عرض مشاركة واحدة
  #459  
قديم 31-08-2024, 05:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,262
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْحَجِّ
المجلد الحادى عشر
صـ 4316 الى صـ 4335
الحلقة (459)





قال الرازي : قال القاضي: إنما ختم الله هذه السورة بقوله: قال رب احكم بالحق لأنه عليه السلام كان قد بلغ في البيان لهم الغاية، وبلغوا النهاية في أذيته وتكذيبه. فكان قصارى أمره تعالى بذلك تسلية له وتعريفا أن المقصود مصلحتهم. فإذا أبوا إلا التمادي في كفرهم، فعليك بالانقطاع إلى ربك، ليحكم بينك وبينهم بالحق. إما بتعجيل العقاب بالجهاد أو بغيره. وإما بتأخير ذلك. فإن أمرهم، وإن تأخر فما هو كائن قريب. وما روي أنه عليه السلام كان يقول ذلك في حروبه، كالدلالة على أنه تعالى أمره أن يقول هذا القول، كالاستعجال للأمر بمجاهدتهم. وبالله التوفيق.
سُورَةُ الْحَجِّ

سُمِّيَتْ بِهِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى أَصْلِ وُجُوبِهِ وَالْمَقْصُودِ مِنْ أَرْكَانِهِ ، وَهُوَ الطَّوَافُ ، إِذِ الْإِحْرَامُ نِيَّةٌ ، وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَاتٍ مِنَ اسْتِعْدَادِهِ ، وَالسَّعْيُ مِنْ تَتِمَّتِهِ ، وَالْحَلْقُ خُرُوجٌ عَنْهُ .

وذكر فيها منافعه وتعظيم شعائره وغير ذلك ، مما يشير إلى فوائده وأسراره . أفاده المهايمي .

وعن مجاهد ، عن ابن عباس : أنها مكية سوى ثلاث آيات هذان خصمان ، إلى تمام الآيات الثلاث ، فإنهن نزلن بالمدينة ، وفي آثار أخرى أنها كلها مدنية ، كما في الإتقان وآياتها ثمان وسبعون آية .

[ ص: 4321 ] بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى :

[1] يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم .

{ يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم } يأمر تعالى عباده بتقواه التي هي من جوامع الكلم ، في فعل المأمورات واجتناب المنهيات .

قال المهايمي : أي : احفظوا تربيته عليكم ، بصرف نعمه إلى ما خلقها لأجله ، لئلا تقعوا في الكفران الموجب لانقلاب التربية عليكم ، بالانتقام منكم . انتهى .

أي فالتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية والتربية ، مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين ، لتأييد الأمر وتأكيد إيجاب الامتثال به ترغيبا وترهيبا . أي : احذروا عقوبة مالك أموركم ومربيكم ، وقوله تعالى : { إن زلزلة الساعة شيء عظيم } تعليل لموجب الأمر ، بذكر بعض عقوباته الهائلة . فإن ملاحظة عظمها وهولها ، وفظاعة ما هي من مبادئه ومقدماته ، من الأحوال والأهوال ، التي لا ملجأ منها سوى التدرع بلباس التقوى ، مما يوجب مزيد الاعتناء بملابسته وملازمته لا محالة . و(الزلزلة ) التحريك الشديد والإزعاج العنيف ، بطريق التكرير بحيث يزيل الأشياء من مقارها ويخرجها عن مراكزها . وإضافتها للساعة ، من إضافة المصدر إلى فاعله مجازا ، كأنها هي التي تزلزل . أو إلى ظرفه ، وهي الزلزلة المذكورة في قوله تعالى : { إذا زلزلت الأرض زلزالها } ، وفي التعبير عنها بـ(الشيء ) ، إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها ، والعبارة لا تحيط بها إلا على وجه الإبهام . أفاده أبو السعود .

وقد وصف عظمها في كثير من السور والآيات . كسورة التكوير وسورة الانفطار [ ص: 4322 ] وسورة الانشقاق وسورة الزلزال وغيرها . وقد أشير إلى شيء من بليغ هولها بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[2] يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد .

{ يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت } أي : عن إرضاعها . أو عن الذي أرضعته وهو الطفل : { وتضع كل ذات حمل حملها } أي : ما في بطنها لغير تمام : { وترى الناس سكارى } أي : كأنهم سكارى : { وما هم بسكارى } أي : على التحقيق : { ولكن عذاب الله شديد } أي : ولكن ما رهقهم من خوف عذاب الله ، هو الذي أذهب عقولهم ، وطير تمييزهم ، وردهم في نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه . قاله الزمخشري .

لطيفة :

قال الناصر في (" الانتصاف " ) : العلماء يقولون : إن من أدلة المجاز صدق نقيضه ، كقولك : (زيد حمار ) ، إذا وصفته بالبلادة . ثم يصدق أن تقول : (وما هو بحمار ) ، فتنفي عنه الحقيقة . فكذلك الآية . بعد أن أثبت السكر المجازي نفي الحقيقي أبلغ نفي مؤكد بالباء . والسر في تأييده التنبيه على أن هذا السكر الذي هو بهم في تلك الحالة ، ليس من المعهود في شيء ، وإنما هو أمر لم يعهدوا قبله مثله . والاستدراك بقوله : { ولكن عذاب الله شديد } راجع إلى قوله : { وما هم بسكارى } كأنه تعليل لإثبات السكر المجازي . كأنه قيل إذا لم يكونوا سكارى من الخمر ، وهو السكر المعهود ، فما هذا السكر الغريب وما سببه ؟ فقال : سببه شدة عذاب الله تعالى . انتهى .

[ ص: 4323 ] ثم أشير لحال المنكرين للساعة ، بقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[3] ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد .

{ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم } أي : يخاصم في شأنه تعالى بغير علم . فيزعم أنه غير قادر على إحياء من قد بلي وصار ترابا ، ونحو ذلك من الأباطيل : { ويتبع } أي : في جداله : { كل شيطان مريد } أي : عات متمرد . كرؤساء الكفر الصادين عن الحق . ثم أشار لوصف آخر لهذا الشيطان المتبع ، بقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[4] كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير .

{ كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير } أي : قضى على الشيطان أنه يضل من تولاه بأن اتخذه وليا ، وتبعه ، ولا يهديه إلى الحق ، بل يسوقه إلى عذاب جهنم الموقدة . وسوقه إياه إليه ، بدعائه إلى طاعته ومعصية الرحمن .

تنبيه :

قيل : نزلت الآية في النضر بن الحارث ، وكان جدلا .

قال الزمخشري : وهي عامة في كل من تعاطى الجدال فيما يجوز على الله وما لا يجوز ، من الصفات والأفعال . ولا يرجع إلى علم ، ولا يعض فيه بضرس قاطع . وليس فيه اتباع للبرهان ولا نزول على النصفة فهو يخبط خبط عشواء ، غير فارق بين الحق والباطل . انتهى .
ثم بين تعالى الحجة القاطعة لما يجادلون فيه ، بقوله :

[ ص: 4324 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[5] يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنـزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج .

يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث أي : من إمكانه وكونه مقدورا له تعالى . أو من وقوعه : فإنا خلقناكم من تراب أي : خلقنا أول آبائكم ، أو أول موادكم ، وهو المني ، من تراب . إذ خلق من أغذية متولدة منه . وغاية أمر البعث أنه خلق من التراب : ثم من نطفة أي : تولدت من الأغذية الترابية : ثم من علقة أي : قطعة من الدم جامدة : ثم من مضغة أي : قطعة من اللحم بقدر ما يمضغ : مخلقة وغير مخلقة أي مصورة وغير مصورة والمراد تفصيل حال المضغة وكونها أولا قطعة لم يظهر فيها شيء من الأعضاء . ثم ظهرت بعد ذلك شيئا فشيئا : لنبين لكم أي : بهذا التدريج ، قدرتنا وحكمتنا ، وأن ما قبل التغير والفساد والتكون مرة ، قبلها أخرى . وأن من قدر على تغييره وتصويره أولا ، قدر على ذلك ثانيا ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى وهو وقت الوضع .

قال أبو السعود : استئناف مسوق لبيان حالهم ، بعد تمام خلقهم . وعدم نظم هذا وما عطف عليه في سلك الخلق المعلل بالتبيين ، مع كونهما من متمماته ، ومن مبادئ التبيين أيضا . لما أن دلالة الأول على كمال قدرته تعالى على جميع المقدورات ، التي من جملتها البعث [ ص: 4325 ] المبحوث عنه ، أجلى وأظهر . أي : ونحن نقر في الأرحام بعد ذلك ما نشاء أن نقره فيها إلى أجل مسمى .

ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم أي : كمال قوتكم وعقلكم . قال أبو السعود علة لـ : { نخرجكم } معطوفة على علة أخرى مناصبة لها . كأنه قيل : ثم نخرجكم لتكبروا شيئا فشيئا . ثم لتبلغوا كمالكم في القوة والتمييز : ومنكم من يتوفى أي : بعد بلوغ الأشد أو قبله : ومنكم من يرد إلى أرذل العمر وهو الهرم والخرف . والأرذل الأردأ : لكيلا يعلم من بعد علم شيئا أي : من بعد علم كثير ، شيئا من الأشياء ، أو شيئا من العلم ، مبالغة في انتقاص علمه وانتكاس حاله واللام لام العاقبة .

قال البيضاوي : والآية - يعني : ثم نخرجكم إلخ - استدلال ثان على إمكان البعث ، بما يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة والأحوال المتضادة . فإن من قدر على ذلك قدر على نظائره .

ثم أشار تعالى إلى حجة أخرى على صحة البعث ، بقوله : وترى الأرض هامدة أي : ميتة يابسة : فإذا أنـزلنا عليها الماء أي : المطر : اهتزت أي : تحركت بالنبات : وربت أي : انتفخت وعلت ، لما يتداخلها من الماء ويعلو من نباتها : وأنبتت من كل زوج أي : صنف : بهيج أي : حسن رائق يسر ناظره وهذه الحجة الثالثة ، لظهورها وكونها مشاهدة معاينة ، يكررها الله تعالى في كتابه الكريم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[6 - 7] ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور .

ذلك بأن الله هو الحق أي : ذلك الذي ذكر من خلق الإنسان على أطوار مختلفة ، وتصريفه في أحوال متباينة ، وإحياء الأرض بعد موتها ، حاصل بسبب أن الله هو الحق [ ص: 4326 ] وحده في ذاته وصفاته وأفعاله . المحقق لما سواه من الأشياء ، فهي من آثار ألوهيته وشؤونه الذاتية وحده ; وما سواه مما يبعد باطل ، لا يقدر على شيء من ذلك : وأنه يحيي الموتى أي : يقدر على إحيائها ، إذ أحيا النطفة والأرض الميتة : وأنه على كل شيء قدير فإن القدرة التي جعل بها هذه الأشياء العجيبة ، لا يمتنع عليها شيء : وأن الساعة آتية لا ريب فيها أي : لاقتضاء الحكمة إياها . فهي في وضوح دلائلها التكوينية ، بحيث ليس فيها مظنة أن يرتاب في إتيانها : وأن الله يبعث من في القبور أي : من الأموات ، إحياء إلى موقف الحساب .
القول في تأويل قوله تعالى :

[8 - 10] ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد .

ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير أي : يجادل في شأنه تعالى من غير تمسك بعلم ضروري ولا باستدلال ونظر صحيح ، يهدي إلى المعرفة . ولا بوحي مظهر للحق . أي : بل بمجرد الرأي والهوى ، وهذه الآية في حال الدعاة إلى الضلال من رؤوس الكفر المقلدين - بفتح اللام - كما أن ما قبلها في حال الضلال الجهال المقلدين - بكسر اللام - فلا تكرار أو أنهما في الدعاة المضلين واعتبر تغاير أوصافهم فيها ، فلا تكرار أيضا .

قال في (" الكشف " ) : والأول أظهر وأوفق بالمقام . وكذا اختاره أبو مسلم فيما نقله عنه الرازي ، ثم قال : فإن قيل كيف يصح ما قلتم ، والمقلد لا يكون مجادلا ؟ قلنا : قد يجادل تصويبا لتقليده وقد يورد الشبهة الظاهرة إذا تمكن منها ، وإن كان معتمده الأصلي هو التقليد .

[ ص: 4327 ] وقوله : ثاني عطفه حال من فاعل (يجادل ) أي : عاطفا لجانبه إعراضا واستكبارا عن الحق ، إذا دعي إليه .

قال الزمخشري : ثني العطف عبارة عن الكبر والخيلاء . كتصعير الخد ولي الجيد . وقوله : ليضل عن سبيل الله أي : ليصد عن دينه وشرعه ، متعلق بـ(يجادل ) علة له : له في الدنيا خزي أي : إهانة ومذلة ، كما أصابه يوم بدر من الصغار والفشل : ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق أي : النار المحرقة : ذلك بما قدمت يداك على الالتفات ، أو إرادة القول . أي : يقال له يوم القيامة : ذلك الخزي والتعذيب بسبب ما اقترفته من الكفر والضلال والإضلال . وإسناده إلى يديه ، لما أن الاكتساب عادة يكون بالأيدي وأن الله ليس بظلام للعبيد أي : بل هو العدل في معاقبة الفجار ، وإثابة الصالحين .
القول في تأويل قوله تعالى :

[11] ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين .

ومن الناس من يعبد الله على حرف شروع في حال المذبذبين ، إثر بيان حال المهاجرين . أي : ومنهم من يعبده تعالى على طرف من الدين ، لا في وسطه وقلبه . وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم ، لا على سكون وطمأنينة . كالذي ينحرف إلى طرف الجيش . فإن أحس بظفر وغنيمة قر وإلا فر : فإن أصابه خير أي : دنيوي من صحة وسعة : اطمأن به أي : ثبت على ما كان عليه ظاهرا : وإن أصابته فتنة أي : ما يفتتن به من مكروه ينزل به : انقلب على وجهه أي : رجع إلى ما كان عليه من الكفر : خسر أي : بهذا الانقلاب : الدنيا والآخرة أي : ضيعهما بذهاب عصمته ، وحبوط عمله ، بالارتداد : ذلك هو الخسران المبين أي : الواضح الذي لا يخفى على ذي بصيرة .

[ ص: 4328 ] تنبيه :

قال ابن جرير : يعني جل ذكره بقوله : ومن الناس إلخ أعرابا كانوا يقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مهاجرين من باديتهم . فإن نالوا رخاء ، من عيش بعد الهجرة ، والدخول في الإسلام ، أقاموا على الإسلام . وإلا ارتدوا على أعقابهم . وبنحو الذي قلنا قال أهل التأويل . ثم أسنده من طرق .

وهذا مما يؤيد أن السورة مدنية كما قاله جمع . وتقدم ذلك . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[12] يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد .

يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه أي : حال ثابتة من فاعل (انقلب ) والأولى (خسر ) ولذلك قرئ (خاسر ) أي : ارتد عن دين الله يدعو من دونه آلهة لا تضره ، إن لم يعبدها في الدنيا ، ولا تنفعه في الآخرة إن عبدها - وقال أبو السعود : (يدعو ) استئناف مبين لعظيم الخسران : ذلك هو الضلال البعيد أي : عن الحق والهدى . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[13] يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير .

يدعو أي : هذا المنقلب على وجهه ، إذا أصابته فتنة : لمن ضره أقرب من نفعه أي : وثنا أو صنما ، ضره في الدنيا بالذل والخزي وفي الآخرة بالعذاب ، أسرع إليه من نفعه الذي يتوقعه بعبادته ، وهو الشفاعة والتوسل به إلى الله تعالى . فاللام زائدة في المفعول به ، [ ص: 4329 ] وهو (من ) كما زيدت في قوله تعالى : ردف لكم في وجه . وذكر أن ابن مسعود كان يقرؤه : { يدعو من ضره } بغير لام . وهي مؤيدة للزيادة . و(ضره ) مبتدأ ، وأقرب خبر . وفي الآية وجوه كثيرة هذا أظهرها . وإثبات الضرر له هنا ، باعتبار معبوديته . ونفيه قبل باعتبار نفسه . والآية بمثابة الاستدراك أو الإضراب عما قبلها ، بإثبات ضر محقق لاحق لعابده ، تسفيها وتجهيلا لاعتقاده فيه أنه يستنفع به حين يستشفع به وإيراد صيغة التفضيل ، مع خلوه عن النفع بالمرة ، للمبالغة في تقبيح حاله ، والإمعان في ذمه : لبئس المولى أي : الناصر له : ولبئس العشير أي : المصاحب له .

ولما بين سوء حال الكفرة من المجاهرين والمذبذبين ، أعقبه بكمال حسن حال المؤمنين ، بقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[14] إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد .

إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد أي : من الأفعال المبنية على الحكمة ، التي من جملتها إثابة من أطاعه وتعذيب من عصاه .
القول في تأويل قوله تعالى :

[15] من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ .

من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء [ ص: 4330 ] أي : بحبل إلى ما يعلوه : ثم ليقطع أي : ليختنق : فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ أي : غيظه . والمعنى من استبطأ نصر الله وطلبه عاجلا ، فليقتل نفسه . لأن له وقتا لا يقع إلا فيه . فالآية في قوم من المسلمين استبطؤوا نصر الله ، لاستعجالهم وشدة غيظهم ، وحنقهم على المشركين . وجوز أن تكون في قوم من المشركين ، والضمير في (ينصره ) للنبي صلى الله عليه وسلم . والمعنى : من كان منهم يظن أن لن ينصر الله نبيه ، فليختنق وليهلك نفسه ، ثم لينظر في نفسه ، هل يذهبن احتياله هذا في المضارة والمضادة ، ما يغيظه من النصرة ؟ كلا . فإن الله ناصر رسوله لا محالة . قال تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد
القول في تأويل قوله تعالى :

[16 - 17] وكذلك أنـزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد .

وكذلك أنـزلناه أي : القرآن الكريم : آيات بينات وأن الله يهدي من يريد إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد يخبر تعالى عن أهل هذه الأديان المختلفة ، أنه يقضي بينهم في الآخرة بالعدل . فيدخل من آمن منهم به وعمل صالحا ، الجنة . ومن كفر به ، النار . فإنه تعالى شهيد على أفعالهم ، حفيظ لأقوالهم ، عليم بسرائرهم وما تكنه ضمائرهم . وتقدم في سورة البقرة التعريف بـ(الصابئين ) والمراد بـ(الذين ) أشركوا [ ص: 4331 ] كفار العرب خاصة . لأن المشركين في إطلاق التنزيل ، بمثابة العلم لهم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[18] ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء .

ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس بيان لعظمته تعالى وانفراده بألوهيته وربوبيته . بانقياد هذه العوالم العظمى له ، وجريها على وفق أمره وتدبيره . فالسجود فيها مستعار من معناه المتعارف ، لمطاوعة الأشياء له تعالى ، فيما يحدث فيها من أفعاله ، يجريها عليه من تدبيره وتسخيره لها . ووجه الشبه الحصول على وفق الإرادة من غير امتناع منها فيهما . وقوله : وكثير من الناس إما معطوف على ما قبله ، إن جوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه جميعا ، فيكون السجود في الجمادات الانقياد ، وفي العقلاء العبادة . أو مبتدأ خبره محذوف . أو فاعل لمضمر ، إن لم يجوز ذلك . وقوله تعالى :

وكثير حق عليه العذاب أي : من الناس . أي : بكفره واستعصائه : ومن يهن الله أي : بأن كتب عليه الشقاوة حسبما علمه من صرف اختياره إلى الشر : فما له من مكرم أي : يكرمه بالسعادة : إن الله يفعل ما يشاء
القول في تأويل قوله تعالى :

[19] هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم .

هذان خصمان اختصموا في ربهم يعني فريق المؤمنين وفريق الكافرين المنقسم [ ص: 4332 ] إلى الفرق الخمس المبينة في الآية قبل . و(الخصم ) في الأصل مصدر . ولذا يوحد وينكر غالبا . ويستوي فيه الواحد المذكر وغيره ومعنى اختصموا في ربهم أي : في دينه وعبادته . والاختصام يشمل ما وقع أحيانا من التحاور الحقيقي بين أهل الأديان المذكورة ، والمعنوي . فإن اعتقاد كل من الفريقين بحقية ما هو عليه ، وبطلان ما عليه صاحبه ، وبناء أقواله وأفعاله عليه ، خصومة للفريقين الآخر . وإن لم يجز بينهما التحاور والخصام . ثم أشار إلى فصل خصومتهم المذكور في قوله تعالى : إن الله يفصل بينهم يوم القيامة بقوله سبحانه : فالذين كفروا قطعت أي : قدرت : لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم أي : الماء الحار .
القول في تأويل قوله تعالى :

[20 - 24] يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد .

يصهر أي : يذاب : به ما في بطونهم أي : من الأمعاء والأحشاء : والجلود ولهم مقامع أي : سياط يضربون بها : { من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم [ ص: 4333 ] فيها حرير وهدوا إلى الطيب من القول } كما قال تعالى : تحيتهم فيها سلام وقولهم : الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء وهدوا إلى صراط الحميد أي : المحمود ، وهو الجنة . أو الحق تعالى ، المستحق لغاية الحمد .
القول في تأويل قوله تعالى :

[25] إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم .

إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام أي : مكة : الذي جعلناه للناس سواء العاكف أي : المقيم : فيه والباد أي : الطارئ : ومن يرد فيه بإلحاد أي : بميل عن القصد : بظلم أي : بغير حق : نذقه من عذاب أليم أي : جزاء على هتكه حرمته . ويشمل الإلحاد الإشراك ومنع الناس من عمارته ، واقتراف الآثام . وتدل الآية على أن الواجب على من كان فيه ، أن يضبط نفسه ، ويسلك طريق السداد والعدل في جميع ما يهم به ويقصده . وقد ذهب بعض السلف إلى أن السيئة في الحرم أعظم منها في غيره ، وأنها تضاعف فيه ، وإن هم بها فيه أخذ بها . ومفعول (يرد ) إما محذوف ، أي : يرد شيئا أو مرادا ما ، والباء للملابسة . أو هي زائدة و (إلحادا ) مفعوله . أو للتعدية لتضمينه معنى (يلتبس ) . و(بظلم ) حال مرادفة . أو بدل مما قبله ، بإعادة الجار . أو صلة له . أي : ملحدا بسبب الظلم . وعلى كل ، فهو مؤكد لما قبله . ومن قوله : نذقه إلخ يؤخذ خبر إن ويكون مقدرا بعد قوله : والباد مدلولا عليه بآخر الآية ، كما ارتضى ذلك أبو حيان في (" البحر " ) . [ ص: 4334 ] ثم أشار تعالى إلى تقريع وتوبيخ من عبد غيره وأشرك به في البقعة المباركة ، التي أسست من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[26] وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود .

وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أي : واذكر إذ عيناه وجعلناه له مباءة ، أي : منزلا ومرجعا لعبادته تعالى وحده فـ(أن ) في قوله تعالى : أن لا تشرك بي شيئا مفسرة لـ : بوأنا من حيث إنه متضمن لمعنى (تعبدنا ) لأن التبوئة للعبادة . أي : فعلنا ذلك لئلا تشرك بي شيئا : وطهر بيتي أي : من الأصنام والأوثان والأقذار : للطائفين والقائمين والركع السجود أي : لمن يطوف به ويقيم ويصلي . أو المراد بالقائمين وما بعده : (المصلين ) ، ويكون عبر عن الصلاة بأركانها ، للدلالة على أن كل واحد منها مستقل باقتضاء ذلك ، فكيف وقد اجتمعت ؟ .
القول في تأويل قوله تعالى :

[27 - 28] وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير .

وأذن في الناس بالحج أي : ناد فيهم به ، قال الزمخشري : والنداء بالحج أن يقول : حجوا ، أو عليكم بالحج : يأتوك رجالا أي : مشاة ، جمع (راجل ) : وعلى كل ضامر [ ص: 4335 ] أي : ركبانا على كل بعير مهزول ، أتعبه بعد الشقة فهزله . والعدول عن ركبانا الأخصر ، للدلالة على كثرة الآتين من الأماكن البعيدة ، وقوله تعالى : { يأتون } صفة لكل ضامر ، لأنه في معنى الجمع . وقرئ يأتون صفة للرجال والركبان . أو استئناف ، فيكون الضمير للناس : من كل فج عميق أي : طريق واسع بعيد : ليشهدوا منافع لهم أي : ليحضروا منافع لهم دينية ودنيوية : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام أي : على ما ملكهم منها ، وذللها لهم ، ليجعلوها هديا وضحايا . قال الزمخشري : كنى عن النحر والذبح ، بذكر اسم الله . لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا أو ذبحوا . وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي فيما يتقرب به إلى الله أن يذكر اسمه - زاد الرازي - وأن يخالف المشركون في ذلك . فإنهم كانوا يذبحونها للنصب والأوثان ، قال القفال : وكأن المتقرب بها وبإراقة دمائها متصور بصورة من يفدي نفسه بما يعادلها . فكأنه يبذل تلك الشاة بدل مهجته ، طلبا لمرضاة الله تعالى ، واعترافا بأن تقصيره كاد يستحق مهجته . والأيام المعلومات أيام العشر . أو يوم النحر وثلاثة أيام أو يومان بعده . أو يوم عرفة والنحر ويوم بعده . أقوال للأئمة .

قال ابن كثير : ويعضد الثاني والثالث قوله تعالى : على ما رزقهم من بهيمة الأنعام يعني به ذكر الله عند ذبحها . انتهى .

أقول : لا يبعد أن تكون (على ) تعليلية ، والمعنى : ليذكروا اسم الله وحده في تلك الأيام بحمده وشكره وتسبيحه ، لأجل ما رزقهم من تلك البهم . فإنه هو الرزاق لها وحده والمتفضل عليهم بها : ولو شاء لحظرها عليهم ولجعلها أوابد متوحشة . وقد امتن عليهم بها في غير موضع من تنزيله الكريم . كقوله سبحانه : أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 49.38 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 48.75 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.27%)]