
07-10-2024, 07:57 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,520
الدولة :
|
|
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 305)
من صــ 271 الى صـ 285
(وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون (61)
سئل شيخ الإسلام:
هل الملائكة الموكلون بالعبد هم الموكلون دائما أم كل يوم ينزل الله إليه ملكين غير أولئك؟ وهل هو موكل بالعبد ملائكة بالليل وملائكة بالنهار؟ وقوله عز وجل: {وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون} فما معنى الآية
فأجاب:
الحمد لله، الملائكة أصناف؛ منهم من هو موكل بالعبد دائما. ومنهم ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر؛ فيسألهم - وهو أعلم بهم - كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون ومنهم ملائكة فضل عن كتاب الناس يتبعون مجالس الذكر. (وأعمال العباد تجمع جملة وتفصيلا فترفع أعمال الليل قبل أعمال النهار وأعمال النهار قبل أعمال الليل تعرض الأعمال على الله في كل يوم اثنين وخميس فهذا كله مما جاءت به الأحاديث الصحيحة وأما إنه كل يوم تبدل عليه الملكان: فهذا لم يبلغنا فيه شيء. والله أعلم.
(وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين (68)
وسئل - رحمه الله -:
عمن يجب أو يجوز بغضه أو هجره أو كلاهما لله تعالى؟ وماذا يشترط على الذي يبغضه أو يهجره لله تعالى من الشروط؟ وهل يدخل ترك السلام في الهجران أم لا؟ وإذا بدأ المهجور الهاجر بالسلام هل يجب الرد عليه أم لا؟ وهل يستمر البغض والهجران لله عز وجل حتى يتحقق زوال الصفة المذكورة التي أبغضه وهجره عليها؟ أم يكون لذلك مدة معلومة؟ فإن كان لها مدة معلومة فما حدها؟ أفتونا مأجورين.
الجواب
فأجاب: الهجر الشرعي نوعان: أحدهما بمعنى الترك للمنكرات. والثاني بمعنى العقوبة عليها.
فالأول: هو المذكور في قوله تعالى {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}. وقوله تعالى {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم}.
فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة مثل قوم يشربون الخمر يجلس عندهم. وقوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمر لا يجيب دعوتهم وأمثال ذلك. بخلاف من حضر عندهم للإنكار عليهم أو حضر بغير اختياره. ولهذا يقال: حاضر المنكر كفاعله. وفي الحديث: {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر}. وهذا الهجر من جنس هجر الإنسان نفسه عن فعل المنكرات. كما قال صلى الله عليه وسلم {المهاجر من هجر ما نهى الله عنه}. ومن هذا الباب الهجرة من دار الكفر والفسوق إلى دار الإسلام والإيمان. فإنه هجر للمقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكنونه من فعل ما أمر الله به ومن هذا قوله تعالى {والرجز فاهجر}.
النوع الثاني: الهجر على وجه التأديب وهو هجر من يظهر المنكرات يهجر حتى يتوب منها كما {هجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون: الثلاثة الذين خلفوا حتى أنزل الله توبتهم} حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعين عليهم بغير عذر ولم يهجر من أظهر الخير وإن كان منافقا فهنا الهجر هو بمنزلة التعزير. والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل المحرمات كتارك الصلاة والزكاة والتظاهر بالمظالم والفواحش والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة التي ظهر أنها بدع.
وهذا حقيقة قول من قال من السلف والأئمة: إن الدعاة إلى البدع لا تقبل شهادتهم ولا يصلى خلفهم ولا يؤخذ عنهم العلم ولا يناكحون. فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا؛ ولهذا يفرقون بين الداعية وغير الداعية؛ لأن الداعية أظهر المنكرات فاستحق العقوبة بخلاف الكاتم فإنه ليس شرا من المنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله مع علمه بحال كثير منهم.
ولهذا جاء في الحديث: {أن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة} وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه}. فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها؛ بخلاف الباطنة فإن عقوبتها على صاحبها خاصة. وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله. فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا. وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر؛ بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر. والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوما ويهجر آخرين.
كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيرا من أكثر المؤلفة قلوبهم لما كان أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم وهؤلاء كانوا مؤمنين والمؤمنون سواهم كثير فكان في هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة والمهادنة تارة وأخذ الجزية تارة كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح. وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع كما كثر القدر في البصرة والتنجيم بخراسان والتشيع بالكوفة وبين ما ليس كذلك ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه. وإذا عرف هذا فالهجرة الشرعية هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله. فالطاعة لا بد أن تكون خالصة لله وأن تكون موافقة لأمره فتكون خالصة لله صوابا. فمن هجر لهوى نفسه أو هجر هجرا غير مأمور به: كان خارجا عن هذا. وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله.
والهجر لأجل حظ الإنسان لا يجوز أكثر من ثلاث كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث؛ يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام} فلم يرخص في هذا الهجر أكثر من ثلاث كما لم يرخص في إحداد غير الزوجة أكثر من ثلاث. وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {تفتح أبواب الجنة كل اثنين وخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا؛ إلا رجلا كان بينه وبين أخيه شحناء فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا} فهذا الهجر لحق الإنسان حرام وإنما رخص في بعضه كما رخص للزوج أن يهجر امرأته في المضجع إذا نشزت. وكما رخص في هجر الثلاث. فينبغي أن يفرق بين الهجر لحق الله وبين الهجر لحق نفسه.
فالأول مأمور به والثاني منهي عنه؛ لأن المؤمنين إخوة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم} وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في السنن: {ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين}. وقال في الحديث الصحيح: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذ اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر}.
وهذا لأن الهجر من " باب العقوبات الشرعية " فهو من جنس الجهاد في سبيل الله. وهذا يفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله. والمؤمن عليه أن يعادي في الله ويوالي في الله فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه؛ فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} إنما المؤمنون إخوة فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي والأمر بالإصلاح بينهم. فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك؛ فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه والإكرام لأوليائه، والإهانة لأعدائه والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه.
وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة: استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير واستحق من المعادات والعقاب بحسب ما فيه من الشر فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة فيجتمع له من هذا وهذا كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته. هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه فلم يجعلوا الناس لا مستحقا للثواب فقط ولا مستحقا للعقاب فقط. وأهل السنة يقولون: إن الله يعذب بالنار من أهل الكبائر من يعذبه ثم يخرجهم منها بشفاعة من يأذن له في الشفاعة بفضل رحمته كما استفاضت بذلك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم والله سبحانه وتعالى أعلم وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ... (93)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
لما ذكر الله سبحانه قول الذين ما قدروا الله حق قدره حيث أنكروا الإنزال على البشر ذكر المتشبهين به المدعين لمماثلته من الأقسام الثلاثة. فإن المماثل له: إما أن يقول: إن الله أوحى إلي أو يقول: أوحي إلي وألقي إلي وقيل لي ولا يسمي القائل. أو يضيف ذلك إلى نفسه ويذكر أنه هو المنشئ له.
ووجه الحصر: أنه إما أن يحذف الفاعل أو يذكره وإذا ذكره فإما أن يجعله من قول الله أو من قول نفسه. فإنه إذا جعله من كلام الشياطين لم يقبل منه وما جعله من كلام الملائكة فهو داخل فيما يضيفه إلى الله وفيما حذف فاعله فقال تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله}. وتدبر كيف جعل الأولين في حيز الذي جعله وحيا من الله ولم يسم الموحي؟ فإنهما من جنس واحد في ادعاء جنس الإنباء وجعل الآخر في حيز الذي ادعى أن يأتي بمثله ولهذا قال: {ممن افترى على الله كذبا} ثم قال: {ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله} فالمفتري للكذب والقائل: أوحي إلي ولم يوح إليه شيء: من جملة الاسم الأول وقد قرن به الاسم الآخر فهؤلاء الثلاثة المدعون لشبه النبوة. وقد تقدم قبلهم المكذب للنبوة.
فهذا يعم جميع أصول الكفر التي هي تكذيب الرسل أو مضاهاتهم كمسيلمة الكذاب وأمثاله. وهذه هي " أصول البدع " التي نردها نحن في هذا المقام لأن المخالف للسنة يرد بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو يعارض قول الرسول بما يجعله نظيرا له: من رأي أو كشف أو نحو ذلك.
(فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين (76)
(فصل في بطلان استدلال الجهمية ومن اتبعهم بقول الله: " لا أحب الآفلين " على أن الحركة من لوازم الإله)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
ويقول كثير منهم: إن هذه طريقة إبراهيم الخليل عليه السلام المذكورة في قوله {لا أحب الآفلين} قالوا: فإن إبراهيم استدل بالأفول - وهو الحركة والانتقال - على أن المتحرك لا يكون إلها. قالوا: ولهذا يجب تأويل ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم مخالفا لذلك من وصف الرب بالإتيان والمجيء والنزول وغير ذلك؛ فإن كونه نبيا لم يعرف إلا بهذا الدليل العقلي فلو قدح في ذلك لزم القدح في دليل نبوته فلم يعرف أنه رسول الله وهذا ونحوه هو الدليل العقلي الذي يقولون إنه عارض السمع والعقل. ونقول إذا تعارض السمع والعقل امتنع تصديقهما وتكذيبهما وتصديق السمع دون العقل؛ لأن العقل هو أصل السمع فلو جرح أصل الشرع كان جرحا له. ولأجل هذه الطريق أنكرت الجهمية والمعتزلة الصفات والرؤية وقالوا: القرآن مخلوق؛ ولأجلها قالت الجهمية بفناء الجنة والنار؛ ولأجلها قال العلاف بفناء حركاتهم؛ ولأجلها فرع كثير من أهل الكلام؛ كما قد بسط في غير هذا الموضع.
ودعواهم أن هذه طريقة إبراهيم الخليل في قوله: {لا أحب الآفلين} كذب ظاهر على إبراهيم؛ فإن الأفول هو التغيب والاحتجاب باتفاق أهل اللغة والتفسير وهو من الأمور الظاهرة في اللغة وسواء أريد بالأفول ذهاب ضوء
القمر والكواكب بطلوع الشمس أو أريد به سقوطه من جانب المغرب؛ فإنه إذا طلعت الشمس يقال: إنها غابت الكواكب واحتجبت وإن كانت موجودة في السماء ولكن طمس ضوء الشمس نورها. وهذا مما ينحل به الإشكال الوارد على الآية في طلوع الشمس بعد أفول القمر وإبراهيم عليه السلام لم يقل: {لا أحب الآفلين} لما رأى الكوكب يتحرك؛ والقمر والشمس بل إنما قال ذلك حين غاب واحتجب.
فإن كان إبراهيم قصد بقوله الاحتجاج بالأفول على نفي كون الآفل رب العالمين - كما ادعوه - كانت قصة إبراهيم حجة عليهم؛ فإنه لم يجعل بزوغه وحركته في السماء إلى حين المغيب دليلا على نفي ذلك؛ بل إنما جعل الدليل مغيبه. فإن كان ما ادعوه من مقصوده من الاستدلال صحيحا فإنه حجة على نقيض مطلوبهم وعلى بطلان كون الحركة دليل الحدوث.
لكن الحق أن إبراهيم لم يقصد هذا ولا كان قوله: {هذا ربي} أنه رب العالمين ولا اعتقد أحد من بني آدم أن كوكبا من الكواكب خلق السموات والأرض وكذلك الشمس والقمر ولا كان المشركون قوم إبراهيم يعتقدون ذلك؛ بل كانوا مشركين بالله يعبدون الكواكب ويدعونها ويبنون لها الهياكل ويعبدون فيها أصنامهم وهو دين الكلدانيين والكشدانيين والصابئين المشركين؛ لا الصابئين الحنفاء وهم الذين صنف صاحب " السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم " كتابه على دينهم.
وهذا دين كان كثير من أهل الأرض عليه بالشام والجزيرة والعراق وغير ذلك وكانوا قبل ظهور دين المسيح عليه السلام وكان جامع دمشق وجامع حران وغيرهما موضع بعض هياكلهم: هذا هيكل المشتري وهذا هيكل الزهرة. وكانوا يصلون إلى القطب الشمالي؛ وبدمشق محاريب قديمة إلى الشمال. والفلاسفة اليونانيون كانوا من جنس هؤلاء المشركين يعبدون الكواكب والأصنام ويصنعون السحر وكذلك أهل مصر وغيرهم. وجمهور المشركين كانوا مقرين برب العالمين والمنكر له قليل مثل فرعون ونحوه.
وقوم إبراهيم كانوا مقرين بالصانع ولهذا قال لهم إبراهيم الخليل: {أفرأيتم ما كنتم تعبدون} {أنتم وآباؤكم الأقدمون} {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} فعادى كل ما يعبدونه إلا رب العالمين وقال تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء} وقال الخليل عليه السلام {أتعبدون ما تنحتون} {والله خلقكم وما تعملون} وقال تعالى في سورة الأنعام؛ {فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون} {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} {وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون} {وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون} {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} قال الله تعالى: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم}.
ولما فسر هؤلاء " الأفول " بالحركة وفتحوا باب تحريف الكلم عن مواضعه دخلت الملاحدة من هذا الباب ففسر ابن سينا وأمثاله من الملاحدة الأفول بالإمكان الذي ادعوه حيث قالوا: إن الأفلاك قديمة أزلية وهي مع ذلك ممكنة وكذلك ما فيها من الكواكب والنيرين. قالوا: فقول إبراهيم {لا أحب الآفلين} أي لا أحب الممكن المعلول وإن كان قديما أزليا. وأين في لفظ الأفول ما يدل على هذا المعنى؟ ولكن هذا شأن المحرفين للكلم عن مواضعه.
وجاء بعدهم من جنس من زاد في التحريف فقال: المراد " بالكواكب والشمس والقمر " هو النفس والعقل الفعال والعقل الأول وقد ذكر ذلك أبو حامد الغزالي في بعض كتبه وحكاه عن غيره في بعضها. وقال هؤلاء الكواكب والشمس والقمر لا يخفى على عاقل أنها ليست رب العالمين بخلاف النفس والعقل.
ودلالة لفظ الكوكب والشمس والقمر على هذه المعاني لو كانت موجودة من عجائب تحريفات الملاحدة الباطنية كما يتأولون العلميات مع العمليات ويقولون: الصلوات الخمس معرفة أسرارنا وصيام رمضان كتمان أسرارنا والحج هو الزيارة لشيوخنا المقدسين. وفتح لهم هذا الباب " الجهمية والرافضة " حيث صار بعضهم يقول: الإمام المبين علي بن أبي طالب والشجرة الملعونة في القرآن بنو أمية والبقرة المأمور بذبحها عائشة واللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين. وقد شاركهم في نحو هذه التحريفات طائفة من الصوفية وبعض المفسرين كالذين يقولون: {والتين والزيتون} {وطور سينين} {وهذا البلد الأمين} أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وكذلك قوله: {كزرع أخرج شطأه} أبو بكر {فآزره} عمر {فاستغلظ} هو عثمان {فاستوى على سوقه} هو علي. وقول بعض الصوفية: {اذهب إلى فرعون إنه طغى} هو القلب {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} هي النفس.
وأمثال هذه التحريفات. لكن منها ما يكون معناه صحيحا وإن لم يكن هو المراد باللفظ وهو الأكثر في إشارات الصوفية. وبعض ذلك لا يجعل تفسيرا؛ بل يجعل من باب الاعتبار والقياس وهذه طريقة صحيحة علمية كما في قوله تعالى {لا يمسه إلا المطهرون} وقول النبي صلى الله عليه وسلم {لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب}. فإذا كان ورقه {لا يمسه إلا المطهرون} فمعانيه لا يهتدي بها إلا القلوب الطاهرة وإذا كان الملك لا يدخل بيتا فيه كلب فالمعاني التي تحبها الملائكة لا تدخل قلبا فيه أخلاق الكلاب المذمومة ولا تنزل الملائكة على هؤلاء وهذا لبسطه موضع آخر.
والمقصود أن أولئك المبتدعة من أهل الكلام لما فتحوا " باب القياس الفاسد في العقليات والتأويل الفاسد في السمعيات "؛ صار ذلك دهليزا للزنادقة الملحدين إلى ما هو أعظم من ذلك من السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات وصار كل من زاد في ذلك شيئا دعاه إلى ما هو شر منه؛ حتى انتهى الأمر بالقرامطة إلى إبطال الشرائع المعلومة كلها كما قال لهم رئيسهم بالشام: قد أسقطنا عنكم العبادات فلا صوم ولا صلاة ولا حج ولا زكاة. ولهذا قال من قال من السلف: البدع بريد الكفر والمعاصي بريد النفاق.
ولما اعتقد أئمة الكلام المبتدع أن معنى كون الله خالقا لكل شيء هو ما تقدم: أنه لم يزل غير فاعل لشيء ولا متكلم بشيء حتى أحدث العالم؛ لزمهم أن يقولوا: إن القرآن أو غيره من كلام الله مخلوق منفصل بائن عنه. فإنه لو كان له كلام قديم أو كلام غير مخلوق؛ لزم قدم العالم على الأصل الذي أصلوه لأن الكلام قد عرف العقلاء أنه إنما يكون بقدرة المتكلم ومشيئته.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|