الوجيز في أصول التفسير بين الماضي والحاضر (2)
د. عبدالسلام حمود غالب
بعد أن ذكرنا ضوابط التفسير للقرآن الكريم بشكل عام دون إسهاب، وكذلك الفرق بين التدبُّر والتفسير وما يتعلق بهما، وذكرنا الإعجاز في القرآن قديمًا وحاضرًا، ولفتات حول الكتابة في الإعجاز العلمي في القرآن بشكل عام، ونُبيِّن هنا خطورة القول في كتاب الله دون علم، وكذلك آداب المفسِّر.
التحذير من القول في كتاب الله بغير علم:
قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 33].
قال البغوي رحمه الله: هو عام في تحريم القول في الدين من غير يقين.
وقال الإمام ابن القيم: "وقد حرَّم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء، وجعله من أعظم المُحرَّمات؛ بل جعله في المرتبة العليا منها، فرتب المُحرَّمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنَّى بما هو أشد تحريمًا منه، وهو الإثم والظلم، ثم ثلَّث بما هو أعظم تحريمًا منهما وهو الشرك به سبحانه، ثم ربع بما هو أشدُّ تحريمًا من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعمُّ القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه"؛ (أعلام الموقعين عن رب العالمين/ 1:38).
ولا يجوز للإنسان أن يتكلَّم في كتاب الله تعالى برأيه المجرد دون علم واستناد إلى مرجع أو أصل، قال الترمذي: باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه، وذكر فيه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوَّأ مقعده من النار»، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وأخرج من حديث جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ»، قال أبو عيسى: هكذا روي عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أنهم شدَّدوا في هذا في أن يفسر القرآن بغير علم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فمن قال في القرآن برأيه، فقد تكَلَّف ما لا علم له به، وسلك غير ما أُمِر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ؛ لأنه لم يأتِ الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار، وإن وافق حكمه الصواب"؛ مجموع الفتاوى (13/ 371).
وقال أبو بكر رضي الله عنه: "أي أرض تُقِلُّني وأي سماء تُظِلُّني إن قلت في آية من كتاب الله برأيي أو بما لا أعلم".
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "إن القرآن كلام الله تعالى، فمن كذب على القرآن فإنما يكذب على الله عز وجل"؛ [أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات].
وقال عبدالله بن عمر رضي الله عنه: "لقد أدركت فقهاء المدينة، وأنهم ليعظمون القول في التفسير، منهم سالم بن عبدالله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع".
وعن ابن أبي مليكة، "أن ابن عباس سئل عن آية- لو سئل عنها بعضُكم لقال فيها-فأبى إن يقول فيها".
وقال مَسْروق رحمه الله: "اتقوا التفسير؛ فإنما هو الرواية عن الله".
وقال مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب، أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال: "إنا لا نقول في القرآن شيئًا".
وقال العلَّامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: "وتفسير القرآن بالرأي تارة يفسره الإنسان بحسب مذهبه كما يفعله أهل الأهواء، فيقول المراد بكذا وكذا: كذا وكذا، مما ينطبق على مذهبه، وكذلك هؤلاء المتأخرون الذين فسَّروا القرآن بما وصلوا إليه من الأمور العلمية الفلكية أو الأرضية والقرآن لا يدل عليها، فإنهم يكونون قد فسَّروا القرآن بآرائهم إذا كان القرآن لا يدل عليه لا بمقتضى النص ولا بمقتضى اللغة، فهذا هو رأيهم، ولا يجوز أن يُفسَّر القرآن بهذا.... إلخ)؛ [شرح مقدمة التفسير لابن تيمية: 116).
وذكر العلماء مجموعة من الآداب التي ينبغي أن تكون فيمن يلج هذا الأمر وهو التفسير لكلام الله رب العالمين لا بد منها نذكر منها ما يلي:
آداب المفسِّر:
يُشار إلى أنَّ هناك العديد من الآداب التي ينبغي للمُفسِّر أن يتحلَّى بها، وفيما يأتي بيان بعضها:
1- الإخلاص وهو من أهمِّ آداب طلَّاب العلم عامَّةً، وأهل التفسير خاصَّةً؛ إذ لا بُدَّ من إخلاص النيَّة والقَصْد لله تعالى، واجتناب الرياء والسَّعْي وراء متاع الدُّنيا الزائل، لا سيَّما أنَّ الأعمال بالنيَّات، فإن أخلص المُفسِّر نيَّته لله تعالى، وَفَّقه الله، وسَدَّد خُطاه في الدُّنيا، وجزاه خير الجزاء في الآخرة.
2- حُسْن الخُلُق يجب على المُفسِّر أن يكون مثالًا يُقتدى به في حُسْن الخُلُق؛ إذ إنَّ الكِبْر، والهوى، وحُبَّ النفس ممَّا يُؤدِّي إلى حَجْب العلم عن صاحبها، كما نقل الإتقان عن البرهان قوله: "اعلم أنَّه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي، ولا تظهر له أسراره وفي قلبه بدعةٌ، أو كِبْرٌ، أو هوى، أو حبُّ الدنيا، أو إصرارٌ على ذنبٍ، أو غير متحقِّقٍ بالإيمان، أو ضعيف التحقيق، أو يعتمد على قول مفسِّرٍ ليس عنده علمٍ، أو راجع إلى معقوله هو، فهذه كلُّها حجب وموانع للمفسِّر عن أن يصل إلى ما يصبو إليه".
3- الصِّدق ينبغي للمُفسِّر تحرِّي الصِّدْق والدقَّة؛ لِئلَّا يقع في الطَّعْن، أو الخطأ، أو اللَّحْن.
4- عزَّة النفس يجب على المُفسِّر اجتناب تفاهات الأمور، ومواضع الذلَّة والمَهانة؛ ليتحلَّى بعزَّة النفس.
5- التروِّي والأناة، ينبغي للمُفسِّر عدم الإسراع أثناء الحديث، وتوضيح كلامه بإخراج الحروف من مخارجها؛ حتى لا يُسيء السامعُ فَهْمَه.
6- الجَهْر بالحقِّ إذ يقع على عاتق المُفسِّر بيان الحقِّ، والجَهْر به مَهْما كلَّفَه الأمر.
7- التواضع وهو من أخلاق المُفسِّر؛ وذلك بتقديم مَن هو أوْلَى منه في مجالس العلم، وعدم التصدِّي للتفسير.
8- الامتثال والعمل، فإن العلم يجد قبولًا من العاملين أضعاف ما يجد من سمو معارفه ودقة مباحثه، وحسن السيرة يجعل المُفسِّر قدوةً حسنةً لما يقرره من مسائل الدين، وكثيرًا ما يصدُّ الناس عن تلقِّي العلم من بحر زاخر في المعرفة لسوء سلوكه وعدم تطبيقه.
9- تقديم من هو أولى منه، فلا يتصدَّى للتفسير بحضرتهم وهم أحياء، ولا يغمطهم حقَّهم بعد الممات، بل يرشد إلى الأخذ عنهم وقراءة كُتُبِهم.
10- حسن الإعداد وطريقة الأداء، كأن يبدأ بذكر سبب النزول، ثم معاني المفردات، وشرح التراكيب، وبيان وجوه البلاغة والإعراب الذي يتوقَّف عليه تحديد المعنى، ثم يُبيِّن المعنى العام ويصله بالحياة العامة التي يعيشها الناس في عصره، ثم يأتي إلى الاستنباط والأحكام.
(ينظر: محمد أحمد محمد معبد (1426 هـ - 2005م)، نفحات من علوم القرآن (الطبعة الثانية)، القاهرة: دار السلام، صفحة 127، بتصرُّف).