عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 10-11-2024, 08:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,995
الدولة : Egypt
افتراضي خصم الأوراق التجارية، تحرير التخريج، وبيان الحكم، ومناقشة البدائل

خصم الأوراق التجارية، تحرير التخريج، وبيان الحكم، ومناقشة البدائل

د. طالب بن عمر بن حيدرة الكثيري

المبحث الأول: تحرير المسألة الممنوعة:
عرفت البشرية نواة الأوراق التجارية في وقت مبكر،[1] لكنها في هذا العصر تميزت أنواعها، وقُننت أحكامها، وشاعت استخداماتها المختلفة، وكان أبرز استخدامٍ للأوراق التجارية المعاصرة وقع في الإشكال الفقهي، وتجاذبه الفقهاء المعاصرون، هو عملية خصم الأوراق التجارية، وسنتناولها في مطلبين:
المطلب الأول: صورة المسألة:
أولاً: تعريف عملية خصم[2] الأوراق التجارية:
تعددت تعريفات الأوراق التجارية، ودارت في جملتها على ذكر خصائصها، وتباينت في ذلك، وأجمعها: أنها "صكوك قابلة للتداول، تمثل حقًا نقديًا، وتستحق الدفع بمجرد الاطلاع، أو بعد أجل قصير، ويجري العرف على قبولها كأداةٍ للوفاء "[3].

وأشهر الأوراق التجارية ثلاثة[4]:
(1) الكمبيالة: وهي صكٌ يتضمن أمرًا من شخصٍ إلى آخر؛ بأن يدفع مبلغًا معينًا، أو قابلاً للتعيين، بمجرد الاطلاع، أو في تاريخ معين إلى شخصٍ ثالث .
(2) والسند لأمر: وهو صكٌ يتعهد بموجبه محرره؛ بأن يدفع مبلغًا معينًا، أو قابلاً للتعيين، بمجرد الاطلاع، أو في تاريخ معين إلى شخص آخر.

(3) والشيك: وهو صكٌ يتضمن أمرًا من شخص إلى آخر؛ بأن يدفع مبلغًا معينًا، بمجرد الاطلاع إلى شخص ثالث.

ولما كانت الكمبيالة والسند لأمر قد تتضمن أجلاً للوفاء بالدين، وذلك إذا كانت مستحقة الدفع بعد مدّة من تاريخ تحريرها، أمكن للدائن فيهما أن يحصل على قيمتهما نقدًا في الحال، دون أن ينتظر حلول ميعاد الاستحقاق، وذلك من خلال خصمهما لدى أحد المصارف، وقد يعاد الخصم لدى مصرف آخر، وهكذا، إلى أن يحين ميعاد استحقاقها، فيقدمها حاملها الأخير إلى المدين للوفاء بقيمته[5].

وعليه فعملية خصم الأوراق التجارية تعني: "عملية مصرفية يقوم بموجبها حامل الورقة، بنقل ملكيتها عن طريق التظهير[6] إلى المصرف، قبل موعد الاستحقاق، مقابل تعجيل المصرف قيمتها له، مخصومًا منه مبلغًا معينًا"،[7]"يتناسب مع المدّة الباقية حتى استيفاء قيمة الحق عند حلول أجل الورقة"[8].

وليتمّ التصور الصحيح لهذه العملية، لا بدّ علينا من تأمل مقصد العاقدين من هذه المعاملة، والصورة الأساسية المكوّنة لها:
أ- فأما مقصد صاحب الورقة التجارية من خصمها فهو الحصول على مبلغ نقدي في الحال.[9]

بينما يقصد المصرف الخاصم لها الحصول على عائد، يتمثل في الآتي[10]:
(1) سعر الخصم، ويساوي مقدار الفوائد الربوية المستحقة عن قيمة الورقة التجارية، من موعد الخصم إلى موعد الاستحقاق .

(2) عمولة الخصم، وتقدر بحسب قيمة الورقة التجارية، ومقدار الأجل المتبقي على موعد استحقاقها، ومقدار المخاطرة التي قد يتعرض لها المصرف عند المطالبة بوفائها .

(3) مصاريف التحصيل، وهي المبالغ التي سينفقها المصرف للمطالبة بقيمة الورقة من المدين.
ب- ولهذه العملية ثلاثة أركان أساسية: [11]
أ‌- ورقة تجارية في يد طالب الخصم، مستحقة للوفاء بعد أجل معين.

ب‌- تظهير ناقل للملكية إلى المصرف نظير عوض له.

ج- تعهد من طالب الخصم بضمان القيمة، في حال امتناع المدين عن الوفاء.

ثانيًا: التخريج الفقهي لخصم الأوراق التجارية:
لمعرفة التخريج الفقهي لعملية خصم الورقة التجارية لا بدّ من معرفة التخريج الفقهي للورقة محل الخصم؛ وهي الكمبيالة، والسند لأمر:
أ‌- فأما الكمبيالة، فدار الخلاف في تخريجها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها حوالة[12].

ووجه التخريج (من جهة حقيقة العقد): أن المصدِر للكمبيالة - الآمر بالدفع - قد أحال الطرف الثالث على المأمور بالدفع، وهذه صورة الحوالة .

ونوقش (من جهة حال العاقد): بأن هذا التخريج إنما يصح إذا كان المأمور بالدفع مدينًا للآمر؛ لاشتراط الدين المستقر على المحال عليه في الحوالة، أما إذا لم يكن كذلك لم يستقم هذا التخريج[13].


القول الثاني: أنها قرض[14].

ووجه التخريج (من جهة شكل العقد): أن الآمر بالدفع طلب الاقتراض من المأمور بالدفع، وأمره أن يؤدي القرض إلى الطرف الثالث، فتركبت عملية الخصم من عقدين؛ أحدهما اقتراض، والآخر وكالة.

ونوقش (من جهة حال العاقد): بأن هذا التخريج إنما يصح إذا لم يكن الآمر دائناً للمأمور بالدفع، ولا يستقيم إذا كان دائنًا له[15].

القول الثالث: أنها سفتجة[16].

ولا يخرج عن القولين السابقين؛ إذ السفتجة قيل: هي قرض،[17] وقيل: هي حوالة .[18]

القول المخـتار:
أن الكمبيالة إن صدرت من دائنٍ للمأمور بالدفع فهي حوالة، وإن صدرت من غير دائن فهي اقتراض.
ب‌- وأما السند لأمر، فهو لا يخرج عن كونه وثيقة بدين، يتعهد فيها محررها بسداده في وقت معين[19] .



وظهر مما سبق أن عنصر الدين واضح في أيّ ورقة تجارية، قابلة للخصم .

وقد اختلف الفقهـاء المعاصرون في التخريج الفقهي لعملية الخصـم على أربعة أقوال، - ومحل الخلاف في أخذ العمولة على عملية الخصم، وأما سعر الخصم فلا شك في تحريمه؛ لكونه فائدة ربوية، وأما مصاريف التحصيل فلا حرج فيها، إذا كانت بمقدار التكلفة الفعلية للخدمات المقدّمة -:
القول الأول: أنها تخرّج على مسألة ضع وتعجل[20] . [21]
ووجه التخريج (من جهة حقيقة العقد): أن طالب الخصم (الدائن) يضع عن المصرف (المدين) بعض الدين، مقابل تعجيله .

ونوقش (من جهة حال العاقد): أن المصرف قد لا يكون مدينًا لطالب الخصم؛ إذ قد يخصم صاحب الورقة التجارية ورقته عند مصرفٍ آخر، غير المصرف المطالَب بوفائها، والخصم في مسألة ضع وتعجل يكون على المدين الأصلي، وتحصل به براءة الذمم . [22]

القول الثاني: أنها تخرّج على عقد البيع . [23]

ووجه التخريج (من جهة القصد من العقد): أن طالب الخصم باع الدين - قبل حلول أجله - على المصرف بأقل من قيمته، وقصد الاعتياض عن دينه بالنقد الحال . [24]

ونوقش (من جهة التفريق بين العقود): أن طالب الخصم يضمن للمصرف قيمة الورقة التجارية إذا لم يوفِ المدين بها، وليس هذا من مقتضى عقد البيع . [25]

القول الثالث: أنها تخرّج على عقد القرض، مع الحوالة والضمان . [26]

ووجه التخريج (من جهة اجتماع عدّة عقود): أن طالب الخصم اقترض من المصرف مبلغًا من المال، وأحاله على مدينه في الورقة التجارية، وأخذ المصرف أجرًا نظير تحوله من طالب الخصم إلى مدينه، مع ضمان طالب الخصم للوفاء، فإذا نكل المدين عن الوفاء، رجع المصرف على طالب الخصم .

ونوقش من وجهين:
الأول (من جهة أخصّ أحكام العقد): أن ملكية الورقة انتقلت إلى المصرف الخاصم، بدليل أنه يجوز له خصمها، وتظهيرها إلى غيره، والتخريج السابق لا يثمر انتقال ملكية الورقة للمصرف[27].

وأجيب: أن المصرف يعود على طالب الخصم إذا حلّ ميعاد استحقاق الورقة، ولم تدفع له قيمتها، مما يدل على أن ملكية الورقة لم تنتقل عن طالب الخصم[28].

والثاني (من جهة مقصد العقد): أن طلب الزيادة على القرض، يخرجه من عقود الإرفاق إلى عقود المعاوضة[29].

القول الرابع: أنها تخرّج على عقد وكالة بجعل، مع قرضٍ[30] .
ووجه التخريج (اجتماع عدّة عقود): أن طالب الخصم وكّل المصرف أن يقوم بتحصيل الدين الذي تضمنته الورقة مقابل جعل محدد، على أن يقرض المصرفُ طالبَ الخصم مبلغاً من المال، يساوي قيمة الورقة مخصومًا منها قيمة الجعل، فإذا استوفى المصرف الدين الذي تضمنته الورقة أخذه سدادًا لدينه.

ونوقش من وجهين:
الأول (من جهة أخصّ أحكام العقد): بأن الورقة التجارية في عملية الخصم تنتقل ملكيتها إلى المصرف بالتظهير، وهذا يخالف تخريجها على أنها مجرد وكالة؛ باستيفاء الحق لطالب الخصم[31].

والثاني (من جهة التفريق بين العقود): أن المصرف يرجع على طالب الخصم - في حالة عدم وفاء المدين بالورقة - بقيمة الورقة التجارية كاملة، دون أن يخصم عليه مبلغ الخصم، ولو كانت وكالة لعاد عليه بمثل ما دفع، لا بأكثر[32] .

القول المختـار:
لخصم الورقة التجارية حالتان:
الأولى: أن يطلب حامل الورقة التجارية خصمها من المدين بها، المطالَب بوفائها، فهذه تنطبق عليها صورة مسألة ضع وتعجل، كما سبق.

والثانية: أن يطلب خصمها من غير المدين بها، فأقرب ما تخرّج عليه أنها بيع للدين لغير من هو عليه، بشرط ضمان البائع الوفاء بالدين.

يؤيده:
(1) أن عمولة الخصم تفوق كثيرًا تكلفة تحصيل الأوراق النقدية، وأجرة الوكالة على ذلك،[33] بل وتختلف باختلاف قيمة الورقة التجارية، وموعد استحقاقها، والمخاطرة التي قد تعرض للمصرف عند المطالبة بوفائها[34] .

(2) أن المصارف تعتبر هذه العملية من عمليات الاستثمار القصير، القائمة على الاتجار بالنقود [35].

(3) وبهذا التخريج، تجتمع أبرز خصائص خصم الأوراق التجارية، فسعر الخصم هو ربح المصرف من شراء الدين، وقد انتقلت ملكية الورقة للمصرف، وله خصمها من غيره، مع ضمان البائع سداد المدين بالورقة للقيمة، فإن نكل رجع المصرف عليه .

المطلب الثاني: بيان محل المنع (طلب الربح من خلال شراء الدين) :
ذكرنا - فيما سبق - أن تخريج خصم الأوراق التجارية له حالان:
أ- فإذا خُصمت الورقة التجارية على المدين الأصلي، المطالَب بوفائها، فحكمها حكم مسألة ضع وتعجل، وقد اُختلف فيها على قولين:
القول الأول: عدم جواز الصلح على الدين ببعضه حالاً (ضع وتعجل) .

وروي عن زيد بن ثابت، وابن عمر y،[36] وسعيد بن المسيب،[37] والحسن البصري،[38] وهو مذهب الجمهور؛ من الحنفية،[39] والمالكية،[40] والشافعية،[41] والصحيح من مذهب الحنابلة . [42]

ففي المبسوط: "وإذا كان لرجلٍ على رجلٍ دين إلى أجل، وهو من ثمن مبيع، فحطّ عنه شيئًا على أن يعجل له ما بقي فلا خير فيه" . [43]

وفي الموطأ: "قال مالك: والأمر المكروه الذي لا اختلاف فيه عندنا أن يكون للرجل على الرجل الدين إلى أجل، فيضع عنه الطالب، ويعجله المطلوب" . [44]

وفي فتح العزيز: "ولو صالح من ألف مؤجل على خمسمائة حالة، فهذا الصلح فاسد" .[45]

وفي الإنصاف: "ولو صالح عن المؤجل ببعضه حالاً لم يصح، هذا المذهب، نقله الجماعة عن الإمام أحمد، وعليه جماهير الأصحاب".[46]

واستدلوا من السنة، والمعقول:
(1) استدلوا من السنة: بما أخرجه البيهقي من حديث المقداد بن الأسود t قال: أسلفتُ رجلاً مائة دينار، ثم خرج سهمي في بعثٍ، بعثه رسول الله r، فقلت له: عجّل لي تسعين دينارًا، وأحطّ عشرة دنانير، فقال: نعم، فذكر ذلك لرسول الله r، فقال: "أكلت ربا، يا مقداد، وأطعمته" . [47]

ونوقش: بأن الحديث ضعيف الإسناد، ففيه يحيى بن يعلى الأسلمي، وهو ضعيف . [48]

(2) واستدلوا من المعقول (من جهة التخريج على الفروع): بأن وضع بعض الدين في مقابل تعجيله، في معنى زيادة الدين في مقابل تأخيره؛ حيث جُعل للأجل أثر في الدين بعد ثبوته، وهذا هو معنى الربا . [49]

ونوقش من وجهين:
الأول (من جهة التفريق بين العقود باعتبار الشكل والقصد): أن وضع بعض الدين مقابل التعجيل يخالف الربا صورةً ومعنى،فصورة الربا الزيادة في أحد العوضين مقابل الأجل، ومفسدته إشغال الذمّة بغير نفع، وصورة ضع وتعجل وضع بعض الدين، ومقصدها التعجيل بإبراء ذمّة الغريم من الدين، وهو مقصد تُرغب فيه الشريعة .[50]

والثاني (من جهة التخريج على الفروع): بأنه ليس كل زيادة لأجل الأجل محرّمة، فالبيع بالنسيئة تصاحبه الزيادة لأجل الأجل،[51] وإذا جازت الزيادة، جاز إسقاط بعض الدين من باب أولى .

القول الثاني: جواز الصلح على الدين ببعضه حالاً (ضع وتعجل).

وهو قول عبد الله بن عباس t،[52] ورواية للحنابلة،[53] اختارها ابن تيمية،[54] وابن القيم.[55]

ففي الإنصاف: "ولو صالح عن المؤجل ببعضه حالاً لم يصح، هذا المذهب ... وفي الإرشاد،[56] والمبهج: رواية يصح، واختاره الشيخ تقي الدين".[57]

واستدلوا من السنة، والمعقول:
(1) استدلوا من السنة: بما أخرجه الطحاوي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي r لما أمر بإخراج بني النضير، جاءه ناسٌ منهم، فقالوا: يا نبي الله، إنك أمرت بإخراجنا، ولنا على الناس ديون لم تحل، فقال رسول الله r: "ضعوا، وتعجلوا".[58]

ونوقش: بأنه ضعيف الإسناد، ففي سنده مسلم بن خالد الزنجي، وهو ضعيف، وقد اضطرب فيه . [59]

(2) واستدلوا من المعقول (من جهة التخريج على الأصول): أن كلا الطرفين حصل له الانتفاع دون أن يوقع ضررًا بالطرف الآخر، فالمعجّل حصل له وضع جزء من الدين، والواضع حصل له التعجيل، والشريعة لا تنهى عن المصالح السالمة من المفاسد . [60]

ونوقش (من جهة المآل): بأن المدين استغلّ حاجة الدائن، فأنقصه حقه، كما أن المرابي يستغل حاجة المدين، ويأخذ أكثر من حقه . [61]

ويجاب: بأن كلا الطرفين قد انتفع بهذه المعاملة، فلم يستغل طرفٌ آخر .

القول المختـار:
جواز الصلح على الدين ببعضه حالاً (ضع وتعجل)؛ لحصول النفع للطرفين بدون ضرر، ولأن الأصل في المعاملات الحلّ، وعليه فيجوز خصم الورقة التجارية على المدين بها .

واعترض على تخريج خصم الورقة التجارية من المدين بها على مسألة ضع وتعجل بأن الورقة تنتقل ملكيتها بعد هذا الخصم للمدين بها، ويبقى له حق تظهيرها لمن شاء، وهكذا يتمّ تداولها من قبل المظهِرين لها، حتى يحين موعد سدادها، ومقصد (ضع وتعجل) إبراء الذمم قبل حلول أجل الدين، ولم يحدث ذلك، بل بقي الدين في ذمّة المدين به . [62]

ويجاب من وجهين:
الأول: أن الدائن استوفى حقه معجّلاً، وهذه هي إحدى غايات مسألة ضع وتعجل .

والثاني: أن المدين برئت ذمّته من دين الدائن المتعجل، وهذه هي الغاية الثانية لمسألة ضع وتعجل.

أما كون المدين بعد أن برئت ذمّته، يقوم بتظهير الورقة التجارية إلى غيره، فهذا التظهير الجديد تحرير التزامٍ منه بالسداد إلى آخر، وهي مسألةٌ أخرى، لها حكمها، وحقيقتها أنه يبيع التزامًا على نفسه بدفع هذا المبلغ لمن ظهّر له الورقة إلى نفس الأجل السابق، وبنقد أقل، وهو عين ربا النسيئة والفضل، فيُمنع الخصم الثاني، ولا يَمنع ذلك جواز الخصم الأول، وتخريجه على مسألة ضع وتعجل .

ب- وإذا خُصمت الورقة التجارية على غير المدين بها، فهي من باب بيع الدين لغير من هو عليه، وبيع الدين لغير المدين له صور وأحكام كثيرة، ومحل البحث هنا في بيع الدين المؤجل بثمن حال لغير المدين، وقد اختلف أهل العلم في هذه الصورة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: عدم جواز بيع الدين المؤجل بثمن حال، لغير من هو عليه مطلقًا .

وهو مذهب الجمهور؛ من الحنفية،[63] والأظهر عند الشافعية،[64] والصحيح عند الحنابلة.[65]

ففي المبسوط: "وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم من قرض أو غيره، فباع دينه من رجل آخر بمائة دينار، وقبض الدنانير لم يجز" . [66]

وفي نهاية المحتاج: "وبيع الدين غير المسلم فيه بعين لغير من هو عليه باطل في الأظهر" . [67]

وفي المبدع: "ولا يجوز لغيره أيّ: لغير من هو في ذمته".[68]

واستدلوا (من جهة منع أسباب الغرر): بانتفاء شرط القدرة على تسليم المبيع، وهو من شروط صحة البيع؛ حيث إن البائع لا يقدر على تسليم المبيع؛ لأن الدين يتعلق بالذمّة، وقبض ما في ذمّة الغير لا يتصور، بل ربما جحده المدين، أو منعه، وذلك غرر . [69]

ونوقش: أن ما في الذمّة كالحاضر، وقد يغلب على الظن القدرة على تسليم الدين متى ما وضعت بعض الشروط والضمانات . [70]

القول الثاني: جواز بيع الدين المؤجل بثمن حال، لغير من هو عليه، إذا لم يؤدِ ذلك إلى الربا.

وهو رواية لأحمد،[71] اختارها ابن تيمية،[72] وابن القيم . [73]

ففي المبدع بعد نقل المذهب: "وفي المبهج وغيره رواية: يصح فيه، واختاره الشيخ تقي الدين، وهو قول ابن عباس، لكن بقدر القيمة فقط؛ لئلا يربح فيما لم يضمن ".[74]

واستدلوا بدليلين:
الأول (من جهة التخريج على الأصول): بأن الأصل في المعاملات الإباحة، ما لم توقع في منهيٍّ عنه. [75]

ونوقش: أن المحظور موجود في هذا البيع، ويتمثل في بيع ما لا يُقدر عليه .

والثاني (من جهة التخريج على الفروع): أن في هذا شبهًا بالحوالة، فإذا جاز للدائن أن يحيل طرفًا ثالثًا على دينه، جاز له أن يبيعه كذلك . [76]

القول الثالث: جواز بيع الدين المؤجل بثمن حال، لغير من هو عليه، بشروط .

وهو مذهب المالكية،[77] ووجه عند الشافعية .[78]

ففي شرح الخرشي: "لا يجوز للشخص بيع ماله على الغير من دين؛ سواء كان حيًا، أو ميتًا ... إلا أن يكون من هو عليه حاضرًا بالبلد، مقرّاً، والدين مما يباع قبل قبضه، لا طعامًا من بيع، وبيع بغير جنسه، وليس ذهبًا بفضة، ولا عكسه، وأن لا يكون بين المشتري والمدين عداوة، وأن لا يقصد المشتري إعنات المدين" . [79]

وفي نهاية المحتاج: "وبيع الدين غير المسلم فيه بعين لغير من هو عليه باطل في الأظهر ... والثاني: يصح ... ومحله إن كان الدين حالاً، مستقرًا، والمدين مقرًا مليًا، أو عليه بينة، وإلا لم يصح لتحقق العجز حينئذ، ويشترط قبض العوضين في المجلس" . [80]

فاشترط المالكية:
1- أن يكون المدين حاضرًا في البلد، وأن يكون مقرّاً بالدين؛ بحيث يغلب على الظن تمكن المشتري من الحصول عليه .

2- وأن لا يكون بين المشتري والمدين عداوة، وأن لا يقصد المشتري إعنات المدين، والإضرار به؛ دفعًا للضرر .

وفصّلوا في أنواع الديون:
أ- فإن كان دين سلم، جاز بعوضٍ من غير جنسه، إذا لم يكن طعامًا .

ب- وإن كان دينًا غير سلم:
فإن بيع بعوضٍ من غير جنسه: اُشترط أن لا يكون طعامًا، ولا ذهبًا بفضة، ولا عكسه .

وإن بيع بعوضٍ من جنسه: اُشترط أن يكون مساويًا له، وأن يكون عرضًا غير نقد.

واشترط الشافعية أن يكون المدين مليئًا، مقرّاً بما عليه، أو عليه بينة، وأن يكون الدين مستقرًا؛ مأمونًا من سقوطه، وأن يُقبض العوضان في المجلس .

واستدلوا (من جهة التخريج على الأصول): بأن الأصل في المعاملات الإباحة، وصورة بيع الدين بالشروط السابقة، ليست داخلة في المنهي عنه، فليست من بيع الدين بالدين، ولا من بيع الطعام قبل قبضه، ولا من بيع ما يُشترط له تقابض العوضين، ولا من بيع الغرر؛ لانتفاء المخاطرة الممنوعة.
القول المختـار:
جواز بيع الدين المؤجل بثمن حال لغير المدين؛ لأن الأصل في المعاملات الحلّ، ما لم يوقع ذلك في شيء من المحظورات التي ذكرها أهل العلم في هذه المسألة، كأن يؤدي إلى الغرر؛ كبيع ما لا يُقدر على تسليمه، أو إلى الربا، أو ذرائعه، أو إلى بيع الدين بالدين في صورته المنهي عنها، وهي بيع الدين المؤخر الذي لم يقبض بالدين المؤخر الذي لم يقبض . [81]

ولما كانت الأوراق التجارية وثائق بأوراق نقـدية، صارت ممثلة للأوراق النقدية، وتقوم بوظائفها - كما سبق في تعريفها -،[82] وفي بيعها بأقل من قيمتها بيعٌ لنقدٍ آجل بنقدٍ حاضر أقل منه، وهو ممنوع؛ لأنه من ربا النسيئة، فإن بيع بجنسه اجتمع مع ربا النسيئة ربا الفضل . [83]

وقد قال ابن رجب في مسألة شبيهة بهذه: "بيع الصكاك قبل قبضها، وهي الديون الثابتة على الناس، وتسمى صكاكًا؛ لأنها تكتب في صكاك، وهي ما يكتب فيه من الرق ونحوه، فيباع ما في الصكّ، فإن كان الدين نقدًا، وبيع بنقدٍ لم يجز بلا خلاف؛ لأنه صرفٌ بنسيئة". [84]

ونوقش (من جهة دليل الحاجة): بأن ربا الفضل مُنع سدًا للذريعة، ويباح للحاجة؛ كبيع العرايا، والحاجة لخصم الأوراق التجارية قائمة .[85]



ويمكن أن يجاب من وجهين: [86]
الأول: أن الحاجة لم تتأكد لإباحة هذه المعاملة الربوية .
والثاني: أن صورة خصم الأوراق التجارية لغير المدين تضمنت ربا النسيئة، وربا النسيئة لا تبيحه الحاجة .


المبحث الثاني: البدائل الإسلامية لخصم الأوراق التجارية، وتقويمها:
لما كانت أغلب الأوراق التجارية في المعاملات الشائعة تخصم من غير المدين بها، وكان حكم هذه الصورة المنع، اُضطر عدد كبير من المصارف الإسلامية للامتناع عن تقديم هذه الخدمة،[87] لتبدأ بعدها رحلة النظر في البدائل الشرعية للصورة الممنوعة الغالبة في المعاملات التجارية، ونتعرف عليها في خمسة مطالب:

المطلب الأول: عرض البديل الأول: خصم الورقة التجارية عن طريق القرض الحسن، وتقويمه:
أولاً: عرض فكرة هذا البديل، وذكر من قال به:
يقوم هذا البديل على أساس البعد بعملية خصم الأوراق التجارية عن مجال الاسترباح، وتتلخص فكرته في التالي:
(1) أن يخصم المصرف الورقة التجارية من باب القرض الحسن، فيسدد لحاملها قيمتها كاملة، دون أن يحصل على أيّة فوائد .


(2) ثم تُظهّر الورقة التجارية تظهيرًا تأمينيًا[88] لصالح المصرف؛ ضمانًا للوفاء بالقرض .

ويُرغّب في سلوك هذا البديل؛ خصوصًا إذا كان حامل الورقة عميلاً للمصرف، له حساب جارٍ فيه، وكان أجل الورقة قصيرًا، لا يتجاوز بضعة أشهر .

وقد عرض هذا البديل الدكتور أحمد النجار،[89] وتبنى هذا الإجراء عملياً البنك الإسلامي الأردني . [90]

ثانيًا: الحكم الشرعي لهذا البديل:
ليس هناك مانع شرعي، يمنع من سلوك هذا البديل من الناحية الشرعية، بل هو من باب ردّ المعروف بمثله؛ إذ المصرف الإسلامي يستثمر الحسابات الجارية للعملاء دون أن يدفع لهم أيّة عوائد .

ثم إن هذا البديل كذلك يدعم المبدأ الأساسي الذي قامت عليه المصارف الإسلامية من إبعاد المسلمين عن الوقوع في الحرام، وفيه أيضاً جذب للعملاء، وترغيبهم في التعاملات المصرفية الإسلامية .

واعترض على هذا البديل: بأنه من قبيل القرض الذي يجرّ نفعًا؛ لأن المصرف ما كان ليُقرض العميل لولا أنه أقرضه مبلغًا من المال؛ كحساب جارٍ .[91]


يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 38.51 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.88 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.63%)]