عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 10-11-2024, 08:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,710
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خطابات الضمان، تحرير التخريج، وبيان الحكم، ومناقشة البدائل

المبحث الثاني: البدائل الإسلامية لخطابات الضمان غير المغطاة، وتقويمها:
تنوعت مجالات خطابات الضمان، وتعددت أشكالها، حتى أصبحت جزءًا من حياة الناس، وفشا استخدامها في مشاريع الأشغال والمقاولات، وعقود التوريد، والشراء بالآجل، واستفيد منها في مجال القضاء؛ لتأمين تنفيذ بعض الأحكام، أو عودة بعض المسافرين، وفي الدوائر الجمركية والضريبية؛ لـتأمين ما هو مستحق، أو ما قد يستحق؛ خصوصًا عند سفر الأجانب عن البلاد بصفة نهائية.[99]


ومع إباحة أخذ الأجر على خطاب الضمان المغطى بالكامل، ومع ما يترتب على هذا الحصر من مصالح كبيرة، تتمثل في عدم إفساح المجال لمن ليس لهم القدرة على الوفاء بالتزاماتهم من أن يتوسعوا بالدخول في مشاريع لا قدرة لهم على تحمل تبعاتها،[100] إلا أن أغلب طالبي خطابات الضمان يبحثون عن الخطابات غير المغطاة، الأمر الذي جعل بعض المصارف الإسلامية تمتنع من إصدار خطابات الضمان،[101] ودفع بعضها الآخر في طريق البحث عن بدائل مشروعة، تُحقق للناس مصالحهم، وتحول بينهم وبين اللجوء للبنوك الربوية، وتحقق كذلك للمصرف عائدًا لقاء ما عليه من التزامات مالية.

ولقيام الحاجة إلى هذه البدائل، رأينا أحد الفقهاء المعاصرين - وهو الشيخ مصطفى الزرقا - يعلق الحكم بحرمة أخذ الأجر على الضمان على وجود البديل الإسلامي، ويلخص رأيه في هذه المسألة بقوله: "أقول بالحرمة متى وجد البديل، وإذا لم يوجد، فأنا متوقف، لا أقول بإطلاق الجواز، ولا أثبت على الحرمة". [102]


وقد أوجد الباحثون المصرفيون عددًا من البدائل الإسلامية لخطابات الضمان غير المغطاة، نناقشها في المطالب الأربعة التالية:
المطلب الأول: عرض البديل الأول: إصدار خطاب الضمان بعقد مضاربة، وتقويمه:
أولاً: عرض فكرة البديل، وذكر من قال به:
يعتمد هذا البديل على تقديم المصرف الإسلامي لخطاب الضمان غير المغطى على أساس عقد المضاربة، بحيث يكون المصرف رب المال، والعميل رب العمل، ويشتركان في العملية التي هي محل خطاب الضمان.

وقد أشار إلى هذا البديل الدكتور الغريب الناصر،[103] والدكتور محمد رامز.[104]


وقدّم أحد الباحثين نموذجًا لهذا البديل، تتلخص فكرته في التالي: [105]


يقوم المصرف بتمويل كافة العمليات التي ينفذها العميل منذ بدايتها إلى نهايتها، وهو في هذا بمثابة رب المال، ويصدر خطاب الضمان دون أيّ غطاء، أو مقابل للضمان، أو للمصروفات الإدارية.

ويعتبر العميل رب العمل، ويقوم بتنفيذ الالتزامات تجاه المستفيد.

ثم يقتسمان الربح بحسب الاتفاق بينهما، وفي حالة حصول الخسارة، أو مصادرة المستفيد لقيمة خطاب الضمان لا يحل للمصرف أن يرجع بها على العميل، ما لم يتعدّ أو يفرّط في أداء التزاماته؛ كحال المضارب في عقد المضاربة.

ثانيًا: الحكم الشرعي لهذا البديل:
يُخرّج هذا البديل على عقد المضاربة متى ما كان خطاب الضمان غير مغطى بالكامل؛ أي كان التمويل كليًا مقدمًا من المصرف.

وتُشكل على هذا البديل عدّة أمور:
الإشكال الأول: أن مجال عمليات خطاب الضمان في غير التجارة غالبًا؛ كالمقاولات، فهل يصح عقد المضاربة على ذلك؟.

مسألة: حكم عقد المضاربة على غير التجارة:
اختلف أهل العلم هل يلزم أن يكون عمل المضاربة من جنس التجارة، أم لا يلزم على قولين؟.

القول الأول: لا تجوز المضاربة إلا على عمل التجارة؛ أي البيع والشراء.
وهو مذهب الشافعية.[106]


قال النووي: "الركن الثاني: العمل، وله شروط، الأول: أن يكون تجارة، ويتعلق بهذا الشرط مسائل: الأولى: لو قارضه على أن يشتري الحنطة، فيطحنها ويخبزها، والطعام ليطبخه ويبيعه، والغزل لينسجه، والثوب ليقصره، أو يصبغه، والربح بينهما، فهو فاسد".[107]


واستدلوا: بأن المضاربة شُرعت رخصةً للحاجة، والتجارة لا ينضبط قدرها، وتمس الحاجة للعقد عليها، فاحتُمل فيها جهالة العوضين، وأما غيرها من الأعمال فهو منضبطٌ، ويمكن الاستئجار عليه، فلا تشمله الرخصة. [108]


القول الثاني: تجوز المضاربة على كل ما من شأنه تثمير المال؛ سواء كان تجارة، أو صناعة، أو زراعة، أو غيرها.
وهو مذهب الجمهور؛ من الحنفية،[109] والحنابلة،[110] والمالكية إذا لم يشترط عمل يدّ العامل.[111]


قال السرخسي: "وإذا دفع مالاً مضاربة، وأمر المضارب أن يعمل في ذلك برأيه، أو لم يأمره، فاستأجر المضارب ببعضه أرضًا بيضاء، واشترى ببعضه طعامًا، فزرعه في الأرض، فهو جائز على المضاربة؛ بمنـزلة التجارة". [112]


وقال ابن قدامة: "وإن دفع رجل دابته إلى آخر ليعمل عليها، وما يرزق الله بينهما نصفين، أو أثلاثًا، أو كيفما شرطا صحّ". [113]


وقال الدردير: "لو شرط عليه أن ينفقه في الزرع، من غير أن يعمل بيده، فلا يمنع". [114]


واستدلوا: أن كل عملٍ يؤدي إلى تثمير المال وتنميته، فحكمه كحكم التجارة. [115]


القول المختـار:
جواز المضاربة على عمل غير التجارة؛ لأنه لم يثبت كون المضاربة شُرعت رخصةً على خلاف القياس، بل هي من جنس المشاركات،[116] فسقطت الدعوى، وكل عمل يحقق غاية المضاربة من تثمير المال، وحصول الربح منه، تصح فيه.

والإشكال الثاني: أن المصرف سيقدم رأس المال وخطاب الضمان، وإذا خسرت العمليـة - محل خطاب الضمان - فمعنى ذلك أن المصرف سيخسر رأس المال، وقيمة خطاب الضمان، وإذا ربحت فمعنى ذلك أن المصرف دفع رأس المال فقط، واحتفظ بقيمة خطاب الضمان، ومنه يلوح أن رأس المال في مجموعه غير معلوم، وقد اتفق أهل العلم على اشتراط أن يكون رأس المال في المضاربة معلومًا؛ لأجل أن يكون الربح معلومًا كذلك. [117]


وإذا نظرنا من زاوية أخرى، فإن المصرف سيضمن رأس المال، وما ينتج من تصرفات العامل، ومنها تغريمه قيمة خطاب الضمان؛ بمعنى أنه سيلتزم بخسارة هي أكبر من رأس المال الذي قدّمه، فهل يصح ذلك؟.

فإذا اعتبرنا أن قيمة خطاب الضمان من رأس المال، كان رأس المال غير معلوم تحديدًا، وإذا اعتبرنا أن قيمة خطاب الضمان ليست من رأس المال، فإن المصرف في هذه الحالة قد يغرم أكثر من رأس المال الذي قدّمه.

وهذه المسألة - والتي قبلها - تُخرّج على حكم استدانة العامل دينًا على المضاربة بإذن رب المال؟.

ووجه التخريج: أن قيمة خطاب الضمان التي سيتحملها المصرف في حال إخلال العامل بالعمل تعتبر زيادة على رأس المال بعد ثبوته، وكأنه دفع إلى العامل رأس المال، وأذن له إن احتاج أن يستدين عليه، ثم هو قد يحتاج، وقد لا يحتاج، فهل يصحّ ذلك؟.

توافقت كلمة الفقهاء على جواز استدانة العامل على المضاربة، إذا كان الضمان على رب المال، وقد أذن له،[118] فيتحمله رب المال، وينفرد برأس المال كله.[119]


واستدلوا: بأن الاستدانة إذا لم تكن بإذن رب المال، كان في ذلك إثبات زيادة في رأس المال من غير رضا رب المال، فيوجب ذلك زيادة ضمان عليه من غير رضاه، وهو لا يجوز، فإن أذن جاز؛ لأن المنع لحقه، وقد زال بإذنه، ولما كان ضمان المال على ربه، طاب له ربحه. [120]


وعليه فيجوز لرب المال أن يدفع رأس المال، ويأذن للعامل في التصرف، ولو بأن يُحمّل الشركة ديناً بقدر معين، ثم يتحمّل رب المال تبعة ذلك، فإن وقعت الخسارة كانت على رب المال في ماله الذي دفعه، وفي الدين الذي أذن فيه؛ كمسألتنا.

والإشكال الثالث: هل حقيقة هذا البديل أن المصرف قال للعامل: أضمنك، بشرط أن أضارب معك، فيكون قد تركب من ضمان ومضاربة؟، أو أن حقيقته عقد مضاربة، والضمان تابعٌ له، تقرر على رب المال؛ كحكمٍ من أحكام عقد المضاربة؟.

الصحيح الثاني لأمرين:
الأول: أن محل التـزام المصرف في الضمان هو ذات محل التزام المصرف والعامل بعمل المضاربة،[121] فلم يكن المصرف ضامنًا للعامل في محل، على أن يضارب معه في محل آخر.

والثاني: أن تحقق الربح حصل بسبب اجتماع المال والعمل، ولم يكن الضمان سببًا أساسيًا فيه، ثم اشترك الطرفان في الربح والخسارة.

وقد أجاز الحنفية صورة تشبه الصورة الأولى؛ وهي اجتماع القرض مع المضاربة، والقرض أشدّ من الضمان؛ إذ غاية الضمان أن يؤول إلى القرض، ففي المبسوط: "لو دفع ألف درهم إلى رجل على أن يكون نصفها قرضًا عليه، ويعمل في النصف الآخر بشركته يجوز ذلك". [122]


وذلك لأن النفع مشترك بين الاثنين، ولم يقصد المقرض تمحض النفع له، ونحوها ما ذكره ابن القيم، قال: "ونظير هذا: ما لو أفلس غريمه، فأقرضه دراهم، يوفيه كل شهر شيئًا معلوماً من ربحها، جاز؛ لأن المقترض لم ينفرد بالمنفعة... ونظير ذلك أيضًا: إذا أقرض فلاحه ما يشتري به بقرًا، يعمل بها في أرضه، أو بذرًا يبذره فيها... وذلك لأن المستقرض إنما يقصد نفع نفسه، ويحصل انتفاع المقرض ضمنًا، فأشبه أخذ السفتجة به، وإيفاءه إيّاه في بلد آخر، من حيث إنه مصلحة لهما جميعًا، والمنفعة التي تجرّ إلى الربا في القرض هي التي تخص المقرض؛ كسكنى دار المقترض، وركوب دوابه، واستعماله، وقبول هديته، فإنه لا مصلحة له في ذلك، بخلاف هذه المسائل فإن المنفعة مشتركة بينهما، وهما متعاونان عليها، فهي من جنس التعاون والمشاركة".[123]


ومما سبق، يظهر جواز هذا البديل على الصورة المذكورة آنفًا؛ إذ لا محذور يترتب عليه، ولا مخالفة فيه لشروط عقد المضاربة، والله تعالى أعلى وأعلم.

المطلب الثاني: عرض البديل الثاني: إصدار خطاب الضمان بعقد شركة، وتقويمه:
أولاً: عرض فكرة البديل، وذكر من قال به:
(أ‌) تعتمد أصل فكرة هذا البديل على أن يشترك المصرف مع العميل في العملية موضوع الضمان، ويصدر المصرف خطاب الضمان للمستفيد باعتباره شريكًا للعميل، لهما في الغنم، وعليهما من الغرم، وهما ضامنان لمال الشركة، وللتصرفات المالية المتعلقة بذمّتها.

وممن عرض هذا البديل الدكتور الصديق الضرير، وبيّنه بقوله: "اشتراك البنك مع طالب خطاب الضمان في العملية، إذا كانت قابلة للمشاركة، ويصدر البنك خطاب الضمان في هذه الحالة باعتباره شريكًا أصيلاً، لا ضامنًا ".[124]


(ب‌) وقد حوّر في هذه الفكرة الدكتور محمد الصاوي، وعلق عليها بعبارة في هامش أحد كتبه، فكتب ما نصّه: "يعتبر البنك من تاريخ وفائه بقيمة الخطاب شريكًا في العملية الاستثمارية، التي صدر من أجلها هذا الخطاب".[125]


(ج) وتبنت هذا البديل واقعًا هيئة الرقابة الشرعية ببنك فيصل الإسلامي المصري، فأصدرت قرارها: "ترى الهيئة أنه يمكن للبنك، حينما يطلب منه العميل إصدار خطاب أن يشارك هذا العميل في العملية المطلوب من أجلها الضمان، وذلك بعد دراستها، والاطمئنان إلى ظروف مباشرتها". [126]


وقدّم البنك نموذجًا، تقوم فكرته على تغطية المصرف احتياجات العملية موضوع الضمان، عن طريق فتح حساب مشاركة على النحو التالي:
(1) يقدم المصرف للعميل رأس المال التمويلي للعملية، ويقدم كذلك خطاب الضمان، ويحتسب قيمة 25% من قيمة الخطاب؛ كتمويل (رأس مال في العملية)، ويحتسب كذلك قيمة الخدمات المصرفية، التي ينفذها لصالح العملية كأجر مقطوع، أو كنسبة من الأرباح.

(2) بينما يقوم العميل بإدارة العمل، ويحصل على 30% من الأرباح قبل توزيعها؛ كأجر مقابل إدارته.

(3) وفي نهاية العملية يتم ردّ أصل خطاب الضمان، ثم تقسم الأرباح بحسب الاتفاق. [127]


ثانيًا: الحكم الشرعي لهذا البديل:
أ- حكم أصل الفكرة:
إذا كان التمويل من المصرف جزئيًا فالشركة شركة عنان، وإن كان كليًا فالشركة شركة مضاربة،[128] وكلا الشركتين مشروعة بالإجماع،[129] وقد سبق الحديث عن بعض الإشكالات، والجواب عنها. [130]


ب- حكم التحوير الداخل على هذا البديل:
تبرع المصرف ابتداءً بخطاب الضمان، ثم اعتباره من تاريخ الوفاء بقيمته شريكًا في العملية الاستثمارية، التي صدر من أجلها هذا الخطاب تعليقٌ لعقد الشركة بين العميل والمصرف على وفاء الطرف الأخير بقيمة الخطاب للمستفيد.

وتتخرّج هذه المسألة على حكم تعليق إنشاء عقد الشركة ؟.

ووجه التخريج: أن تعليق العقد هو ربط حصول مضمون جملة، بحصول مضمون جملة أخرى، بأداة من أدوات الشرط،[131] ومنه قول المصرف: إذا سددتُ عنك قيمة الضمان، فأنا شريكك في محله، قال في الإنصاف: "لو قال: إذا قبضت الدين الذي على زيد، فقد ضاربتك به، لم يصح، وله أجرة تصرفه، قال في الرعاية: قلت: يحتمل صحة المضاربة؛ إذ يصح عندنا تعليقها على شرط".[132]


مسألة: حكم تعليق عقد المضاربة والشركة:
اختلف أهل العلم في حكم تعليق عقد المضاربة - ومثلها الشركة - على قولين:
القول الأول: لا يصح تعليق عقد المضاربة.
وهو مذهب الجمهور؛ من الحنفية،[133] والمالكية،[134] والشافعية. [135]


قال ابن عابدين: "لم أر من صرح بصحة التعليق في المضاربة".[136]


وقال الدردير: "أو قراض أُجّل؛ كاعمل به سنة، أو سنة من الآن، أو إذا جاء الوقت الفلاني فاعمل به فيه، ففاسد". [137]


وقال الشربيني[138]: "فإن علقه على شرط؛ كأن قال: إذا جاء رأس الشهر فقد قارضتك، أو علق تصرفه؛ كأن قال: قارضتك الآن، ولا تتصرف حتى ينقضي الشهر، لم يصح". [139]


واستدلوا بثلاثة أدلة:
الدليل الأول (من جهة بيان حقيقة العقد): أن الرضا ركن في إنشاء العقد، ولا يتمّ الرضا إلا بشرط الجزم، ولا جزم في التعليق.[140]


ويناقش: بأن الجزم يحصل مع التعليق؛ كالوصية.

والدليل الثاني (من جهة التخريج على الفروع): أنه عقدٌ يبطل بالجهالة، فلا يصح تعليقه؛ كالبيع والإجارة. [141]


ونوقش: أن البيع والإجارة لم يدل الدليل الصحيح على منع تعليقهما، بل قد صحّ تعليق كثير من المعاملات بالأدلة الصحيحة؛ فقد عُلّق الضمان في القرآن بالشرط، قال تعالى: ﴿ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ﴾،[142] وعُلّق مهر تزويج موسى - عليه الصلاة والسلام - بابنة صاحب مدين، قال تعالى: ﴿ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ ﴾،[143] وعلّق عمر رضي الله عنه ربحه في المزارعة بالشرط، فكان يدفع الأرض إلى من يعمل فيها على أنه إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر، وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا.[144]


والدليل الثالث (من جهة منع أسباب الغرر): أن التعليق فيه معنى القمار والمخاطرة؛ حيث يتردد العقد بين الوجود إذا وُجد الشرط، أو العدم إذا لم يوجد.

ويناقش: أن القمار الممنوع ما يترتب عليه أكلٌ لمال الغير بالباطل، أما تردد العقد ههنا فلا يترتب عليه محظور.


القول الثاني: يصح تعليق عقد المضاربة.
وهو مذهب الحنابلة. [145]


قال البهوتي: "ويصح تعليقها؛ أيّ المضاربة، ولو على شرط مستقبل". [146]


واستدلوا بدليلين:
الدليل الأول (من جهة التخريج على الفروع): أن المضاربة إذنٌ بالتصرف، فيصح تعليقها على شرطٍ مستقبل؛ كالوصية.[147]


ونوقش: أن الوصية لا يؤثر فيها غرر الجهالة، فلا يؤثر فيها غرر الشرط؛ بخلاف المضاربة.[148]


والدليل الثاني (من جهة التخريج على الأصول): أن الأصل في العقود والشروط الإباحة، وقد تدعو الحاجة إلى التعليق. [149]


القول المخـتار:
صحة تعليق المضاربة؛ لعدم ترتب المحظور عليه، ولأنه قد توجد الحاجة إلى ذلك، واستئناسًا بتعليق عمر رضي الله عنه الربح في المزارعة بالشرط، مع كونه ركنًا فيها؛ والمضاربة والمزارعة كلاهما من جنس المشاركات.

ج- حكم نموذج خطاب الضمان الصادر من بنك فيصل الإسلامي المصري:
وتتعلق به ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: احتساب قيمة خطاب الضمان، أو بعضها ضمن رأس مال الشركة:
ويلاحظ على هذه الصيغة:
(1) أن فيها مخاطرةً وغررًا من وجهين:
(أ‌) أن نسبة 75% من قيمة خطاب الضمان ليس لها مقابل من الربح، فهي مخاطرة بغير نفع.

(ب‌) وأن نسبة 25% من قيمة الخطاب تحتسب ضمن قيمة المشاركة، مع أن المصرف قد لا يسدد قيمة الخطاب فعلاً إلى المستفيد، فيحصل بذلك على أرباح أموالٍ قد لا يدفعها. [150]


ويناقش هذا الاعتراض: بأن رصد رأس المال، أو جزء منه تحت طلب العامل كافٍ في صحة عقد الشركة والمضاربة؛ كما سيأتي. [151]


(2) أن اعتبار خطاب الضمان، أو جزء منه تمويلاً مقدّمًا من المصرف؛ كرأس مال في الشركة، يظهر المنع منه لوجوه:
الأول: أن خطاب الضمان يُعدّ استعدادًا للإقراض - كما سبق في تخريحه -،[152] وإذا كان القرض الفعلي لا يصح أن يكون رأس مال للمشاركة؛ لأنه دين، والدين لا يكون رأس مال في المشاركات،[153] فالاستعداد للإقراض من باب أولى.

والثاني: لما يترتب على ذلك من أخذ الأجر على الضمان، وسبق منعه. [154]


والثالث: أن التزام المصرف في هذا الجزء من رأس المال سيصبح التزاماً تابعاً لالتزام العميل، وليس التزامًا أصليًا، فعاد إلى كونه ضامناً للعميل، لا شريكًا معه، واستتر الضمان تحت عباءة المشاركة. [155]


والرابع: أن احتساب قيمة خطاب الضمان من رأس المال سيؤدي إلى عدم تسليم رأس المال، أو جزء منه للعامل، فهل يصح هذا الإجراء؟.

والجواب: فيه تفصيل، ويتّضح في الآتي:
(أ‌) إن كانت الشركة بين المصرف والعميل شركة عنان، فقد اختلف أهل العلم في اشتراط تسليم رأس مال الشركة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يشترط حضور المالين حال عقد الشركة.
وهو مذهب الشافعية،[156] والحنابلة. [157]


ففي مغني المحتاج: "ويشترط خلط المالين بحيث لا يتميزان... ولا بدّ من كون الخلط قبل العقد، فإن وقع بعده في المجلس لم يكفِ على الأصح، أو بعد مفارقته لم يكفِ جزمًا". [158]


وفي كشاف القناع: "ومنها؛ أيّ شروط الشركة: حضور المالين... فلا تصح الشركة على مال غائب، ولا على مال في الذمّة". [159]


واستدلوا بدليلين:
الدليل الأول (من جهة مقصود العقد): أن المقصود من الشركة الربح، ولا يحصل إلا بالتصرف، ولا يمكن التصرف في المال الغائب. [160]


ويناقش: أنهما قد يعملان ببعض المال، مع تأخر مال أحدهما، أو بعضه، فيحصل التصرف لصالح الشركة.

والدليل الثاني (من جهة أخصّ أحكام العقد): أنه لا يتصور خلط المالين قبل عقد الشركة مع غيابهما، أو غياب أحدهما، والخلط شرطٌ لصحة الشركة. [161]


ويناقش: أنه وقع الخلاف في اشتراط خلط مالي الشركة؛ إذ مقتضى الشركة الإذن بالتصرف، والمشاركة في الربح، والخلط شرط زائد عليهما، فلا يجب.[162]


القول الثاني: لا يشترط تسليم المالين حال العقد، ويكفي تسليمهما عند الحاجة إليهما.
وهو مذهب الحنفية. [163]


ففي درر الحكام: "يشترط أن يكون رأس المال حين عقد الشراء حاضرًا؛ أيّ غير غائب، ولا يشترط حضوره عند عقد الشركة". [164]
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.06 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.43 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.53%)]