عرض مشاركة واحدة
  #418  
قديم 02-11-2024, 08:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,207
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

تفسير قوله تعالى:﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [البقرة: 264، 266].

قوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾.

هذه الآية أشبه بالتفسير والبيان للمضاعفة المذكورة في قوله تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245]، وفيها مع الآيات بعدها عود على الحض على الإنفاق في سبيل الله، كما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 254].

قوله: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ﴾، «المثل» يطلق على «الشبه» ويطلق على «الصفة»، فإن ذُكر المماثِل فالمراد به الشبه، كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى: ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ [البقرة: 17]، وقوله تعالى: ﴿ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِر ﴾ [آل عمران: 117].

وإن لم يذكر المماثِل فالمراد به الصفة، كما في قوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ﴾ [محمد: 15].

وفي قوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ﴾ الآية، تقدير إما في المبتدأ وهو المشبه، فيكون التقدير: مثل نفقة الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة.

وإما في الخبر وهو المشبه به، فيكون التقدير: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل باذر حبة؛ ليطابق الممثَّلُ الممثَّل به، وفي هذا الطيِّ دليل على بلاغة القرآن الكريم ليكون المثل صالحًا للتمثيل بالمنفق وبالنفقة.

ومعنى ﴿ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ﴾، أي: يبذلونها ويخرجونها، والأموال جمع مال، وهو كل ما يتمول من النقود والأعيان والمنافع.

﴿ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ «سبيل الله»: شرعه وصراطه وطريقه المؤدي إليه وإلى مرضاته، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوه ﴾ [الأنعام: 153]، وقال تعالى: ﴿ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [الحجر: 41].

والمعنى: مثل الذين ينفقون أموالهم طاعة لله تعالى، خالصة لوجهه، وفقًا لشرعه، بكونها من الطيب الحلال، وفي مواضعها التي شرع الله تعالى الإنفاق فيها كالجهاد في سبيل الله وغير ذلك من سبل الخير، من غير إسرافٍ ولا تقتيرٍ؛ كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: 67].

﴿ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ﴾ الكاف للتشبيه، والمثل: الشبه، أي: كشبه حبة، و«الحبة» واحدة الحَبِّ، وهو ما يزرع للاقتيات كالبر ونحوه.

﴿ أَنْبَتَتْ ؛ أي: بذرت فأنبتت وأخرجت ﴿ سَبْعَ سَنَابِلَ ﴾، أي: تشعب منها سبعة سيقان في كل ساق سنبلة، فصارت سبع سنابل.

و«سنابل» جمع «سُنْبلة» وجمعت على «سنابل» جمع كثرة؛ لأن المقام مقام تكثير وتضعيف، بينما جمعت جمع قلة في قوله تعالى: ﴿ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْر ﴾ [يوسف: 43]؛ لأن السبعة قليلة، ولا مقتضى للتكثير.

﴿ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ﴾؛ أي: في كل سنبلة من هذه السنابل مائة حبة، فيكون مجموع حبوب هذه السنابل السبع سبعمائة حبة، وهكذا ثواب الإنفاق في سبيل الله ينميه اللهُ عز وجل ويضاعفه الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، كما قال صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله، يقول الله: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به..».

وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال يا رسول الله، هذه في سبيل الله، فقال: «لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة»[1].

﴿ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بالتشديد مع حذف الألف هنا وفي جميع القرآن: «يُضَعِّفُ»، وقرأ الباقون بالإثبات والتخفيف ﴿ يُضَاعِفُ ﴾.

والمضاعفة الزيادة، أي: والله يضاعف لمن يشاء هذه المضاعفة إلى سبعمائة، وما هو فوق ذلك، إلى أضعاف كثيرة، حسب حكمته عز وجل، وحسب إخلاص المنفق في عمله وغير ذلك.

﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ أي: واسع العطاء، واسع الغنى، واسع الفضل، واسع في جميع صفاته.

﴿ عَلِيمٌ؛ أي: ذو علم واسع محيط بكل شيء؛ كما قال تعالى: ﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الطلاق: 12].

ومن سعة علمه أنه يعلم من يستحق هذه المضاعفة، وهو أهل لها، ومن لا يستحقها ولا هو أهل لها.

قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾.

بيَّن عز وجل في الآية السابقة مضاعفة أجر المنفقين في سبيله إلى سبعمائة ضعف، ثم أتبع ذلك بالتعريض بمن يُتبعون ما أنفقوا بالمن والأذى مؤكدًا ما للمنفقين من الأجر عند ربهم وانتفاء الخوف والحزن عنهم.

قوله: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾، كرر هذا تأكيدًا لوجوب الإخلاص في الإنفاق في سبيل الله، وأن تكون النفقة مما شرع الله تعالى، وفيما شرع عز وجل.

وأيضًا ليبني عليه ما بعده، وهو قوله: ﴿ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ﴾.

«ثم»: للتراخي تدل على أن «المنّ» والأذى له أثره في إبطال الصدقة حتى ولو تراخى عن الصدقة، و«ما»: موصولة، أو مصدرية، أي: ثم لا يتبعون الذي أنفقوه، أو ثم لا يتبعون إنفاقهم.

﴿ مَنًّا ﴾: نكرة في سياق النفي، فتعم كل مَنٍّ، أي: لا يتبعون ما أنفقوا، أي شيء من المن قل أو كثر على من أنفقوا عليه.

و«المن» الاعتداد بالإحسان، وإظهار الترفع على المنفَق عليه، كأن يقول له: أما أعطيتك كذا وكذا، أو يعدد عليه أياديه.

وقد يكون المنُّ بالقلب بأن يعتقد المنفِق بأن له فضلًا على المنفَق عليه دون أن يصرح بذلك.

فكل هذا لا يجوز والفضل لله عز وجل، وما يخرجه الإنسان من ماله من نفقة واجبة أو مستحبة، فهو من حقوق المنفَق عليه، لا منة فيها للمنفِق ولا فضل، بل الفضل والمنة في ذلك لله وحده.

﴿ وَلَا أَذًى ﴾؛ أي: ولا أذى لمن أنفقوا عليه كأن يذكر المنفِق ذلك عند الناس، فيقول مثلًا: أنفقت على فلان كذا، وأعطيته كذا، أو يريد من المنفَق عليه أن يكافئه كأنه عمل إليه معروفًا، ونحو ذلك، أو يفعل معه مكروهًا يحبط ما سلف منه من إحسان، وقدَّم «المن»؛ لأنه أكثر.

﴿ لَهُمْ أَجْرُهُمْ ﴾ الأجر: ما يُعطاه العامل مقابل عمله، والمعنى هنا: لهم ثواب إنفاقهم وعملهم.

وقدم الخبر «لهم»: وسمى ثوابهم أجرًا؛ لضمانه عز وجل له وتكفله به، وأنه لا يضيع عنده.

كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف: 30]، وقال تعالى: ﴿ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 171].

وجرد الخبر «لهم» من الفاء؛ لبيان أنهم المستحقون لهذا الأجر، دون غيرهم ممن ينفقون رياءً أو يتبعون ما أنفقوا بالمن والأذى.

﴿ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ أي: عند ربهم في الجنة، وفي كون هذا الأجر عند ربهم، خالقهم ومالكهم ومدبرهم، دليل على عنايته عز وجل بهم، وأنهم بجواره، ودليل على عظمة هذا الأجر؛ لأنه من ربهم العظيم، والأجر والعطاء على قدر المعطي، وكما قيل:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم




﴿ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ مما يستقبلهم من أهوال يوم القيامة.

﴿ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ على ما خلفوا ولا على ما مضى وما فاتهم من الدنيا؛ لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير من ذلك.

فاجتمع للمنفقين في سبيل الله تعالى المضاعفة إلى سبعمائة ضعف، والثواب العظيم عند ربهم، مع انتفاء الخوف مما يستقبلهم والحزن على ما مضى وفاتهم، نسأل الله تعالى من فضله.

قوله تعالى: ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴾، عرَّض عز وجل في الآية السابقة بمن يُتبعون ما أنفقوا بالمَن والأذى، ثم أتبع ذلك ببيان أن القول المعروف والمغفرة خير من صدقة يتبعها أذى.

قوله: ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ﴾ قول: مبتدأ، وجاز الابتداء به وهو نكرة؛ لأنه وصف بقوله: ﴿ مَعْرُوفٌ ﴾ أي: قول طيب، ووعد حسن واعتذار جميل، أو دعاء لمن سأل النفقة بقوله: «الله يرزقك وييسر أمرك»، ونحو ذلك مما يجبر خاطر السائل.

ونكر ﴿ قَوْلٌ ﴾ للتقليل، أي: قول معروف وإن قل.

﴿ وَمَغْفِرَةٌ ﴾ لمن أساء بالستر عليه والتجاوز عنه، سواء كان سائلًا أو غيره ﴿ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126].

و﴿ خَيْرٌ ﴾: خبر المبتدأ ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ﴾، أي: خير مطلقًا للمسؤول وللسائل ﴿ مِنْ صَدَقَةٍ ﴾: الصدقة: ما يبذل تقربًا إلى الله تعالى من مال وغيره، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة»[2].

والمراد بالصدقة في الآية - والله أعلم - الصدقة بإنفاق المال بدلالة السياق.

والمعنى أن القول الطيب المعروف شرعًا وعرفًا من الاعتذار للمحتاج وتطييب خاطره ونحو ذلك ﴿ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ﴾.

وقوله: ﴿ يَتْبَعُهَا أَذًى ﴾ في محل جر صفة لـ«صدقة»، أي: يتبعها أذى من المتصدِّق للمتصدق عليه؛ لأن ذلك يحبطها ويبطل أجرها، ويصير الإحسان إساءة.

ولم يذكر «المنّ»؛ لأن الأذى يشمله، فإذا لم تحصل الصدقة إلا مع الأذى، فالقول المعروف الطيب الحسن، والمغفرة بالستر لذنب من أساء والتجاوز عنه خير من تلك الصدقة.

بل إن القول المعروف يقوم مقام الصدقة عند عدم القدرة عليها، كما قيل:
لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليسعد النطق إن لم تسعد الحال[3]




قال ابن القيم: «فالقول المعروف إحسان وصدقة بالقول، والمغفرة إحسان بترك المؤاخذة والمقابلة، فهما نوعان من أنواع الإحسان، والصدقة المقرونة بالأذى، حسنة مقرونة بما يبطلها، ولا ريب أن حسنتين خير من حسنة باطلة»[4].

﴿ وَاللَّهُ غَنِيٌّ ﴾ أي: والله غني بذاته غنًى مطلقًا، من جميع الوجوه عن جميع خلقه، لا يحتاج إلى أحد منهم، كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [العنكبوت: 6].

والصدقة لا تناله ولا تنفعه، وإنما ينتفع بها صاحبها، كما قال تعالى: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الحج: 37].

وقال عز وجل في الحديث القدسي: «يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها»[5].

﴿ حَلِيمٌ ﴾ أي: لا يعاجل من عصاه بالعقوبة، بل يمهله ولا يهمله، ويفسح له لعله يتوب، قال ابن القيم[6]:
وهو الحليم فلا يعاجل عبده
بعقوبة ليتوب من عصيان




ومن حلمه عز وجل ألا يعاجل من عصاه بإتباع الإنفاق بالمن والأذى ونحو ذلك بالعقوبة، فهو عز وجل غني عن خلقه، ويغني من أنفق وتصدق، وهو سبحانه حليم لا يعاجل من عصاه بالعقوبة بمنع النفقة أو المن فيها أو الأذى، ويحب الحلم من عباده بالمغفرة والعفو عمن أساء.

قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾.

عرَّض عز وجل في الآية السابقة بالذين يتبعون ما أنفقوا بالمن والأذى، ثم أتبع ذلك بالتصريح بنهي المؤمنين عن إبطال صدقاتهم بالمن والأذى، وتشبيه من يفعل ذلك بمن ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، وتشبيه هذا بصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدًا ﴿ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ﴾.

قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ﴾.

الإبطال للشيء إزالته وإذهابه بعد وجوده، قال تعالى: ﴿ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 118].

قال لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل




و(الصدقات) جمع صدقة، وهي ما يبذله الإنسان من النفقات الواجبة والمستحبة، قيل: سميت صدقات؛ لدلالتها على صدق إيمان باذلها، وفي الحديث: «والصدقة برهان»[7]، أي: برهان على صدق صاحبها وإيمانه.

﴿ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ﴾ الباء للسببية، أي: بسبب المن على من تصدقوا عليه بالترفع والتعالي عليه، وإظهار أن لهم المنة والفضل عليه، علمًا أن الفضل لله عز وجل وحده، ولو كان هناك شيء من الفضل لأحدهما لكان للمتصدَّق عليه لقبوله الصدقة.

﴿ وَالْأَذَى ﴾ معطوف على «المن» أي: وبسبب الأذى للمتصدَّق عليه بذكر ذلك للناس، أو إلحاق مكروه به ونحو ذلك، فكل واحد من المنَّ والأذى مبطل للصدقة.

﴿ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ ﴾ الكاف للتشبيه، أي كإبطال الذي ينفقه ماله، فشبه الإبطال بالإبطال، أو لا تكونوا كالذي ينفق له، فشبه المنفق بالمنفق.

﴿ رِئَاءَ النَّاسِ ﴾ «رئاء»: مفعول لأجله، وهو مصدر راءى يرائي مرآءة ورياءً.

أي: كالذي ينفق ماله لرئاء الناس، أي: لأجل أن يراه الناس فيمدحوه على ذلك، ويصفوه بالكرم والصلاح، ونحو ذلك، وليس ذلك لوجه الله، ورجاء ثوابه وخوف عقابه.

والرياء مبطل للعمل، كما قال تعالى في الحديث القدسي: «من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه»[8].

﴿ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ يُنْفِقُ ﴾، أي: ولا يؤمن بوجود الله تعالى وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وشرعه.

﴿ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾؛ أي: ولا يؤمن باليوم الآخر يوم القيامة الذي هو آخر الأيام وما فيه من البعث والمعاد والحساب والجزاء.

وكثيرًا ما يقرن الإيمان باليوم الآخر بالإيمان بالله تعالى؛ لأن الإيمان باليوم الآخر من أعظم ما يحمل ويحفز على العمل؛ لما فيه من الحساب والجزاء.

فشبه عز وجل المبطل لصدقته بالمن والأذى بالمنافق الذي ينفق ماله ليراه الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فهو ينفق وهو كاره ولا تنفعه نفقته، قال تعالى: ﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [التوبة: 54].

وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 142].
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 37.22 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.59 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.69%)]