
07-10-2024, 08:07 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,551
الدولة :
|
|
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 306)
من صــ 286 الى صـ 300
وأما كلام يقوم بذات المتكلم بلا قدرة ولا مشيئة؛ فهذا لم يكن يتصوره أحد من العقلاء ولا نعرف أن أحدا قاله بل ولا يخطر ببال جماهير الناس حتى أحدث القول به ابن كلاب. وإنما ألجأه إلى هذا: أن أولئك المتكلمين لما أظهروا موجب أصلهم وهو القول بأن القرآن مخلوق أظهروا ذلك في أوائل المائة الثانية فلما سمع ذلك علماء الأمة أنكروا ذلك ثم صار كلما ظهر قولهم أنكره العلماء - وكلام السلف والأئمة في إنكار ذلك مشهور متواتر - إلى أن صار لهؤلاء المتكلمين الكلام المحدث في دولة المأمون عز وأدخلوه في ذلك وألقوا إليه الحجج التي لهم. وقالوا إما أن يكون العالم مخلوقا أو قديما. وهذا الثاني كفر ظاهر معلوم فساده بالعقل والشرع. وإذا كان العالم مخلوقا محدثا بعد أن لم يكن؛ لم يبق قديم إلا الله وحده.
فلو كان العالم قديما؛ لزم أن يكون مع الله قديم آخر. وكذلك الكلام إن كان قائما بذاته؛ لزم دوام الحوادث وقيامها بالرب وهذا يبطل الدليل الذي اشتهر بينهم على حدوث العالم. وإن كان منفصلا عنه لزم وجود المخلوق في الأزل؛ وهذا قول بقدم العالم. فلما امتحن الناس بذلك واشتهرت هذه المحنة وثبت الله من ثبته من أئمة السنة؛ وكان الإمام - الذي ثبته الله وجعله إماما للسنة حتى صار أهل العلم بعد ظهور المحنة يمتحنون الناس به فمن وافقه كان سنيا وإلا كان بدعيا - هو الإمام أحمد بن حنبل فثبت على أن القرآن كلام الله غير مخلوق.
فصل:
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
قال الرازي: " الحجة الثالثة " قصة الخليل: {لا أحب الآفلين} والأفول عبارة عن التغير. وهذا يدل على أن المتغير لا يكون إلها أصلا. والجواب من وجوه:
أحدها: أنا لا نسلم أن الأفول هو التغير ولم يذكر على ذلك حجة؛ بل لم يذكر إلا مجرد الدعوى.
الثاني: أن هذا خلاف إجماع أهل اللغة والتفسير؛ بل هو خلاف ما علم بالاضطرار من الدين؛ والنقل المتواتر للغة والتفسير. فإن " الأفول " هو المغيب. يقال: أفلت الشمس تأفل وتأفل أفولا إذا غابت ولم يقل أحد قط إنه هو التغير ولا إن الشمس إذا تغير لونها يقال إنها أفلت ولا إذا كانت متحركة في السماء يقال إنها أفلت ولا أن الريح إذا هبت يقال إنها أفلت ولا أن الماء إذا جرى يقال إنه أفل ولا أن الشجر إذا تحرك يقال إنه أفل ولا أن الآدميين إذا تكلموا أو مشوا وعملوا أعمالهم يقال إنهم أفلوا؛ بل ولا قال أحد قط إن من مرض أو اصفر وجهه أو احمر يقال إنه أفل. فهذا القول من أعظم الأقوال افتراء على الله وعلى خليل الله وعلى كلام الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله وعلى أمة محمد جميعا وعلى جميع أهل اللغة وعلى جميع من يعرف معاني القرآن.
الثالث: أن قصة الخليل عليه السلام حجة عليكم فإنه لما رأى كوكبا وتحرك إلى الغروب فقد تحرك؛ ولم يجعله آفلا ولما رأى القمر بازغا رآه متحركا؛ ولم يجعله آفلا؛ فلما رأى الشمس بازغة علم أنها متحركة؛ ولم يجعلها آفلة ولما تحركت إلى أن غابت والقمر إلى أن غاب لم يجعله آفلا.
الرابع: قوله: إن الأفول عبارة عن التغير؛ إن أراد بالتغير الاستحالة: فالشمس والقمر والكواكب لم تستحل بالمغيب؛ وإن أراد به التحرك: فهو لا يزال متحركا. وقوله: {فلما أفل} دل على أنه يأفل تارة ولا يأفل أخرى.
فإن (لما ظرف يقيد هذا الفعل بزمان هذا الفعل والمعنى أنه حين أفل {قال لا أحب الآفلين} فإنما قال ذلك حين أفوله. وقوله: {فلما أفل} دل على حدوث الأفول وتجدده؛ والحركة لازمة له؛ فليس الأفول هو الحركة ولفظ التغير والتحرك مجمل. إن أريد به التحرك أو حلول الحوادث: فليس هو معنى التغير في اللغة وليس الأفول هو التحرك ولا التحرك هو التغير؛ بل الأفول أخص من التحرك والتغير أخص من التحرك. وبين التغير والأفول عموم وخصوص. فقد يكون الشيء متغيرا غير آفل وقد يكون آفلا غير متغير وقد يكون متحركا غير متغير ومتحركا غير آفل. وإن كان التغير أخص من التحرك على أحد الاصطلاحين: فإن لفظ الحركة قد يراد بها الحركة المكانية وهذه لا تستلزم التغير. وقد يراد به أعم من ذلك كالحركة في الكيف والكم؛ مثل حركة النبات بالنمو وحركة نفس الإنسان بالمحبة والرضا والغضب والذكر. فهذه الحركة قد يعبر عنها بالتغير وقد يراد بالتغير في بعض المواضع الاستحالة.
ففي الجملة: الاحتجاج بلفظ التغير إن كان سمعيا فالأفول ليس هو التغير؛ وإن كان عقليا. فإن أريد بالتغير - الذي يمتنع على الرب - محل النزاع: لم يحتج به وإن أريد به مواقع الإجماع فلا منازعة فيه. وأفسد من هذا: قول من يقول: الأفول هو الإمكان كما قاله " ابن سينا " إن الهوي في حضيرة الإمكان أفول بوجه ما؛ فإنه يلزم على هذا أن يكون كل ما سوى الله آفلا ولا يزال آفلا فإن كل ما سواه ممكن ولا يزال ممكنا. ويكون الأفول وصفا لازما لكل ما سوى الله؛ كما أن كونه ممكنا وفقيرا إلى الله وصف لازم له.
وحينئذ: فتكون الشمس والقمر والكواكب: لم تزل ولا تزال آفلة وجميع ما في السموات والأرض لا يزال آفلا. فكيف يصح قوله مع ذلك: {فلما أفل قال لا أحب الآفلين}؟ وعلى كلام هؤلاء المحرفين لكلام الله تعالى وكلام خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم عن مواضعه: هو آفل قبل أن يبزغ ومن حين بزغ وإلى أن غاب. وكذلك جميع ما يرى وما لا يرى في العالم آفل والقرآن بين أنه لما رآها بازغة قال: {هذا ربي} فلما أفلت بعد ذلك. قال: {لا أحب الآفلين} والله أعلم.
(وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون (81) الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (82)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله فصل: ذكر الله عن إمامنا إبراهيم خليل الله أنه قال لمناظريه من المشركين الظالمين {وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون} {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}. وفي الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود أن {النبي صلى الله عليه وسلم فسر الظلم بالشرك وقال ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح {إن الشرك لظلم عظيم} فأنكر أن نخاف ما أشركوهم بالله من جميع المخلوقات العلويات والسفليات وعدم خوفهم من إشراكهم بالله شريكا لم ينزل الله به سلطانا وبين أن القسم الذي لم يشرك هو الآمن المهتدي.
وهذه آية عظيمة تنفع المؤمن الحنيف في مواضع فإن الإشراك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل دع جليله وهو شرك في العبادة والتأله وشرك في الطاعة والانقياد وشرك في الإيمان والقبول. فالغالية من النصارى والرافضة وضلال الصوفية والفقراء والعامة يشركون بدعاء غير الله تارة وبنوع من عبادته أخرى وبهما جميعا تارة ومن أشرك هذا الشرك أشرك في الطاعة.
وكثير من المتفقهة وأجناد الملوك وأتباع القضاة والعامة المتبعة لهؤلاء يشركون شرك الطاعة وقد {قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم لما قرأ {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم} فقال يا رسول الله ما عبدوهم فقال ما عبدوهم ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم}. فتجد أحد المنحرفين يجعل الواجب ما أوجبه متبوعه والحرام ما حرمه والحلال ما حلله والدين ما شرعه إما دينا وإما دنيا وإما دنيا ودينا. ثم يخوف من امتنع من هذا الشرك وهو لا يخاف أنه أشرك به شيئا في طاعته بغير سلطان من الله وبهذا يخرج من أوجب الله طاعته من رسول وأمير وعالم ووالد وشيخ وغير ذلك. وأما الشرك الثالث فكثير من أتباع المتكلمة والمتفلسفة بل وبعض المتفقهة والمتصوفة بل وبعض أتباع الملوك والقضاة يقبل قول متبوعه فيما يخبر به من الاعتقادات الخبرية ومن تصحيح بعض المقالات وإفساد بعضها ومدح بعضها وبعض القائلين وذم بعض بلا سلطان من الله. ويخاف ما أشركه في الإيمان والقبول ولا يخاف إشراكه بالله شخصا في الإيمان به وقبول قوله بغير سلطان من الله.
وبهذا يخرج من شرع الله تصديقه من المرسلين والعلماء المبلغين والشهداء الصادقين وغير ذلك. فباب الطاعة والتصديق ينقسم إلى مشروع في حق البشر وغير مشروع. وأما العبادة والاستعانة والتأله فلا حق فيها للبشر بحال فإنه كما قال القائل ما وضعت يدي في قصعة أحد إلا ذللت له. ولا ريب أن من نصرك ورزقك كان له سلطان عليك فالمؤمن يريد أن لا يكون عليه سلطان إلا لله ولرسوله ولمن أطاع الله ورسوله.
وقبول مال الناس فيه سلطان لهم عليه فإذا قصد دفع هذا السلطان وهذا القهر عن نفسه كان حسنا محمودا يصح له دينه بذلك وإن قصد الترفع عليهم والترؤس والمراءاة بالحال الأولى كان مذموما وقد يقصد بترك الأخذ غنى نفسه عنهم في ترك أموالهم لهم. فهذه أربع مقاصد صالحة: غنى نفسه، وعزتها حتى لا تفتقر إلى الخلق ولا تذل لهم، وسلامة مالهم ودينهم عليهم حتى لا تنقص عليهم أموالهم فلا يذهبها عنهم ولا يوقعهم بأخذها منهم فيما يكره لهم من الاستيلاء عليه ففي ذلك منفعة له ألا يذل ولا يفتقر إليهم ومنفعة لهم أن يبقى لهم مالهم ودينهم وقد يكون في ذلك منفعة بتأليف قلوبهم بإبقاء أموالهم لهم حتى يقبلوا منه ويتألفون بالعطاء لهم فكذلك في إبقاء أموالهم لهم وقد يكون في ذلك أيضا حفظ دينهم فإنهم إذا قبل منهم المال قد يطمعون هم أيضا في أنواع من المعاصي ويتركون أنواعا من الطاعات فلا يقبلون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي ذلك منافع ومقاصد أخر صالحة.
وأما إذا كان الأخذ يفضي إلى طمع فيه حتى يستعان به في معصية أو يمنع من طاعة فتلك مفاسد أخر وهي كثيرة ترجع إلى ذله وفقره لهم فإنهم لا يتمكنون من منعه من طاعة إلا إذا كان ذليلا أو فقيرا إليهم ولا يتمكنون هم من استعماله في المعصية إلا مع ذله أو فقره فإن العطاء يحتاج إلى جزاء ومقابلة فإذا لم تحصل مكافأة دنيوية من مال أو نفع لم يبق إلا ما ينتظر من المنفعة الصادرة منه إليهم.
وللرد وجوه مكروهة مذمومة منها: الرد مراءاة بالتشبه بمن يريد غنى وعزة ورحمة للناس في دينهم ودنياهم. ومنها التكبر عليهم والاستعلاء حتى يستعبدهم ويستعلي عليهم بذلك فهذا مذموم أيضا. ومنها البخل عليهم فإنه إذا أخذ منهم احتاج أن ينفعهم ويقضي حوائجهم فقد يترك الأخذ بخلا عليهم بالمنافع. ومنها الكسل عن الإحسان إليهم فهذه أربع مقاصد فاسدة في الرد للعطاء: الكبر والرياء والبخل والكسل.
فالحاصل أنه قد يترك قبول المال لجلب المنفعة لنفسه أو لدفع المضرة عنها أو لجلب المنفعة للناس أو دفع المضرة عنهم فإن في ترك أخذه غنى نفسه وعزها وهو منفعة لها وسلامة دينه ودنياه مما يترتب على القبول من أنواع المفاسد وفيه نفع الناس بإبقاء أموالهم ودينهم لهم ودفع الضرر المتولد عليهم إذا بذلوا بذلا قد يضرهم وقد يتركه لمضرة الناس أو لترك منفعتهم فهذا مذموم كما تقدم وقد يكون في الترك أيضا مضرة نفسه أو ترك منفعتها إما بأن يكون محتاجا إليه فيضره تركه أو يكون في أخذه وصرفه منفعة له في الدين والدنيا فيتركها من غير معارض مقاوم.
فلهذا فصلنا هذه المسألة فإنها مسألة عظيمة وبإزائها مسألة القبول أيضا وفيها التفصيل لكن الأغلب أن ترك الأخذ كان أجود من القبول ولهذا يعظم الناس هذا الجنس أكثر وإذا صح الأخذ كان أفضل أعني الأخذ والصرف إلى الناس.
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
فمن كان في قلبه رياسة لمخلوق ففيه من عبوديته بحسب ذلك. فلما خوفوا خليله بما يعبدونه ويشركون به - الشرك الأكبر كالعبادة - قال الخليل: {وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون} يقول: إن تطيعوا غير الله وتعبدوا غيره وتكلمون في دينه ما لم ينزل به سلطانا: فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون؟ أي تشركون بالله ولا تخافونه وتخوفوني أنا بغير الله فمن ذا الذي يستحق الأمن إلى قوله: {أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} أي: هؤلاء الموحدون المخلصون؛ ولهذا قال الإمام أحمد لبعض الناس: لو صححت لم تخف أحدا.
(الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (82)
[عن ابن مسعود قال]: {لما نزلت: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بذلك. ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {إن الشرك لظلم عظيم} إنما هو الشرك}.
حدثنا محمد بن يحيى حدثنا الحجاج بن المنهال عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ فيه فدخل ذات يوم فقرأ فأتى على هذه الآية {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} إلى آخر الآية فانتعل وأخذ رداءه ثم أتى إلى أبي بن كعب فقال: يا أبا المنذر أتيت قبل على هذه الآية {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} وقد نرى أنا نظلم ونفعل. فقال: يا أمير المؤمنين إن هذا ليس بذلك يقول الله: {إن الشرك لظلم عظيم} إنما ذلك الشرك.
(وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم (83)
وقال أيضا:
فصل:
ذكر الله أنه يرفع درجات من يشاء في قصة مناظرة إبراهيم وفي قصة احتيال يوسف ولهذا قال السلف: بالعلم؛ فإن سياق الآيات يدل عليه فقصة إبراهيم في العلم بالحجة والمناظرة لدفع ضرر الخصم عن الدين وقصة يوسف في العلم بالسياسة والتدبير لتحصل منفعة المطلوب فالأول علم بما يدفع المضار في الدين والثاني علم بما يجلب المنافع أو يقال: الأول هو العلم الذي يدفع المضرة عن الدين ويجلب منفعته والثاني علم بما يدفع المضرة عن الدنيا ويجلب منفعتها أو يقال قصة إبراهيم في علم الأقوال النافعة عند الحاجة إليها وقصة يوسف في علم الأفعال النافعة عند الحاجة إليها فالحاجة في جلب المنفعة ودفع المضرة قد تكون إلى القول وقد تكون. . . (1).
ولهذا كان المقصرون عن علم الحجج والدلالات، وعلم السياسة والإمارات مقهورين مع هذين الصنفين تارة بالاحتياج إليهم إذا هجم عدو يفسد الدين بالجدل أو الدنيا بالظلم وتارة بالاحتياج إليهم إذا هجم على أنفسهم من أنفسهم ذلك وتارة بالاحتياج إليهم لتخليص بعضهم من شر بعض في الدين والدنيا وتارة يعيشون في ظلهم في مكان ليس فيه مبتدع يستطيل عليهم ولا وال يظلمهم وما ذاك إلا لوجود علماء الحجج الدامغة لأهل البدع والسياسة الدافعة للظلم.
ولهذا قيل: صنفان إذا صلحوا صلح الناس: العلماء والأمراء وكما أن المنفعة فيهما فالمضرة منهما فإن البدع والظلم لا تكون إلا فيهما: أهل الرياسة العلمية وأهل الرياسة القدرية ولهذا قال طائفة من السلف كالثوري وابن عيينة وغيرهما ما معناه: أن من نجا من فتنة البدع وفتنة السلطان فقد نجا من الشر كله وقد بسطت القول في هذا في الصراط المستقيم عند قوله: {فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا}.
(أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين (90)
فصل:
والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين قد أمرنا أن نؤمن بما أوتوه وأن نقتدي بهم وبهداهم. قال تعالى: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} وقال تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين لا نبي بعده وقد نسخ بشرعه ما نسخه من شرع غيره فلم يبق طريق إلى الله إلا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم فما أمر به من العبادات أمر إيجاب أو استحباب فهو مشروع وكذلك ما رغب فيه وذكر ثوابه وفضله.
ولا يجوز أن يقال إن هذا مستحب أو مشروع إلا بدليل شرعي، ولا يجوز أن يثبت شريعة بحديث ضعيف لكن إذا ثبت أن العمل مستحب بدليل شرعي وروي له فضائل بأسانيد ضعيفة جاز أن تروى إذا لم يعلم أنها كذب، وذلك أن مقادير الثواب غير معلومة فإذا روي في مقدار الثواب حديث لا يعرف أنه كذب لم يجز أن يكذب به وهذا هو الذي كان الإمام أحمد بن حنبل وغيره يرخصون فيه وفي روايات أحاديث الفضائل. وأما أن يثبتوا أن هذا عمل مستحب مشروع بحديث ضعيف فحاشا لله كما أنهم إذا عرفوا أن الحديث كذب فإنهم لم يكونوا يستحلون روايته إلا أن يبينوا أنه كذب لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {من روى عني حديثا يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين}.
[فصل في أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه]
فصل فإن قيل: ما ذكرتموه من الأدلة معارض بما يدل على خلافه، وذلك: أن شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد شرعنا بخلافه، وقوله تعالى: {فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90] وقوله: {اتبع ملة إبراهيم} [النحل: 123] وقوله: {يحكم بها النبيون الذين أسلموا} [المائدة: 44] وغير ذلك من الدلائل المذكورة في غير هذا الموضع، مع أنكم مسلمون لهذه القاعدة، وهي قول عامة السلف وجمهور الفقهاء.
ومعارض بما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: " ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ " قالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فيه فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا لله فنحن نصومه تعظيما له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فنحن أحق وأولى بموسى منكم " فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه" متفق عليه.
وعن أبي موسى رضي الله عنه، قال: "كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيدا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فصوموه أنتم" متفق عليه، وهذا اللفظ للبخاري، ولفظ مسلم "تعظمه اليهود وتتخذه عيدا" وفي لفظ له: " كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء ويتخذونه عيدا، ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشاراتهم ".
وعن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "كان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، فسدل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصيته، ثم فرق بعد"، متفق عليه.
__________
Q (1) خرم بالأصل
وفي نسخة شركة حرف الإلكترونية: " قد تكون إلى القول وقد تكون إلى الفعل "

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|