
وهذا المعنى قوي ، وإن تعارض مع ما ذكر من سبب النزول ، إلا أن له شاهدا من نفس السورة ويتضمن المعنى الأول ، ودليله من السورة قوله تعالى في آخر السورة : لكم دينكم ولي دين [ 109 \ 6 ] ، فأحالهم على عبادتهم ، ولم يحلهم على معبودهم .
قوله تعالى : لكم دينكم ولي دين .
هو نظير ما تقدم في سورة يونس أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون [ 10 \ 41 ] .
وكقوله : لنا أعمالنا ولكم أعمالكم [ 28 \ 55 ] .
وليس في هذا تقريرهم على دينهم الذي هم عليه ، ولكن من قبيل التهديد والوعيد كقوله : وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها [ 18 \ 29 ] .
وفي هذه السورة قوله : قل ياأيها الكافرون وصف يكفي بأن عبادتهم وديانتهم كفر .
وقد قال لهم الحق : لا أعبد ما تعبدون لأنها عبادة باطلة ، عبادة الكفار ، وبعد ذلك إن أبيتم إلا هي فلكم دينكم ولي دين .
[ ص: 136 ] تنبيه
في هذه السورة منهج إصلاحي ، وهو عدم قبول ولا صلاحية أنصاف الحلول ; لأن ما عرضوه عليه صلى الله عليه وسلم من المشاركة في العبادة ، يعتبر في مقياس المنطق حلا وسطا لاحتمال إصابة الحق في أحد الجانبين ، فجاء الرد حاسما وزاجرا وبشدة ; لأن فيه أي فيما عرضوه مساواة للباطل بالحق ، وفيه تعليق المشكلة ، وفيه تقرير الباطل ، إن هو وافقهم ولو لحظة .
وقد تعتبر هذه السورة مميزة وفاصلة بين الطرفين ، ونهاية المهادنة ، وبداية المجابهة .
وقد قالوا : إن ذلك بناء على ما أمره الله به في السورة قبلها : إنا أعطيناك الكوثر [ 108 \ 1 ] ، أي وإن كنت وصحبك قلة ، فإن معك الخير الكثير ، ولمجيء " قل " لما فيها من إشعار بأنك مبلغ عن الله ، وهو الذي ينصرك ، ولذا جاء بعدها حالا سورة النصر وبعد النصر : تب العدو .
وهذا في غاية الوضوح ، ولله الحمد .
[ ص: 137 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النصر
قوله تعالى : إذا جاء نصر الله والفتح .
فيه ذكر النصر والفتح ، مع أن كلا منهما مرتبط بالآخر : فمع كل نصر فتح ، ومع كل فتح نصر .
فهل هما متلازمان أم لا ؟
كما جاء النصر مضافا إلى الله تعالى ، والفتح مطلقا .
أولا : اتفقوا على نزول هذه السورة بعد فتح مكة .
ومعلوم : أنه سبق فتح مكة عدة فتوحات .
منها فتح خيبر ، ومنها صلح الحديبية ، سماه الله تعالى فتحا في قوله : فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا [ 48 \ 27 ] .
والنصر يكون في معارك القتال ويكون بالحجة والسلطان ، ويكون بكف العدو ، كما في الأحزاب . ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا [ 33 \ 25 ] .
وكما في اليهود قوله : وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا [ 33 \ 26 - 27 ] .
فالنصر حق من الله : وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم [ 3 \ 126 ] .
وقد علم المسلمون ذلك ، كما جاء في قوله تعالى : مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله [ 2 \ 214 ] ، فهم يتطلعون إلى النصر .
[ ص: 138 ] ويأتيهم الجواب : ألا إن نصر الله قريب [ 2 \ 214 ] .
وجاء قوله صلى الله عليه وسلم : " نصرت بالرعب مسيرة شهر " .
وقد قال تعالى لموسى وأخيه : لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى [ 20 \ 46 ] ، فهو نصر معية وتأييد ، فالنصر هنا عام .
وكذلك الفتح في الدين بانتشار الإسلام ، وأعظم الفتح فتحان : فتح الحديبية ، وفتح مكة .
إذ الأول تمهيد للثاني ، والثاني قضاء على دولة الشرك في الجزيرة ، ويدل لإرادة العموم في النصر والفتح .
قوله تعالى : ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا . فكأن الناس يأتون من كل جهة حتى من اليمن ، وهذا يدل على كمال الدعوة ونجاح الرسالة .
ويدل لهذا مجيء آية : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ 5 \ 3 ] ، وكان نزولها في حج تلك السنة .
ويلاحظ أن النصر هنا جاء بلفظ نصر الله ، وفي غير هذا جاء نصر الله ، وما النصر إلا من عند الله [ 8 \ 10 ] .
ومعلوم أن هذه الإضافة هنا لها دلالة تمام وكمال ، كما في بيت الله . مع أن المساجد كلها بيوت لله ، فهو مشعر بالنصر كل النصر ، أو بتمام النصر كله لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
والفتح ، هنا قيل : هو فتح مكة ، وقيل فتح المدائن وغيرها .
وتقدمت الإشارة إلى فتوحات عديدة قبل مكة .
وهناك فتوحات موعود بها بعد فتح مكة نص صلى الله عليه وسلم عليها منها في غزوة الأحزاب وهم يحفرون الخندق ، لما اعترضتهم كدية وأعجزتهم ، ودعي إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأخذ ماء وتمضمض ودعا ما شاء الله أن يدعو ثم ضرب ، فكانت كالكثيب .
[ ص: 139 ] وقد جاء فيها ابن كثير بعدة روايات وطرق مختلفة ، وكلها تذكر أنه صلى الله عليه وسلم ضرب ثلاث ضربات ، فأبرقت تحت كل ضربة برقة ، وكبر صلى الله عليه وسلم عند كل واحدة منها ، فسألوه فقال " في الأولى : أعطيت مفاتيح فارس " وذكر اليمن والشام ، وكلها روايات لا تخلو من نقاش ، ولكن لكثرتها يقوي بعضها بعضا .
وأقواها رواية النسائي بسنده قال : " لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق ، عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ المعول ووضع رداءه ناحية الخندق ، وقال : وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم [ 6 \ 115 ] ، فندر ثلث الحجر وسلمان الفارسي قائم ينظر ، فبرق مع ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم برقة ثم ضرب الثانية ، وقرأ ما قرأه أولا ، وبرقت أيضا . ثم الثالثة ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تكسرت ، فأخذ رداءه صلى الله عليه وسلم وجلس ، فسأله سلمان لما رأى من البرقات الثلاث : فقال له : أرأيت ذلك ؟ قال : أي والذي بعثك بالحق يا رسول الله ، فأخبرهم أنه رفعت له في الأولى مدائن كسرى وما حولها ومدائن كثيرة حتى رآها بعينه ، فقالوا : ادع الله لنا أن يفتح علينا . فدعا لهم ، وفي الثانية : رفعت له مدائن قيصر وما حولها ، وفي الثالثة مدائن الحبشة ، وكلها يطلبون منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم فتفتح عليهم ، فدعا لهم إلا في الحبشة ، فقال صلى الله عليه وسلم : " دعوا الحبشة ما ودعوكم ، واتركوا الترك ما تركوكم " انتهى ملخصا .
وقد رواه كل من ابن كثير والنسائي مطولا ، فهذه الروايات وإن كانت تحتمل مقالا فقد جاء في الموطأ ما لا يحتمل مقالا ، ولا شك في صحته ، ولا في دلالته ، وهو ما رواه مالك عن هشام عن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير عن سفيان بن أبي زهير أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يفتح اليمن فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، وتفتح الشام ، فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، ويفتح العراق فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " .
فهذا نص صحيح صريح منه صلى الله عليه وسلم في حياته بفتح اليمن والشام والعراق ، وما فتحت كلها إلا من بعده صلى الله عليه وسلم إلا اليمن .
[ ص: 140 ] ويؤيد هذا القول ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال : " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، إذ قال : الله أكبر ، الله أكبر ، جاء نصر الله والفتح ، جاء أهل اليمن ، قيل : يا رسول الله ، وما أهل اليمن ؟ قال : قوم رقيقة قلوبهم ، لينة طباعهم ، الإيمان يمان ، والفقه يمان ، والحكمة يمانية " رواه ابن كثير عنه .
وقد كان فتح مكة عام ثمان من الهجرة ، وجاءت الوفود في دين الله أفواجا عام تسع منها ، وجاء وفد اليمن وأرسل صلى الله عليه وسلم عماله إلى اليمن بعد فتح مكة ، وقدم عليه علي رضي الله عنه من اليمن في العام العاشر في موسم الحج ، ففتحت اليمن بعد فتح مكة في حياته صلى الله عليه وسلم .
وعليه : تكون فتوحات قد وقعت بعد فتح مكة ، يمكن أن يشملها هنا قوله تعالى : والفتح ، وليس مقصورا على فتح مكة كما قالوا .
وقد يؤخذ بدلالة الإيماء : الوعد بفتوحات شاملة ، لمناطق شاسعة من قوله تعالى : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق [ 22 \ 27 ] ; لأن الإتيان من كل فج عميق ، يدل على الإتيان إلى الحج من بعيد ، والإتيان إلى الحج يدل على الإسلام ، وبالتالي يدل على مجيء المسلمين من بعيد ، وهو محل الاستدلال والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا . تقدم الكلام على التسبيح ومتعلقه وتصريفه .
وهنا قرن التسبيح بحمد الله ، وفيه ارتباط لطيف بأول السورة وموضوعها ، إذ هي في الدلالة على كمال مهمة الرسالة بمجيء نصر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ولدينه . ومجيء الفتح العام على المسلمين لبلاد الله بالفعل أو بالوعد الصادق كما تقدم ، وهي نعمة تستوجب الشكر ويستحق موليها الحمد .
فكان التسبيح مقترنا بالحمد في مقابل ذلك وقوله : بحمد ربك ، ليشعر أنه سبحانه المولي للنعم ، كما جاء في سورة الضحى في قوله تعالى : ما ودعك ربك وما قلى [ 93 \ 3 ] .
[ ص: 141 ] وقوله في سورة اقرأ : اقرأ باسم ربك [ 96 \ 1 ] ، وتكرارها اقرأ وربك الأكرم [ 96 \ 3 ] ; لأن صفة الربوبية مشعرة بالإنعام .
وقوله : واستغفره ، قال بعضهم : إن الاستغفار عن ذنب فما هو . وتقدم الكلام على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عند قوله تعالى : ووضعنا عنك وزرك [ 94 \ 2 ] .
ومما تجدر الإشارة إليه أن التوبة دعوة الرسل ، ولو بدأنا مع آدم عليه السلام مع قصته ففيها : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه [ 2 \ 37 ] ، ومعلوم موجب تلك التوبة .
ثم نوح عليه السلام يقول : رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات الآية [ 71 \ 28 ] .
وإبراهيم عليه السلام يقول : وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم [ 2 \ 128 ] .
وبناء عليه قال بعض العلماء : إن الاستغفار نفسه عبادة كالتسبيح ، فلا يلزم منه وجود ذنب .
وقيل : هو تعليم لأمته .
وقيل : رفع لدرجاته صلى الله عليه وسلم .
وقد جاء في السنة ، أنه صلى الله عليه وسلم قال : " توبوا إلى الله ، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة " ، فتكون أيضا من باب الاستكثار من الخير ، والإنابة إلى الله .
تنبيه
جاء في التفسير عند الجميع أنه صلى الله عليه وسلم منذ أن نزلت هذه السورة وهو لم يكن يدع قوله : " سبحانك اللهم وبحمدك " تقول عائشة رضي الله عنها : " يتأول القرآن " أي : يفسره ، ويعمل به .
ونقل أبو حيان عن الزمخشري أنه قال : والأمر بالاستغفار مع التسبيح تكميل للأمر [ ص: 142 ] بما هو قوام أمر الدين ، من الجمع بين الطاعة والاحتراز من المعصية ، وليكون أمره بذلك مع عصمته لطفا لأمته ، ولأن الاستغفار من التواضع وهضم النفس فهو عبادة في نفسه .
وفي هذا لفت نظر لأصحاب الأذكار والأوراد الذين يحرصون على دوام ذكر الله تعالى ، حيث هذا كان من أكثر ما يداوم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في أذكار الصباح والمساء دون الملازمة على ذكر اسم من أسماء الله تعالى وحده ، منفردا مما لم يرد به نص صحيح ولا صريح .
ولا شك أن الخير كل الخير في الاتباع لا في الابتداع ، وأي خير أعظم مما اختاره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في آخر حياته ، ويأمره به ، ويلازم هو عليه .
وقلنا في آخر حياته : لأنه صلى الله عليه وسلم توفي بعدها بمدة يسيرة .
وفي هذه الآية دلالة الإيماء ، كما قالوا : ودلالة الالتزام كما جاء عن ابن عباس في قصة عمر رضي الله عنه مع كبار المهاجرين والأنصار ، حينما كان يسمح له بالجلوس معهم ، ويرى في وجوههم ، وسألوه وقالوا : إن لنا أولادا في سنه ، فقال : إنه من حيث علمتم .
وفي يوم اجتمعوا عنده فدعاه عمر ، قال ابن عباس : فعلمت أنه ما دعاني إلا لأمر ، فسألهم عن قوله تعالى : إذا جاء نصر الله والفتح ، السورة .
فقالوا : إنها بشرى بالفتح وبالنصر ، فقال : ما تقول أنت يا ابن عباس ؟
قال : فقلت ، لا والله ، إنها نعت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا .
فقال عمر : وأنا لا أعرف فيها إلا كما قلت ، أي : أنه صلى الله عليه وسلم جاء لمهمة ، وقد تمت بمجيء النصر والفتح والدخول في الدين أفواجا .
وعليه يكون قد أدى الأمانة وبلغ الرسالة . فعليه أن يتأهب لملاقاة ربه ليلقى جزاء عمله ، وهو مأخذ في غاية الدقة ، وبيان لقول علي رضي الله عنه : أو فهم أعطاه الله من شاء في كتاب الله .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|