
16-09-2024, 09:28 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,420
الدولة :
|
|
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (600)
سُورَةُ الْقَدْر
صـ 23 إلى صـ 32
مسألة
بيان أولية الكتابة عامة والعربية خاصة ، وأول من خط بالقلم على الأرض :
جاء في المطالع النصرية للمطابع المصرية في الأصول الخطية المطبوع سنة 1304 هـ ما نصه : وإنما أصول الكتابة اثني عشر على ما قاله ابن خلكان ، وتبعه كثير من المؤلفين ، كالدميري في حياة الحيوان ، والحلبي في السيرة وغيرهما .
قال : إن جميع كتابات الأمم من سكان المشرق والمغرب اثنتي عشرة كتابة ، خمس منها ذهب من يعرفها وبطل استعمالها وهي : الحميرية ، والقبطية ، والبربرية ، والأندلسية ، واليونانية ، وثلاث منها فقد من يعرفها في بلاد الإسلام ومستعملة في بلادها ، وهي السريانية والفارسية والعبرانية والعربية . ا هـ . كلامه باختصار وفيه ما فيه .
قال : والحميرية : هي خط أهل اليمن قوم هود وهم عاد الأولى ، وهي عاد إرم ، وكانت كتابتهم تسمى المسند الحميري ، وكانت حروفها كلها منفصلة ، وكانوا يمنعون العامة من تعلمها فلا يتعاطاها أحد إلا بإذنهم ، حتى جاءت دولة الإسلام ، وليس بجميع اليمن من يكتب ويقرأ .
وقال المقريزي في الخطط : القلم المسند ، هو القلم الأول من أقلام حمير وملوك عاد . ا هـ .
والمعروف الآن أن الحروف المستعملة في الكتابة في العالم كله بصرف النظر عن اللغات المنطوق بها هي ثلاثة فقط ، الخط العربي بحروف ألف باء وبها لغات الشرق . والحروف اللاتينية وبها لغات أوروبا والحروف الصينية .
أما اللغات ، وهي فوق ألفي لغة " والأمهرية بحرف قريب من اللاتيني " .
أما أولية الكتابة العربية ، فقال صاحب المطالع النصرية : فقد اختلفت الروايات فيها ، كما قاله الحافظ السيوطي في الأوائل .
وكذا في المزهر في النوع الثاني والأربعين ، قال : إنه يرى أن آدم عليه السلام أول من كتب بالقلم ، وأن الكتابات كلها من وضعه ، كان قد كتبها في طين وطبخه ، يعني [ ص: 24 ] أحرقه ودفنه قبل موته بثلاثمائة سنة ، وبعد الطوفان وجد كل قوم كتابا فتعلموه ، وكانت اثني عشر كتابا ، فتعلموه بإلهام إلهي .
وقيل : إن أول من خط بالعربي إسماعيل عليه السلام . ا هـ .
وقد أطال السيوطي في المزهر الكلام في هذه المسألة ، نقلا عن ابن فارس الشدياقي .
وعن العسكري عن الأوائل في ذلك أقوال ، فقيل إسماعيل ، وقيل مرار بن مرة ، وهما من أهل الأنبار ، وفي ذلك يقول الشاعر :
كتبت أبا جاد وخطي مرامر وسورت سربالي ولست بكاتب
وقيل : أول من وضعه أبجد ، وهوز ، وحطي ، وكلمن ، وصعفص ، وقرشت ، وكانوا ملوكا فسمي الهجاء بأسمائهم .
وذكر عن الحافظ أبي طاهر السلفي بسنده عن الشعبي قال : أول من كتب بالعربية حرب بن أمية بن عبد شمس ، تعلم من أهل الحيرة ، وتعلم أهل الحيرة من أهل الأنبار .
وقال أبو بكر بن أبي داود في كتاب المصاحف : حدثنا عبد الله بن محمد الزهري حدثنا سفيان عن مجالد عن الشعبي قال : سألنا المهاجرين من أين تعلمتم الكتابة ؟ قالوا : تعلمنا من أهل الحيرة ، وسألنا أهل الحيرة : من أين تعلمتم الكتابة ؟ قالوا : من أهل الأنبار ، ثم قال ابن فارس : والذي نقوله : إن الخط توقيفي ، وذلك لظاهر قوله تعالى : الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم .
وقوله : ن والقلم وما يسطرون [ 68 \ 1 ] .
وإذا كان هذا فليس ببعيد ، أن يوقف الله آدم أو غيره من الأنبياء عليهم السلام على الكتابة ، فأما أن يكون شيئا مخترعا اخترعه من تلقاء نفسه ، فهذا شيء لا نعلم صحته إلا من خبر صحيح .
قال السيوطي : قلت يؤيد ما قاله من التوقيف ، ما أخرجه ابن شقة من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : " أول كتاب أنزله الله من السماء أبا جاد " .
وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي ذر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أول من خط بالقلم إدريس عليه السلام " . ا هـ .
[ ص: 25 ] وقد أطال النقول في ذلك مما يرجع إلى الأول ، وليس فيه نقل صحيح يقطع به .
وقد أوردنا هذه النبذة بخصوص كلام ابن فارس ، من أن تعليم الكتابة أمر توقيفي ، وما استدل به السيوطي من أول كتاب أنزله الله من السماء ، فإن في القرآن ما يشهد لإمكان ذلك ، وهو أن الله تعالى أنزل الصحف لموسى مكتوبة .
وفي الحديث : " إن الله كتب الألواح لموسى بيده ، وغرس جنة عدن بيده " .
وإذا كان موسى تلقى ألواحا مكتوبة ، فلا بد أن تكون الكتابة معلومة له قبل إنزالها ، وإلا لما عرفها .
أما المشهور في الأحرف التي نكتب بها الآن ، فكما قال السيوطي في المزهر ، ونقله عنه صاحب المطالع المصرية ما نصه :
المشهور عند أهل العلم ما رواه ابن الكلبي عن عوانة ، قال : أول من كتب بخطنا هذا . وهو الجزم مرامر بن مرة ، وأسلم بن سدرة ، وعامر بن حدرة . كما في القاموس . وهم من عرب طيئ تعلموه من كتاب الوحي لسيدنا هود عليه السلام ، ثم علموه أهل الأنبار ، ومنهم انتشرت الكتابة في العراق والحيرة وغيرها ، فتعلمها بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل ، وكانت له صحبة بحرب بن أمية فتعلم حرب منه ، ثم سافر معه بشر إلى مكة فتزوج الصهباء بنت حرب أخت أبي سفيان . فتعلم منه جماعة من أهل مكة .
فبهذا كثر من يكتب بمكة من قريش قبيل الإسلام .
ولذا قال رجل كندي من أهل دومة الجندل ، يمن على قريش بذلك :
لا تجحدوا نعماء بشر عليكم فقد كان ميمون النقيبة أزهرا
أتاكم بخط الجزم حتى حفظتمو من المال ما قد كان شتى مبعثرا
وأتقنتمو ما كان بالمال مهملا وطمأنتمو ما كان منه مبقرا
فأجريتم الأقلام عودا وبدأة وضاهيتم كتاب كسرى وقيصرا
وأغنيتم عن مسند إلى حميرا وما زبرت في الصحف أقلام حميرا
قال : وكذلك ذكر النووي في شرح مسلم نقل عن الفراء ، أنه قال : إنما كتبوا الربا في المصحف بالواو ; لأن أهل الحجاز تعلموا الخط من أهل الحيرة ، ولغتهم الربوا ، فعلموهم صورة الخط على لغتهم . ا هـ .
[ ص: 26 ] تنبيه آخر
قوله تعالى : الذي علم بالقلم ، لا يمنع تعليمه تعالى بغير القلم ، كما في قصة الخضر مع موسى عليه السلام في قوله تعالى : فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما [ 18 \ 65 ] .
وكما في حديث : " نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها " الحديث .
وكما في حديث الرقية بالفاتحة لمن لدغته العقرب في قصة السرية المعروفة ، فلما سأله صلى الله عليه وسلم : " وما يدريك أنها رقية ؟ قال : شيء نفث في روعي " .
وحديث علي لما سئل " هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم ؟ قال : لا ، إلا فهما يؤتيه الله من شاء في كتابه . وما في هذه الصحيفة " .
وقوله : واتقوا الله ويعلمكم الله [ 2 \ 282 ] . نسأل الله علم ما لم نعلم ، والعمل بما نعلم . وبالله التوفيق .
قوله تعالى : كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى . ظاهر هذه الآية أن الاستغناء موجب للطغيان عند الإنسان ، ولفظ الإنسان هنا عام ، ولكن وجدنا بعض الإنسان يستغنى ولا يطغى ، فيكون هذا من العام المخصوص ، ومخصصه إما من نفس الآية أو من خارج عنها ، ففي نفس الآية ما يفيده قوله تعالى : أن رآه ، أي : إن رأى الإنسان نفسه ، وقد يكون رأيا واهما ويكون الحقيقة خلاف ذلك ، ومع ذلك يطغى ، فلا يكون الاستغناء هو سبب الطغيان .
ولذا جاء في السنة ذم العائل المتكبر ; لأنه مع فقره يرى نفسه استغنى ، فهو معني في نفسه لا بسبب غناه .
أما من خارج الآية ، فقد دل على هذا المعنى قوله تعالى : فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى [ 79 \ 37 - 39 ] ، فإيثار الحياة الدنيا هو موجب الطغيان ، وكما في قوله : الذي جمع مالا وعدده يحسب أن ماله أخلده كلا الآية [ 104 \ 2 - 4 ] .
[ ص: 27 ] ومفهومه : أن من لم يؤثر الحياة الدنيا ، ولم يحسب أن ماله أخلده ، فلن يطغيه ماله ولا غناه ، كما جاء في قصة النفر الثلاثة الأعمى والأبرص والأقرع من بني إسرائيل .
وقد نص القرآن على أوسع غنى في الدنيا في نبي الله سليمان ، آتاه الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، ومع هذا قال : إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها علي الآية [ 38 \ 32 ] .
وقصة الصحابي الموجودة في الموطأ : لما شغل ببستانه في الصلاة ، حين رأى الطائر لا يجد فرجة من الأغصان ، ينفذ منه ، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " يا رسول الله ، إني فتنت ببستاني في صلاتي ، فهو في سبيل الله " فعرفنا أن الغنى وحده ليس موجبا للطغيان ، ولكن إذا صحبه إيثار الحياة الدنيا على الآخرة ، وقد يكون طغيان النفس من لوازمها لو لم يكن غنى إن النفس لأمارة بالسوء [ 12 \ 53 ] . وأنه لا يقي منه إلا التهذيب بالدين كما قال تعالى : ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء الآية [ 42 \ 27 ] .
وقد ذكر عن فرعون تحقيق ذلك حين قال : أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون [ 43 \ 51 ] ، وكذلك قال قارون : إنما أوتيته على علم عندي [ 28 \ 78 ] ، وقال ثالث الثلاثة من بني إسرائيل : " إنما ورثته كابرا عن كابر " بخلاف المسلم ، إلى آخره . فلا يزيده غناه إلا تواضعا وشكرا للنعمة ، كما قال نبي الله سليمان : قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم [ 27 \ 78 ] ، وقد نص في نفس السورة أنه شكر الله : فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين [ 27 \ 19 ] .
وفي العموم قوله : حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين [ 46 \ 15 ] .
وقد كان في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحاب المال الوفير فلم يزدهم إلا قربا لله ، كعثمان بن عفان رضي الله عنه ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأمثالهم ، وفي الآية [ ص: 28 ] ربط لطيف بأول السورة ، إذا كان خلق الإنسان من علق ، وهي أحوج ما يكون إلى لطف الله وعنايته ورحمته في رحم أمه ، فإذا بها مضغة ثم عظام ، ثم تكسى لحما ، ثم تنشأ خلقا آخر ، ثم يأتي إلى الدنيا طفلا رضيعا لا يملك إلا البكاء ، فيجري الله له نهرين من لبن أمه ، ثم ينبت له الأسنان ، ويفتق له الأمعاء ، ثم يشب ويصير غلاما يافعا ، فإذا ما ابتلاه ربه بشيء من المال أو العافية ، فإذا هو ينسى كل ما تقدم ، وينسى حتى ربه ويطغى ويتجاوز حده حتى مع الله خالقه ورازقه ، كما رد عليه تعالى بقوله : أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة الآية [ 36 \ 77 - 79 ] .
ومما في الآية من لطف التعبير قوله تعالى : أن رآه استغنى ، أي أن الطغيان الذي وقع فيه عن وهم ، تراءى له أنه استغنى سواء بماله أو بقوته ; لأن حقيقة المال ولو كان جبالا ، ليس له منه إلا ما أكل ولبس وأنفق .
وهل يستطيع أن يأكل لقمة واحدة إلا بنعمة العافية ، فإذا مرض فماذا ينفعه ماله ، وإذا أكلها وهل يستفيد منها إلا بنعمة من الله عليه .
ومن هذه الآية أخذ بعض الناس ، أن الغني الشاكر أعظم من الفقير الصابر ; لأن الغنى موجب للطغيان .
وقد قال بعض الناس : الصبر على العافية ، أشد من الصبر على الحاجة .
قوله تعالى : لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة
. قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب : أسند الكذب إلى الناصية ، وفي مواضع أخرى أسنده إلى غير الناصية ، كقوله : إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون [ 16 \ 105 ] .
وذكر الجواب بأنه أطلق الناصية وأراد صاحبها على أسلوب لإطلاق البعض وإيراد الكل ، وذكر الشواهد عليه القرآن كقوله تعالى : تبت يدا أبي لهب وتب [ 111 \ 1 ] .
والذي ينبغي التنبيه عليه من جهة البلاغة : أن البعض الذي يطلق ويراد به الكل ، لا [ ص: 29 ] بد في هذا البعض من مزيد مزية للمعنى المساق فيه الكلام .
فمثلا هنا ذم الكذب وأخذ الكاذب بكذبه ، فجاء ذكر الناصية وهي مقدم شعر الرأس ; لأنها أشد نكارة على صاحبها ونكالا به ، إذ الصدق يرفع الرأس والكذب ينكسه ذلة وخزيا .
فكانت هي هنا أنسب من اليد أو غيرها ، بينما في أبي لهب تطاول بماله ، والغرض مذمة ماله وكسبه الذي تطاول به ، واليد هي جارحة الكسب وآلة التصرف في المال ، فكانت اليد أولى فيه من الناصية .
وهكذا كما يقولون : بث الأمير عيونه : يريدون جواسيس له ; لأن العين من الإنسان أهم ما فيه لمهمته تلك . ولم يقولوا : بث أرجله ولا رءوسا ولا أيد ، لأنها كلها ليست كالعين في ذلك .
ومن هذا القبيل قلوب يومئذ واجفة [ 79 \ 8 ] ، ياأيتها النفس المطمئنة [ 89 \ 27 ] .
لأن القلب هو مصدر الخوف والنفس هي محط الطمأنينة ، على أن النفس جزء من الإنسان ، وهكذا ، ومنه الآتي : واسجد واقترب [ 96 \ 19 ] ، أطلق السجود وأراد الصلاة ; لأن السجود أخص صفاتها .
قوله تعالى : واسجد واقترب [ 96 \ 19 ] .
ربط بين السجود والاقتراب من الله كما قال : ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا [ 76 \ 26 ] وقوله في وصف أصحابه رضي الله عنهم : تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا [ 48 \ 29 ] ، فقوله : يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، في معنى يتقربون إليه يبين قوله : واسجد واقترب .
وهذا مما يدل لأول وهلة أن الصلاة أعظم قربة إلى الله ، حيث وجه إليها الرسول صلى الله عليه وسلم من أول الأمر ، كما بين تعالى في قوله : واستعينوا بالصبر والصلاة [ 2 \ 45 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : " أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد " .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
سُورَةُ الْقَدْر
قوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة القدر .
الضمير في أنزلناه للقرآن قطعا .
وحكى الألوسي عليه الإجماع ، وقال : ما يفيد أن هناك قولا ضعيفا لا يعتبر من أنه لجبريل .
وما قاله عن الضعف لهذا القول ، يشهد له السياق ، وهو قوله تعالى : تنزل الملائكة والروح فيها [ 97 \ 4 ] .
والمشهور : أن الروح هنا هو جبريل عليه السلام ، فيكون الضمير في أنزلنا لغيره ، وجيء بضمير الغيبة ، تعظيما لشأن القرآن ، وإشعارا بعلو قدره .
وقد يقال : ذكر سورة القدر قبلها مشعرة به في قوله : اقرأ باسم ربك ، ثم جاءت : إنا أنزلناه ، أي القرآن المقروء ، والضمير المتصل في إنا ، ونا في إنا أنزلناه مستعمل للجمع وللتعظيم ، ومثلها نحن ، وقد اجتمعا في قوله تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر [ 15 \ 9 ] ، والمراد بهما هنا التعظيم قطعا لاستحالة التعدد أو إرادة معنى الجمع .
فقد صرح في موضع آخر باللفظ الصريح في قوله تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني [ 39 \ 23 ] ، والمراد به القرآن قطعا ، فدل على أن المراد بتلك الضمائر تعظيم الله تعالى .
وقد يشعر بذلك المعنى وبالاختصاص تقديم الضمير المتصل إنا ، وهذا المقام مقام تعظيم واختصاص لله تعالى سبحانه ، ومثله : إنا أعطيناك الكوثر [ 108 \ 1 ] ، وقوله : إنا أرسلنا نوحا [ 71 \ 1 ] ، إنا نحن نحيي ونميت [ 50 \ 43 ] ، وإنزال القرآن منة عظمى .
[ ص: 31 ] وقد دل على تعظيم المنة وتعظيم الله سبحانه في قوله : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته [ 38 \ 29 ] ، فقال : كتاب أنزلناه بضمير التعظيم ، ثم قال في وصف الكتاب : مبارك .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه التنصيص على أنه للتعظيم عند الكلام على آية ص هذه : كتاب أنزلناه إليك مبارك .
والواقع أنه جاءت الضمائر بالنسبة إلى الله تعالى بصيغ الجمع للتعظيم وبصيغ الإفراد ، فمن صيغ الجمع ما تقدم ، ومن صيغ الإفراد قوله : إني جاعل في الأرض خليفة [ 2 \ 30 ] ، وقوله : إني خالق بشرا من طين [ 38 \ 71 ] ، وقوله : إني أعلم ما لا تعلمون [ 2 \ 30 ] .
ويلاحظ في صيغ الإفراد : أنها في مواضع التعظيم والإجلال ، كالأول في مقام خلق البشر من طين ، ولا يقدر عليه إلا الله .
والثاني : في مقام أنه يعلم ما لا تعلمه الملائكة ، وهذا لا يكون إلا لله سبحانه ، فسواء جيء بضمير بصيغة الجمع أو الإفراد ، ففيها كلها تعظيم لله سبحانه وتعالى سواء بنصها وأصل الوضع أو بالقرينة في السياق . ثم اختلف في المنزل ليلة القدر ، هل هو الكل أو البعض ؟
فقيل : وهو رأي الجمهور أنه أوائل تلك السورة فقط أي : بداية الوحي بالقرآن ، وهو مروي عن ابن عباس ، قال : " ثم تتالى نزول الوحي ، بعد ذلك وكان بين أوله وآخره عشرون سنة " .
وقيل : المنزل في تلك الليلة ، هو جميع القرآن جملة واحدة ، وكله إلى سماء الدنيا ، ثم صار ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم منجما حسب الوقائع .
وهذا الأخير هو رأي الجمهور كما قدمنا ، وقد اختاره الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عند الكلام على قوله تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن [ 2 \ 185 ] ، وحكاه الألوسي وحكى عليه الإجماع .
وعن ابن حجر في فتح الباري ، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قول يجمع فيه بين القولين الأخيرين ، [ ص: 32 ] وهو أنه لا منافاة بين القولين ، ويمكن الجمع بينهما ، بأن يكون نزل جملة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر ، وبدء نزول أوله : اقرأ باسم ربك [ 96 \ 1 ] ، في ليلة القدر .
وقد أثير حول هذه المسألة جدال ونقاش كلامي حول كيفية نزول القرآن ، وأدخلوا فيها القول بخلق القرآن ، وأن جبريل نقله من اللوح المحفوظ ، وأن الله لم يتكلم به عند نزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقد سئل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله عن ذلك ، وكتب جوابه وطبع ، فكان كافيا . وقد نقل فيه كلام ابن تيمية ، وبين أن الله تعالى تكلم به عند وحيه ، ورد على كل شبهة في ذلك .
والواقع أنه لا تعارض كما تقدم ، بين كونه في اللوح المحفوظ ونزوله إلى السماء الدنيا جملة ، ونزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم منجما ; لأن كونه في اللوح المحفوظ ، فإن اللوح فيه كل ما هو كائن وما سيكون إلى يوم القيامة ، ومن جملة ذلك القرآن الذي سينزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم .
ونزوله جملة إلى سماء الدنيا ، فهو بمثابة نقل جزء مما في اللوح وهو جملة القرآن ، فأصبح القرآن موجودا في كل من اللوح المحفوظ كغيره مما هو فيه ، وموجودا في سماء الدنيا ثم ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم منجما .
ومعلوم أنه الآن هو أيضا موجود في اللوح المحفوظ ، لم يخل منه اللوح ، وقد يستدل لإنزاله جملة ثم تنزيله منجما بقوله : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] ; لأن نزل بالتضعيف تدل على التكرار كقوله : تنزل الملائكة [ 97 \ 4 ] ، أي : في كل ليلة قدر .
وقد جاء أنزلناه ، فتدل على الجملة .
وقد بينت السنة تفصيل تنزيله مفرقا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله : كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك ، حتى إذا فزع عن قلوبهم . قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق ، وهو العلي الكبير " الحديث في صحيح البخاري .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|