عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 10-11-2024, 08:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,240
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خطابات الضمان، تحرير التخريج، وبيان الحكم، ومناقشة البدائل



واستدلوا (من جهة حقيقة العقد): أن الشركة انعقدت على العمل من الجانبين، فشرط زوال يد رب المال عن ماله، يناقض مقتضى العقد. [165]


ويناقش: أن مقتضى العقد أن يشتركا في التصرف في المالين، ولا بدّ من حضورهما.

القول الثالث: يكفي حضور أحد المالين، بشرط أن لا يتاجر بالحاضر إلا بعد قبض المال الغائب، وأن تكون غيبته قريبة؛ كاليومين.
وهو مذهب المالكية،[166] واختاره أبو يعلى،[167] ولم يشترط الشرطين. [168]


ففي الشرح الكبير للدردير: "وشرط جوازها مع غيبة نقد أحدهما؛ كلاً، أو بعضاً أمران: الأول: إن لم يبعد؛ بأن قرب كاليومين، والثاني: إن لم يتجر بالحاضر".[169]


وفي الإنصاف: "ومن شرط صحتها أيضًا: حضور المالين على الصحيح من المذهب... وعليه أكثر الأصحاب، وقيل: أو حضور مال أحدهما، اختاره القاضي في المجرد[170]". [171]


واستدلوا بدليلين:
الدليل الأول (من جهة التخريج على الفروع): أن غياب النقدين مبطل للشركة؛ كبيع الدين بالدين، ويكفي حضور أحدهما؛ كبيع الغائب، والسلم، مع شرط تأخر التصرف حتى يحضر المال الغائب؛ ليحصل التكافؤ والمساواة.

ويناقش: بأن باب المشاركات أوسع من باب المعاوضات؛[172] فلا يصح القياس عليه.

والثاني (من جهة التخريج على القواعد): أن تغيّب المال لمدّة قريبة يجعله في حكم الحاضر؛ لأن ما قرب من الشيء أعطي حكمه. [173]


القول المخـتار:
أن الشركة تنعقد مع تأخر تسليم المالين، ويشترط لصحة نفاذها توفر المال عند الحاجة إليه؛ لأن الأصل في التصرفات والشروط الإباحة، ما لم يترتب عليها محظورٌ شرعي، أو مانعٌ من تحقق مقتضى العقد، ولم يحصل أيّ منهما.

(ب‌) وإن كانت الشركة بين العميل والمصرف مضاربة، فقد اختلف أهل العلم في اشتراط تسليم رأس مال المضاربة للعامل على قولين:
القول الأول: لا تصح المضاربة إلا إذا تسلّم العامل مال المضاربة.
وهو مذهب الجمهور؛ من الحنفية،[174] والمالكية،[175] والشافعية،[176] واختاره بعض الحنابلة.[177]


ففي بدائع الصنائع: "ومنها ]أيّ من شروط صحة المضاربة[ تسليم رأس المال إلى المضارب؛ لأنه أمانة فلا يصح إلا بالتسليم، وهو التخلية كالوديعة، ولا يصح مع بقاء يد الدافع على المال؛ لعدم التسليم مع بقاء يده، حتى لو شرط بقاء يد المالك على المال فسدت المضاربة". [178]


وفي المدونة: "قلت: هل يجوز لرب المال أن يحبسه عنده، ويقول للعامل: اذهب واشتر، وأنا أنقد عنك، واقبض أنت السلع، فإذا بعتَ، قبضتُ الثمن، وإذا اشتريتَ نقدتُ الثمن؟ قال: لا يجوز هذا القراض عند مالك، وإنما القراض عند مالك أن يسلم المال إليه". [179]


وفي روضة الطالبين: "الشرط الرابع: أن يكون رأس المال مسلّمًا إلى العامل، ويستقل باليد عليه، والتصرف فيه". [180]


واستدلوا بدليلين:
الدليل الأول (من جهة شكل العقد، وأخصّ أحكامه): أن صورة المضاربة أن يكون المال بيد العامل، ومعناها أن يكون مؤتمنًا عليه، فما أخرج المضاربة عن صورتها، ومعناها منع من صحتها. [181]


ونوقش: أن مقتضى عقد المضاربة الإذن بالتصرف في المال، فإذا حصل فهو كافٍ. [182]


والثاني (من جهة حقيقة العقد، واعتبار محله): أن المضاربة انعقدت على رأس مالٍ من طرف، وعملٍ من طرف آخر، والمال هو محل عمل العامل، فيجب تسليمه؛ ليتحقق العمل.[183]


ويناقش: أنه قد يعمل العامل ببعض المال، ويؤخر له بعضه الآخر، وقد يشتري نسيئة ويبيع، ويتأخر وقت السداد، فلا يمنع ذلك من صحة المضاربة.


القول الثاني: أنه لا يشترط في المضاربة تسلّم العامل لرأس المال.
وهو مذهب الحنابلة. [184]


ففي مطالب أولي النهى: "ولا يعتبر لمضاربةٍ قبض عامل رأس مال، فتصحّ، وإن كان بيد ربّه". [185]


واستدلوا بدليلين:
الدليل الأول (من جهة حقيقة العقد): أن مقتضى المضاربة إطلاق الإذن في التصرف، والمشاركة في الربح، وقد يحصل ذلك بغير تسلّم المال، فلا يشترط. [186]


ونوقش: أن في بقاء المال في يد ربّه تضييقًا على العامل،[187] فقد لا يجد ربَ المال عند الحاجة إلى المال، أو لا يساعده على رأيه؛ فيفوت التصرف الرابح. [188]


ويجاب: بأنه قد يكون مع رب المال من الدراية والخبرة ما يحتاج إليه العامل، وما يكون أنفع للمضاربة.

والدليل الثاني (من جهة التخريج على الفروع): أن رب المال لو دفع ماله إلى اثنين مضاربة صحّ، مع أنه لم يحصل تسليم المال إلى أحدهما.[189]


ويناقش: أنه قد حصل تسليم المال لهما بالمجموع.

القول المختـار:
إن كان العامل يقدر على التصرف في مال المضاربة، والعمل فيه دون تسلّمه، صحّ ذلك، فالمراد بالتسليم هنا التخلية؛ بحيث لا يمنعه منه رب المال إن احتاج إليه، ولا يضيق عليه في ذلك، قال في مغني المحتاج: "وأن يكون مسلّمًا إلى العامل، وليس المراد اشتراط تسليم المال إليه حال العقد، أو في مجلسه، وإنما المراد أن يستقل العامل باليد عليه، والتصرف فيه". [190]


وصورة مسألتنا كذلك، فيصحّ بقاء المال بيد المصرف على أن يحجزه عن الأموال التي يتصرف فيها، ومتى ما احتاجه العامل لتسديد قيمة الخطاب دفعه له.

وإن كان الاختيار قد وافق القول بالجواز في المسألتين الأخيرتين، إلا أن الوجوه الثلاثة السابقة كافية في المنع، ومع منع أن يكون خطاب الضمان رأس مال المشاركة، أو جزءًا منه، فلا مانع أن يجعل لخطاب الضمان قيمة اعتبارية، لها أثر في رفع حصّة المصرف من ربح العملية موضوع الضمان؛[191] كاعتبار سائر الخصائص التي تخوّل لأحد الشريكين زيادة في حصته من الربح؛ كالخبرة مثلاً، أو السمعة التجارية، والضمان في هذه الحالة تابع للمال والعمل، لا أصليّ، فلا يرتبط به منع أخذ الأجر على الضمان.

المسألة الثانية: أن تكون أجرة العامل نسبة من الربح:
جعلت الهيئة الشرعية لبنك فيصل المصري الإسلامي في نموذجها لخطابات الضمان للعامل مقابل إدارته للمشروع، وللمصرف مقابل تقديم خدماته أجرةً، وقدرتها بنسبة مئوية، تؤخذ قبل توزيع الأرباح، فما حكم ذلك؟.

والجواب: أنه لا حرج في هذا الإجراء، وقد سبق اختيار جواز أن تكون الأجرة نسبةً مما ينتج عن عمل الأجير. [192]


المسألة الثالثة: اجتماع الأجر والربح:
حيث جعلت هذه الصيغة للعامل أجرًا، يستحقه قبل توزيع الأرباح، ثم هو -بعد ذلك- يقتسم مع المصرف الأرباح، ولهذه المسألة حالتان:

الحالة الأولى: أن تكون الشركة بينهما شركة مضاربة:
فاستحق العامل الأجر والربح لأجل عمله في المضاربة، واجتماع الربح والأجر في هذه الحالة ممنوع لثلاثة أمور:
(1) أن الأجر إن كان مقطوعًا قد يستغرق الربح كله، ويؤدي إلى انقطاع الشركة في الربح، وهو خلاف مقتضى العقد. [193]


(2) أن العامل قد يتوانى عن العمل، لما كان له أجر مقطوع على عمله، فيتضرر ربّ المال، وقد نبّه ابن قدامة على هذين المسلكين في المنع: "متى جعل نصيب أحد الشركاء دراهم معلومة، أو جعل مع نصيبه دراهم، مثل أن يشترط لنفسه جزءًا، وعشرة دراهم، بطلت الشركة، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال القراض، إذا شرط أحدهما، أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة... وإنما لم يصح ذلك لمعنيين: أحدهما: أنه إذا شرط دراهم معلومة، احتمل أن لا يربح غيرها، فيحصل على جميع الربح، واحتمل أن لا يربحها، فيأخذ من رأس المال جزءًا، وقد يربح كثيرًا، فيستضرّ من شُرطت له الدراهم.... ولأن العامل متى شرط لنفسه دراهم معلومة، ربما توانى في طلب الربح؛ لعدم فائدته فيه، وحصول نفعه لغيره، بخلاف ما إذا كان له جزء من الربح". [194]


(3) وإن كان الأجر نسبة من الربح (وليس مبلغًا مقطوعًا) - كصورة المسألة - مُنع منه أيضًا؛ لأن العامل قدّم عمله في عقد المضاربة كركن فيه، إن ربح ربح بعمله، وإن خسر خسر عمله، فلا يحل له أن يأخذ على عمله أجرًا، بل اشتراط ذلك مخالف لمقتضى عقد المضاربة، قال السرخسي: "وإذا دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف، على أن للمضارب بما عمل في المال أجر؛ عشرة دراهم كل شهر، فهذا شرط فاسد، ولا ينبغي له أن يشترط مع الربح أجرًا؛ لأنه شريك في المال بحصته من الربح، وكل من كان شريكًا في مالٍ، فليس ينبغي له أن يشترط أجرًا فيما عمل؛ لأن المضارب يستوجب حصة من الربح على رب المال باعتبار عمله له، فلا يجوز أن يستوجب باعتبار عمله أيضًا أجرًا مسمّى عليه، إذ يلزم عوضان لسلامة عمل واحد له، وإن اعتبرنا معنى الشركة في المضاربة كان رأس مال المضاربة عمله، ورأس ماله، فلا يجوز أن يستوجب باعتبار عمله على رب المال أجرًا". [195]


الحالة الثانية: أن تكون الشركة بينهما شركة عنان:
فيأخذ الشريك الربح لقاء حصته من رأس المال، ويأخذ الأجرة لقاء عمله وإدارته، وهو أولى بالعمل والأجرة من الأجير الأجنبي،[196] فحقيقة اجتماع الأجر والضمان في هذه الحالة عقدٌ مركبٌ من اجتماع شركة وإجارة، وحيث إنه لا يترتب على ذلك محظور من غرر، أو ربا، ولا يوجد تنافٍ بين أحكام العقدين؛ إذ يمكن اجتماع أحكامهما، فلا حرج في ذلك.[197]


وفي حاشية القليوبي: "ولو جمع في صفقة مختلفي الحكم؛ كالإجارة وبيع، أو إجارة وسلم؛ كقوله: بعتك عبدي، وآجرتك داري سنة بكذا، وكقوله: آجرتك داري شهرًا، وبعتك صاع قمح في ذمّتي سلمًا بكذا، صحّا في الأظهر، قال القليوبي: أفاد أنه لا بدّ أن يكونا في عينين بعوض واحد، فإن كانا في عين واحدة بطل جزمًا، وبعوضين صحّ جزمًا". [198]


خلاصة الرأي في هذا البديل المقترح:
ومما سبق يظهر جواز هذا البديل في أصل فكرته، وجوازه كذلك في صورته المعلقة، وأما ما طرحه بنك فيصل المصري الإسلامي كنموذج لهذا البديل فلم يسلم من الإشكالات؛ كما تبين، والله تعالى أعلى وأعلم.


المطلب الثالث: عرض البديل الثالث: إصدار خطاب الضمان مقابل إيداع وديعة استثمارية في المصرف، وتقويمه:
أولاً: عرض فكرة البديل، وذكر من قال به:
تقوم فكرة هذا البديل على أن يودع العميل مبلغًا من المال في المصرف، دون أن يطالب بأيّة عوائد، أو أرباح، مقابل إعطائه خطاب ضمان في حدود مبلغ الوديعة، وزيادة محددة؛ كـ 15% مثلاً، ولا يحتسب المصرف مصروفات إصدار خطاب الضمان على العميل.

فيكون العميل بذلك قد حصل على خطاب الضمان، وبدون أيّة مصروفات، مقابل إيداع وديعة استثمارية في المصرف، بدون أيّة عوائد.

وقد جاء ذكر هذا البديل ضمن فتاوى هيئة الفتاوى والرقابة الشرعية لبنك دبي الإسلامي،[199] وفتاوى هيئة الرقابة الشرعية لمصرف قطر الإسلامي،[200] وأشير إليه في فتاوى ندوة دلة البركة الثانية.[201]


ثانيًا: الحكم الشرعي لهذا البديل:
خطاب الضمان غير المغطى بمنـزلة الضمان - كما سبق -،[202] وتنازل المصرف عن حقه في أجرة المصاريف الفعلية لخطاب الضمان هبة منه.

وأما دفع العميل ماله للمصرف مضاربة (وديعة استثمارية)، بشرط أن يكون الربح كله للعامل، فله حالان:
الحالة الأولى: أن يدفع العميل ماله للمصرف، ولا يصرح بكونه مضاربة؛ كأن يقول: خذه، أو تصرف فيه، أو اتجّر به، أو اعمل فيه، ففي هذه الحال ينقلب عقد المضاربة (الوديعة الاستثمارية) إلى قرض؛ كما جرى على ذلك كلام الفقهاء:
أ‌) ففي بدائع الصنائع: " ولو شرط جميع الربح للمضارب، فهو قرض". [203]


ب‌) وفي بلغة السالك: " وضمنه العامل: أيّ يضمن مال القراض لربه، لو تلف أو ضاع، بلا تفريط، في اشتراط الربح له: أيّ للعامل، بأن قال له ربّه اعمل فيه، والربح لك؛ لأنه حينئذٍ صار قرضًا، وانتقل من الأمانة إلى الذمّة". [204]


ج‌) وفي المهذب: " وإن دفع إليه ألفاً، وقال: تصرف فيه، والربح كله لك؛ فهو قرض". [205]


د‌) وفي المغني: " وإن قال: خذ هذا المال فاتجّر به، وربحه كله لك، كان قرضًا، لا قراضًا".[206]


واستدلوا: بأن هذه الألفاظ مشتركة بين المضاربة والقرض، وقد قُرن بها حكم القرض، فانعقد القرض بذلك؛ كلفظ التمليك، إذا قُرن به الثمن كان بيعاً؛ لأنه مشترك بين البيع والهبة.

الحالة الثانية: أن يصرح بلفظ المضاربة؛ بأن قال المصرف مثلاً: ادفعها لنا، نضارب لك فيها، ولا ربح لك، فقد اختلف في ذلك أهل العلم على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها مضاربة فاسدة.
وهو قول الشافعية، [207] والحنابلة. [208]


واستدلوا: أن موضوع عقد المضاربة الاشتراك في الربح، فإذا شُرط الربح لأحدهما، فقد شُرط في العقد ما ينافي مقتضاه، فبطل العقد.

القول الثاني: أنها تصح قرضًا.
وهو قول الحنفية. [209]


واستدلوا: أنه إذا لم يمكن تصحيح العقد مضاربة، فيُصحح قرضًا؛ لأنه أتى بمعنى القرض، والعبرة في العقود بمعانيها.

القول الثالث: أنها تصح مضاربة، ولا يضمن.
وهو قول المالكية. [210]


واستدلوا: أنهما صرحا بأن العقد بينهما عقد مضاربة، فيبقى على ما صرحا به، فإذا شرط أحدهما الربح للآخر، فكأنه وهبه نصيبه، فلم يمنع صحة العقد.

ونوقش: أن للتمليك ههنا طريقين؛ فإما أن يكون ملّكه الربح هبةً، أو قرضًا، وعند التردد لا يثبت إلا أدنى الوجهين؛ لأنه متيقن به، وأدناهما القرض. [211]


وسبب الخلاف:
النظر إلى لفظ العاقد: أضارب في مالك، والربح لي، هل تصحح أضارب في مالك إلى أقرضني؛ فيكون الربح لي؛ لأجل أني اقترضتُ منك أصل المال؛ كما هو القول الثاني، أو لا تصحح أصلاً، ويبطل العقد؛ لأنه أتى بلفظٍ صريح، واشترط ضدّه، كما هو القول الأول، أو تبقى أضارب في مالك على معناها، ويكون الربح لي من باب الهبة؛ كما هو القول الثالث؟.

القول المخـتار:
إن قاعدة تصحيح العقود ما أمكن،[212] واحترام ألفاظ العاقد،[213] ما دام أن لها وجهاً صحيحاً يقتضي القول بصحة القول الثالث، وعليه فتكون هذه العبارة أفضل للمصرف؛ من جهة كونها ترفع عنه ضمان المال، والله أعلم.

خلاصة الرأي في هذا البديل المقترح:
قام هذا البديل على التركيب بين العقود؛ ففي الحال الأولى رُكّب بين عقد الضمان والهبة، بشرط عقد القرض، وقد سبق نقل الإجماع على تحريم ذلك؛[214] لأنه قرض جرّ نفعاً للمقرض (العميل)، ولم يقابله إلا انتفاع المقترض (المصرف) بالقرض.

وفي الحال الثانية رُكّب بين عقد الضمان والهبة، بشرط عقد المضاربة وهبة الربح، وفي ذلك عدّة محاذير:
أ‌) أن الضمان غير المغطى قد يؤول إلى القرض، فتكون زيادة في مقابل القرض، قال الحطاب عن الشركة والقراض: "لا يجوز مقارنتهما للسلف، إلا إن كان النفع في ذلك للمتسلف؛ فيكون حينئذٍ كعقود المعروف".[215]


ب‌) أن لعقد المضاربة أثرًا في إنشاء التبرع، فخرج التبرع بذلك عن مقصوده من ابتغاء الأجر والمثوبة من الله تعالى، وهذا سبب من الأسباب السالفة لمنع التركيب بين العقود، قال ابن تيمية: "فجماع معنى الحديث: أن لا يجمع بين معاوضة وتبرع... وهكذا من أكرى الأرض التي تساوي مائة بألف، وأعراه الشجر، أو رضي من ثمرها بجزء من ألف جزء، فمعلوم بالاضطرار أنه إنما تبرع بالثمرة؛ لأجل الألف التي أخذها، وأن المستأجر إنما بذل الألف لأجل الثمرة، فالثمرة هي جلّ المقصود، المعقود عليه، أو بعضه ". [216]


ج‌) أن في هذه المعاملة هبة بشرط هبة، وحقيقتها البيع،[217] وأحد العوضين مجهول، فدخلت في الغرر، وهو سبب ثالث من أسباب منع التركيب بين العقود.

والأسلم في ذلك أن يتبرع المصرف بخطاب الضمان، في مقابل المضاربة في وديعة طالب الخطاب، مع بقاء الأرباح بينهما،[218] ويقصد المصرف بذلك نفع طالب الضمان؛ كما في كلام الحطاب السابق، وفي مثله يقول ابن قدامة: "ولو قال: أقرضني ألفًا، وادفع إليّ أرضك أزرعها بالثلث، كان خبيثاً، والأولى جواز ذلك، إذا لم يكن مشروطًا؛ لأن الحاجة داعية إليه، والمستقرض إنما يقصد نفع نفسه، وإنما يحصل انتفاع المقرض ضمنًا؛ فأشبه أخذ السفتجة به، وإيفاءه في بلد آخر، ولأنه مصلحة لهما جميعًا، فأشبه ما ذكرنا". [219]


فإذا قصد المصرف من المضاربة نفع المقترض انتفت أسباب المنع؛ إذ لم تكن المنفعة من القرض متمحضة للمقرض، ولم يخرج التبرع عن مقصوده من نفع الغير، ولم تكن هذه المعاملة معاوضة محضة، فسُمح فيها بالغرر، والله تعالى أعلى وأعلم.

المطلب الرابع: عرض البديل الرابع: إصدار خطاب الضمان تبرعًا، وتقويمه:
أولاً: عرض فكرة البديل، وذكر من قال به:
تقوم فكرة هذا البديل على أساس أن يُصدر المصرف خطاب الضمان غير المغطى لعميله، دون أن يأخذ مقابلاً على ذلك.

وقد أشار إلى هذا البديل الدكتور الصديق الضرير،[220] وفضّلته الندوة الفقهية الأولى لبيت التمويل الكويتي على غيره،[221] في خصوص خطابات الضمان الصادرة للمعاهد العلمية، والوزارات.

ثانيًا: الحكم الشرعي لهذا البديل:
الأصل أن الضمان في الشريعة من عقود التبرعات، لكن لما كانت إدارة المصرف تضارب بمال الغير، دخلت هذه المسألة في حكم تبرع المضارب من مال المضاربة، وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة:
مسألة: حكم تبرع المضارب من مال المضاربة:
محل الخـلاف:
إذا أذن رب المال للمضارب بالتبرع جاز له ذلك في حدود الإذن،[222] واختلف أهل العلم إذا أطلق له التصرف، ولم يأذن له بالتبرع نصّاً على قولين:
القول الأول: منع المضارب من التبرع بمال المضاربة، ولو كان يسيرًا.


وهو مذهب الشافعية،[223] والمذهب عند الحنابلة. [224]


قال في أسنى المطالب: "ليس للعامل التصدق من مال القراض؛ ولو بكسرة". [225]


وفي الإنصاف: "ولا يقرض، هذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب". [226]


واستدلوا: أن عقد المضاربة - المتضمن للإذن بالتصرف - لا يتناول التبرعات. [227]


ويناقش: بأن الإذن قد يحصل بغير دلالة لفظ العقد؛ كدلالة العرف، ومصلحة العمل.

القول الثاني: جواز أن يتبرع المضارب بمال المضاربة إذا كان تبرعه يسيرًا، أو فيه مصلحة للمضاربة.
وهو مذهب الحنفية،[228] والمالكية،[229] ورواية للحنابلة. [230]


ففي الاختيار لتعليل المختار: "ولا يكاتب، ولا يعتق، ولا يقرض، ولا يهب، ولا يتصدق، ولا يتكفل، ويهدي القليل من الطعام، ويضيف معامليه... لأنه من صنيع التجار، وفيه استمالة قلوب المعاملين". [231]


وفي شرح الخرشي: "وله أن يتبرع إن استألف به، أو خفّ... بشرط أن يفعل ذلك استئلافًا للشركة؛ ليرغب الناس في الشراء منه، وكذلك يجوز له أن يتبرع بشيء خفيف من مال الشركة، ولو كان بغير استئلاف؛ كإعارة آلة؛ كماعون، ودفع كسرة لسائل، أو شربة ماء، أو غلام لسقي دابّة، والكثرة والقلة بالنسبة لمال الشركة". [232]


وفي شرح منتهى الإرادات: "ولا أن يهب من مال الشركة إلا بإذن، ونقل حنبل: يتبرع ببعض الثمن لمصلحة، أو يقرض منه". [233]


واستدلوا: بأن التبرع اليسير مأذون به عرفًا، وبأن المضارب مأذون له بالتصرف في كل ما هو من مصلحة المضاربة. [234]


ونوقش: أن الإذن الذي تضمنه العقد إنما هو إذن بما هو من أعمال التجارة، والتبرع ليس منها.[235]


القول المخـتار:
هو القول الثاني؛ لأن المضارب شريك ووكيل في نفس الوقت،[236] والوكيل يتحدد تصرفه بدلالة لفظ العقد، مع مراعاة قرائن الأحوال، وعرف الخطاب، ودلالة العرف الجاري بين التجار، وما تتحقق به مصلحة طرفي العقد.

وبما أن إدارة المصرف تضمن في خطابات الضمان مبالغ ليست باليسيرة، فإن تبرعها مرهونٌ بحصول المصلحة للمساهمين والمستثمرين، ويتّجه ذلك في اتجاهين:
الأول: تحقيق المقصد الذي قامت لأجله المصارف؛ من تقديم الخدمات المصرفية للمسلمين، وتجنيبهم الوقوع في الإثم والربا، وخدمة عملاء المصرف المودعين فيه، وردّ إحسانهم بالإحسان؛ لمصلحة تشجيعهم، وغيرهم على إجراء تعاملاتهم المالية من خلال المصرف.

والثاني: أن تصدر هذه الخطابات للعملاء الذين تثق إدارة المصرف في أنهم سيوفون بالتزاماتهم، ممن توفرت فيهم الضمانات الكفيلة بذلك؛ كقوة مراكزهم المالية، وملاءتهم، وسيرتهم الحسنة.

خلاصة الرأي في البدائل المطروحة لخطابات الضمان غير المغطاة:
من خلال استعراض البدائل السابقة، يتبين أنها دارت حول قضيتين:
الأولى: مشاركة المصرف للعميل في العملية موضوع الضمان، وإذا أدركنا أن العملاء - في كثير من الأحيان - لا يرغبون في مشاركة المصرف لهم،[237]وأدركنا كذلك أن المصرف لا يمكن أن يدخل كشريك في كل عملية تتطلب منه خطاب ضمان؛ لأن ظروفه ومبالغه قد لا تسمح له بذلك،[238] أدركنا في ذات الوقت أن هذا البديل لن يسعفنا في كثير من الحالات.

والثانية: التبرع من المصرف؛ إما بإصدار خطاب الضمان تبرعًا، أو اشتراط وجود وديعة استثمارية للعميل في المصرف، مع بقاء حقه في حصته من الأرباح، وقصْد المصرف لنفعه بذلك، وهذا البديل قد لا ترغب المصارف في تبنيه؛ لأنها لم تنشأ أصلاً للتبرعات.

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 43.41 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 42.78 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.45%)]