خطابات الضمان، تحرير التخريج، وبيان الحكم، ومناقشة البدائل
د. طالب بن عمر بن حيدرة الكثيري
المبحث الأول: تحرير المسألة الممنوعة:
لتحرير المسألة الممنوعة نحتاج أن نستعرض أمرين: صورة المسألة، ثم محل المنع فيها، ونبسطهما في مطلبين:
المطلب الأول: صورة المسألة:
أولاً: تعريف خطاب الضمان:
خطاب الضمان هو تعهدٌ يصدره المصرف - بناءً على طلب عميله، وبمناسبة التزام ملقى عليه - بدفع مبلغ نقدي معين، أو قابل للتعيين، بمجرد طلب طرف ثالث (المستفيد)، خلال مدّة محددة.[1]
وصورته:
(1) أن يرغب العميل في الدخول في التزام - كمناقصة مثلاً - مع جهة معينة (المستفيد).
(2) فيتوجه إلى المصرف لتقوية مركزه المالي، ويطلب منه إصدار تعهد بدفع مبلغ مالي، بمجرد طلب الجهة المستفيدة؛ سواء كان طلبًا مجردًا، أو مبررًا، أو مصحوبًا بتقديم مستندات محددة، تثبت عجز العميل عن الوفاء بالتزاماته، ويصدر التعهد بدفع المبلغ مع غضّ النظر عن معارضة العميل، أو موافقته.
(3) ويحدد المصرف مع العميل أجل هذا التعهد، ويطالبه في العادة بتقديم بعض الضمانات النقدية أو العينية.
(4) يتقاضى المصرف من العميل على إصدار هذا التعهد عمولة محددة، بحسب ما يتفقان عليه.
وخطاب الضمان ينقسم - باعتبار الضمانات المقدَّمة من العميل - إلى قسمين:
(1) خطاب مغطى تغطية كاملة: متى كان الضمان العيني، أو النقدي يغطي قيمة خطاب الضمان بالكامل.
(2) خطاب مغطى تغطية جزئية: متى ما كانت هذه الضمانات تغطي جزءاً من قيمة خطاب الضمان.
ويودع مبلغ الضمان في حساب خاص، يسمى احتياطي خطاب الضمان، ولا يجوز للعميل أن يتصرف فيه، حتى ينتهي التزام المصرف الناشئ عن خطاب الضمان. [2]
ثانيًا: التخريج الفقهي لخطاب الضمان:
اختلف الفقهاء المعاصرون في التخريج الفقهي لخطاب الضمان على خمسة تخريجات:
التخريج الأول: أن خطاب الضمان عقد ضمان.[3]
ووجهه (من جهة حقيقة العقد): أن المصرف يلتزم بدفع مالٍ واجبٍ في ذمّة غيره لشخصٍ ثالث، وهذه حقيقة الضمان، أن تُضمّ ذمّة إلى أخرى في المطالبة بالحق. [4]
ونوقش: أن بين عقد الضمان وخطاب الضمان فروقًا: [5]
أ- في أحكامه:
(1) أن خطاب الضمان ينعقد بغير إذن المضمون له (المستفيد)، ولا رضاه.
وأجيب: أن المالكية والحنابلة قد أجازوا ذلك، وهو كذلك أحد قولي الشافعية، وقول لأبي يوسف من الحنفية،[6] وقد دلّ عليه ما أخرجه البخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، وفيه أن أبا قتادة رضي الله عنه ضمن رجلاً مات، وعليه دين، بغير قبول المضمون له، وأقرَّه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.[7]
ثم إن رضا المضمون له موجود بحسب العرف المصرفي، القاضي بقبول خطابات الضمان من المصارف المعتمدة في الدولة. [8]
(2) أن خطاب الضمان مؤقت بمدّة محددة.
وأجيب: أن الحنفية أجازوا توقيت الضمان،[9] والتوقيت شرط من الشروط الصحيحة التي فيها منفعة للطرفين، وضبط المعاملات. [10]
(3) أن خطاب الضمان كفالة في حقوق بعضها لم يجب بعد.
وأجيب: أن جمهور العلماء - خلافًا للشافعية - أجازوا الكفالة بما لم يجب؛ لأنها من باب توثقة الحقوق،[11] وباب التوثيقات أوسع من باب المعاوضات. [12]
ب- في حقيقته:
(1) أن حقيقة الضمان ضمّ ذمّة إلى أخرى في المطالبة بالدين، والمستفيد إنما يطالب المصرف دون العميل، فلم تتوجه المطالبة للاثنين.
ويمكن أن يجاب من وجوه:
الأول: أن هذا الإجراء مما يسوغ اتخاذه على أساس التوسع في مشروعية الشروط التعاقدية الجعلية.
والثاني: أن المستفيد يطالب العميل بالوفاء بالتزاماته، ويطالب المصرف بدفع مبلغ خطاب الضمان، فتوجهت مطالبته للاثنين.
والثالث: أن يقال: إنه شرط يخالف مقتضى العقد وحقيقته، فيلغى شرعًا، وتصحح صيغة خطاب الضمان؛ لتتوافق مع الصياغة الشرعية، وهو في ذلك لا يخرج في تخريجه عن كونه عقد ضمان؛ إذ هذا هو مقصوده.
(2) أن خطاب الضمان يضمن للمستفيد ما يدَّعيه بدون أيّ إثبات، وبغضّ النظر عن أيّة معارضة يبديها العميل، بخلاف عقد الضمان المسمّى في الشريعة؛ إذ لا يلتزم الضامن بالوفاء إلا إذا ثبت دين المضمون عنه. [13]
ويمكن أن يجاب من وجهين:
الأول: أن من أنواع خطاب الضمان ما يُشترط فيه تقديم المستندات المثبِتة للحق.
والثاني: أن إصدار خطاب الضمان أساسًا قام بمناسبة الالتزام بين العميل والمستفيد، وجاء الضمان تابعًا لهذا الالتزام، وليس مستقلاً عنه.
التخريج الثاني: أن خطاب الضمان عقد جعالة. [14]
وجهه (من جهة أثر العقد): أن المصرف يقوم بتعزيز المركز المالي للعميل، وهذا عمل منه، ومنفعة يقدمها لعميله، يستحق عليها جعلاً؛ فكأنّ العميل قال: أيّ مصرف تعهد بوفائي بشرطي، فله كذا. [15]
ويمكن أن يناقش: أن تعزيز المركز المالي جاء من خلال عقد الضمان، فرجع تخريج العقد إليه.
التخريج الثالث: أن خطاب الضمان عقد وكالة. [16]
وجهه (من جهة ما يترتب على العقد): أن مآل التزام المصرف - بموجب خطاب الضمان - أن يقوم بسداد الالتزامات المستقبلية على عميله؛ نيابةً عنه، والكفالة بالأمر وكالة بالأداء.
ويمكن أن يناقش من وجهين:
الأول:أن عقد الوكالة من العقود العامة، وتندرج تحته عدّة عقود؛ فإن كانت الوكالة تُنشئ على الوكيل مستلزمات مالية، كما هو الحال في خطاب الضمان غير المغطى؛ حيث يغرم المصرف مالاً، ثم يستوفيه من العميل؛ فإن هذا العقد بمعناه الخاص هو عقد ضمان.
والثاني: أن حقيقة عقد الوكالة تفويض الوكيل بالأداء عن موكله، دون أن يتحمل عنه، ويشغل ذمّته بدينه.
التخريج الرابع: إن كان خطاب الضمان مغطى بالكامل فهو عقد وكالة، وإن كان مغطى تغطيةً جزئيةً فهو عقد ضمان في الجزء غير المغطى، وعقد وكالة في الجزء المغطى.[17]
وجهه (من جهة ما يترتب على العقد): أن عمل المصرف في حالة خطاب الضمان المغطى لا يتعدى كونه وكالةً بالأداء عن العميل من ماله؛ إذ لا كفالة بين الطرفين، بخلاف إذا ما كان جزء من الخطاب غير مغطى.
ويمكن أن يناقش من وجهين:
الأول: أن الطرف الثالث إنما يطلب ضمانة المصرف للعميل في الحالين، وهذا ما يطلبه العميل من المصرف؛ لتقوية مركزه المالي، وليطمئن المستفيد أن حقه لن يضيع، فهو المقصود من خطاب الضمان، لا أن يكون المصرف مجرد وكيلٍ عن العميل.
ويمكن أن يجاب من وجهين:
الأول: أن المصرف له صفتان في حالة خطاب الضمان المغطى كلياً، فهو وكيل بالنسبة للعميل، وهو كفيل في علاقته مع العميل، ومع الطرف الثالث. [18]
والثاني: أن طالب خطاب الضمان قد لا يقصد منه تقوية مركزه المالي، بل توفير السيولة، وعدم تجميد مبلغ التأمين.
ويمكن أن يجاب: أن هذا قصد تابع للقصد الأساسي، والمستفيد إنما يطالبه بالضمانة.
والوجه الثاني من المناقشات: أن المصرف ملتزم للمستفيد بغضّ النظر عن وجود الغطاء، أو عدمه، ثم إن غطاء خطاب الضمان قد يكون نقدًا، وقد يكون غير نقد، فإن كان غير نقد، فإن المصرف سيسدد من عنده، والغطاء رهن عنده، فهو ضامن ومرتهن، وإن كان الغطاء نقدًا، وانتفع به المصرف، فهو قرضٌ عنده، وهو ضامن للمبلغ، وليس - في الحالين- وكيلاً فيه.[19]
التخريج الخامس: أنه عقد من العقود المستحدثة، وليس له مثال في العقود الشرعية المسمّاة. [20]
وجهه (من جهة أحكام العقد): أن الضمان المصرفي أصبح خدمة حديثة تخصصت فيها المصارف، وتنفق عليها أموالاً طائلة، وتقدمها لكبار رجال الأعمال والمستثمرين في المشاريع ذات الربح الوفير، وقد أصبحت مطلبًا يوميّاً في أسواق التجارة والاستثمار، وليس في العرف التجاري أن هذه الخدمة تقدم تبرعاً، وهذا كله بخلاف مفهوم الضمان الفقهي الذي أساسه عقد تبرع لمحتاج، تقتضيه الأخوة الإسلامية. [21]
ونوقش من ثلاثة وجوه:
الأول: أن التبرع حكم من أحكام عقد الضمان، وتخريج العقد إنما ينبني على حقيقته ومقصده، ثم إن من الأهداف التي أُسست لأجلها المصارف الإسلامية تحقيق معاني التكافل، والأخوة الإسلامية، وهي في ذلك تفارق المصارف الربوية.
الثاني: أن عقد الضمان لم يكن بعيدًا عن النشاط التجاري من قبل، بل كانت بعض صوره مرتبطة به؛ كضمان الدرك،[22] وضمان السوق،[23] ولم يبح عالمٌ من قبل تحول هذه الضمانات إلى عقود معاوضات. [24]
والثالث: لو صحّ هذا الاستدلال لقيل مثله في تجويز إقراض رجال الأعمال بزيادة؛ لأجل تمويل أعمالهم الاستثمارية. [25]
القول المخـتار:
لم يخرج خطاب الضمان المصرفي في حقيقته، ومقصد عاقديه، وشكله، واسمه، وأخصّ أحكامه عن كونه عقد ضمان، في صورتيه المغطاة وغير المغطاة:
أ) فحقيقته: ضمّ ذمّة إلى ذمّة في المطالبة بالدين، وهي حقيقة عقد الضمان، ويختار المستفيد - بالشرط - من يوجّه خطابه له، ولا يُبرئ هذا الضمان العميل من الوفاء بالتزاماته.
لذا نجد أن القانون الفرنسي خرّج خطاب الضمان على عقد الضمان.[26]
ب) ومقصد عاقديه أساسًا: تقوية المركز المالي للعميل، والتوثق من وفائه بالتزاماته، بضميمة تعهد شخص ملئ، وإن صادف ذلك بعض المصالح التابعة؛ كتوفير السيولة.
ج) وشكل العقد: ثلاثي، وترتبط الأطراف الثلاثة بعقد الضمان، ولم تخرج العلاقات المصاحبة للعقد عن متمّمات عقد الضمان، فالعلاقة بين العميل والمستفيد ترتب عليها دين الضمان، والعلاقة بين العميل والمصرف ترتب عليها تقديم رهنٍ لسداد هذا الدين.
د) وكلاهما يطلق عليه اسم الضمان.
هـ) والمصرف يده على الغطاء الذي قدّمه العميل يد ضمان، وهذا حكم من الأحكام المختصّة بعقود الضمان، ولو كان العقد وكالة لكانت يده يد أمانة، لا يضمن فيه المال إلا إذا تعدّى أو فرّط.
أما كون التبرع من أخصّ أحكام عقد الضمان، وخطابات الضمان المصرفية لا تقوم على التبرعات، فهذا هو الحكم المترتب على التخريج، ونناقشه في المطلب الثاني.
وقد جاء في كلام أهل العلم ما يدل على أن الضمان المغطى بالكامل لا يخرج عن كونه عقد ضمان، ومن ذلك:
• ما ذكره ابن عابدين في حاشيته: "إذا دفع الأصيل - وهو المديون - إلى الكفيل المال المكفول به، ليس للأصيل أن يسترده من الكفيل، وإن لم يعطه الكفيل إلى الطالب، قال في النهر: لأنه - أيّ الكفيل - ملكه بالاقتضاء... واعلم أن ما مرّ من أن الكفيل ملك المؤدى، فذلك فيما إذا دفعه إليه الأصيل على وجه القضاء، بأن قال له: إني لا آمن أن يأخذ منك الطالب حقه، فأنا أقضيك المال قبل أن تؤديه... تنبيه: لو قضى المطلوب الدين إلى الطالب، فللمطلوب أن يرجع على الكفيل بما أعطاه". [27]
• وفي المهذب للشيرازي[28]: "فإن دفع المضمون عنه مالاً إلى الضامن، وقال: خذ هذا بدلاً عما يجب لك بالقضاء، ففيه وجهان: أحدهما: يملكه؛ لأن الرجوع يتعلق بسببين: الضمان والغرم، وقد وجد أحدهما، فجاز تقديمه على الآخر؛ كإخراج الزكاة قبل الحول، وإخراج الكفارة قبل الحنث، فإن قضى عنه الدين استقرّ ملكه على ما قبض، وإن أُبرىء من الدين قبل القضاء، وجب ردّ ما أخذ؛ كما يجب ردّ ما عجّل من الزكاة إذا هلك النصاب قبل الحول.
والثاني: لا يملك؛ لأنه أخذه بدلاً عما يجب في الثاني، فلا يملكه؛ كما لو دفع إليه شيئًا عن بيعٍ لم يعقده، فعلى هذا يجب ردّه، فإن هلك ضمنه؛ لأنه قبضه على وجه البدل، فضمنه؛ كالمقبوض بسوم البيع". [29]
• وقال ابن قدامة: "وإذا دفع المضمون عنه قدر الدين إلى الضامن، عوضًا عما يقضيه في الثاني..."، ثم ذكر الوجهين السابقين في كلام الشيرازي، ثم قال: "فإن قضى الدين استقرّ ملكه على ما قبض، وإن برئ قبل القضاء وجب ردّ ما أخذ؛ كما يجب ردّ الثمن إذا لم يتمّ البيع". [30]
المطلب الثاني: بيان محل المنع (طلب الربح من خلال الضمان):
لما كان خطاب الضمان المصرفي في حقيقته عقد ضمان، وكان يرتبط - في صورته التقليدية - بأخذ الأجر عليه، كان هذا الارتباط هو محل الخلاف والتجاذب.
مسألة: حكم أخذ الأجر على الضمان:
اختلف الفقهاء في حكم أخذ الأجر على الضمان على ثلاثة أقوال:
القول الأول: منع أخذ الأجر على الضمان.
وهو قول الجمهور؛ من الحنفية، [31] والمالكية،[32] والشافعية،[33] والحنابلة،[34] ونقل ابن المنذر[35] فيه الإجماع، ثم ذكر خلاف ابن راهويه،[36] واختارته بعض الهيئات الشرعية،[37] وجمعٌ من الفقهاء المعاصرين. [38]
قال السرخسي: "ولو كفل رجل عن رجلٍ بمال على أن يجعل له جعلاً، فالجعل باطل".[39]
وقال الإمام مالك: "الحمالة بالجعل حرام". [40]
وقال الإمام الشافعي: "الكفالة استهلاك مال، لا كسب مال". [41]
وقال ابن قدامة عن الضمان: "التزام مالٍ، لا فائدة له فيه"،[42] وقال أيضًا: "والضمين والكفيل على بصيرة أنه لا حظّ لهما". [43]
واستدلوا من السنة، والمعقول:
(1) استدلوا من السنة: بما أخرجه الخمسة إلا النسائي من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الزعيم غارم، والدين مقضي"،[44]والزعيم: الكفيل والضمين، وغرامته: إعطاؤه ما ضمنه، وتكفل به. [45]
ووجه الدلالة: أن الضمان عقد غرم، فلا يجوز صرفه إلى عقد غنم، واسترباح. [46]
(1) واستدلوا من المعقول بأربعة أدلة:
الدليل الأول (من جهة الاستدلال بأصل منع الربا): أن الضمان بالطلب يعتبر استقراضًا، والزيادة في القرض ربا.[47]
ونوقش من وجهين:
الوجه الأول:أن الأجر في الضمان عوض عن محض الالتزام بالدين؛ سواء أدّاه الضامن فيما بعد، أم لا، والأجر على هذا الالتزام لا على أداء الدين وإقراض المضمون عنه. [48]
ويجاب: أن الالتزام في الضمان التزامٌ بالوفاء إذا لم يوفِ المضمون عنه، ثم رجوع الملتزِم عليه، فحقيقته الالتزام بالإقراض.
ومن وجهٍ آخر: أنه لا يمكن القول بانفكاك الالتزام بالدين عن الدين؛ إذ لا يوجد التزام بالدين دون وجود دين، فأخذ العوض عن الالتزام بالدين هو عين أخذ العوض عن أداء الدين؛ لأن الالتزام فرع الدين. [49]
والوجه الثاني: أن الضامن بعد وفائه يكون دائنًا للمضمون عنه، وليس مقرضاً له؛ إذ ليس هذا الدين ناشئًا عن قرض، والدين أعمّ من القرض، وأحكامه تختلف عنه. [50]
وأجيب من وجهين:
الأول: أنه لا فرق بين أن يعطي الضامن المضمون عنه المال؛ ليسدد دينه، وبين أن يسدد دينه مباشرة بإذنه، ثم يرجع عليه. [51]
والثاني: وعلى التسليم بالفرق بينهما، فإن الربا يجري في الديون كما يجري في القروض، وتسويغ الزيادة بهذه الحجة يفتح باب الربا على مصراعيه؛ إذ لا يعجز المرابي - بدلاً من أن يقرض المحتاج - أن يكفله، ثم يؤدي عنه، ويأخذ الزيادة. [52]
والدليل الثاني (من جهة منع أسباب الغرر): أن الضمان بأجر يتضمن الغرر؛ إذ لا يدري المضمون عنه الباذل للأجرة؛ هل سيحتاج إلى وفاء الضامن لدينه، أم لا؟.[53]
ونوقش: أن الغرر حاصل لو كان الأجر مقابل الإقراض، لكنه هنا مقابل محض الالتزام، وهو حاصل جزمًا.[54]
ويجاب: كما سبق، بأن الالتزام إنما هو التزام بالإقراض، وأداء الدين عن المضمون عنه؛ فبقيت علة المنع.
الدليل الثالث (من جهة الاستدلال بمسلك النظر في المقاصد): أن الضمان من القُرب والتبرعات، وأخذ الأجر عليه يخرجه عن موضوعه.[55]
ونوقش من ثلاثة وجوه:
الأول: أن العرف الجاري بالتبرع بالضمان قد تغير، فليس في العرف المصرفي أن تُقدم هذه الخدمة من باب المروءة والشهامة، بل أصبحت مهنة تمتهن بعوض. [56]
وأجيب: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الزعيم غارم"،[57] هو الذي دلّ على منع أخذ الأجر على عقود الضمان، وليس مجرد العرف. [58]
والثاني: عدم التسليم بأن كل أبواب المعروف والقُرب لا يجوز أخذ الأجر عليها، بل يجوز أخذ الأجر على تعليم القرآن وعلى الشهادة. [59]
وأجيب: أن أخذ الأجر على تعليم القرآن والشهادة لا يترتب عليه ما يترتب على أخذ الأجر على الضمان من مفسدة الانجرار إلى الربا، والوقوع في الغرر، ثم إن في الأمثلة السابقة عملاً يؤديه الإنسان، ويُشغل وقته، وليس كذلك الضمان المجرد. [60]
والثالث: على التسليم بأن عقد الضمان عقد تبرع، فلا يمتنع أن ينقلب بالتراضي إلى عقد معاوضة، فالهبة تنقلب بالتراضي على العوض إلى هبة الثواب، والعارية إلى إجارة. [61]
ويجاب: بأن الضمان مع العوض ينقلب إلى قرضٍ بمنفعة، فيترتب عليه المحظور، بخلاف ما سبق.
والدليل الرابع (من جهة الاستدلال بمسلك الفروق بين العقود): أن الأجر إنما يُستحق في مقابل عملٍ، وليس الضمان كذلك، فيكون من أكل المال بالباطل،[62] ويوضحه أن المضمون عنه إذا أدّى الدين لم يحصل على شيء من الضامن يستحق العوض. [63]
ونوقش: أن الالتزام بالضمان منفعة مبذولة متقومة في العرف المصرفي، فتقابل بأجرة؛ كالعمل. [64]
وأجيب: أن منفعة الالتزام بالضمان ليست محلاً للمعاوضة، كمنفعة الإقراض؛ لأن حقيقتها استعداد للإقراض، ومقصودها تعزيز مركز طالبها؛ كمقصود الإقراض. [65]
القول الثاني: جواز أخذ الأجر على الضمان.
وهو قول إسحاق بن راهويه،[66] واختاره البنك الإسلامي الأردني،[67] وجمعٌ من المعاصرين.[68]
ففي مسائل الإمام أحمد بن حنبل وابن راهويه: "قال سفيان: [69] إذا قال رجلٌ لرجلٍ: اكفل عنّي، ولك ألف درهم؛ الكفالة جائزةٌ، ويرد عليه ألف درهم، قال أحمد: ما أرى هذا يأخذ شيئًا بحق، قال إسحاق: ما أعطاه من شيءٍ فهو حسن". [70]
واستدلوا بأربعة أدلةٍ:
الدليل الأول (من جهة الاستدلال بمسلك التخريج على الفروع): قياس مشروعية أخذ الأجر على الضمان على مشروعية أخذ الأجر على الجاه.[71]
ونوقش من وجهين:
الأول: أن من أجاز أخذ الأجرة على الجاه، قيّد ذلك بأن يصاحب بذل الجاه كلفة وتعب، يقابل بأجر عرفًا،[72] والأجر إنما هو لبذل هذا الجهد، لا للجاه، الذي يجب عليه بذله.[73]
وأجيب: أن من أهل العلم من أجاز أخذ الأجرة على الجاه مطلقًا،[74] ثم إن الضمان المصرفي اليوم تُنفق عليه أموال طائلة، وتُخصص لأجله قطاعات بشرية مدرّبة، وتقنيات فنية حديثة، ففيه كلفة، وبذل مال وعمل.
والثاني: أن الضمان مؤداه القرض - بخلاف بذل الجاه -؛ فتمنع فيه الزيادة. [75]
ويجاب: أن هذا مانع من الصور التي يؤول فيها خطاب الضمان إلى القرض، دون أن يمنع ذلك كل صوره.
الدليل الثاني (من جهة الاستدلال بمسلك التخريج على القواعد): فيُخرّج أخذ الأجر على الضمان على قاعدة الخراج بالضمان،[76] فمن ضمن مالاً فله من ربحه ومنافعه؛ إذ الضمان نوع عملٍ يستحق عليه باذله أجرًا، أو ربحًا. [77]
ونوقش من وجهين:
الأول: أن المخاطرة التي يتعرض لها الضامن من جنس المخاطرة التي يتعرض لها المقرض، بل هي في المقرض أكبر، ومع ذلك لم يحل له أخذ الزيادة على قرضه. [78]
ثم إنّ المخاطرة في خطاب الضمان تكاد تكون معدومة؛ لشدة استيثاق المصارف لحقها، من خلال الغطاء النقدي، والرهون، والضمانات الأخرى التي تشترطها. [79]
والثاني: أن مقتضى قاعدة الخراج بالضمان المشاركة في الأرباح والخسائر، وهذا جارٍ في عقود المعاوضات والمشاركات، ولا علاقة له بضمان الديون؛ إذ موضوع القاعدة ما كان الضمان فيه تبعاً، لا أصلاً. [80]
الدليل الثالث (من جهة الاستدلال بمسلك التفريق بين العقود): أن الضمان ليس من الخير الواجب على فاعله، فلا يُمنع من أخذ الأجر عليه.[81]
ويمكن أن يناقش: أن الضمان لا يجب على فاعله، لكنه متى ما بذله وجب كونه بغير مقابل؛ كالقرض.
الدليل الرابع (من جهة الاستدلال بدليل دفع الحاجة): تجويز أخذ الأجر على الضمان استحسانًا؛ للمصلحة العامة المتحققة من خلال تقوية منافسة المصارف الإسلامية للمصارف الربوية، وللمصلحة الخاصة المتحققة للأفراد.[82]
ويناقش: بأنه يشترط للأخذ بالاستحسان واعتبار المصلحة أن لا يخالفهما الدليل الأقوى، وهما هنا في مخالفة حديث: "الزعيم غارم".
القول الثالث: جواز أخذ الأجر على الضمان إذا كان لا يؤول إلى قرضٍ بمنفعة.
واختارته بعض الهيئات الشرعية،[83] وبعض الفقهاء المعاصرين. [84]
ويتصور الضمان الذي لا يؤول إلى قرضٍ بمنفعة في الحالات التالية:
1- إذا أدّى المضمون عنه الدين، فلم ينشأ عقد قرض بينه وبين الضامن أصلاً.
2- إذا أدّى الضامن الدين، وكان مدينًا بمثله للمضمون عنه، فوقعت المقاصّة بين الدينين، وانقضت المداينة حالاً. [85]
3- إذا أدّى الضامن الدين، وبادر المضمون عنه بوفاء الدين حالاً، أو في يومه؛ لانقضاء المداينة بينهما في الحال، دون تأخير. [86]
4- إذا أدّى الضامن الدين، وردّ الأجر الذي أخذه إلى المضمون عنه، فوقع القرض بلا منفعة.[87]
واستدلوا: أن الأجر إذا كان على ضمانٍ لا يؤول إلى قرضٍ بمنفعة لم تقو علة على منعه، والأصل في المعاملات الإباحة. [88]
ونوقش من وجهين:
الأول: أن الضمان بأجر إن سلم من الربا، لم يسلم من الغرر، وإخراج العقد عن موضوعه.
والثاني: أن وفاء المضمون عنه بمثل ما أدّى عنه الضامن فورًا، أو في يومه، لا يدفع علة القرض الذي جرّ نفعًا؛ لبقاء الزيادة مقابل القرض،[89] ثم إن تطبيق ذلك يصعب في الواقع العملي.[90]
سبب الخـلاف:
أن منفعة خطاب الضمان منفعة مبذولة، لا غرر في حصولها؛ لانتفاع طالب الخطاب به بمجرد استصداره، وهي متقومة في العرف المصرفي، لكن هل لها قيمة في النظر الشرعي؟.
وللاقتراب من الجواب لا بدّ من مناقشة تساؤلين:
الأول: هل منفعة الضمان كمنفعة الجاه، يجوز أن تقابل بأجر؟، أم كمنفعة القرض، لا يجوز أن تقابل بأجر؟، أم تشمل أن تكون كالاثنين، فيُفصّل فيها؟.
والثاني: هل النظر إلى الضمان غير المغطى ينبغي أن يكون نظرًا إلى مبتدئه (وقد استعدّ لئن يقرض)، أو نظرًا إلى ما يؤول إليه (هل سيقرضه فعلاً، أم لا)؟، وهل الاستعداد كالفعل؟.
القول المخـتار:
بإمعان النظر في التساؤلات السابقة على ضوء ما عُرض من مناقشات، يقوى - والله أعلم - القول بالتفصيل:
فإن كان خطاب الضمان غير مغطى، فحقيقة هذه المسألة تشبه حقيقة ما تقدمه بطاقات الائتمان من خدمة الاستعداد للإقراض، اللهم هناك لا ينتفع كثيرًا حامل البطاقة من مجرد الاستعداد، وهنا قد يتحقق مقصوده من ذلك.
والذي أؤيده في هذه الحالة هو القول بالمنع من أخذ الأجر مطلقًا؛[91] للاعتبارات التالية:
الأول: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الزعيم غارم"؛[92] دلّ على أن الضامن الذي سيغرم ما تكفل به، ليس له إلا هذه الغرامة، دون أن يكسب من ضمانته شيئًا.
والثاني: أن الضمان الذي معناه الاستعداد للإقراض شقيق القـرض، في حقيقته ومقصوده -كما سبق-،[93] وفيه شغل الذمّة بالدين، بل وقد يغرم فيه الضامن؛ بخلاف الجاه.
يوضحه قول السرخسي في المبسوط: "الكفالة بمنـزلة الإقراض، فإنه ]أي الكفيل[ متبرع في الالتزام، وإن كان عند الأداء يرجع، كما أن المقرض تبرع بأداء المال، وإن كان له حق الرجوع في المال". [94]
وفي الشرح الصغير للدردير عند الحديث عن الضامن، قال: "لأنه كالمُسَلِّف، يرجع بمثل ما أدّى حتى في المقوّم، لا بقيمته". [95]
وفي روضة الطالبين: "الضمان تبرع، وإنما يظهر هذا حيث لا رجوع، وأما حيث ثبت الرجوع فهو قرض محض". [96]
وفي الكافي لابن قدامة: "وإن قال: اقترض لي مائة، ولك عشرة صحّ؛ لأنها جعالة على ما بذله من جاهه، وإن قال: تكفل عني بمائة، ولك عشرة لم يجز؛ لأنه يلزمه أداء ما كفل به، فيصير له على المكفول، فيصير بمنـزلة من أقرضه مائة، فيصير قرضًا جرّ نفعًا". [97]
والثالث: أننا إذا كنا نمنع مَن أقرض إنسانًا أن ينتفع منه بزيادة على قرضه، فأولى منه أن نمنع من استعدَّ لإقراضه؛ إذ المنفعة في الأول أعظم.
وأما إن كان خطاب الضمان مغطى بالكامل، فليس ههنا إقراض، ولا استعداد للإقراض، بل الضامن هو المقترض من المضمون عنه، وقد تملك مال الغطاء لصالحه؛ كما تبين في كلام الفقهاء الذي سبق عرضه،[98] وكما هو حال الواقع المصرفي.
وهو في هذه الحال كصاحب الجاه، الذي تُقبل وجاهته عند الطرف الآخر، أو كمن يوضع عنده حق للطرف الآخر؛ ليؤديه في حالة استحقاقه، ولا حرج عليه في أن يأخذ أجرةً على ذلك، وأن يقدّرها بحسب مصلحته؛ خصوصاً أن العرف المصرفي والتجاري جارٍ بذلك، وأن المضمون عنه ليس بمحتاج؛ ليُمنع المصرف من أن يتاجر بحاجته، وليؤمر بفعل المعروف له تبرعًا.
يتبع