
16-09-2024, 07:51 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,735
الدولة :
|
|
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (594)
سُورَةُ اللَّيْلِ .
صـ 539 إلى صـ 548
وقوله : والسماء وما بناها ، قيل : " ما " بمعنى الذي ، وجيء بها بدلا عن " من " التي لأولي العلم ; لإشعارها معنى الوصفية ، أي : " والسماء " والقادر الذي " بناها " ، وكذلك ما بعدها في " الأرض وما طحاها ونفس " ، والحكيم العليم [ ص: 539 ] " الذي سواها " ، و " ما " مشترك بين العالم وغيره ، كقوله : ولا أنتم عابدون ما أعبد [ 109 \ 3 ] ، ومثله : فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ 4 \ 3 ] .
وتقدم مرارا أحوال السماء في بنائها ورفعها ، وجعلها سبعا طباقا ، وقد بين في تلك النصوص كيفية بنائها ، وأنه سبحانه وتعالى بناها بقوة ، كما في قوله تعالى : والسماء بنيناها بأيد [ 51 \ 47 ] ، أي : بقوة
وقوله تعالى : والأرض وما طحاها [ 91 \ 6 ] ، مثل " دحاها " [ 79 \ 30 ] .
وقالوا : إبدال الدال طاء مشهور ، وطحا تأتي بمعنى خلق ، وبمعنى ذهب في كل شيء ، فمن الأول :
وما تدري جذيمة من طحاها ولا من ساكن العرش الرفيع
ومن الثاني قول علقمة :
طحا بك قلب في الحسان طروب يعيد الشباب عصر حان مشيب
ولا منافاة في ذلك بأنه تعالى خلقها ومدها ، وذهب بأطرافها كل مذهب ، أي : في مدها .
تنبيه .
قالوا : ذكر السماء وما بناها ; للدلالة على حدوثها ، وبالتالي على حدوث الشمس والقمر ، وأن تدبيرهما لله .
وقوله : ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها [ 91 \ 7 - 8 ] ، قالوا : النفس تحمل كامل خلقة الإنسان بجسمه وروحه وقواه الإنسانية ، من تفكير وسلوك . . . إلخ .
وقيل : النفس هنا بمعنى القوى المفكرة ، المدركة مناط الرغبة والاختيار ، وعليه ; فذكر النفس بالمعنى الأول ، تكون تسويتها في استواء خلقتها وتركيب أعضائها ، وهي غاية في الدلالة على القدرة والكمال والعلم ، كما في قوله : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [ 95 \ 4 ] ، وقال : وفي أنفسكم أفلا تبصرون [ 51 \ 21 ] ، أي : من أعضاء وأجزاء وتراكيب ، وعدة أجهزة تبهر العقول في السمع ، وفي البصر ، وفي الشم ، وفي الذوق ، وفي الحس ، ومن داخل الجسم ما هو أعظم ، فحق أن يقسم بها .
[ ص: 540 ] " وما سواها " : أي : بالقدرة الباهرة ، والعلم الشامل . وذكرها بالمعنى الثاني ، فإنه في نظري أعظم من المعنى الأول ; وذلك أن القوى المدركة والمفكرة والمقدرة للأمور التي لها الاختيار ، ومنها القبول والرفض والرضى والسخط والأخذ والمنع ، فإنها عالم مستقل .
وإنها كما قلنا أعظم مما تقدم ; لأن الجانب الخلقي قال تعالى فيه : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس [ 40 \ 57 ] ، ولكن في هذا الجانب ، قال : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا [ 33 \ 72 ] .
ومعلوم أن بعض أفراد الإنسان حملها بصدق وأداها بوفاء ، ونال رضى الله تعالى ، رضي الله عنهم ورضوا عنه .
فهذه النفس في تسويتها لتلقي معاني الخير والشر ، واستقبال الإلهام الإلهي للفجور ، والتقوى أعظم دلالة على القدرة من تلك الجمادات التي لا تبدي ولا تعيد ، والتي لا تملك سلبا ولا إيجابا .
وهنا مثال بسيط فيما استحدث من آلات حفظ وحساب ، كالآلة الحاسبة والعقل الألكتروني ، فإنها لا تخطئ كما يقولون ، وقد بهرت العقول في صفتها ، ولكن بنظرة بسيطة نجدها أمام النفس الإنسانية كقطرة من بحر .
فنقول : إنها أولا من صنع هذه النفس ذات الإدراك النامي والاستنتاج الباهر .
ثانيا : هي لا تخطئ ; لأنها لا تقدر أن تخطئ ; لأن الخطأ ناشئ عن اجتهاد فكري ، وهي لا اجتهاد لها ، إنما تشير وفق ما رسم لها : كالمادة المسجلة في شريط ، فإن المسجل مع دقة حفظه لها ، فإنه لا يقدر أن يزيد ولا ينقص حرفا واحدا .
أما الإنسان : فإنه يغير ويبدل ، وعندما يبدل كلمة مكان كلمة ، فلقدرته على إيجاد الكلمة الأخرى ، أو لاختياره ترك الكلمة الأولى .
وهكذا هنا ، فالله تعالى هنا خلق تلك النفس أولا ، ثم سواها على حالة تقبل تلقي الإلهام بقسيمه : الفجور والتقوى ، ثم تسلك أحد الطريقين ، فكأن مجيء القسم بها بعد [ ص: 541 ] تلك المسميات دلالة على عظم ذاتها وقوة دلالتها على قدرة خالقها ، وما سواها مستعدة قابلة لتلقي إلهام الله إياها .
تنبيه .
وفي مجيئها بعد الآيات الكونية ; من شمس ، وقمر ، وليل ، ونهار ، وسماء ، وأرض ، لفت إلى وجوب التأمل في تلك المخلوقات ، يستلهم منها الدلالة على قدرة خالقها ، والاستدلال على تغير الأزمان ، وحركة الأفلاك ، وإحداث السماء بالبناء ; أنه لا بد لهذا العالم من صانع ، ولا بد للمحدث المتجدد من فناء وعدم .
كما عرض إبراهيم - عليه السلام - على النمروذ نماذج الاستدلال على الربوبية والألوهية ، فأشار إلى الشمس أولا ، ثم إلى القمر ، ثم انتقل به إلى الله سبحانه .
وقوله : فألهمها فجورها وتقواها ، إن كان " ألهمها " بمعنى هداها وبين لها ، فهو كما في قوله : وهديناه النجدين [ 90 \ 10 ] ، وقوله : إنا هديناه السبيل [ 76 \ 3 ] ، وهذا على الهداية العامة ، التي بمعنى الدلالة والبيان .
وإن كان بمعنى التيسير والإلزام ، ففيه إشكال القدر في الخير الاختيار .
وقد بحث هذا المعنى الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في دفع إيهام الاضطراب بحثا وافيا .
قوله تعالى : قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها
هذا هو جواب القسم فيما تقدم ، فالواو قد حذفت منه اللام ; لطول ما بين المقسم به والمقسم عليه .
وقد نوه عنه الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عند الكلام على قوله تعالى : إن ذلك لحق تخاصم أهل النار [ 38 \ 64 ] ، من سورة " ص " ، وأنهم استدلوا لهذه الآية عليه .
والأصل : لقد أفلح ، فحذفت اللام لطول الفصل ، و " زكاها " بمعنى طهرها ، وأول ما يطهرها منه دنس الشرك ورجسه ، كما قال تعالى : إنما المشركون نجس [ 9 \ 28 ] ، وتطهيرها منه بالإيمان ثم من المعاصي بالتقوى ، كما في قوله تعالى : فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى [ 53 \ 32 ] ، ثم بعمل الطاعات قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى [ 87 \ 14 - 15 ] .
[ ص: 542 ] واختلف في مرجع الضمير في " زكاها " و " دساها " ، وهو يرجع إلى اختلافهم في : فألهمها فجورها وتقواها ، فهل يعود إلى الله تعالى ، كما في : ونفس وما سواها ، أم يعود على العبد .
ويمكن أن يستدل لكل قول ببعض النصوص . فمما يستدل به للقول الأول قوله تعالى : بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا [ 4 \ 49 ] ، وقوله : ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا [ 24 \ 21 ] ، وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند هذه الآية : " اللهم آت نفسي تقواها ، وزكها ; أنت خير من زكاها ، وأنت وليها ومولاها " .
ومما استدل به للقول الثاني فكقوله : قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى [ 87 \ 14 - 15 ] ، وقوله : ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير [ 35 \ 18 ] ، وقوله : فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى [ 79 \ 18 - 19 ] ، وقوله : وما يدريك لعله يزكى [ 80 \ 3 ] ، وكلها كما ترى محتملة ، والإشكال فيها كالإشكال فيما قبلها .
والذي يظهر - والله تعالى أعلم - : أن الجمع بين تلك النصوص كالجمع في التي قبلها ، وأن ما يتزكى به العبد من إيمان وعمل في طاعة وترك لمعصية ، فإنه بفضل من الله ، كما في قوله تعالى المصرح بذلك : ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا [ 24 \ 21 ] .
وكل النصوص التي فيها عود الضمير ، أو إسناد التزكية إلى العبد ، فإنها بفضل من الله ورحمته ، كما تفضل عليه بالهدى والتوفيق للإيمان ، فهو الذي يتفضل عليه بالتوفيق إلى العمل الصالح ، وترك المعاصي ، كما في قولك : " لا حول ولا قوة إلا بالله " ، وقوله : فلا تزكوا أنفسكم [ 53 \ 32 ] ، وقوله : ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم [ 4 \ 49 ] ، إنما هو بمعنى المدح والثناء ، كما في قوله تعالى : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا [ 49 \ 14 ] ، بل إن في قوله تعالى : بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا [ 4 \ 49 ] ، الجمع بين الأمرين ، القدري والشرعي : بل الله يزكي من يشاء [ ص: 543 ] بفضله ، ولا يظلمون فتيلا بعدله . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : كذبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقاها فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها فكذبوه فعقروها " ثمود " : اسم للقبيلة أسند إليها التكذيب ، أي : بنبي الله صالح ، و " أشقاها " هو عاقر الناقة أسند الانبعاث له وحده بين ما جاء بعده : فكذبوه فعقروها ، فأسند العقر لهم .
وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - الجمع بين ذلك في سورة " الزخرف " ، ومضمونه أنهم متواطئون معه كما في قوله : فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر [ 54 \ 29 ] ، فكانوا شركاء له في عقرها ، كما قال الشاعر :
والسامع الذم شريك لقائله ومطعم المأكول شريك للآكل
وفي قصة أبي طلحة في صيد الحمار الوحشي ، سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم محرمون للعمرة : " هل دله عليه منكم أحد ؟ قالوا : لا ، قال : هل عاونه عليه منكم أحد ؟ قالوا : لا ، قال : فكلوا إذا : " لأن مفهومه : لو عاونوا أو دلوا لكانوا شركاء في صيده ، فيحرم عليهم ; لقوله تعالى : لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم [ 5 \ 95 ] ، وبعدم اشتراكهم حل لهم ، فلو عاونوا أو شاركوا لحرم عليهم ، وهنا لما كانوا راضين ، ونادوه وتعاطى ، سواء عهودهم أو عطاؤهم أو غير ذلك فعقرها وحده ، كان هذا باسم الجميع ، فكانت العقوبة باسم الجميع ، ويؤخذ من هذا قتل الجماعة بالواحد ، وعقوبة الربيئة مع الجاني . والله تعالى أعلم .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ اللَّيْلِ .
قوله تعالى : والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى
يقسم الله تعالى بالليل والنهار وأثرهما على الكون ، على أنهما آيتان عظيمتان .
وتقدم الكلام عليهما في السورة قبلها عند قوله : والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها [ 91 \ 3 - 4 ] .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - الكلام على هاتين الآيتين ، عند قوله تعالى : وجعلنا الليل والنهار آيتين [ 17 \ 12 ] ، في سورة " بني إسرائيل " ، وذكر كل النصوص في هذا المعنى . وأثر الليل والنهار في حياة الناس ، ومعرفة الحساب ونحوه .
قوله تعالى : وما خلق الذكر والأنثى
تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بحث هذه المسألة ، وإيراد كل النصوص في عدة مواضع ، أشار إليها كلها في سورة " النجم " عند قوله تعالى : وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى [ 53 \ 45 - 46 ] ، وقد قرئت بعدة قراءات منها : خلق الذكر والأنثى ، ومنها " والذكر والأنثى " .
وذكرها ابن كثير مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح البخاري ومسلم ، وعلى القراءة المشهورة .
وما خلق الذكر والأنثى ، اختلف في لفظة : " ما " فقيل : إنها مصدرية ، أي : وخلق الذكر والأنثى .
وقيل : بمعنى من ، أي : والذي خلق الذكر والأنثى . فعلى الأول يكون القسم [ ص: 545 ] بصفة من صفات الله - وهي صفة الخلق ، ويكون خص الذكر والأنثى ; لما فيهما من بديع صنع الله وقوة قدرته سبحانه على ما يأتي .
وعلى قراءة : " والذكر والأنثى " . يكون القسم بالمخلوق كالليل والنهار ، لما في الخلق من قدرة الخالق أيضا ، وعلى أنها بمعنى الذي يكون القسم بالخالق سبحانه ، وتكون ما هنا مثل ما في قوله : والسماء وما بناها [ 91 \ 5 ] ، وغاية ما فيه استعمالها وهي في الأصل لغير أولي العلم ، إلا أنها لوحظ فيها معنى الصفة ، وهي صفة الخلق أو على ما تستعمله العرب عند القرينة ، كقوله تعالى : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم [ 4 \ 22 ] ، وقوله : فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ 4 \ 3 ] ، لما لوحظ فيه معنى الصفة وهو الاستمتاع ; ساغ استعمال ما بدلا عن من .
وفي اختصاص خلق الذكر والأنثى في هذا المقام لفت نظر إلى هذه الصفة ، لما فيها من إعجاز البشر عنها ، كما في الليل والنهار من الإعجاز للبشر : من أن يقدروا على شيء في خصوصه ، كما قدمنا في السورة قبلها .
وذلك : أن أصل التذكير والتأنيث أمر فوق إدراك وقوى البشر ، وهي كالآتي :
أولا : في الحيوانات الثديية ، وهي ذوات الرحم تحمل وتلد ، فإنها تنتج عن طريق اتصال الذكور بالإناث . وتذكير الجنين أو تأنيثه ليس لأبويه دخل فيه ، إنه من نطفة أمشاج ، أي : أخلاط من ماء الأب والأم ، وجعل هذا ذكرا وذاك أنثى ، فهو هبة من الله كما في قوله : يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير [ 42 \ 49 - 50 ] .
وقد ثبت علميا أن سبب التذكير والتأنيث من جانب الرجل ، أي : أن ماء المرأة صالح لهذا وذاك ، وماء الرجل هو الذي به يكون التمييز ; لانقسام يقع فيه . فالمرأة لا تعدو أن تكون حرثا ، والرجل هو الزارع ، ونوع الزرع يكون عن طريقه ، كما أشارت إليه الآية الكريمة : نساؤكم حرث لكم [ 2 \ 223 ] ، والحرث لا يتصرف في الزرع ، وإنما التصرف عن طريق الحارث .
ويتم ذلك عن طريق مبدأ معلوم علميا ، وهو أن خلية التلقيح في الأنثى دائما وأبدا [ ص: 546 ] مكونة من ثمانية وأربعين جزءا ، وهي دائما وأبدا تنقسم إلى قسمين متساويين : أربعة وعشرين ، فيلتحم قسم منها مع قسم خلية الذكر ، وخلية الذكر سبعة وأربعون ، وإنما أبدا تنقسم أيضا عند التلقيح إلى قسمين ، ولكن أحدهما أربعة وعشرون ، والآخر ثلاثة وعشرون ، فإذا أراد الله تذكير الحمل سبق القسم الذي من ثلاثة وعشرين . فيندمج مع قسيم خلية الأنثى ، وهو أربعة وعشرون ، فيكون مجموعهما سبعة وأربعين ، فيكون الذكر بإذن الله .
وإذا أراد الله تأنيث الحمل سبق القسم الذي هو أربعة وعشرون من الرجل ، فيندمج مع قسيم خلية المرأة أربعة وعشرين ، فيكون من مجموعهما ثمانية وأربعون ، فتكون الأنثى بإذن الله ، وهكذا في جميع الحيوانات .
أما النباتات فإن بعض الأشجار تتميز فيه الذكور من الإناث ، كالنخل ، والتوت مثلا ، وبقية الأشجار تكون الشجرة الواحدة تحمل زهرة الذكورة وزهرة الأنوثة ، فتلقح الرياح بعضها من بعض .
وقد حدثني عدة أشخاص عن غريبتين في ذلك :
إحداهما : أن نخلة موجودة حتى الآن ، في بعض السنين فحلا يؤخذ منه ليؤبر النخيل ، وفي بعض السنين نخلة تطلع وتثمر .
وحدثني آخر في نفس المجلس : من أنه توجد عندهم شجرة نخل يكون أحد شقيها فحلا ; يؤخذ منه الطلع يلقح به النخل ، وشقها الآخر نخلة يتلقح من الشق الآخر لمجاورته .
كما حدثني ثالث : أن والده قطع بعض فحل النخل ; لكثرته في النخيل ، وبعد قطعه نبت في أصله ومن جذعه وجذوره نخلة تثمر . وكل ذلك على خلاف العادة ، ولكنه دال على قدرة الله تعالى ، وأنه خالق الذكر والأنثى .
أما عمل هذا الجهاز في الحيوانات ، بل وفي الحشرات الدقيقة وتكاثرها ، فهو فوق الحصر والحد .
وقد ذكروا في عالم الحشرات ، ما يلقح نفسه بنفسه ، باحتكاك بعض فخذية ببعض ، وكل ذلك مما لا يعلمه ولا يقدر على إيجاده إلا الله سبحانه وتعالى ، مما لو [ ص: 547 ] تأمله العاقل لوجد فيه كما أسلفنا القدرة الباهرة ، أعظم مما في الليل إذا يغشى وما في النهار إذا تجلى ، ولا سيما إذا صغر الكائن : كالبعوضة فما دونها مما لا يكاد يرى بالعين ، ومع ذلك فإن فيه الذكورة والأنوثة . سبحانك اللهم ما أعظم شأنك .
قوله تعالى : إن سعيكم لشتى
تقدم في السورة الأولى قوله تعالى : قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها [ 91 \ 9 - 10 ] ، وكلاهما بالسعي إليه والعمل من أجله ، وهنا يقول : " إن سعيكم " مهما كان " لشتى " ، أي : متباعد بعض عن بعض .
والشتات : التباعد والافتراق ، وشتى : جمع شتيت ، كمرضى ومريض ، وقتلى وقتيل ونحوه ، ومنه قول الشاعر :
قد يجمع الله الشتيتين بعد ما يظنان كل الظن ألا تلاقيا
وهذا جواب القسم ، وفي القسم ما يشعر بالارتباط به ، كبعد ما بين الليل والنهار ، وما بين الذكر والأنثى ، فهما مختلفان تماما ، وهكذا هما مفترقان في النتائج والوسائل ، كبعد ما بين فلاح من زكاها ، وخيبة من دساها المتقدم في السورة قبلها .
ثم فصل هذا الشتات في التفصيل الآتي : فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى
وما أبعد ما بين العطاء ، والبخل ، والتصديق ، والتكذيب ، واليسرى ، والعسرى ، وقد أطلق : " أعطى " ; ليعم كل عطاء من ماله وجاهه وجهده حتى الكلمة الطيبة ، بل حتى طلاقة الوجه ، كما في الحديث : " ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق " . والحسنى : قيل المجازاة على الأعمال . وقيل : للخلف على الإنفاق . وقيل : لا إله إلا الله . وقيل : الجنة .
والذي يشهد له القرآن هو الأخير ; لقوله تعالى : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [ 10 \ 26 ] ، فقالوا : الحسنى هي الجنة ، والزيادة النظر إلى وجهه الكريم ، وهذا [ ص: 548 ] المعنى يشمل كل المعاني ; لأنها أحسن خلف لكل ما ينفق العبد ، وخير وأحسن مجازاة على أي عمل مهما كان ، ولا يتوصل إليها إلا بلا إله إلا الله .
وقوله : فسنيسره لليسرى ، وقوله : فسنيسره للعسرى بعد ذكر " أعطى واتقى " في الأولى ، و " بخل واستغنى " في الثانية .
قيل : هو دلالة على أن فعل الطاعة ييسر إلى طاعة أخرى ، وفعل المعصية يدفع إلى معصية أخرى .
قال ابن كثير : مثل قوله تعالى : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون [ 6 \ 110 ] .
ثم قال : والآيات في هذا المعنى كثيرة ، دالة على أن الله - عز وجل - يجازي من قصد الخير بالتوفيق له ، ومن قصد الشر بالخذلان ، وكل ذلك بقدر مقدر .
والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة . وذكر عن أبي بكر عند أحمد ، وعن علي عند البخاري ، وعبد الله بن عمر عند أحمد ، وعدد كثير بروايات متعددة ، أشملها وأصحها حديث علي عند البخاري ، قال علي : " كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بقيع الغرقد في جنازة ، فقال : " ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار " ، فقالوا : يا رسول الله ، أفلا نتكل ؟ فقال : اعملوا ، فكل ميسر لما خلق له " ، ثم قرأ : فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى إلى قوله للعسرى " فهي من الآيات التي لها تعلق ببحث القدر .
وتقدم مرارا بحث هذه المسألة . والعلم عند الله تعالى .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|