
07-10-2024, 08:13 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,520
الدولة :
|
|
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 307)
من صــ 301 الى صـ 315
قيل: أما المعارضة بكون شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد شرعنا بخلافه، فذاك مبني على مقدمتين، كلتاهما منفية في مسألة التشبه بهم:
إحداهما: أن يثبت أن ذلك شرع لهم، بنقل موثوق به، مثل أن يخبرنا الله في كتابه، أو على لسان رسوله، أو ينقل بالتواتر، ونحو ذلك، فأما مجرد الرجوع إلى قولهم، أو إلى ما في كتبهم، فلا يجوز بالاتفاق، والنبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان قد استخبرهم فأخبروه، ووقف على ما في التوراة؛ فإنما ذلك لأنه لا يروج عليه باطلهم، بل الله سبحانه يعرفه ما يكذبون مما يصدقون، كما قد أخبره بكذبهم غير مرة. وأما نحن فلا نأمن أن يحدثونا بالكذب، فيكون فاسق، بل كافر قد جاءنا بنبأ فاتبعناه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم".
المقدمة الثانية: أن لا يكون في شرعنا بيان خاص لذلك، فأما إذا كان فيه بيان خاص: إما بالموافقة، أو بالمخالفة، استغني عن ذلك فيما ينهى عنه من موافقته، ولم يثبت أنه شرع لمن كان قبلنا، وإن ثبت فقد كان هدي نبينا صلى الله عليه وسلم بخلافه، وبهم أمرنا نحن أن نتبع ونقتدي، وقد أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم: أن يكون هدينا مخالفا لهدي اليهود والنصارى، وإنما تجيء الموافقة في بعض الأحكام العارضة، لا في الهدي الراتب، والشعار الدائم.
ثم ذلك بشرط: أن لا يكون قد جاء عن نبينا وأصحابه خلافه، أو ثبت أصل شرعه في ديننا، وقد ثبت عن نبي من الأنبياء
أصله، أو وصفه مثل: فداء من نذر أو يذبح ولده بشاة، ومثل: الختان المأمور به في ملة إبراهيم عليه السلام، ونحو ذلك. وليس الكلام فيه.
وأما حديث عاشوراء: فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصومه قبل استخباره لليهود وكانت قريش تصومه، ففي الصحيحين، من حديث الزهري عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كانت قريش تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه فلما هاجر إلى المدينة صامه، وأمر بصيامه، فلما فرض شهر رمضان قال: " من شاء صامه، ومن شاء تركه" وفي رواية: " وكان يوما تستر فيه الكعبة ".
وأخرجاه من حديث هشام عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه، وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك
يوم عاشوراء " فمن شاء صامه، ومن شاء تركه".
وفيهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أن أهل الجاهلية كانوا يصومون عاشوراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه والمسلمون قبل أن يفترض رمضان، فلما افترض رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه".
فإذا كان أصل صومه لم يكن موافقا لأهل الكتاب، فيكون قوله: "فنحن أحق بموسى منكم" توكيدا لصومه، وبيانا لليهود: أن الذي يفعلونه من موافقة موسى نحن أيضا نفعله، فنكون أولى بموسى منكم.
ثم الجواب عن هذا، وعن قوله: "كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء" من وجوه:أحدها: أن هذا كان متقدما، ثم نسخ الله ذلك، وشرع له مخالفة أهل الكتاب، وأمره بذلك، وفي متن الحديث: " أنه سدل شعره موافقة لهم، ثم فرق شعره بعد " ولهذا صار الفرق شعار المسلمين، وكان من الشروط على أهل الذمة " أن لا يفرقوا شعورهم " وهذا كما أن الله شرع له في أول الأمر استقبال بيت المقدس موافقة لأهل الكتاب، ثم نسخ ذلك، وأمر باستقبال الكعبة، وأخبر عن اليهود وغيرهم من السفهاء أنهم سيقولون: {ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} [البقرة: 142].
وأخبر أنهم لا يرضون عنه حتى يتبع قبلتهم، وأخبره أنه: إن اتبع أهواءهم من بعد ما جاءه من العلم ما له من الله من ولي، ولا نصير، وأخبره أن: {ولكل وجهة هو موليها} [البقرة: 148] وكذلك أخبره في موضع آخر أنه جعل لكل شرعة ومنهاجا فالشعار من جملة الشرعة.
والذي يوضح ذلك: أن هذا اليوم - عاشوراء - الذي صامه وقال: "نحن أحق بموسى منكم" قد شرع - قبيل موته - مخالفة اليهود في صومه، وأمر صلى الله عليه وسلم بذلك ولهذا كان ابن عباس رضي الله عنهما، وهو الذي يقول: "وكان يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء"، وهو الذي روى قوله: "نحن أحق بموسى منكم" أشد الصحابة رضي الله عنهم أمرا بمخالفة اليهود في صوم يوم عاشوراء، وقد ذكرنا أنه هو الذي روى شرع المخالفة.
وروى - أيضا - مسلم في صحيحه عن الحكم بن الأعرج قال: "انتهيت إلى ابن عباس، وهو متوسد رداءه في زمزم، فقلت له: أخبرني عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال: " إذا رأيت هلال المحرم فاعدد، وأصبح يوم التاسع
صائما. قلت: هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال: نعم".
وروى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع"، يعني يوم عاشوراء.
ومعنى قول ابن عباس: " صم التاسع "، يعني: والعاشر. هكذا ثبت عنه، وعلله بمخالفة اليهود، قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان بن عمرو بن دينار أنه سمع عطاء، سمع ابن عباس رضي الله عنهما، يقول: " صوموا التاسع والعاشر، خالفوا اليهود ".
وروينا في فوائد داود بن عمرو عن إسماعيل بن علية قال: ذكروا عند ابن أبي نجيح، أن ابن عباس كان يقول " يوم عاشوراء يوم التاسع "، فقال ابن
أبي نجيح: إنما قال ابن عباس: " أكره أن أصوم فاردا، ولكن صوموا قبله يوما، أو بعده يوما ". 50 ويحقق ذلك: ما رواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم يوم عاشوراء العاشر من المحرم"، قال الترمذي: " هذا حديث حسن صحيح ".
وروى سعيد في سننه عن هشيم، عن ابن أبي ليلى عن داود بن علي، عن أبيه، عن جده ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا فيه اليهود، صوموا يوما قبله، أو يوما بعده". ورواه أحمد، ولفظه: "صوموا قبله يوما، أو بعده يوما".
ولهذا نص أحمد على مثل ما رواه ابن عباس وأفتى به، فقال في رواية الأثرم " أنا أذهب في عاشوراء: إلى أن يصام يوم التاسع والعاشر؛ لحديث ابن عباس: "صوموا التاسع والعاشر".
وقال حرب: سألت أحمد عن صوم يوم عاشوراء، فقال: " يصوم التاسع والعاشر ".
وقال في رواية الميموني وأبي الحارث " من أراد أن يصوم عاشوراء صام التاسع والعاشر، إلا أن تشكل الشهور فيصوم ثلاثة أيام؛ ابن سيرين يقول ذلك ".
وقد قال بعض أصحابنا: إن الأفضل: صوم التاسع والعاشر، وإن اقتصر على العاشر لم يكره.
ومقتضى كلام أحمد: أنه يكره الاقتصار على العاشر؛ لأنه سئل عنه فأفتى بصوم اليومين، وأمر بذلك، وجعل هذا هو السنة لمن أراد صوم عاشوراء،
واتبع في ذلك حديث ابن عباس، وابن عباس كان يكره إفراد العاشر على ما هو مشهور عنه.
ومما يوضح ذلك: أن كل ما جاء من التشبه بهم، إنما كان في صدر الهجرة، ثم نسخ؛ ذلك أن اليهود إذ ذاك، كانوا لا يتميزون عن المسلمين لا في شعور، ولا في لباس، لا بعلامة، ولا غيرها.
ثم إنه ثبت بعد ذلك في الكتاب والسنة والإجماع، الذي كمل ظهوره في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ما شرعه الله من مخالفة الكافرين ومفارقتهم في الشعار والهدي.
وسبب ذلك: أن المخالفة لهم لا تكون إلا مع ظهور الدين وعلوه كالجهاد، وإلزامهم بالجزية والصغار، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء؛ لم تشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا؛ شرع بذلك.
ومثل ذلك اليوم: لو أن المسلم بدار حرب، أو دار كفر غير حرب؛ لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر بل قد يستحب للرجل، أو يجب عليه، أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية: من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد الصالحة.
فأما في دار الإسلام والهجرة، التي أعز الله فيها دينه، وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية، ففيها شرعت المخالفة. وإذا ظهر أن الموافقة والمخالفة تختلف لهم باختلاف الزمان والمكان؛ ظهرت حقيقية الأحاديث في هذا.
الوجه الثاني: لو فرضنا أن ذلك لم ينسخ، فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي كان له أن يوافقهم؛ لأنه يعلم حقهم من باطلهم؛ بما يعلمه الله إياه، ونحن نتبعه، فأما نحن فلا يجوز لنا أن نأخذ شيئا من الدين عنهم: لا من أقوالهم، ولا من أفعالهم، بإجماع المسلمين المعلوم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو قال رجل: يستحب لنا موافقة أهل الكتاب، الموجودين في زماننا؛ لكان قد خرج عن دين الأمة.
الثالث أن نقول بموجبه: كان يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم إنه أمر بمخالفتهم، وأمرنا نحن أن نتبع هديه وهدي أصحابه السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار.
والكلام إنما هو في أنا منهيون عن التشبه بهم فيما لم يكن سلف الأمة عليه، فأما ما كان سلف الأمة عليه، فلا ريب فيه؛ سواء فعلوه، أو تركوه؛ فإنا لا نترك ما أمر الله به لأجل أن الكفار تفعله مع أن الله لم يأمرنا بشيء يوافقونا عليه إلا ولا بد فيه من نوع مغايرة يتميز بها دين الله المحكم مما قد نسخ، أو بدل.
[فصل في أقسام أعمال الكفار]
فصل قد ذكرنا من دلائل الكتاب والسنة والإجماع والآثار والاعتبار، ما دل على أن التشبه بهم في الجملة منهي عنه، وأن مخالفتهم في هديهم مشروع، إما إيجابا، وإما استحبابا بحسب المواضع.
وقد تقدم بيان: أن ما أمر به من مخالفتهم: مشروع، سواء كان ذلك الفعل مما قصد فاعله التشبه بهم، أو لم يقصد، وكذلك ما نهي عنه من مشابهتهم: يعم ما إذا قصدت مشابهتهم، أو لم تقصد؛ فإن عامة هذه الأعمال لم يكن المسلمون يقصدون المشابهة فيها، وفيها ما لا يتصور قصد المشابهة فيه، كبياض الشعر، وطول الشارب، ونحو ذلك.
ثم اعلم أن أعمالهم ثلاثة أقسام:
- قسم مشروع في ديننا، مع كونه كان مشروعا لهم، أو لا يعلم أنه كان مشروعا لهم لكنهم يفعلونه الآن.
- وقسم كان مشروعا ثم نسخه شرع القرآن.
- وقسم لم يكن مشروعا بحال، وإنما هم أحدثوه.
وهذه الأقسام الثلاثة: إما أن تكون في العبادات المحضة، وإما أن تكون في العادات المحضة، وهي الآداب، وإما أن تجمع العبادات والعادات، فهذه تسعة أقسام -.
فأما القسم الأول: وهو ما كان مشروعا في الشريعتين، أو ما كان مشروعا لنا وهم يفعلونه، فهذا كصوم عاشوراء، أو كأصل الصلاة والصيام، فهنا تقع - المخالفة في صفة ذلك العمل، كما سن لنا صوم تاسوعاء وعاشوراء، كما أمرنا بتعجيل الفطور والمغرب مخالفة لأهل الكتاب، وبتأخير السحور مخالفة لأهل الكتاب.
وكما أمرنا بالصلاة في النعلين مخالفة لليهود، وهذا كثير في العبادات،
وكذلك في العادات، قال صلى الله عليه وسلم: "اللحد لنا والشق لغيرنا" وسن توجيه قبور المسلمين إلى الكعبة؛ تمييزا لها عن مقابر الكافرين، فإن أصل الدفن من الأمور المشروعة، في الأمور العادية، ثم قد اختلفت الشرائع في صفته، وهو أيضا فيه عبادات، ولباس النعل في الصلاة فيه عبادة وعادة، ونزع النعل في الصلاة شريعة كانت لموسى عليه السلام، وكذلك اعتزال الحيض ونحو ذلك من الشرائع التي جامعناهم في أصلها، وخالفناهم في وصفها.
القسم الثاني: ما كان مشروعا ثم نسخ بالكلية: كالسبت أو إيجاب صلاة، أو صوم، ولا يخفى النهي عن موافقتهم في هذا، سواء كان واجبا عليهم فيكون عبادة، أو محرما عليهم فيتعلق بالعادات، فليس للرجل أن يمتنع من أكل الشحوم وكل ذي ظفر على وجه التدين بذلك، وكذلك ما كان مركبا منهما، وهي الأعياد التي كانت مشروعة لهم، فإن العيد المشروع يجمع عبادة. وهو ما فيه من صلاة، أو ذكر، أو صدقة، أو نسك، ويجمع عادة، وهو ما يفعل فيه
من التوسع في الطعام واللباس، أو ما يتبع ذلك من ترك الأعمال الواضبة واللعب المأذون فيه في الأعياد لمن ينتفع باللعب، ونحو ذلك.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم - لما زجر أبو بكر رضي الله عنه الجويريتين عن الغناء في بيته -: "دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا، وإن هذا عيدنا" وكان الحبشة يلعبون بالحراب يوم العيد، والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليهم.
فالأعياد المشروعة يشرع فيها - وجوبا، أو استحبابا -: من العبادات ما لا يشرع في غيرها، ويباح فيها، أو يستحب، أو يجب من العادات التي للنفوس فيها حظ، ما لا يكون في غيرها كذلك. ولهذا وجب فطر العيدين، وقرن بالصلاة في أحدهما الصدقة، وقرن بها في الآخر الذبح. وكلاهما من أسباب الطعام.
فموافقتهم في هذا القسم المنسوخ من العبادات، أو العادات، أو كلاهما: أقبح من موافقتهم فيما هو مشروع الأصل، ولهذا كانت الموافقة في هذا محرمة، كما سنذكره، وفي الأول قد لا تكون إلا مكروهة.
وأما القسم الثالث: وهو ما أحدثوه من العبادات، أو العادات،
أو كليهما فهو أقبح وأقبح؛ فإنه لو أحدثه المسلمون لقد كان يكون قبيحا، فكيف إذا كان مما لم يشرعه نبي قط؟ بل أحدثه الكافرون، فالموافقة فيه ظاهرة القبح، فهذا أصل.
وأصل آخر وهو: أن كل ما يشابهون فيه: من عبادة، أو عادة، أو كليهما هو: من المحدثات في هذه الأمة، ومن البدع، إذ الكلام في ما كان من خصائصهم، وأما ما كان مشروعا لنا، وقد فعله سلفنا السابقون: فلا كلام فيه.
فجميع الأدلة الدالة من الكتاب والسنة والإجماع على قبح البدع، وكراهتها تحريما أو تنزيها، تندرج هذه المشابهات فيها، فيجتمع فيها أنها بدع محدثة، وأنها مشابهة للكافرين، وكل واحد من الوصفين موجب للنهي؛ إذ المشابهة منهي عنها في الجملة ولو كانت في السلف! والبدع منهي عنها في الجملة، ولو لم يفعلها الكفار، فإذا اجتمع الوصفان صارا علتين مستقلتين في القبح والنهي.
(وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس ... (91)
(فصل في المقدمات البرهانية التي تدل على المطلوب وأنها من أحسن جدل بالبرهان)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
الجدل إنما يشترط فيه أن يسلم الخصم المقدمات وإن لم تكن بينة معروفة فإذا كانت بينة معروفة كانت برهانية. والقرآن لا يحتج في مجادلته بمقدمة لمجرد تسليم الخصم بها كما هي الطريقة الجدلية عند أهل المنطق وغيرهم بل بالقضايا والمقدمات التي تسلمها الناس وهي برهانية وإن كان بعضهم يسلمها وبعضهم ينازع فيها ذكر الدليل على صحتها كقوله: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم} فإن الخطاب لما كان مع من يقر بنبوة موسى من أهل الكتاب ومع من ينكرها من المشركين ذكر ذلك بقوله: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى} وقد بين البراهين الدالة على صدق موسى في غير موضع. وعلى قراءة من قرأ يبدونها كابن كثير وأبي عمرو جعلوا الخطاب مع المشركين وجعلوا قوله: {وعلمتم ما لم تعلموا} احتجاجا على المشركين بما جاء به محمد؛ فالحجة على أولئك نبوة موسى وعلى هؤلاء نبوة محمد ولكل منهما من البراهين ما قد بين بعضه في غير موضع.
وعلى قراءة الأكثرين بالتاء هو خطاب لأهل الكتاب وقوله: {وعلمتم ما لم تعلموا} بيان لما جاءت به الأنبياء مما أنكروه فعلمهم الأنبياء ما لم يقبلوه ولم يعلموه فاستدل بما عرفوه من أخبار الأنبياء وما لم يعرفوه. وقد قص سبحانه قصة موسى وأظهر براهين موسى وآياته التي هي من أظهر البراهين والأدلة حتى اعترف بها السحرة الذين جمعهم فرعون وناهيك بذلك فلما أظهر الله حق موسى؛ وأتى بالآيات التي علم بالاضطرار أنها من الله؛ وابتلعت عصاه الحبال والعصي التي أتى
بها السحرة بعد أن جاءوا بسحر عظيم وسحروا أعين الناس واسترهبوا الناس ثم لما ظهر الحق وانقلبوا صاغرين قالوا: {آمنا برب العالمين} {رب موسى وهارون} فقال لهم فرعون: {آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى} {قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات} من الدلائل البينات اليقينية القطعية وعلى الذي فطرنا؛ وهو خالقنا وربنا الذي لا بد لنا منه لن نؤثرك على هذه الدلائل اليقينية وعلى خالق البرية {فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا} {إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى}.
وقد ذكر الله هذه القصة في عدة مواضع من القرآن يبين في كل موضع منها من الاعتبار والاستدلال نوعا غير النوع الآخر كما يسمى الله ورسوله وكتابه بأسماء متعددة كل اسم يدل على معنى لم يدل عليه الاسم الآخر وليس في هذا تكرار بل فيه تنويع الآيات مثل: أسماء النبي صلى الله عليه وسلم إذا قيل: محمد وأحمد؛ والحاشر والعاقب؛ والمقفى؛ ونبي الرحمة ونبي التوبة ونبي الملحمة في كل اسم دلالة على معنى ليس في الاسم الآخر وإن كانت الذات واحدة فالصفات متنوعة.
وكذلك القرآن إذا قيل فيه؛ قرآن؛ وفرقان وبيان؛ وهدى وبصائر وشفاء ونور ورحمة وروح فكل اسم يدل على معنى ليس هو المعنى الآخر. وكذلك أسماء الرب تعالى إذا قيل: الملك؛ القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز؛ الجبار المتكبر الخالق البارئ؛ المصور فكل اسم يدل على معنى ليس هو المعنى الذي في الاسم الآخر فالذات واحدة والصفات متعددة فهذا في الأسماء المفردة. وكذلك في الجمل التامة يعبر عن القصة بجمل تدل على معان فيها ثم يعبر عنها بجمل أخرى تدل على معان أخر وإن كانت القصة المذكورة ذاتها واحدة فصفاتها متعددة ففي كل جملة من الجمل معنى ليس في الجمل الأخر.
وليس في القرآن تكرار أصلا وأما ما ذكره بعض الناس من أنه كرر القصص مع إمكان الاكتفاء بالواحدة وكان الحكمة فيه: أن وفود العرب كانت ترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقرئهم المسلمون شيئا من القرآن فيكون ذلك كافيا وكان يبعث إلى القبائل المتفرقة بالسور المختلفة فلو لم يكن الآيات والقصص مثناة متكررة لوقعت قصة موسى إلى قوم وقصة عيسى إلى قوم وقصة نوح إلى قوم فأراد الله أن يشهر هذه القصص في أطراف الأرض وأن يلقيها إلى كل سمع. فهذا كلام من لم يقدر القرآن قدره. وأبو الفرج اقتصر على هذا الجواب في قوله: (مثاني لما قيل: لم ثنيت؟ وبسط هذا له موضع آخر فإن التثنية هي التنويع والتجنيس وهي استيفاء الأقسام ولهذا يقول من يقول من السلف: الأقسام والأمثال.
(ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون (93)
وقال محمد بن إسحاق في رواية ابن بكير عنه: قال أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر وعبد الله بن أبي بكر بن حزم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة وفرق جيوشه أمرهم أن لا يقتلوا أحدا إلا من قاتلهم إلا نفرا قد سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "اقتلوهم وإن وجدتموهم تحت أستار الكعبة " عبد الله بن خطل وعبد الله بابن أبي سرح وإنما أمر بابن أبي سرح لأنه كان قد أسلم فكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي فرجع مشركا ولحق بمكة فكان يقول: لهم إني لأصرفه كيف شئت أنه ليأمرني أن أكتب له الشيء فأقول له: أو كذا أو كذا فيقول: نعم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "عليم حليم" فيقول له: أو أكتب "عزيز حكيم" فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلاهما سواء.
قال ابن إسحاق: حدثني شرحبيل بن سعد أن فيه نزلت: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله} فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فر إلى عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة فغيبه عنده حتى اطمأن هل مكة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمن له فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا وهو واقف عليه ثم قال: " نعم" فانصرف به فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما صمت إلا رجاء أن يقوم إليه بعضكم فيقتله" فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله ألا أومأت إلي فأقتله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن النبي لا يقتل بالإشارة ".
وقال ابن إسحاق في رواية إبراهيم بن سعد عنه: حدثني بعض علمائنا أن ابن أبي سرح رجع إلى قريش فقال: والله لو أشاء لقلت كما يقول محمد وجئت بمثل ما يأتي به إنه ليقول الشيء وأصرفه إلى شيء فيقول: أصبت ففيه أنزل الله تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء} فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|