عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 02-11-2024, 01:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,745
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير سورة النبأ



امتنان الله تعالى على خلقه بنِعْمَةِ النَّوْمِ:
فِيْ قَوْلِهِ تَعَالَىْ: ﴿ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ﴾: أن النَّوْم نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ لَا يَعْرِفُ قَدْرَهَا إِلَّا مَنْ حُرِمَ مِنْهَا، خَلَقَهُ اللهُ لِتَحْصُلَ فِيهِ لِلْإِنْسَانِ الرَّاحَةُ وَالسَّكِينَةُ، وللنوم فوائد عظيمة؛ منها ما ذكره ابن القيم رحمه الله فقال: "وَلِلنَّوْمِ فَائِدَتَانِ جَلِيلَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا:سُكُونُ الْجَوَارِحِ وَرَاحَتُهَا مِمَّا يَعْرِضُ لَهَا مِنَ التَّعَبِ، فَيُرِيحُ الْحَوَاسَّ مِنْ نَصَبِ الْيَقَظَةِ، وَيُزِيلُ الْإِعْيَاءَ وَالْكَلَالَ.

وَالثَّانِيَةُ:هَضْمُ الْغِذَاءِ، وَنُضْجُ الْأَخْلَاطِ؛ لِأَنَّ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ فِي وَقْتِ النَّوْمِ تَغُورُ إِلَى بَاطِنِ الْبَدَنِ، فَتُعِينُ عَلَى ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا يَبْرُدُ ظَاهِرُهُ وَيَحْتَاجُ النَّائِمُ إِلَى فَضْلِ دِثَارٍ"[75].

وقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله عند قوله تعالى: ﴿ وَالنَّوْمَ سُبَاتًا[سورة الفرقان:47]: "أَيْ: قَطْعَا لِلْحَرَكَةِ؛ لِرَاحَةِ الْأَبْدَانِ، فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ وَالْجَوَارِحَ تَكِلُّ مِنْ كَثْرَةِ الْحَرَكَةِ فِي الِانْتِشَارِ بِالنَّهَارِ فِي الْمَعَايِشِ؛ فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ وَسَكَنَ سَكَنَتِ الْحَرَكَاتُ، فَاسْتَرَاحَتْ فَحَصَلَ النَّوْمُ الَّذِي فِيهِ رَاحَةُ الْبَدَنِ وَالرُّوحِ مَعًا"[76].

فَجعل اللهُ تعالى النَّوْم رَاحَةً إِجْبارِيَّة يَتَقَوَّى بِهَا الْإِنْسَانُ عَلَى مَعَاشِهِ فِي النَّهَارِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ رضي الله عنه: «يَا عَبْدَ اللهِ، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومَ اللَّيْلَ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا»[77].

بيان نِظَام الْحَيَاةِ لَيْلًا وَنَهَارًا:
فِيْ قَوْلِهِ تَعَالَىْ: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ﴾ أن مِنْ سُنَنِ اللهِ الْكَوْنِيَّةِ أَنَّ النَّوْمَ وَالرَّاحَةَ فِي اللَّيْلِ، وَالْعَمَلَ وَالسَّعْيَ وَالْكَدْحَ فِي النَّهَارِ. قَالَ ابْنْ عَاشُور رحمه الله: "وَفِي هَذَا امْتِنَانٌ عَلَى النَّاسِ بِخَلْقِ نِظَامِ النَّوْمِ فِيهِمْ؛ لِتَحْصُلَ لَهُمْ رَاحَةٌ مِنْ أَتْعَابِ الْعَمَلِ الَّذِي يَكْدَحُونَ لَهُ فِي نَهَارِهِمْ، فَاللهُ تَعَالَى جَعَلَ النَّوْمَ حَاصِلًا لِلْإِنْسَانِ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ، فَالنَّوْمُ يُلْجِئُ الْإِنْسَانَ إِلَى قَطْعِ الْعَمَلِ؛ لِتَحْصُلَ رَاحَةٌ لِمَجْمُوعِهِ الْعَصَبِيِّ الَّذِي رُكْنُهُ فِي الدِّمَاغِ، فَبِتِلْكَ الرّاحَةِ يَسْتَجِدُّ الْعَصَبُ قُوَاهُ الَّتِي أَوْهَنَهَا عَمَلُ الْحَوَاسِّ وَحَرَكَاتُ الأَعْضَاءِ وَأَعْمَالُهَا، بِحَيْثُ لَوْ تَعَلَّقَتْ رَغْبَةُ أَحَدٍ بِالسَّهَرِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَغْلِبَهُ النَّوْمُ"[78].

وقال أيضًا رحمه الله: "كَوْنَ اللَّيْلِ لِبَاسًا حَالَةٌ مُهَيِّئَةٌ لِتَكَيُّفِ النَّوْمِ وَمُعِينَةٌ عَلَى هَنَائِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ لِأَنَّ اللَّيْلَ ظُلْمَةٌ عَارِضَةٌ فِي الْجَوِّ مِنْ مُزَايَلَةِ ضَوْءِ الشَّمْسِ عَنْ جُزْءٍ مِنْ كُرَةِ الْأَرْضِ وَبِتِلْكَ الظُّلْمَةِ تَحْتَجِبُ الْمَرْئِيَّاتِ عَنِ الْإِبْصَارِ فَيَعْسُرُ الْمَشْيُ وَالْعَمَلُ وَالشُّغْلُ وَيَنْحَطُّ النَّشَاطُ فَتَتَهَيَّأُ الْأَعْصَابُ لِلْخُمُولِ ثُمَّ يَغْشَاهَا النَّوْمُ فَيَحْصُلُ السُّبَاتُ بِهَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الْعَجِيبَةِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ نِظَامُ اللَّيْلِ آيَةً عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَبَدِيعِ تَقْدِيرِهِ...، ﴿ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ﴾، لَمَّا ذُكِرَ خَلْقُ نِظَامِ اللَّيْل قوبل بِذكر خلق نِظَامِ النَّهَارِ، فَالنَّهَارُ: الزَّمَانُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ ضَوْءُ الشَّمْسِ مُنْتَشِرًا عَلَى جُزْءٍ كَبِيرٍ مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ. وَفِيهِ عِبْرَةٌ بِدِقَّةِ الصُّنْعِ وَإِحْكَامِهِ إِذْ جُعِلَ نِظَامَانِ مُخْتَلِفَانِ مَنْشَؤُهُمَا سُطُوعُ نُورِ الشَّمْسِ وَاحْتِجَابُهُ فَوْقَ الْأَرْضِ، وَهُمَا نعمتان للبشر مُخْتَلِفَانِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْآثَارِ فَنِعْمَةُ اللَّيْلِ رَاجِعَةٌ إِلَى الرَّاحَةِ وَالْهُدُوءِ، وَنِعْمَةُ النَّهَارِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْعَمَلِ وَالسَّعْيِ، لِأَنَّ النَّهَارَ يَعْقُبُ اللَّيْلَ فَيَكُونُ الْإِنْسَانُ قَدِ اسْتَجَدَّ رَاحَتَهُ وَاسْتَعَادَ نَشَاطَهُ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ مُخْتَلِفِ الْأَعْمَالِ بِسَبَبِ إِبْصَارِ الشُّخُوصِ وَالطُّرُقِ. وَلَمَّا كَانَ مُعْظَمُ الْعَمَلِ فِي النَّهَارِ لِأَجْلِ الْمَعَاشِ أُخْبِرَ عَنِ النَّهَارِ بِأَنَّهُ مَعَاشٌ وَقَدْ أَشْعَرَ ذِكْرُ النَّهَارِ بَعْدَ ذِكْرِ كُلٍّ مِنَ النَّوْمِ وَاللَّيْلِ بِمُلَاحَظَةِ أَنَّ النَّهَارَ ابْتِدَاءُ وَقْتِ الْيَقَظَةِ الَّتِي هِيَ ضِدُّ النَّوْمِ"[79].

والعَجَبُ مِمَّنْ غَيَّرَ هَذا النَّامُوْسَ الرَّبَّانِيَّ؛ فَقَلَبَ الَّليْلَ نَهَارًا والنَّهَارَ لَيْلًا؛ فَهُو يَشْتَغِلُ وَيَطْلُبُ الْمَعَاشَ فِي الَّليل، وَيَنامُ فِي النَّهَارِ من غير ضرورة، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله أَضْرَارَ النَّوْمِ فِيْ النَّهَارِ فقال: "وَنَوْمُ النَّهَارِ رَدِيءٌ يُورِثُ الْأَمْرَاضَ الرُّطُوبِيَّةَ وَالنَّوَازِلَ، وَيُفْسِدُ اللَّوْنَ، وَيُورِثُ الطِّحَالَ، وَيُرْخِي الْعَصَبَ، وَيُكْسِلُ، وَيُضْعِفُ الشَّهْوَةَ إِلَّا فِي الصَّيْفِ وَقْتَ الْهَاجِرَةِ، وَأَرْدَؤُهُ نَوْمُ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَأَرْدَأُ مِنْهُ النَّوْمُ آخِرَهُ بَعْدَ الْعَصْرِ...، وَقِيلَ: نَوْمُ النَّهَارِ ثَلَاثَةٌ: خُلُقٌ، وَحُرَقٌ، وَحُمْقٌ. فَالْخُلُقُ: نَوْمَةُ الْهَاجِرَةِ، وَهِيَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِصلى الله عليه وسلم. وَالْحُرَقُ: نَوْمَةُ الضُّحَى، تَشْغَلُ عَنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالْحُمْقُ: نَوْمَةُ الْعَصْرِ"[80].

عَرْضُ بَعْضِ ما تفَضَّلَ الله تعالى به على عباده تقريرًا لتوحيد الربوبية:
فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْمُبَارَكَةِ: عَرْضٌ عَجِيبٌ لكثير من النعم التي تَفَضَّل الله تعالى بها على عباده؛ وذلك من باب الاستدلال بذلك على توحيد الربوبية:
فَالْأَرْضُ جَعَلَهَا اللهُ بِقُدْرَتِهِ ﴿ مِهَادًا ﴾ وفِرَاشًا مُمَهَّدًا، وَبِسَاطًا مَمْدُودًا، يَتَحَرَّكُ فَيها الْإِنْسَانُ وَيَسْلُكُ مَسَالِكَهَا، وَيَجِدُ وَسَائِلَ الْعَيْشِ وَالْحَيَاةِ فِيهَا.

وَالْجِبَالُ جَعَلَهَا اللهُ سُبْحَانَهُ ﴿ أَوْتَادًا ﴾ تُمْسِكُ الْأَرْضَ، فَلَا تَمِيدُ وَتَضْطَرِبُ.. فَهِيَ أَشْبَهُ بِالْأَوْتَادِ الَّتِي تَشُدُّ الْخَيْمَةَ وَتُمْسِكُ بِهَا.

وَالنَّاسُ خَلَقَهُمُ اللهُ أَزْوَاجًا؛ ذَكَرًا وَأُنْثَى، حَتىَّ يَتَوَالَدُوا فِي هَذِهِ الْأَرْضِ وَيَتَكَاثَرُوا، وَهَذِهِ الْمُزَاوَجَةُ أَمْرٌ عَامٌّ يَنْتَظِمُ عَوَالِمَ الْأَحْيَاءِ كُلِّهَا؛ مِنْ نَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ وَجَمَادٍ.. بَلْ إِنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَيَمْتَدُّ، فَيَشْمَلُ عَالَمَ الْمَعَانِي أَيْضًا.. فَالذَّكَرُ تُقَابِلُهُ الْأُنْثَى، وَالأُنْثَى يُقَابِلُها الذَّكَرُ، وَالنُّورُ يُقَابِلُهُ الظَّلَامُ، وَالنَّهَارُ يُقَابِلُهُ اللَّيْلُ، وَالْيَقَظَةُ يُقَابِلُهَا النَّوْمُ، وَالحْيَاةُ يُقَابِلُهَا الْمَوْتُ، وَالْحَقُّ يُقَابِلُهُ الْبَاطِلُ، وَالْجَمِيلُ يُقَابِلُهُ الْقَبِيحُ.. وَهَكَذَا[81].

وأنزل الْمَاء وأخْرَج النَّبَات، فقال تَعَالَى: ﴿ لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا[سورة النبأ:15-16]، وفي هذا بَيَانٌ لِبَعْضِ مَا تَفَضَّلَ بِهِ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ بِأَنْ أَخْرَجَ بِالْمَاءِ حَبًّا مُخْتَلِفًا أَنْوَاعُهُ كَالْقَمْحِ وَالشَّعيرِ وَالذُّرَةِ، مِنْهُ يَقْتاتُ النَّاسُ وَالبَهَائِمُ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيج[سورة الحج:5]، وَقَالَ: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا[سورة فاطر:27]، وَقَالَ: ﴿ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ[سورة الزمر:21]. قَالَ المَرَاغِيُّ رحمه الله: "وَقَدْ جَمَعَ اللهُ فِي هَذِهِ الآيَةِ[82] جَميعَ أَنْواعِ مَا تُنْبِتُهُ الْأرْضُ، فَإِنَّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا: إِمَّا أَنْ يَكونَ ذَا سَاقٍ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ إِذَا اجْتَمَعَ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ وَكَثُرَ حَتَّى الْتَفَّ فَهُوَ الْحَديقَةُ، وَالثَّانِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَكْمَامٌ فيهَا حَبٌّ، وإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ النَّبَاتُ. وَقَدَّمَ الْحَبَّ؛ لِأَنَّهُ غِذاءُ أَشْرَفِ أَنْواعِ الْحَيَوَانِ وَهُوَ الإِنْسَانُ، وَأَعْقَبَهُ بِذِكْرِ النَّبَاتِ؛ لِأَنَّهُ غَذَاءُ بَقِيَّةِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، وَأَخَّرَ الْحَدَائِقَ؛ لِأَنَّ الْفَاكِهَةَ مِمَّا يَستَغْنِي عنْهَا الْكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ"[83].

ففي هذه الآيات بيان لِفَضْلِ اللهِ على عبادِهِ، وهيَ أَدِلَّة وَبَرَاهِين شَاهِدَة عَلَى قُدْرَةِ اللهِ عز وجل؛ حَيَاةً، وَمَوْتًا، وَبَعْثًا، وغير ذلك؛ وهكذا يَظْهَرُ بِجَلَاءٍ وَاضِحٍ في السُّورَةِ تِلْكَ الْعِنَايَةُ الشَّدِيدَةُ بِبَيَانِ قدرة الله تعالى وعرض أَدَلَّةِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهُوَ التّوْحِيدُ الذِي يُبْنَى عَلَيْهِ تَوْحيدُ الأُلُوهيَّةِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِتَوْحيدِ الرُّبُوبِيَّةِ لَزِمَهُ مِنْ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ أَنْ يُفْرَدَ اللهُ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُعز وجل، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُعْبَدَ إِلَّا مَنْ كَانَ رَبًّا خَالِقًا مَالِكًا مُدَبِّرًا، ومَا دَامَ ذَلِكَ كُلُّهُ للهِ وَحْدَهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ المَعْبُودُ وَحْدَهُ.

وَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَلَى سَوْقِ آيَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ مَقْرُونَةً بِآيَاتِ الدَّعْوَةِ إِلَى تَوْحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون[سورة البقرة:21]، فَطالَبَهُمْ بِتَوْحيدِ الْأُلوهِيَّةِ مُحْتَجًّا عَلَيْهِمْ بِتَوْحيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَأَنَّهُ خلَقَهُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُون[سورة البقرة:22]؛ فَابْتَدَأَ الآيَةَ بِالأَمْرِ بِالعِبَادَةِ، وَخَتَمَ بِالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ، وَذَكَرَ بَيْنَهُمَا تَوْحيدَ الرُّبُوبِيَّةِ.

وَأَمَّا تَوْحيدُ الْأُلوهِيَّةِ فَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِتَوْحيدِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَنْ عَبَدَ اللهَ وَلَمْ يُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا فَهَذَا يَدُلُّ ضِمْنًا عَلَى أَنَّهُ قَدِ اعْتَقَدَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ رَبُّهُ وَمَالِكُهُ الَّذِي لَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَهَذَا أَمْرٌ يُشاهِدُهُ الْمُوَحِّدُ مِنْ نَفْسِهِ، فَكَوْنُهُ قَدْ أَفْرَدَ اللهَ بِالعِبَادةِ وَلَمْ يَصْرِفْ شَيْئًا مِنْهَا لِغَيْرِ اللهِ، مَا هُوَ إِلَّا لِإِقْرَارِهِ بِتَوْحيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَأَنَّهُ لا رَبَّ وَلَا مَالِكَ وَلَا مُتَصَرِّفَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ.

الْحِكْمَةُ مِنْ جَعْلِ الْجِبَالِ أَوْتَادًا لِلْأَرْضِ:
فِيْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾: بَيَانٌ لِحِكْمَةِ جَعْلِ الجبال أوتادًا، قَالَ ابْن عُثَيْمينٍ رحمه الله: "أَيْ: جَعَلَهَا اللهُ تَعَالَى أَوْتادًا لِلْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ الْوَتِدِ لِلْخَيْمَةِ؛ حَيْثُ يُثّبِّتُهَا فَتَثْبُتُ بِهِ، وَهِيَ أَيْضًا ثَابِتَةٌ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا[سورة فصلت:10]. قَالَ عُلَمَاءُ الْأَرْضِ: إِنَّ هَذِهِ الْجِبَالَ لَهَا جُذُورٌ رَاسِخَةٌ في الْأَرْض كَمَا يَرْسَخُ جِذْرُ الْوَتِدِ بِالْجِدَارِ، أَوْ وَتِدُ الْخَيْمَةِ فِي الْأَرْضِ، وَلِذَلِكَ تَجِدُهَا صَلْبَةً قَوِيَّةً لَا تُزَعْزِعُهَا الرِّيَاحُ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ قُدْرَتِهِ وَنِعْمَتِهِ"[84].

وأَمَّا وَجْهُ مُناسَبَةِ ذِكْرِ الْجِبَالِ في السُّورَةِ فَهُوَ أَمْرَانِ:
الْأَوَّلُ: دَعَا إِلَيْها ذِكْرُ الأَرْضِ وَتَشْبِيهُهَا بِالمِهَادِ الَّذي يَكُونُ دَاخِلَ الْبَيْتِ، فَشُبِّهَتْ جِبَالُ الْأَرْضِ بِأَوْتادِ الْبَيْتِ تَخْيِيلًا لِلْأَرْضِ مَعَ جِبَالِهَا بِالْبَيْتِ وَمِهَادِهِ وَأَوْتَادِهِ.

الثَّانِي: أَنَّ كَثْرَةَ الْجِبَالِ النَّاتِئَةِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ قَدْ يَخْطُرُ فِي الْأَذْهَانِ أَنَّهَا لَا تُنَاسِبُ جَعْلَ الْأَرْضِ مِهَادًا، فَكَانَ تَشْبيهُ الْجِبَالِ بِالْأَوْتَادِ مُسْتَمْلَحًا بِمَنْزِلَةِ حُسْنِ الاعْتِذَارِ[85].

الاستدلال على البعث بعد الموت بإِحْيَاء الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ:
فِيْ قَوْلِهِ تَعَالَى:﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا[سورة النبأ: ١٤-١٦]: أن نُزُول الْمَطَرِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ أَقوَى الأَدِلَّةِ على البَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ وَلِهَذا يَقُولُ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيج * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُور[سورة الحج:5-7][86].

قَالَ ابْنُ عَاشُوْرٍ رحمه الله: "اسْتِدْلَالٌ بِحَالَةٍ أُخْرَى مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي نِظَامِ الْمَوْجُودَاتِ وَجَعَلَهَا مَنْشَأً شَبِيهًا بِحَيَاةٍ بَعْدَ شَبِيهٍ بِمَوْتٍ أَوِ اقْتِرَابٍ مِنْهُ وَمَنْشَأَ تَخَلُّقِ مَوْجُودَاتٍ مِنْ ذَرَّاتٍ دَقِيقَةٍ، وَتِلْكَ حَالَةُ إِنْزَالِ مَاءِ الْمَطَرِ مِنَ الْأَسْحِبَةِ عَلَى الْأَرْضِ فَتُنْبِتُ الْأَرْضُ بِهِ سَنَابِلَ حَبٍّ وَشَجَرًا، وَكَلَأً، وَتِلْكَ كُلُّهَا فِيهَا حَيَاةٌ قَرِيبَةٌ مِنْ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَهِيَ حَيَاةُ النَّمَاءِ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا لِلنَّاسِ عَلَى تَصَوُّرِ حَالَةِ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ بِدَلِيلٍ مِنَ التَّقْرِيبِ الدَّالِّ عَلَى إِمْكَانِهِ حَتَّى تَضْمَحِلَّ مِنْ نُفُوسِ الْمُكَابِرِينَ شُبَهُ إِحَالَةِ الْبَعْثِ.وَهَذَا الَّذِي أُشِيرُ إِلَيْهِ هُنَا قَدْ صُرِّحَ بِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيد * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيد * رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوج[سورة ق: 9-11]"[87].

انْفِتَاحُ السَّمَاءِ لِنُزولِ الْمَلائِكَةِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا[سورة النبأ:19]: أَنَّ أَبْوَابَ السَّمَاءِ تَتَفَتَّحُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لنُزولُ الْمَلَائِكَةِ[88].

ذكر أَحْوَال الْجِبَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا[سورة النبأ:20]: ذَكَرَ حالًا مِنْ أَحْوَالِ الْجِبَالِ يَوْمَ الْقِيَامةِ، وَفِي الْقُرْآنِ أَحْوَالٌ أُخْرَى لَهَا. قَالَ الشَّوْكَانِيُّ رحمه الله: "وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحانَهُ أَحْوالَ الْجِبالِ بِوُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ، ولَكِنَّ الجَمْعَ بَيْنَها أَنْ نَقُولَ:
أَوَّلُ أَحْوالِها: الْانْدِكَاكُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿ وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَة[سورة الحاقة:14].

وَثانِي أَحْوالِهَا: أَنْ تَصِيرَ كَالعِهْنِ الْمَنْفُوشِ؛ كَمَا في قَوْلهِ: ﴿ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوش[سورة القارعة:5].

وَثَالِثُ أَحْوَالِها: أَنْ تَصِيرَ كَالهَبَاءِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا[سورة الواقعة:5-6].

وَرَابِعُ أَحْوالِها: أَنْ تُنْسَفَ وَتَحْمِلَهَا الرِّياحُ كَمَا في قَوْلِهِ: ﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ[سورة النمل:88].

وَخَامِسُ أَحْوَالِها: أَنْ تَصِيرَ سَرابًا، أَيْ: لَا شَيْءَ كَمَا في هَذِهِ الآيَةِ"[89].

بيان مَا يَحْصُلُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ مِنْ عَلَامَاتٍ:
فيَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ عَظيمٌ رَهيبٌ؛ وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ اللهُ يَوْمَ الفَصْلِ، وَقَدْ تَحَدَّدَ وَقْتُهُ بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ، فَلا يَتَقَدَّمُ وَلا يَتَأَخَّرُ، وَلَا يَعْلَمُ شَأْنَهُ إِلَّا اللهُ سُبْحَانَهُ. وَفي السُّورَةِ ذِكْرٌ لِبَعْضِ الْعَلامَاتِ الَّتي تَسْبِقُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، مِنْها: نَفْخُ الصُّورِ، وَتَشُقُّقُ السَّمَاءِ، وتَسيِيرُ الجِبَالِ عَنْ أَمَاكِنِهَا وَصَيْرُورَتُها هَبَاءً مُنْبَثًّا كالهَوَاءِ.

التَّخويفُ مِنَ النَّارِ وَأَهْوَالِهَا:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلْطَّاغِينَ مَآبًا * لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ﴾، وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الآيَاتِ: مَسْلَكٌ قُرْآنيٌّ يَتَمَثَّلُ في التَّخْويفِ وَالتَّرْهيبِ مِنَ النَّارِ وَعَذابِها وَأَهْوَالِهَا[90]، وكذلك قَوْله تَعَالَى:: ﴿ لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلاَ شَرَابًا * إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ﴾ فذكر أَنَّ الكُفَّارَ لَيْسَ لَهُمْ فِي النَّارِ إِلاَّ مَاءٌ حَارٌّ مُحْرِقٌ، وَقَيْحُ أَهْلِهَا، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُم[سورة محمد:15].

وَقد وَرَدَ في التَّخْويفِ وَالتَّحْذِيرِ مِنَ النَّارِ: أَحَادِيثٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ مِنْهَا: حَدِيثُ النُّعْمَانِ بنِ بَشيرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنْذَرْتُكُمُ النَّارَ، أَنْذَرْتُكُمُ النَّارَ، أَنْذَرْتُكُمُ النَّارَ، فَمَا زَالَ يَقُولُهَا، حَتَّى لَوْ كَانَ في مَقَامِي هَذَا سَمِعَهُ أَهْلُ السُّوقِ، حَتَّى سَقَطَتْ خَمِيصَةٌ كَانَتْ عَليْهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ»[91]. ومنها: حَدِيثُ عَدِيِّ بنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّارَ فَأَعْرَضَ وَأَشَاحَ، ثُمَّ قَالَ: «اتَّقُوا النَّارَ»، ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ كَأَنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ، فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ»[92]، وَهَذَا الْحَديثُ الْعَظِيمُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَلِمَةَ الطَّيِّبةَ صَدَقَةٌ يُتَّقى بهَا النَّارُ، كَمَا أنَّ الكَلِمَةَ الخَبِيثةَ قَدْ تُوجِبُ النَّارَ.

بيان خُلُود الْكُفَّارِ في النَّارِ وَعَدَم خُرُوجِهِمْ مِنْهَا:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ﴾: ذكْر خُلُود الكُفَّارِ في النَّارِ، وَعَدَمِ خُرُوجِهِمْ مِنْهَا، وَعَدَمِ فَنَائِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا[سورة البينة:6]، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعُصَاةِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ فَإِنَّهُمْ يَخْرُجُونَ منَ النَّارِ[93]؛ لِمَا رَوَى أَنَسُ بنُ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ اللهُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي، لَأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»[94].

وَمذهب أَهْلِ السُّنَّةِ: أنَّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ مِنْ عُصَاةِ المْوَحِّدِينَ فَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْهَا بِشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ، أَوْ بِرَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ، ثُمَّ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ[95].

بيان أن الْجَزاء مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وأن ذلك من تمام عدل الله تعالى:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ جَزَاء وِفَاقًا ﴾: أن الله تَعَالَى يُجَازي الْمُتَّقِينَويعَاملهم بِالرَّحْمَةِ وَالْعَطَاءِ والْكَرَمِ وَالجُودِ، ويجازي العصاة بما يستحقون من دخول النَّار والعذاب فيها، وهكذا يعامِلُهُمْ بِالوِفَاقِ وَالْعَدْلِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ رحمه الله: "أَيْ: جَازَيْنَاهُمْ جَزَاءً وَافَقَ أَعْمَالَهُمْ، قَالَ مُقَاتِل: وَافَقَ العَذَابُ الذَّنْبَ فَلَا ذَنْبَ أَعْظَمُ مِنَ الشِّرْكِ وَلَا عَذابَ أَعْظَمُ مِنَ النَّارِ"[96].

ويَظْهَرُ في هذه الآية: تَمَامُ عَدْلِ اللهِ تَعَالَى سُبْحَانَهُ وَدِقَّةُ قِسْطِهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ آيَاتٌ أُخْرَى، مِنْها قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين[سورة الأنبياء:47]، وَقَوْلُهُ: ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ[سورة النساء:40].

ذِكْرُ أن التَّصْديق بِالْبَعْثِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ حِسَابًا[سورة النبأ:27]: بَيَانُ أنَّ الِإيمَانَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَرْكَانِ الإِيمَانِ الَّتِي تَدْعُو لِلإيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ.

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 37.03 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.40 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.70%)]