عرض مشاركة واحدة
  #597  
قديم 16-09-2024, 08:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,520
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (595)
سُورَةُ الضُّحَى .
صـ 549 إلى صـ 559




تنبيه .

قال أبو حيان : جاء قوله : فسنيسره للعسرى على سبيل المقابلة ; لأن العسرى لا تيسير فيها . اهـ .

وهذا من حيث الأسلوب ممكن ، ولكن لا يبعد أن يكون معنى التيسير موجودا بالفعل ، إذ المشاهد أن من خذلهم الله - عياذا بالله - يوجد منهم إقبال وقبول وارتياح ، لما يكون أثقل وأشق ما يكون على غيرهم ، ويرون ما هم فيه سهلا ميسرا لا غضاضة [ ص: 549 ] عليهم فيه ، بل وقد يستمرئون الحرام ويستطعمونه .

كما ذكر لي شخص : أن لصا قد كف عن السرقة ; حياء من الناس ، وبعد أن كثر ماله وكبر سنه أعطى رجلا دراهم ; ليسرق له من زرع جاره ، فذهب الرجل ودار من جهة أخرى وأتاه بثمرة من زرعه هو ، أي : زرع اللص نفسه ، فلما أكلها تفلها ، وقال : ليس فيه طعمة المسروق ، فمن أين أتيت به ؟ قال : أتيت به من زرعك ، ألا تستحي من نفسك ، تسرق وعندك ما يغنيك . فخجل وكف .

وقد جاء عن عمر نقيض ذلك تماما ، وهو أنه لما طلب من غلامه أن يسقيه مما في شكوته من لبنه ، فلما طعمه استنكر طعمه ، فقال للغلام : من أين هذا ؟ فقال : مررت على إبل الصدقة فحلبوا لي منها ، وها هو ذا ، فوضع عمر إصبعه في فيه ، واستقاء ما شرب .

إنها حساسية الحرام استنكرها عمر ، وأحس بالحرام فاستقاءه ، وهذا وذاك بتيسير من الله تعالى ، وصدق - صلى الله عليه وسلم - : " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " .

ونحن نشاهد في الأمور العادية أصحاب المهن والحرف كل واحد راض بعمله وميسر له ، وهكذا نظام الكون كله ، والذي يهم هنا أن كلا من الطاعة أو المعصية له أثره على ما بعده .

تنبيه .

قيل : إن هذه المقارنة بين : من أعطى واتقى وصدق بالحسنى " ، و " من بخل واستغنى وكذب بالحسنى " ، واقعة بين أبي بكر - رضي الله عنه - وبين غيره من المشركين .

ومعلوم أن العبرة بعموم اللفظ فهي عامة في كل من " أعطى واتقى وصدق " ، أو " بخل واستغنى وكذب " . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : وما يغني عنه ماله إذا تردى

رد على " من بخل واستغنى " ، و " ما " هنا يمكن أن تكون نافية ، أي : لا يغني عنه شيء ، كما في قوله : ما أغنى عني ماليه [ 69 \ 28 ] ، وقوله : يوم لا ينفع مال ولا بنون [ 26 \ 88 ] .

[ ص: 550 ] ويمكن أن تكون استفهامية ، وقوله : إذا تردى ، أي : في النار - عياذا بالله - أو تردى في أعماله ، فمآله إلى النار ; بسبب بخله في الدنيا ، كما يشهد له قوله تعالى : ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة الآية [ 3 \ 180 ] .
قوله تعالى : إن علينا للهدى

فيه للعلماء أوجه ، منها : إن طريق الهدى دال وموصل علينا بخلاف الضلال .

ومنها : التزام الله للخلق عليه لهم الهدى ، وهذا الوجه محل إشكال ; إذ إن بعض الخلق لم يهدهم الله .

وقد بحث هذا الأمر الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في دفع إيهام الاضطراب : من أن الجواب عليه من حيث إن الهدى عام وخاص . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : وإن لنا للآخرة والأولى

أي : بكمال التصرف والأمر ، وقد بينه تعالى في سورة " الفاتحة " : الحمد لله رب العالمين [ 1 \ 2 ] ، أي : المتصرف في الدنيا مالك يوم الدين [ 1 \ 4 ] ، أي : المتصرف في الآخرة وحده : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] .

وهذا كدليل على تيسيره لعباده إلى ما يشاء في الدنيا ، ومجازاتهم بما شاء في الآخرة .
قوله تعالى : فأنذرتكم نارا تلظى

أي : تتلظى ، واللظى : اللهب الخالص ، وفي وصف النار هنا بتلظى مع أن لها صفات عديدة منها : السعير ، وسقر ، والجحيم ، والهاوية ، وغير ذلك .

وذكر هنا صنفا خاصا ، وهو من " كذب وتولى " [ 92 \ 16 ] ، كما تقدم في موضع آخر في وصفها أيضا بلظى في قوله تعالى : كلا إنها لظى نزاعة للشوى [ 70 \ 15 - 16 ] ، ثم بين أهلها بقوله : تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى [ 70 \ 17 ] .

[ ص: 551 ] وهو كما هو هنا : فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى [ 92 \ 14 - 16 ] ، وهو المعنى في قوله قبله : وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى [ 92 \ 8 - 9 ] ، مما يدل أن للنار عدة حالات أو مناطق أو منازل ، كل منزلة تختص بصنف من الناس ، فاختصت لظى بهذا الصنف ، واختصت سقر بمن لم يكن من المصلين ، وكانوا يخوضون مع الخائضين ، ونحو ذلك . ويشهد له قوله : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار [ 4 \ 145 ] ، كما أن الجنة منازل ودرجات ، حسب أعمال المؤمنين . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى

هذه الآية من مواضع الإيهام ، ولم يتعرض لها في دفع إيهام الاضطراب ، وهو أنها تنص وعلى سبيل الحصر ، أنه لا يصلى النار إلا الأشقى مع مجيء قوله تعالى : وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا [ 19 \ 71 ] ; مما يدل على ورود الجميع .

والجواب من وجهين : الأول كما قال الزمخشري : إن الآية بين حالي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين .

فقيل : الأشقى وجعل مختصا بالصلى ، كأن النار لم تخلق إلا له ، وقال الأتقى ، وجعل مختصا بالجنة ، وكأن الجنة لم تخلق إلا له ، وقيل عنهما : هما أبو جهل ، أو أمية بن خلف المشركين ، وأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - حكاه أبو حيان عن الزمخشري .

والوجه الثاني : هو أن الصلى الدخول والشيء ، وأن يكون وقود النار على سبيل الخلود ، والورود والدخول المؤقت بزمن غير الصلى ; لقوله في آية الورود ، التي هي قوله تعالى : وإن منكم إلا واردها [ 19 \ 71 ] ، ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا [ 19 \ 72 ] ، ويبقى الإشكال ، بين الذين اتقوا وبين الأتقى ، ويجاب عنه : بأن التقي يرد ، والأتقى لا يشعر بورودها ، كمن يمر عليها كالبرق الخاطف . والله تعالى أعلم .

ولولا التأكيد في آية الورود بالمجيء بحرف " من " و " إلا " ، وقوله : كان على ربك حتما مقضيا ، لولا هذه المذكورات لكان يمكن أن يقال : إنها مخصوصة بهذه [ ص: 552 ] الآية ، وأن الأتقى لا يردها ، إلا أن وجود تلك المذكورات يمنع من القول بالتخصيص . والله تعالى أعلم .

وفيه تقرير مصير القسمين المتقدمين ، " من أعطى واتقى وصدق " ، و " من بخل واستغنى وكذب " ، وأن صليها بسبب التكذيب والتولي والإعراض وهو عين الشقاء ، ويتجنبها الأتقى الذي صدق ، وكان نتيجة تصديقه أنه أعطى ماله يتزكى ، وجعل إتيان المال نتيجة التصديق أمرا بالغ الأهمية .

وذلك أن العبد لا يخرج من ماله شيئا إلا بعوض ; لأن الدنيا كلها معاوضة ، حتى الحيوان تعطيه علفا يعطيك ما يقابله من خدمة أو حليب . إلخ .

فالمؤمن المصدق بالحسنى يعطي ، وينتظر الجزاء الأوفى ، الحسنة بعشر أمثالها ; لأنه مؤمن أنه متعامل مع الله ، كما في قوله : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا [ 2 \ 245 ] .

أما المكذب : فلم يؤمن بالجزاء آجلا ، فلا يخرج شيئا ; لأنه لم يجد عوضا معجلا ، ولا ينتظر ثوابا مؤجلا ، ولذا كان الذين تبوءوا الدار والإيمان ، يحبون من هاجر إليهم ويواسونهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، إيمانا بما عند الله ، بينما كان المنافقون لا ينفقون إلا كرها ولا يخرجون إلا الرديء ، الذي لم يكونوا ليأخذوه من غيرهم إلا ليغمضوا فيه ، وكل ذلك سببه التصديق بالحسنى أو التكذيب بها .

ولذا جاء في الحديث الصحيح : " والصدقة برهان " أي : على صحة الإيمان بما وعد الله المتقين ، من الخلف المضاعفة الحسنة .

وقوله : يؤتي ماله يتزكى ، أي : يتطهر ويستزيد ، إذ التزكية تأتي بمعنى النماء ، كقوله تعالى : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها [ 9 \ 103 ] ، وهذا رد على قوله تعالى : قد أفلح من تزكى [ 87 \ 14 ] ، وعلى عموم : فأما من أعطى واتقى [ 92 \ 5 ] ، ولا يقال : إنها زكاة المال ; لأن الزكاة لم تشرع إلا بالمدينة ، والسورة مكية عند الجمهور ، وقيل : مدنية . والصحيح الأول .

تنبيه .

[ ص: 553 ] قد قيل أيضا : إن المراد بقوله : وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى ، إلى آخر السورة . نازل في أبي بكر - رضي الله عنه - لما كان يعتق ضعفة المسلمين ، ومن يعذبون على إسلامهم في مكة ، فقيل له : لو اشتريت الأقوياء يساعدونك ويدافعون عنك . فأنزل الله الآيات إلى قوله : وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى [ 92 \ 19 - 20 ] ، وابتغاء وجه رب هو بعينه ، وصدق بالحسنى ، أي : لوجه الله يرجو الثواب من الله .

وكما تقدم ، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وإن صورة السبب قطعية الدخول . فهذه بشرى عظيمة للصديق - رضي الله عنه - : " ولسوف يرضى " في غاية من التأكيد من الله تعالى ، على وعده إياه - صلى الله عليه وسلم - وأرضاه .

وذكر ابن كثير : أن في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من أنفق زوجين في سبيل الله دعته خزنة الجنة : يا عبد الله هذا خير ، فقال أبو بكر : يا رسول الله ، ما على من يدعى منها ضرورة ، فهل يدعى منها كلها أحد ؟ " نعم ، وأرجو أن تكون منهم " . اهـ .

وإنا لنرجو الله كذلك فضلا منه تعالى .

تنبيه .

في قوله تعالى : ولسوف يرضى [ 92 \ 21 ] ، وذكر ابن كثير إجماع المفسرين أنها في أبي بكر - رضي الله عنه - أعلى منازل البشرى ; لأن هذا الوصف بعينه ، قيل للرسول - صلى الله عليه وسلم - قطعا في السورة بعدها ، سورة " الضحى " : وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى [ 93 \ 4 - 5 ] ، فهو وعد مشترك للصديق وللرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - أسند العطاء فيه لله تعالى بصفة الربوبية : ولسوف يعطيك ربك ، كما ذكر فيه العطاء ، مما يدل على غيره - صلى الله عليه وسلم - وهو معلوم بالضرورة من أنه - صلى الله عليه وسلم - له عطاءات لا يشاركه فيها أحد ، على ما سيأتي إن شاء الله .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .

سُورَةُ الضُّحَى .

قوله تعالى : والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى

تقدم معنى الضحى في السورة المتقدمة .

وقيل : المراد به هنا النهار كله ، كما في قوله : أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون [ 7 \ 97 - 98 ] ، وقوله : والليل إذا سجى قيل : أقبل ، وقيل : شدة ظلامه ، وقيل : غطى ، وقيل : سكن .

واختار الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في إملائه معنى : سكن .

واختار ابن جرير أنه سكن بأهله ، وثبت بظلامه ، قال : كما يقال : بحر ساج ، إذا كان ساكنا ، ومنه قول الأعشى :


فما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمكم وبحرك ساج ما يواري الدعامصا


وقول الراجز :


يا حبذا القمراء والليل الساج وطرق مثل ملاء النساج


وأنشدهما القرطبي ، وذكر قول جرير :


ولقد رميتك يوم رحن بأعين ينظرن من خلل الستور سواج


أقسم تعالى بالضحى والليل هنا فقط ; لمناسبتها للمقسم عليه ; لأنهما طرفا الزمن وظرف الحركة والسكون ، فإنه يقول له مؤانسا : " ما ودعك ربك وما قلى " ، لا في ليل ولا في نهار ، على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله .

وقوله : ما ودعك ربك ، قرئ بالتشديد من توديع المفارق . وقرئ : " ما [ ص: 555 ] ودعك " ، بالتخفيف من الودع ، أي : من الترك ، كما قال أبو الأسود :


ليت شعري عن خليل ما الذي نما له في الحب حتى ودعه


أي تركه ، وقول الآخر :


وثم ودعنا آل عمرو وعامر فرائس أطراف المثقفة السمر


أي تركوهم فرائس السيوف .

قال أبو حيان : والتوديع مبالغة في الودع ; لأن من ودعك مفارقا ، فقد بالغ في تركك . اهـ .

والقراءة الأولى أشهر وأولى ; لأن استعمال ودع بمعنى ترك قليل .

قال القرطبي ، وقال المبرد : لا يكادون يقولون : ودع ولا وذر ; لضعف الواو إذا قدمت واستغنوا عنها بترك ، ويدل على قول المبرد سقوط الواو في المضارع ، فتقول في مضارع ودع يدع كيزن ويهب ويرث ، من وزن ووهب وورث ، وتقول في الأمر : دع وزن ، وهب ، أما ذر بمعنى اترك ، فلم يأت منه الماضي ، وجاء المضارع : يذرهم ، والأمر : ذرهم . فترجحت قراءة الجمهور بالتشديد من : " ودعك " من التوديع .

وقد ذكرنا هذا الترجيح ; لأن ودع بمعنى ترك فيها شدة وشبه جفوة وقطيعة ، وهذا لا يليق بمقام المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عند ربه . أما الموادعة والوداع ، فقد يكون مع المودة والصلة ، كما يكون بين المحبين عند الافتراق ، فهو وإن وادعه بجسمه فإنه لم يوادعه بحبه وعطفه ، والسؤال عنه وهو ما يتناسب مع قوله تعالى : وما قلى .

تنبيه .

هنا : " ما ودعك " بصيغة الماضي ، وهو كذلك للمستقبل ، بدليل الواقع وبدليل : وللآخرة خير لك من الأولى [ 93 \ 4 ] ; لأنها تدل على مواصلة عناية الله به ، حتى يصل إلى الآخرة فيجدها خيرا له من الأولى ، فيكون ما بين ذلك كله في عناية ورعاية ربه .

وقد جاء في صلح الحديبية ، قال لعمر : " أنا عبد الله ورسوله " ، أي : تحت رحمته وفي رعايته .

[ ص: 556 ] وقوله : " وما قلى " ، حذف كاف الخطاب لثبوتها فيما معها ، فدلت عليها ، هكذا قال المفسرون .

وقال بعضهم : تركت لرأس الآية ، والذي يظهر من لطيف الخطاب ورقيق الإيناس ومداخل اللطف ، أن الموادعة تشعر بالوفاء والود ، فأبرزت فيها كاف الخطاب ، أي : لم تتأت موادعتك وأنت الحبيب ، والمصطفى المقرب .

أما : " قلى " : ففيها معنى البغض ، فلم يناسب إبرازها إمعانا في إبعاد قصده - صلى الله عليه وسلم - بشيء من هذا المعنى ، كما تقول لعزيز عليك : لقد أكرمتك ، وما أهنت ، لقد قربتك ، وما أبعدت ، كراهية أن تنطق بإهانته وكراهيته ، أو تصرح بها في حقه ، والقلى : يمد ويقصر هو البغض ، يمد إذا فتحت القاف ، ويقصر إذا كسرتها ، وهو واوي ويائي ، وذكر القرطبي ، قال : أنشد ثعلب :


أيام أم الغمر لا نقلاها ولو تشاء قبلت عيناها


وقال كثير عزة :


أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت


فالأول قال : فقلاها من الواوي ، والثاني قال : مقلية من الياء ، وهما في اللسان شواهد .

وقد جاء في السيرة ما يشهد لهذا المعنى ، ويثبت دوام موالاته سبحانه لحبيبه ، وعنايته به وحفظه له بما كان بكاؤه به عمه ، وقد قال عمه في ذلك :


والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا


وذكر ابن هشام في رعاية عمه له ، أنه كان إذا جن الليل وأرادوا أن يناموا ، تركه مع أولاده ينامون ، حتى إذا أخذ كل مضجعه ، عمد عمه إلى واحد من أبنائه ، فأقامه وأتى بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ينام موضعه ، وذهب بولده ينام مكان محمد - صلى الله عليه وسلم - ، حتى إذا كان هناك من يريد به سوءا فرأى مكانه في أول الليل ، ثم جاء من يريده بسوء وقع السوء بابنه ، وسلم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، كما فعل الصديق - رضي الله عنه - عند الخروج إلى الهجرة في طريقهما إلى الغار ، فكان - رضي الله عنه - تارة يمشي أمامه - صلى الله عليه وسلم - ، وتارة يمشي وراءه ، فسأله - صلى الله عليه وسلم - عن [ ص: 557 ] ذلك ، فقال : " أذكر الرصيد فأكون أمامك ، وأذكر الطلب فأكون وراءك ، فقال : " أتريد لو كان سوء يكون بك يا أبا بكر ؟ " قال : بلى ، فداك أبي وأمي يا رسول الله ، ثم قال : إن أهلك أهلك وحدي ، وإن تهلك تهلك معك الدعوة " ، فذاك عمه في جاهلية وليس على دينه - صلى الله عليه وسلم - وهذا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - .
قوله تعالى : وللآخرة خير لك من الأولى

" خير " تأتي مصدرا كقوله : " إن ترك خيرا " [ 2 \ 180 ] أي : مالا كثيرا ، وتأتي أفعل تفضيل محذوفة الهمزة ، وهي هنا أفعل تفضيل بدليل ذكر المقابل ، وذكر حرف " من " ، مما يدل على أنه سبحانه أعطاه في الدنيا خيرات كثيرة ، ولكن ما يكون له في الآخرة فهو خير وأفضل مما أعطاه في الدنيا ، ويوهم أن الآخرة خير له - صلى الله عليه وسلم - وحده من الأولى ، ولكن جاء النص كدليل ذكر المقابل ، وذكر حرف " من " ، مما يدل على أنه سبحانه أعطاه في الدنيا خيرات كثيرة ، ولكن ما يكون له في الآخرة فهو خير وأفضل مما أعطاه في الدنيا ، ويوهم أن الآخرة خير له - صلى الله عليه وسلم - وحده من الأولى ، ولكن جاء النص على أنها خير للأبرار جميعا ، وهو قوله تعالى : وما عند الله خير للأبرار [ 3 \ 198 ] .

وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان الخيرية للأبرار عند الله ، أي : يوم القيامة بما أعد لهم ، كما في قوله : إن الأبرار لفي نعيم [ 82 \ 13 ] ، وقوله : إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا [ 76 \ 5 ] .

أما بيان الخيرية هنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبيان الخير في الدنيا أولا ، ثم بيان الأفضل منه في الآخرة .

أما في الدنيا المدلول عليه بأفعل التفضيل ، أي : لدلالته على اشتراك الأمرين في الوصف ، وزيادة أحدهما على الآخر ، فقد أشار إليه في هذه السورة والتي بعدها ، ففي هذه السورة قوله تعالى : ألم يجدك يتيما فآوى [ 93 \ 6 ] ، أي : منذ ولادته ونشأته ، ولقد تعهده الله سبحانه من صغره فصانه عن دنس الشرك ، وطهره وشق صدره ونقاه ، وكان رغم يتمه سيد شباب قريش ، حيث قال عمه عند خطبته خديجة لزواجه بها ، فقال : " فتى لا يعادله فتى من قريش ، حلما وعقلا وخلقا ، إلا رجح عليه " .

وقوله : ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى [ 93 \ 7 - 8 ] .

على ما سيأتي بيانه كله ، فهي نعم يعددها تعالى عليه ، وهي من أعظم خيرات الدنيا [ ص: 558 ] من صغره إلى شبابه وكبره ، ثم اصطفائه بالرسالة ، ثم حفظه من الناس ، ثم نصره على الأعداء ، وإظهار دينه وإعلاء كلمته .

ومن الناحية المعنوية ما جاء في السورة بعدها : ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك [ 94 \ 1 - 4 ] .

أما خيرية الآخرة على الأولى ، فعلى حد قوله : ولسوف يعطيك ربك فترضى [ 93 \ 5 ] ، وليس بعد الرضى مطلب ، وفي الجملة : فإن الأولى دار عمل وتكليف وجهاد ، والآخرة دار جزاء وثواب وإكرام ، فهي لا شك أفضل من الأولى .
قوله تعالى : ولسوف يعطيك ربك فترضى

جاء مؤكدا باللام وسوف ، وقال بعض العلماء : يعطيه في الدنيا من إتمام الدين وإعلاء كلمة الله ، والنصر على الأعداء .

والجمهور : أنه في الآخرة ، وهذا وإن كان على سبيل الإجمال ، إلا أنه فصل في بعض المواضع ، فأعظمها ما أشار إليه قوله تعالى : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [ 17 \ 79 ] .

وجاء في السنة بيان المقام المحمود ، وهو الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون ، كما في حديث الشفاعة العظمى حين يتخلى كل نبي ، ويقول : " نفسي نفسي ، حتى يصلوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول : أنا لها أنا لها " إلخ .

ومنها : الحوض المورود ، وما خصت به أمته غرا محجلين ، يردون عليه الحوض .

ومنها : الوسيلة ، وهي منزلة رفيعة عالية لا تنبغي إلا لعبد واحد ، كما في الحديث : " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا علي وسلوا الله لي الوسيلة ، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد واحد ، وأرجو أن أكون أنا هو " .

وإذا كانت لعبد واحد فمن يستقدم عليها ، وإذا رجا ربه أن تكون له طلب من الأمة طلبها له ، فهو مما يؤكد أنها له ، وإلا لما طلبها ولا ترجاها ، ولا أمر بطلبها له . وهو بلا شك أحق بها من جميع الخلق ، إذ الخلق أفضلهم الرسل ، وهو - صلى الله عليه وسلم - مقدم عليهم في الدنيا ، كما في الإسراء تقدم عليهم في الصلاة في بيت المقدس .

[ ص: 559 ] ومنها : الشفاعة في دخول الجنة ، كما في الحديث : " أنه - صلى الله عليه وسلم - أول من تفتح له الجنة ، وأن رضوان خازن الجنة يقول له : أمرت ألا أفتح لأحد قبلك " .

ومنها : الشفاعة المتعددة حتى لا يبقى أحد من أمته في النار ، كما في الحديث : " لا أرضى وأحد من أمتي في النار " أسأل الله أن يرزقنا شفاعته ، ويوردنا حوضه . آمين .

وشفاعته الخاصة في الخاص في عمه أبي طالب ، فيخفف عنه بها ما كان فيه .

ومنها : شهادتة على الرسل ، وشهادة أمته على الأمم وغير ذلك ، وهذه بلا شك عطايا من الله العزيز الحكيم لحبيبه وصفيه الكريم ، - صلوات الله وسلامه عليه - ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما .

تنبيه .

اللام في وللآخرة وفي ولسوف للتأكيد وليست للقسم ، وهي في الأول دخلت على المبتدأ ، وفي الثانية المبتدأ محذوف تقديره : لأنت سوف يعطيك ربك فترضى . قاله أبو حيان وأبو السعود .
قوله تعالى : ألم يجدك يتيما فآوى

تقدم بيان معنى اليتيم عند قوله تعالى : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا [ 76 \ 8 ] .

والرسول - صلى الله عليه وسلم - مات أبوه ، وهو حمل له ستة أشهر ، وماتت أمه وهي عائدة من المدينة بالأبواء وعمره - صلى الله عليه وسلم - .

وقد قيل : إن يتمه ; لأنه لا يكون لأحد حق عليه ، نقله أبو حيان .

والذي يظهر أن يتمه راجع إلى قوله : ما ودعك ربك ، أي : ليتولى الله تعالى أمره من صغره ، وتقدم معنى إيواء الله له ، فكان يتمه لإبراز فضله ; لأن يتيم الأمس أصبح سيد الغد ، وكافل اليتامى .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 44.63 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 44.00 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.41%)]