
06-11-2024, 10:38 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,805
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (7)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
من صــ 396 الى صــ 405
الحلقة (347)
وما روي أن امرأة جعلت بعيرا في سبيل الله ، فأراد زوجها الحج ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ادفعيه إليه ليحج عليه فإن الحج من سبيل الله . ولأنه مال ينتفع به في وجه قربة ، فجاز أن يوقف كالرباع . وقد ذكر السهيلي في هذه الآية تسمية خيل النبي صلى الله عليه وسلم ، وآلة حربه . من أرادها وجدها في كتاب الأعلام .
الخامسة قوله تعالى ترهبون به عدو الله وعدوكم يعني تخيفون به عدو الله وعدوكم من اليهود وقريش وكفار العرب .
وآخرين من دونهم يعني فارس والروم ، قاله السدي . وقيل : الجن . وهو اختيار الطبري . وقيل : المراد بذلك كل من لا تعرف عداوته . قال السهيلي : قيل هم قريظة . وقيل : هم من الجن . وقيل غير ذلك . ولا ينبغي أن يقال فيهم شيء ، لأن الله سبحانه قال : وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ، فكيف يدعي أحد علما بهم ، إلا أن يصح حديث جاء في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو قوله في هذه الآية : " هم الجن " . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان لا يخبل أحدا في دار فيها فرس عتيق وإنما سمي عتيقا لأنه قد تخلص من الهجانة . وهذا الحديث أسنده الحارث بن أبي أسامة عن ابن المليكي عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وروي : أن الجن لا تقرب دارا فيها فرس ، وأنها تنفر من صهيل الخيل .
السادسة : قوله تعالى وما تنفقوا من شيء أي تتصدقوا . وقيل : تنفقوه على أنفسكم أو خيلكم .
في سبيل الله يوف إليكم في الآخرة ، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة . وأنتم لا تظلمون
قوله تعالى وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم [ ص: 397 ] فيه مسألتان :
الأولى : وإن جنحوا للسلم فاجنح لها إنما قال لها لأن السلم مؤنثة . ويجوز أن يكون التأنيث للفعلة . والجنوح الميل . يقول : إن مالوا - يعني الذين نبذ إليهم عهدهم - إلى المسالمة ، أي الصلح ، فمل إليها . وجنح الرجل إلى الآخر : مال إليه ، ومنه قيل للأضلاع جوانح ، لأنها مالت على الحشوة . وجنحت الإبل : إذا مالت أعناقها في السير . وقال ذو الرمة :
إذا مات فوق الرحل أحييت روحه بذكراك والعيس المراسيل جنح
وقال النابغة :
جوانح قد أيقن أن قبيلة
إذا ما التقى الجمعان أول غالب يعني الطير . وجنح الليل إذا أقبل وأمال أطنابه على الأرض . والسلم والسلام هو الصلح . وقرأ الأعمش وأبو بكر وابن محيصن والمفضل ( للسلم ) بكسر السين . الباقون بالفتح . وقد تقدم معنى ذلك في " البقرة " مستوفى . وقد يكون السلام من التسليم . وقرأ الجمهور فاجنح بفتح النون ، وهي لغة تميم . وقرأ الأشهب العقيلي ( فاجنح ) بضم النون ، وهي لغة قيس . قال ابن جني : وهذه اللغة هي القياس .
الثانية : وقد اختلف في هذه الآية ، هل هي منسوخة أم لا . فقال قتادة وعكرمة : نسخها فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم . وقاتلوا المشركين كافة وقالا : نسخت " براءة " كل موادعة ، حتى يقولوا لا إله إلا الله . ابن عباس : الناسخ لها فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم . وقيل : ليست بمنسوخة ، بل أراد قبول الجزية من أهل الجزية . وقد صالح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة كثيرا من بلاد العجم ، على ما أخذوه منهم ، وتركوهم على ما هم فيه ، وهم قادرون على استئصالهم . وكذلك صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا من أهل البلاد على مال يؤدونه ، من ذلك خيبر ، رد أهلها إليها بعد الغلبة على أن يعملوا ويؤدوا النصف . قال ابن إسحاق : قال مجاهد عنى بهذه الآية قريظة ، لأن الجزية تقبل منهم ، فأما المشركون فلا يقبل منهم شيء . وقال السدي وابن زيد . : [ ص: 398 ] معنى الآية إن دعوك إلى الصلح فأجبهم . ولا نسخ فيها . قال ابن العربي : وبهذا يختلف الجواب عنه ، وقد قال الله عز وجل : فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم . فإذا كان المسلمون على عزة وقوة ومنعة ، وجماعة عديدة ، وشدة شديدة فلا صلح ، كما قال :
فلا صلح حتى تطعن الخيل بالقنا
وتضرب بالبيض الرقاق الجماجم وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح ، لنفع يجتلبونه ، أو ضرر يدفعونه ، فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه . وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شروط نقضوها فنقض صلحهم . وقد صالح الضمري وأكيدر دومة وأهل نجران ، وقد هادن قريشا لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده . وما زالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل التي شرعناها سالكة ، وبالوجوه التي شرحناها عاملة . قال القشيري : إذا كانت القوة للمسلمين فينبغي ألا تبلغ الهدنة سنة . وإذا كانت القوة للكفار جاز مهادنتهم عشر سنين ، ولا تجوز الزيادة . وقد هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عشر سنين . قال ابن المنذر : اختلف العلماء في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة عام الحديبية ، فقال عروة : كانت أربع سنين . وقال ابن جريج : كانت ثلاث سنين . وقال ابن إسحاق : كانت عشر سنين . وقال الشافعي رحمه الله : لا تجوز مهادنة المشركين أكثر من عشر سنين ، على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، فإن هودن المشركون أكثر من ذلك فهي منتقضة ، لأن الأصل فرض قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية . وقال ابن حبيب عن مالك رضي الله عنه : تجوز مهادنة المشركين السنة والسنتين والثلاث ، وإلى غير مدة . قال المهلب : إنما قاضاهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه القضية التي ظاهرها الوهن على المسلمين ، لسبب حبس الله ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة ، حين توجه إليها فبركت . وقال : حبسها حابس الفيل . على ما خرجه البخاري من حديث المسور بن مخرمة . ودل على جواز صلح المشركين ومهادنتهم دون مال يؤخذ منهم ، إذا رأى ذلك الإمام وجها . ويجوز عند الحاجة للمسلمين عقد الصلح بمال يبذلونه للعدو ، لموادعة النبي صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن الفزاري ، والحارث بن عوف المري يوم الأحزاب ، على أن يعطيهما ثلث ثمر المدينة ، وينصرفا بمن معهما من غطفان ويخذلا قريشا ، ويرجعا بقومهما عنهم . وكانت هذه المقالة [ ص: 399 ] مراوضة ولم تكن عقدا . فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما أنهما قد أنابا ورضيا استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، فقالا : يا رسول الله ، هذا أمر تحبه فنصنعه لك ، أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع ، أو أمر تصنعه لنا ؟ فقال : بل أمر أصنعه لكم فإن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ، فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله ، والله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة ، إلا شراء أو قرى ، فحين أكرمنا الله بالإسلام ، وهدانا له وأعزنا بك ، نعطيهم أموالنا ! والله لا نعطيهم إلا السيف ، حتى يحكم الله بيننا وبينهم . فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أنتم وذاك . وقال لعيينة والحارث : انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف . وتناول سعد الصحيفة ، وليس فيها شهادة أن لا إله إلا الله فمحاها .
قوله تعالى وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم
قوله تعالى وإن يريدوا أن يخدعوك أي بأن يظهروا لك السلم ، ويبطنوا الغدر والخيانة ، فاجنح فما عليك من نياتهم الفاسدة فإن حسبك الله كافيك الله ، أي يتولى كفايتك وحياطتك . قال الشاعر :
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا فحسبك والضحاك سيف مهند أي كافيك وكافي الضحاك سيف .
قوله تعالى هو الذي أيدك بنصره أي قواك بنصره . يريد يوم بدر .
وبالمؤمنين قال النعمان بن بشير : نزلت في الأنصار وألف بين قلوبهم أي جمع بين قلوب الأوس والخزرج . وكان تألف القلوب مع العصبية الشديدة في العرب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته ، لأن أحدهم كان يلطم اللطمة فيقاتل عنها حتى يستقيدها . وكانوا أشد خلق الله حمية ، فألف الله بالإيمان بينهم ، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين . وقيل : أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار . والمعنى متقارب .
[ ص: 400 ] قوله تعالى ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين
ليس هذا تكريرا ، فإنه قال فيما سبق وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله وهذه كفاية خاصة . وفي قوله ياأيها النبي حسبك الله أراد التعميم ، أي حسبك الله في كل حال وقال ابن عباس : نزلت في إسلام عمر فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أسلم معه ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة ، فأسلم عمر وصاروا أربعين . والآية مكية ، كتبت بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة مدنية ، ذكره القشيري .
قلت : ما ذكره من إسلام عمر رضي الله عنه عن ابن عباس ، فقد وقع في السيرة خلافه . عن عبد الله بن مسعود قال : ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر ، فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه . وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة . قال ابن إسحاق : وكان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين ، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارا أو ولدوا بها ، ثلاثة وثمانين رجلا ، إن كان عمار بن ياسر منهم . وهو يشك فيه . وقال الكلبي : نزلت الآية بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال .
قوله تعالى ومن اتبعك من المؤمنين قيل : المعنى حسبك الله ، وحسبك المهاجرون والأنصار . وقيل : المعنى كافيك الله ، وكافي من تبعك ، قاله الشعبي وابن زيد . والأول عن الحسن . واختاره النحاس وغيره . ف " من " على القول الأول في موضع رفع ، عطفا على اسم الله تعالى . على معنى : فإن حسبك الله وأتباعك من المؤمنين . وعلى الثاني على إضمار . ومثله قوله صلى الله عليه وسلم : يكفينيه الله وأبناء قيلة . وقيل : يجوز أن يكون المعنى ومن اتبعك من المؤمنين حسبهم الله ، فيضمر الخبر . ويجوز أن يكون من في موضع نصب ، على معنى : يكفيك الله ويكفي من اتبعك .
[ ص: 401 ] قوله تعالى يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين
قوله تعالى ياأيها النبي حرض المؤمنين على القتال أي حثهم وحضهم . يقال : حارض على الأمر وواظب وواصب وأكب بمعنى واحد . والحارض : الذي قد قارب الهلاك ، ومنه قوله عز وجل : حتى تكون حرضا أي تذوب غما ، فتقارب الهلاك فتكون من الهالكين
إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين لفظ خبر ، ضمنه وعد بشرط ، لأن معناه إن يصبر منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين . وعشرون وثلاثون وأربعون كل واحد منها اسم موضوع على صورة الجمع لهذا العدد . ويجري هذا الاسم مجرى فلسطين . فإن قال قائل : لم كسر أول عشرين وفتح أول ثلاثين وما بعده إلى الثمانين إلا ستين ؟ فالجواب عند سيبويه أن عشرين من عشرة بمنزلة اثنين من واحد ، فكسر أول عشرين كما كسر اثنان . والدليل على هذا قولهم : ستون وتسعون ، كما قيل : ستة وتسعة . وروى أبو داود عن ابن عباس قال : نزلت إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين فشق ذلك على المسلمين ، حين فرض الله عليهم ألا يفر واحد من عشرة ، ثم إنه جاء التخفيف فقال : الآن خفف الله عنكم
قرأ أبو توبة إلى قوله : مائة صابرة يغلبوا مائتين . قال : فلما خفف الله تعالى عنهم من العدد نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم . وقال ابن العربي : قال قوم إن هذا كان يوم بدر ونسخ . وهذا خطأ من قائله . ولم ينقل قط أن المشركين صافوا المسلمين عليها ، ولكن الباري جل وعز فرض ذلك عليهم أولا ، وعلق ذلك بأنكم تفقهون ما تقاتلون عليه ، وهو الثواب . وهم لا يعلمون ما يقاتلون عليه .
[ ص: 402 ] قلت : وحديث ابن عباس يدل على أن ذلك فرض . ثم لما شق ذلك عليهم حط الفرض إلى ثبوت الواحد للاثنين ، فخفف عنهم وكتب عليهم ألا يفر مائة من مائتين ، فهو على هذا القول تخفيف لا نسخ . وهذا حسن . وقد ذكر القاضي ابن الطيب أن الحكم إذا نسخ بعضه أو بعض أوصافه ، أو غير عدده فجائز أن يقال إنه نسخ ، لأنه حينئذ ليس بالأول ، بل هو غيره . وذكر في ذلك خلافا .
قوله تعالى ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم فيه خمس مسائل :
الأولى : قوله تعالى : أسرى جمع أسير ، مثل قتيل وقتلى وجريح وجرحى . ويقال في جمع أسير أيضا : أسارى " بضم الهمزة " وأسارى " بفتحها " وليست بالعالية . وكانوا يشدون الأسير بالقد وهو الإسار ، فسمي كل أخيذ وإن لم يؤسر أسيرا . قال الأعشى :
وقيدني الشعر في بيته كما قيد الآسرات الحمارا وقد مضى هذا في سورة " البقرة " . وقال أبو عمرو بن العلاء : الأسرى هم غير الموثقين عندما يؤخذون ، والأسارى هم الموثقون ربطا . وحكى أبو حاتم أنه سمع هذا من العرب .
الثانية : هذه الآية نزلت يوم بدر ، عتابا من الله عز وجل لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم . والمعنى : ما كان ينبغي لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم أسرى قبل الإثخان . ولهم هذا الإخبار بقوله تريدون عرض الدنيا . والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب ، ولا أراد قط عرض الدنيا ، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب ، فالتوبيخ والعتاب إنما كان متوجها بسبب من أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ الفدية . هذا قول أكثر المفسرين ، وهو الذي [ ص: 403 ] لا يصح غيره . وجاء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الآية حين لم ينه عنه حين رآه من العريش وإذ كره سعد بن معاذ وعمر بن الخطاب وعبد الله بن رواحة ، ولكنه عليه السلام شغله بغت الأمر ونزول النصر فترك النهي عن الاستبقاء ، ولذلك بكى هو وأبو بكر حين نزلت الآيات . والله أعلم . روى مسلم من حديث عمر بن الخطاب ، وقد تقدم أوله في " آل عمران " وهذا تمامه . قال أبو زميل : قال ابن عباس فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر : ما ترون في هؤلاء الأسارى ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله ، هم بنو العم والعشيرة ، أرى أن تأخذ منهم فدية ، فتكون لنا قوة على الكفار ، فعسى الله أن يهديهم للإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ترى يا بن الخطاب ؟ قلت : لا والله يا رسول الله ، ما أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم ، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكنني من فلان - نسيبا لعمر - فأضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها . فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت ، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان ، فقلت : يا رسول الله ، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك ، فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة - شجرة قريبة كانت من نبي الله صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله عز وجل ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض إلى قوله تعالى : فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا فأحل الله الغنيمة لهم وروى يزيد بن هارون قال : أخبرنا يحيى قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله قال : لما كان يوم بدر جيء بالأسارى وفيهم العباس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ترون في هؤلاء الأسارى فقال أبو بكر : يا رسول الله قومك وأهلك ، استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم . وقال عمر : كذبوك وأخرجوك وقاتلوك ، قدمهم فاضرب أعناقهم . وقال عبد الله بن رواحة : انظر واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم . فقال العباس وهو يسمع : قطعت رحمك . قال : فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئا . فقال أناس : يأخذ بقول أبي بكر رضي الله عنه . وقال أناس : يأخذ بقول عمر . وقال أناس : يأخذ بقول عبد الله بن رواحة . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن ويشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة . مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال [ ص: 404 ] فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى إذ قال إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم . ومثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام إذ قال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا . ومثلك يا عمر مثل موسى عليه السلام إذ قال ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم أنتم عالة فلا ينفلتن أحد إلا بفداء أو ضربة عنق . فقال عبد الله : إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فما رأيتني أخوف أن تقع علي الحجارة من السماء مني في ذلك اليوم . فأنزل الله عز وجل : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض إلى آخر الآيتين . في رواية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كاد ليصيبنا في خلاف ابن الخطاب عذاب ولو نزل عذاب ما أفلت إلا عمر . وروى أبو داود عن عمر قال : لما كان يوم بدر وأخذ - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - الفداء ، أنزل الله عز وجل ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض إلى قوله : لمسكم فيما أخذتم من الفداء عذاب عظيم ثم أحل الغنائم . وذكر القشيري أن سعد بن معاذ قال : يا رسول الله ، إنه أول وقعة لنا مع المشركين فكان الإثخان أحب إلي . والإثخان : كثرة القتل ، عن مجاهد وغيره . أي يبالغ في قتل المشركين . تقول العرب : أثخن فلان في هذا الأمر أي بالغ . وقال بعضهم : حتى يقهر ويقتل . وأنشد المفضل :
تصلي الضحى ما دهرها بتعبد
وقد أثخنت فرعون في كفره كفرا وقيل : حتى يثخن يتمكن . وقيل : الإثخان القوة والشدة . فأعلم الله سبحانه وتعالى أن قتل الأسرى الذين فودوا ببدر كان أولى من فدائهم . وقال ابن عباس رضي الله عنه : كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل ، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله عز وجل بعد هذا في الأسارى : فإما منا بعد وإما فداء على ما يأتي بيانه في سورة " القتال " إن شاء الله تعالى .
وقد قيل : إنما عوتبوا لأن قضية بدر كانت عظيمة الموقع والتصريف في صناديد قريش [ ص: 405 ] وأشرافهم وساداتهم وأموالهم بالقتل والاسترقاق والتملك . وذلك كله عظيم الموقع فكان حقهم أن ينتظروا الوحي ولا يستعجلوا ، فلما استعجلوا ولم ينتظروا توجه عليهم ما توجه . والله أعلم .
الثالثة : أسند الطبري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس : إن شئتم أخذتم فداء الأسارى ويقتل منكم في الحرب سبعون على عددهم وإن شئتم قتلوا وسلمتم . فقالوا : نأخذ الفداء ويستشهد منا سبعون . وذكر عبد بن حميد بسنده أن جبريل عليه السلام نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بتخيير الناس هكذا . وقد مضى في " آل عمران " القول في هذا . وقال عبيدة السلماني : طلبوا الخيرتين كلتيهما ، فقتل منهم يوم أحد سبعون . وينشأ هنا إشكال وهي :
الرابعة : وهو أن يقال : إذا كان التخيير فكيف وقع التوبيخ بقوله لمسكم . فالجواب - أن التوبيخ وقع أولا لحرصهم على أخذ الفداء ، ثم وقع التخيير بعد ذلك . ومما يدل على ذلك أن المقداد قال حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل عقبة بن أبي معيط : أسيري يا رسول الله . وقال مصعب بن عمير الذي أسر أخاه : شد عليه يدك ، فإن له أما موسرة . إلى غير ذلك من قصصهم وحرصهم على أخذ الفداء . فلما تحصل الأسارى وسيقوا إلى المدينة وأنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم القتل في النضر وعقبة وغيرهما وجعل يرتئي في سائرهم نزل التخيير من الله عز وجل ، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه حينئذ . فمر عمر على أول رأيه في القتل ، ورأى أبو بكر المصلحة في قوة المسلمين بمال الفداء . ومال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رأي أبي بكر . وكلا الرأيين اجتهاد بعد تخيير . فلم ينزل بعد على هذا شيء من تعنيت . والله أعلم . الخامسة : قال ابن وهب : قال مالك كان ببدر أسارى مشركون فأنزل الله ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض . وكانوا يومئذ مشركين وفادوا ورجعوا ، ولو كانوا مسلمين لأقاموا ولم يرجعوا . وكان عدة من قتل منهم أربعة وأربعين رجلا ، ومثلهم أسروا . وكان الشهداء قليلا . وقال أبو عمرو بن العلاء : إن القتلى كانوا سبعين ، والأسرى كذلك . وكذلك قال ابن عباس وابن المسيب وغيرهم . وهو الصحيح كما في صحيح مسلم ، فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين . وذكر البيهقي قالوا : فجيء بالأسارى وعليهم شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم تسعة وأربعون رجلا الذين أحصوا ، وهم سبعون في الأصل ، مجتمع عليه لا شك فيه . قال ابن العربي : إنما قال مالك " وكانوا مشركين " لأن المفسرين رووا أن العباس قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إني مسلم . وفي رواية أن الأسارى قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : آمنا بك .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|