عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 12-10-2024, 10:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,002
الدولة : Egypt
افتراضي رد: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها: دعاوى التفلّت من التكاليف الشرعية

وعليه يمكننا القول إن التكليف بالمعنى اللغوي والاستعمال الشرعي يعني المشقة، قولاً واحداً لا خلاف فيه ولا غموض.
أما الوسع فهو أيضاً يعني - لغة وشرعاً – الطاقة والقدرة بلا خلاف ولا غموض، فمعظم المفسرين على أنه ما كان دون الضيق والمشقة، أي أن أداء التكاليف يتأتى بيسر وسهولة لأنه دون الوسع، أي لا يستفرغه ويبلغ أقصاه بما يشق على المكلف ويجهده؛ وإن كان بعضهم يراه من استفراغ الوسع بأقصى طاقة. إلا أن المقطوع به هو أن الوسع ضمن القدرة والطاقة، وهو نقيض العجز.
هذا من جهة دلالة الألفاظ لغة وشرعًا. أما من جهة المدلول ومناط الأحكام، فإن الآية الرئيسية موضوع البحث في سورة البقرة {(وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ)} [26]، موضوعها وسبب نزولها - كما بيّنا في أعلاه - هو حديث النفس والوساوس مما هو من أعمال القلوب، وتداعي الأفكار والخواطر العرَضية. بينما الآيات الأخرى فقد جاءت في سياق ومناط مختلف، فآية سورة البقرة {(لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا)} [27] موضوعها الرزق والكسوة، أي النفقة الواجبة على الأب، فهي في باب الكسب والأفعال والتصرفات والحقوق المالية ضمن العلاقات الاجتماعية، وأما الآية في سورة الأنعام (لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا)[28]، فهي في سياق الأخذ من مال اليتيم بالتي هي أحسن والوفاء بالكيل والميزان بالقسط، وهي جميعها تحت باب الكسب والمعاملات وأداء الحقوق المالية.
وأما الآية في سورة الأعراف {(لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا)} [29]، فهي في سياق مختلف عما سبقها إذ جاءت في معرض مخاطبة الكفار بالإيمان والعمل الصالح وأن ذلك تكليف لهم بالوسع ومآله جنة الخلد، أي هو سياق دعوة وتنبيه بأن الجنة يوصل إليها بالعمل السهل (كما ذكر الرازي)، وأن الإيمان والعمل به سهل (كما أشار ابن كثير). فهي من هذه الناحية تتحدث عن جنس التكليف وعمومه، ويشمل الإيمان والأعمال بأنواعها.
وتوضيحًا لما سبق نقول: إن نفي التكليف بما هو خارج عن الوسع والقدرة يشمل حديث النفس والخواطر والعزم من أعمال القلوب، كما يشمل الحقوق المالية والتصرفات والمعاملات من أعمال الجوارح، ويشمل أيضًا كافة أمور الدين من تكاليف الإيمان والأعمال وكل أنواع التكليف بأحكام الشريعة من حيث المبدأ.
ونختم هذه الفقرة بقوله تعالى في سورة المؤمنون { (ولاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا)} [30]، حيث جاءت في سياق كتاب الأعمال والحساب، عقب التحريض على فعل الطاعات والمسارعة فيه وبيان سهولته لسعته وقدرة الناس عليه.
ويجدر بنا هنا نقل تعليق الشيخ محمد متولي الشعراوي في تفسير هذه الآية من سورة المؤمنون، لدقته وروعة بيانه: "بعد أن تكلم الحق سبحانه عن المسارعة والمنافسة بيَّن أنها على قَدْر الوُسْع والطاقة، وأنه سبحانه ما كلّفك إلا بعد عِلْمه بقدرتك، وأنك تسع هذا التكليف، فإياك أنْ تنظر إلى الحكم فتقول: أنا أسعه أو لا أسعه، لكن انظر إلى التكليف: ما دام ربك قد كلّفك فاعلم أنه في وُسْعك، وحين يعلم منك ربك عدم القدرة يُخفِّف عنك التكليف دون أنْ تطلب أنت ذلك. والأمثلة على تخفيف التكاليف واضحة في الصلاة والصوم والحج.. الخ. والآن نسمع مَنْ يقول: لم تَعُد الطاقة في هذا العصر تسع هذه التكاليف، فالزمن تغيّر، والأعمال والمسئوليات كثرت، إلى غير ذلك من هذه الأقوال التي يريد أصحابها التنصّل من شرع الله. ونقول: ما دام التكليف باقياً فالوُسْع بَاقٍ، والحق - سبحانه وتعالى - أعلم بوُسْع خَلْقه وطاقاتهم. إذن: أنا أنظر أولاً إلى التكليف، ثم أحكم على الوُسْع من التكليف، ولا أحكم على التكليف من الوُسْع".[31]

التكليف والقدرة والرّخَص الشرعية:
وهنا مسألتان ينبغي بيانهما لكونهما تختلطان أو تغيبان عمن يتصدون للقضايا المعاصرة، لا سيما الصعوبات والعقبات التي تواجه المسلمين عند التقيد بالأحكام الشرعية. المسألتان هما علاقة التكليف بقدرة المكلَّف، وبالرّخص الشرعية.
  • القدرة: من المقرر في أصول الفقه أن القدرة شرط من شروط التكليف، تمامًا كالعقل والبلوغ، وهو من المسائل الثابتة في كتب أصول الفقه تحت مباحث الحاكم والمحكوم فيه والمحكوم عليه ...، فالقدرة على الأداء شرط في وقوع التكليف كالقدرة على فهم الخطاب.
  • الرخص الشرعية: أن ما نزل من أحكام وتشريعات تكليفية من التحليل والوجوب والتحريم، لا بدّ أنها تقع ضمن قدرة الإنسان وطاقته العادية، بتفاوت بين اليسر والمشقة غير العادية، وهي لا تخرج عن ذلك إلا في حالات وأسباب شُرعت لها رُخَص وأحكام خصصت الحكم التكليفي العام، من مثل العجز المقعد، والاضطرار الملجئ {(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)} [32]، والإكراه « (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه)» [33].
ومن أراد الاستزادة، فعليه مراجعة هذين المبحثين في مظانهما من كتب أصول الفقه. إلا أنه يجدر بنا هنا التأكيد على أن تحقيق حصول القدرة من عدمه لدى المكلف، أو تحقّق الرخص الشرعية بشروطها، يتطلب غالبًا التحرّي من قبل فقيه واع أو مجتهد نبيه، لأن ذلك يندر أو يصعب، أو يستحيل على الفرد بسبب فقدانه للأدوات والمعارف، أو لعدم تجرده عن الهوى!
التكاليف في منظومة المفاهيم الشرعية:
وقبل الختام، يتعين علينا وضع مفهوم التكليف في سياقه الصحيح في دين الإسلام وشريعته من حيث العبودية لصاحب الشريعة ومُصدِر التكليف، وهو الله سبحانه وتعالى:
  • التكليف والمنفعة: لقد سيطر مفهوم النفعية والمصلحة الشخصية والظواهر المادية على كثير من المسلمين، حتى المتدينين، بل وسيطرت هذه المفاهيم المناقضة لنصوص القرآن والسنة على خطاب الكثير من الوعاظ وما يُطلق عليه "الدعاة الجدد" الذين يتوسّلون في مقارباتهم بربط التكاليف الشرعية بالفوائد والمصالح والمنافع كوسيلة للجذب والإقناع، ليس في أحكام المعاملات فحسب، بل حتى في أحكام العبادات والأخلاق. وهو ما جعل طاعة الله في أوامره ونواهيه، وحلاله وحرامه وقفًا على ما يراه الفرد، رجلاً أو امرأة، الشاب أو الفتاة، من منافع وفوائد يحققها لهم الحكم الشرعي، وأدى إلى تغييب المفاهيم الشرعية الأساسية من تسليم وطاعة ورضى وانقياد لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم. ونتج عن ذلك أن تركز في أذهاب عامة المسلمين أن الشرع لا يتعارض مع مصلحة الشخص، طبعًا كما يراها هو، لا كما شرعها علام الغيوب، الحكيم العليم، اللطيف الخبير!
  • تحديد التكليف عمليًا: من المعلوم أن استنباط الأحكام الشرعية بما فيها التكاليف، منوط بالمجتهدين ممن توفرت لديهم أدوات الاجتهاد وعلومه اللغوية والشرعية، كما أن تنزيل الأحكام على واقع المسائل والمكلفين منوط بالفقهاء، وبمن تولى القضاء من المجتهدين والفقهاء. وذلك لأن جلّ الأحكام تستنبط بالدلالات والقرائن اللغوية الشرعية، ويكاد يلزم فيها كلها الجمع بين نصوص المسألة الواحدة في الكتاب والسنة، وإعمال قواعد التفسير وعلوم الحديث وعلوم اللغة، وعلوم الأصول كالإجماع والقياس. وكل ذلك لا يتأتى للمسلم العادي، أي من ينطبق عليه وصف المقلد العامي.
  • التكليف ودار العمل: في خضم هذه الحياة يغيب عنا، في الفكر والهم والعمل والمكابدة، أن الحياة هي عرض زائل مؤقت، بأزمانها ومتاعها وهمومها وأفراحها وسكانها وكل ما فيها، والسبب بسيط وعميق: أن الحياة الدنيا دار عمل وهي في حقيقتها منزل عارض ومتاع ومعبر وممر، وأن الآخرة هي دار الجزاء والنعيم الدائم والمستقر {(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ. سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)} [34]، إلا أننا نغتر بطول الأمل فنفقد البوصلة، وتنقلب الوسائل عندنا إلى غايات، ويختلط الجوهر بالمظهر، فنؤخّر المُقدَّم ونقدّم المؤخّر. وهذا المفهوم هو أمر عقدي أساسي في إيماننا وليس أمرًا جزئيًا أو ثانويًا. بل هو عماد الإيمان بالدار الآخرة الذي هو أسّ العقيدة! ومن شأن الاستحضار الدائم لهذا الأمر الإيماني أن يجعل كل تكليف مهما بلغت مشقته وآلامه وتكلفته - النفسية والبدنية والمالية - أمرًا زائلاً ومؤقتًا، ومقدورًا عليه.
  • التكليف والكدح: أكد القرآن حقيقة حسية إنسانية، يدركها المسلم وحتى غير المسلم، مفادها أن الكدح أساس بديهي في الحياة الدنيا، حيث يقول سبحانه وتعالى {(يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)} [35]. يقول الرازي في تفسيره: (أما قوله: {{إِنَّكَ كَادِحٌ}} فاعلم أن الكدح جهد الناس في العمل والكدح فيه حتى يؤثر فيها، من كدح جلده إذا خدشه، أما قوله: { { إِلَىٰ رَبّكَ } } ففيه ثلاثة أوجه أحدها: إنك كادح إلى لقاء ربك وهو الموت! أي هذا الكدح يستمر ويبقى إلى هذا الزمان، وأقول في هذا التفسير نكتة لطيفة، وذلك لأنها تقتضي أن الإنسان لا ينفك في هذه الحياة الدنيوية من أولها إلى آخرها عن الكدح والمشقة والتعب، ولما كانت كلمة إلى لانتهاء الغاية، فهي تدل على وجوب انتهاء الكدح والمشقة بانتهاء هذه الحياة، وأن يكون الحاصل بعد هذه الدنيا محض السعادة والرحمة). فهل لمن أدرك هذه الحقيقة القرآنية أن يفترض الدعة والاستمتاع والسهولة، الدائمة والشاملة، في كافة الأحوال والأزمان، وفي كافة التكاليف الشرعية، ثم يستحق بعدها ان يفوز بجنان الخلد عرضها السماوات والأرض؟
  • التكليف والصبر: التكليف، كما مرّ معنا أعلاه، فيه شيء من المشقة والعناء والجهد. ولذلك كان طبيعيًا أن يشدد القرآن في مواضع كثيرة على الصبر[36]، وهو حبس النفس على ما تكره أو عما تحب، لما له من أهمية مركزية في حياة الإنسان لكي يواظب على تحمل التكاليف، وإن كانت في نطاق الوسع أصلاً، إلا أن تنوعها وتغير أوضاع الحياة وأحوال المكلَّف قد يتطلب مشقة فوق العادة، ويستدعي من المكلَّف سلاحًا عقديًا ونفسيًا وجلادة بدنية عمادها التربية والرياضة والتدريب. ويكفي أن نتلو قوله تعالى (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[37]، وقوله تعالى {(وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)} [38]، لنعلم أهمية الصبر ومكانته في ترسيخ الإيمان وتثبيت العمل، سواء في العبادات كالصوم والحج والجهاد، أو في المعاملات كالتجارة والمظالم والخصومات. على أن الصبر تأكد في القرآن بالتكاليف الشاقة والخطرة كالجهاد من جهة، وبالعقيدة كدخول الجنة والفلاح في الآخرة من ناحية أخرى؛ قال تعالى في سورة آل عمران { (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)} [39]. والصبر والجلادة هو من القيم والخصال الأساسية في حياة الناس، وهو في الإسلام ولدى المسلم له شأن كبير لا يصح ولا يجوز فصله عن الحياة اليومية العملية. بل هو منبع للطاقة الروحية والمعنوية التي مكنت الرعيل الأول من المسلمين من الثبات والتضحية ومهدت لانتصار الإسلام في مهده، وإلا فما معنى قول النبي عليه السلام، المؤيد بوحي ربه، لآل ياسر وهم يتألمون تحت التعذيب بسبب التكليف الأول وهو الأيمان: "صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة"[40]
  • التكليف والابتلاء: الابتلاء هو الاختبار، ولا يتنافى التكليف بالوسع مع الاختبار والتعرض للفتن (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ)[41]. وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله : {ونبلوكم بالشر والخير } حيث قال: "أي نبتليكم بالشر والخير فتنة بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال". على أن الله جلّ وعلا قد أنزل حقائق قرآنية كانت تتنزل على أوضاع النبي عليه السلام وصحبه الكرام، لتنير الدرب للمسلمين بعدهم في كل زمان ومكان، وتبين السنن في شؤون الحياة المدنية والاقتصادية والمعيشية والحربية وغيرها، ممزوجة ومنسجمة مع التكاليف الشرعية وكيفية التعامل معها ومواجهتها لكي يدرك المسلمون عند تلاوتهم وتدبّرهم للقرآن، وسيرة النبي عليه السلام وصحبه الكرام، أن ما وقع بخير البشر من البديهي أن يقع بهم، وأن ما أصابهم أو يصبهم - أو سيصيبهم - من النوازل وأصناف الابتلاء لا سيما أثناء قيامهم بالتكاليف - كالجهاد مثلاً - ليس بجديد ولا حديث ولا خاص بهم، بل قد جرى لخير البشر من الأنبياء والرسل وأتباعهم، بمن فيهم خاتم النبيين عليه السلام وصحبه الكرام. قال تعالى {( إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)} [42]، فجعل الابتلاء بالقرح متساويًا بين المسلمين وغيرهم، إلا أنه معلول بإظهار حقيقة إيمان المؤمنين، وهي لعمر الله مكرمة أن يُبتلى المؤمن ليري الله من نفسه خيرًا ويترشح لنيل درجة الشهادة أملاً بالفوز فيها! فهو ليس فقط ابتلاء يتسق ويتناسق مع التكليف، بل هو فرصة لتحقيق الإيمان في مواطن التكليف الخطِر، وتصديق إيمان القول بالفعل ظاهرًا يقينيًا لا تردد فيه، ولو ترتب عليه الموت المحقق. ويقول سبحانه أيضًا {(وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)} [43]، وفيه دلالة واضحة على أن الألم ليس مبررًا للضّعف في تكليف الجهاد، وهو من باب أولى ليس مبررًا للتخلّف عن الجهاد بحجة "التكليف بما لا يطاق". على أن المسلمين لا يختصون بالألم وحدهم، بل إن عدوهم من الكافرين – في الأمس واليوم - يتألمون أيضًا وهم لا يتخلّفون عن قتال أهل الإسلام بحجة "رفع المشقة" و"التيسير"، مع أنهم لا يرجون من الله تعالى حياة أبدية في الآخرة، فهم في نظرتهم المادية للحياة الدنيا وإنكارهم للبعث أولى الفريقين في الابتعاد عن التكاليف الخطرة على أرواحهم ومتاعهم في الحياة الدنيا! وفي المقابل، يبين سبحانه للمؤمنين الرابط بين الجهاد والقتل وبين والابتلاء والصبر {(وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)} [44]، وهذا أروع بيان لموقع الامتحان الخطِر عند القيام بأشرف التكاليف وهو الجهاد في سبيل الله.
  • التكاليف الشرعية في ظل النظم الوضعية: إن من أعقد المسائل التي تواجه عامة المسلمين في عصرنا الحاضر، لا سيما العلماء والفقهاء والمفسرين، والدعاة أفرادًا وجماعات، هي وضع مفاهيم الإسلام وتشريعاته في سياق العصر الراهن وتحدياته، أي إنزال الأحكام الشرعية على الوقائع المتجددة والأوضاع المستحدثة، وفي مقدّمة هذه التحديات والمستجدات مسألة: انفصال الحكم وأنظمة المجتمع والدساتير والقوانين عن الإسلام عقيدة وشريعة في جل بلاد المسلمين، منذ قدوم الاستعمار الشرقي والغربي في القرن التاسع عشر والقرن العشرين إلى حين اندلاع الحرب العالمية الأولى. والذي جعل من انفصال الإسلام عن وقائع الحياة تحديًا تاريخيًا سيطرة عوامل الانحطاط لقرون عديدة في أوصال الأمة من تفشي التقليد وندرة الاجتهاد والتعصب للمذاهب، وظهور الفرق الباطنية والطرق الصوفية، ثم الجمعيات التبشيرية وبعثات التغريب وما تلاها من جمعيات سرية وأحزاب علمانية وقومية، وقبلها وبعدها الاستعمار العسكري والتشريعي والثقافي، والسياسي والاقتصادي، وما تلاه من أنظمة غربية. يصعب معها تصوّر الأحكام الشرعية، ناهيك عن تطبيقها، في ظل الوضع القائم المتناقض بين المسلم الذي يريد التقيد بالتكاليف الشرعية وبين الواقع القائم في المجتمع والقانون المتعارض مع الأحكام الشرعية، وما فتاوى القروض الربوية - بذريعة الضرورة والحاجة - إلا مثالاً نموذجيًا متجددًا. والأحكام الشرعية كلها متجانسة ومتناسقة يأخذ بعضها برقاب بعض، ولا يمكن الفصل بينها. فلا يمكن مثلاً الفصل بين أحكام وشروط عمل المرأة بأحكام الخلوة والاختلاط والعورة والتبرج. وكذلك لا يمكن الفصل بين أحكام التجارة والربا والصرف. ولذلك فمن البديهي أن تنشأ صعوبة، أو تعارض أو تناقض بين التكاليف الشرعية وبين الدساتير والقوانين الوضعية، أو النظام الرأسمالي في المعاملات الاقتصادية والمالية مثلاً. أو نظام التعليم الغربي في التربية والتثقيف، أو نظام الحكم الديمقراطي في التشريع. والأمثلة على ذلك باتت لا تحصى من كثرتها في شؤون المسلمين، حتى وصل التعارض إلى البقية الباقية من الأحكام الشرعية التي أبقاها المستعمر سائرة وفق الأحكام الشرعية بعدما فصل بين القضاء الشرعي والقضاء المدني في العديد من البلاد الإسلامية التي انسحب منها عسكريًا خلال القرن العشرين، بعد أن اطمأن إلى استقرار الدساتير الوضعية الغربية والأوضاع والنظم التي أنشأها وفوّضها إلى وكلائه من السياسيين والأحزاب العلمانية. وتلك البقية الباقية هي ما يُطلق عليه في بلاد المسلمين بالأحوال الشخصية، من زواج وطلاق ونفقة وقوامة، والتي باتت في السنوات الأخيرة تتعرض لحملات تقويض تشريعية وإعلامية. وهنا تبرز الحلقة المفقودة لدى عدد من المفتين والدعاة لعدم إدراكهم، أو في إهمالهم أو إغفالهم لسبب صعوبة قيام الفرد المسلم، أو جماعة المسلمين، بالتكاليف الشرعية التي يفترض أن تكون عادية، أو فيها مشقة عادية، أو غير عادية، إلا أنها تصبح شاقة جدًا بل أحيانًا مستحيلة بسبب القيود أو المحرمات التي يفرضها القانون الوضعي، كإنشاء قرض أو رهن غير ربوي مثلاً، سواء لغرض السكن أو الدراسة أو التجارة أو العلاج. وبدلاً من بيان حقيقة أن التكاليف الشرعية ليست هي المشكلة، وليست هي التي تتعارض مع "روح العصر" والزمان والمكان، بل إنها سهلة ميسورة، لكن المشكلة تكمن في تناقض نظام المجتمع، الوضعي الغربي، مع الأحكام الشرعية. فالشرع لا يتناقض مع نظام الحياة، بل نظام المجتمع القائم على فصل الدين – أي الإسلام – عن قوانين الدولة وأنظمة المجتمع هو الذي يتناقض مع الأحكام الشرعية ويجعل من التكاليف الشرعية أمرًا شاقًا وعسيرًا، ثم تفتح أبواب الإعلام مشرعة لدعاة "التيسير" ومفتي "القنوات" ليسقطوا التكاليف الشرعية بحجة أنها خارج الوسع، وبدعوى رفع الحرج ورفع المشقة، وبحجة التيسير والضرورة ..
  • التكليف في تاريخ المسلمين: وقبل الختام، نورد هنا بعض الأمثلة الظاهرة للتدبر، وإثارة التفكير، وأخذ العِبَر:
  • ماذا لو فهم الصحابة "الوسع" بالمفهوم الشائع اليوم؟ فهل كان أبو بكر رضي الله عنه، سيسحق تمرد قبائل العرب من المرتدين ومانعي الزكاة، وينفّذ في الوقت ذاته جيش أسامة لحرب الروم في الشام؟
  • ماذا لو فسر سلاطين آل عثمان "الوسع" في سياق الجهاد كما يفسره علماء اليوم، هل كانوا سيفتحون القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية ويجتاحون أوروبا الشرقية ويحاصرون فيينا؟
  • ماذا لو تأول قادة الأيوبيون "الوسع" كما يتأوله خطباء اليوم، فهل كانوا سيخوضون معركة حطين بقيادة صلاح الدين، ويحررون بيت المقدس ويطردون الصليبيين من بلاد الشام؟
  • وماذا لو فهم قادة المماليك "الوسع" كما يفهمه فقهاء اليوم، فهل كانوا سيسحقون المغول في عين جالوت ويردوا المغول عن بلاد المسلمين خائبين؟
الخاتمة:
وفي الختام نقول: إن التصور لدى بعض المسلمين، بمن فيهم دعاة ووعاظ ومفتون، بأن التكاليف الشرعية - لا سيما الشاقة والمُكلِفة منها – لا تتناسب مع "سماحة الإسلام"، و"مصلحة العباد"، و"يسر الشريعة" و"صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان"، لهو تصور مغلوط وخطير. فهو أولاً يتجاهل أو يُضعِف مفاهيم عقدية وحقائق قرآنية أساسية، يقوم عليها التكليف بالأحكام الشرعية لدى الفرد والجماعة والأمة.
وهو ثانيًا يوطئ لتبرير التفلّت من التكاليف الشرعية بحجة أن التكليف، المتعيّن على الفرد والأمة في الوقائع والنوازل، يتعارض بما يُطلقون عليه "مبادئ الشريعة" و "مقاصد الشريعة". وهو تناقض متوهّم أو مفتعل يؤدي إلى ضرب نصوص الشرع بعضها ببعض.
وثالثًا، فهو تصور يغفل أن المشرّع ليس مشرعًا وضعيًا، إنسانًا يعتريه النقص والنسيان والقصور ومحدودية الزمان والمكان، بل هو الله العليم الخبير، الذي أحاط بعلمه كل الوجود، الإنسان والزمان والمكان، فلا يخفى عليه حال الإنسان في أي زمان ومكان، فلا يشرّع له ما ليس في وسعه أي طاقته وقدرته، فثبوت التكليف تشريعيًا هو بذاته دليل على وجود الوسع، وقد جاءت أحكام الرخص والتخصيص والاستثناء تأكيدًا على هذه الحقيقة. ومن ناحية أخرى، ففي هذا المنهج إغفال وإهمال لقواعد الفقه وأصوله، حيث ينبغي على الفرد المسلم اكتساب الحد الأدنى من المعارف الشرعية والثقافة الإسلامية، التي تمكّنه من فهم العقائد والأحكام وقواعد العلوم الشرعية – المستنبطة من الكتاب والسنة والعربية – ليتكون لديه اعتقاد صحيح، وفهم سليم، وتطبيق رشيد {(وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)} [45]، وقدرة على مغالبة صعاب الحياة بهدي من نور الوحي مصداقًا لقوله تعالى { (يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)} [46]، صدق الله العظيم.

[1] سورة البقرة آية 286.

[2] مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، ص 80.

[3] سورة الأحقاف، آية 17.

[4] أخرجه النسائي وابن المنذر والحاكم وصححه، والبخاري برواية مختلفة.

[5] البقرة 233.

[6] الأنعام، 152 والأعراف 42.

[7] المؤمنون 62.

[8] مادة وسع، لسان العرب والقاموس المحيط.

[9] مادة طوق، القاموس المحيط ولسان العرب.

[10] مادة كلف، الصحاح في اللغة ولسان العرب.

[11] مادة كلف، القاموس المحيط.

[12] لسان العرب.

[13] متفق عليه.

[14] الآية 233.

[15] جامع البيان.

[16] الآية 152.

[17] تفسير القرآن العظيم.

[18] الجامع لأحكام القرآن.

[19] الكشاف.

[20] روح المعاني.

[21] الآية 42.

[22] الآية 62.

[23] مفاتيح الغيب.

[24] تفسير القرآن العظيم.

[25] روح المعاني.

[26] سورة البقرة 286.

[27] البقرة 233.

[28] الأنعام، 152.

[29] الأعراف 42.

[30] المؤمنون 62.

[31] تفسير سورة المؤمنون | تفسير الشعراوي (quranpedia.net)

[32] البقرة 173.

[33] حديث حسن رواه ابن ماجة والبيهقي

[34] الحديد 20-21.

[35] الانشقاق 6.

[36] زادت عن مئة موضع.

[37] الزمر 10.

[38] آل عمران 146.

[39] آل عمران 142.

[40] حسن صحيح، أخرجه الطبراني والحاكم.

[41] الأنبياء 35.

[42] آل عمران 140.

[43] النساء 104.

[44] البقرة 154-155.

[45] البقرة 282.

[46] الحديد 28.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 38.31 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.68 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.64%)]