عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 31-08-2024, 06:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,001
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4301 الى صـ 4315
الحلقة (458)





ثم قال: وهذا القول الذي ندين الله تعالى به. ولا يحل لأحد أن يدين بسواه. ونقول: إنه يقع من الأنبياء السهو عن غير قصد . ويقع منهم أيضا قصد الشيء يريدون به وجه الله تعالى، والتقرب به منه. فيوافق خلاف مراد الله تعالى. إلا أنه تعالى لا يقرهم على شيء من هذين الوجهين أصلا، بل ينبههم على ذلك ولا بد، إثر وقوعه منهم. وربما يبغض المكروه في الدنيا، كالذي أصاب آدم ويونس والأنبياء عليهم السلام، بخلافنا في هذا. فإننا غير مؤاخذين بما سهونا فيه، ولا بما قصدنا به وجه الله عز وجل، فلم يصادف مراده تعالى. بل نحن مأجورون على هذا الوجه أجرا واحدا.

ثم قال (في الكلام على يونس عليه السلام): وأما إخبار الله تعالى أن يونس ذهب مغاضبا، فلم يغاضب ربه قط، ولا قال الله تعالى إنه غاضب ربه. فمن زاد هذه الزيادة كان قائلا على الله الكذب، وزائدا في القرآن ما ليس فيه. هذا لا يحل ولا يجوز أن يظن بمن له أدنى مسكة من عقل، أنه يغاضب ربه تعالى. فكيف أن يفعل ذلك نبي من الأنبياء؟ فعلمنا يقينا أنه إنما غاضب قومه، ولم يوافق ذلك مراد الله عز وجل، فعوقب بذلك. وإن كان يونس عليه السلام لم يقصد بذلك إلا رضاء الله عز وجل. وأما قوله تعالى: فظن أن لن نقدر عليه فليس على ما ظنوه من الظن السخيف الذي لا يجوز أن يظن بضعيفة من النساء أو بضعيف من الرجال. إلا أن يكون قد بلغ الغاية من الجهل. فكيف بنبي مفضل على الناس في العلم؟ ومن المحال المتيقن أن يكون نبي يظن أن الله تعالى الذي أرسله بدينه لا يقدر عليه. وهو يرى أن آدميا مثله يقدر عليه. ولا شك في أن من نسب هذا للنبي صلى الله عليه وسلم الفاضل، فإنه يشتد غضبه لو نسب ذلك إليه أو إلى ابنه. فكيف إلى يونس بن متى الذي يقول فيه [ ص: 4302 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تفضلوني على يونس بن متى ؟ » فقد بطل ظنهم بلا شك، وصح أن معنى قوله: فظن أن لن نقدر عليه أي: لن نضيق عليه كما قال تعالى: وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه أي: ضيق عليه. فظن يونس عليه السلام أن الله تعالى لا يضيق عليه في مغاضبته لقومه، إذ ظن أنه محسن في فعله ذلك: وإنما نهى الله عز وجل، محمدا صلى الله عليه وسلم عن أن يكون كصاحب الحوت، فنعم، نهاه الله عز وجل عن مغاضبة قومه، وأمره بالصبر على أذاهم وبالمطاولة لهم. وأما قوله تعالى: أنه استحق الذم والملامة، لولا النعمة التي تداركه بها، للبث معاقبا في بطن الحوت، فهذا نفس ما قلناه من أن الأنبياء عليهم السلام يؤاخذون في الدنيا على ما فعلوه، مما يظنونه خيرا وقربة إلى الله عز وجل، إذا لم يوافق مراد ربهم. وعلى هذا الوجه أقر على نفسه بأنه كان من الظالمين. والظلم وضع الشيء في غير موضعه. فلما وضع النبي صلى الله عليه وسلم المغاضبة في غير موضعها، اعترف في ذلك بالظلم. لا على أنه قصده وهو يدري أنه ظلم. انتهى كلام ابن حزم.

وأقول: إن الذي يفتح باب الإشكالات هو التعمق في الألفاظ. والتنطع في شرحها وتوليد معاني ولوازم لها، والتوسع في وجوهها توسعا يميت رونق التركيب ونصاعة بلاغته. ومعلوم أن التنزيل الكريم فاق سائر أساليب الكلام المعهودة بأسلوبه البديع. ولذا كانت آية تأخذ بمجامع القلوب رقة وانسجاما. وبلاغة وانتظاما. فلا ترى في كلمه إلا المختارات لطفا، ولا في جمله إلا الفخيمات تركيبا، ولا في إشاراته إلا الأقوى رمزا، ولا في كناياته إلا الأعلى مغزى. ومن ذلك سنته في الملام والوعيد من إفراغ القول في أبلغ قالب شديد، مما يؤخذ منه شدة الخطب، وقوة العتب وذلك لعزة الجناب الإلهي والمقام الرباني. فالعربي البليغ طبعا، الذائق جبلة، إذا تلي عليه مجمل نبأ يونس عليه السلام في هذه الآية، يدهش لما ترمي [ ص: 4303 ] إليه من قوة العتب والملام، وأنه بإباقه غاضب مولاه، غضبا لا يماثل الغضب على العصاة. فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وأنه ظن أن ينسى فلا يؤاخذ. ويفلت فلا يحصر. فأتاه ما لم يكن على بال. ووقع في شرك قدرة المتعال، ثم تداركته النعمة، ولحقته الرحمة. هذا مجمل ما يفهم من الآية منطوقا ومفهوما. فافهم ما ذكرته لك. فإنه يبلغك من التحقيق أملك.

الثالث: عد بعض الملاحدة ابتلاع الحوت يونس محالا. فكتب بعض المحققين مجيبا بأن هذا إنكار لقدرة الله فاطر السماوات والأرض. الذي له في خلقه غرائب. ومنها الحيتان المتنوعة الهائلة الجثث، التي لم يزل يصطاد منها في هذا العصر، وفي بطونها أجساد الناس بملابسهم. وكتب آخر: لم يتعرض لتعيين نوع الحوت الذي ابتلع يونس. ولعله فيما قال قوم من المحققين. من النوع المعروف عند بعضهم (بالزفا) وهو من كبار الحيتان يكون في بحر الروم، واسع الحلقوم، حتى أنه ليبتلع الرجل برمته، دون أن يشدخه أو يجرحه. حتى يبقى في الإمكان أن يخرج منه وهو حي: ومع ذلك فلم يكن بغير معجزة بقاؤه ثلاثة أيام في جوف هذا الحوت، ولبث مالكا رشده متمكنا من التسبيح والدعاء. انتهى.

الرابع: الجمع في قوله: في الظلمات إما على حقيقته، وهي ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل. وقد روي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما. أو مجاز، يجعل الظلمة لشدتها وتكاثفها في بطن الحوت كأنها ظلمات. والمراد منها أحد المذكورات، أو بطن الحوت. وقدمه الزمخشري ونظره بآية: ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات

الخامس: قوله تعالى: فاستجبنا له أي: دعاؤه: ونجيناه من الغم يعني بأن قذفه الحوت إلى الساحل، قيل لم يقل فنجيناه كما قال في قصة أيوب عليه السلام: فكشفنا لأنه دعا بالخلاص من الضر، فالكشف المذكور يترتب على استجابته. [ ص: 4304 ] ويونس عليه السلام لم يدع، فلم يوجد وجه الترتيب في استجابته. ورد بأن الفاء في قصة أيوب تفسيرية. والعطف هنا أيضا تفسيري. والتفنن طريقة مسلوكة في علم البلاغة. ثم لا نسلم أن يونس لم يدع بالخلاص ولو لم يكن دعاء لم تتحقق الاستجابة. واستظهر الشهاب في سر الإتيان بالفاء ثمة. والواو هنا غير التفنن المذكور. أن يقال: إن الأول دعاء بكشف الضر وتلطف في السؤال.

فلما أجمل في الاستجابة، وكان السؤال بطريقة الإيماء، ناسب أن يؤتى بالفاء التفصيلية. وأما هنا، فإنه لما هاجر من غير أمر، على خلاف معتاد الأنبياء عليهم السلام. كان ذلك ذنبا. كما أشار إليه بقوله: من الظالمين فما أومأ إليه هو الدعاء بعدم مؤاخذته بما صدر منه من سيئات الأبرار. فالاستجابة عبارة عن قبول توبته وعدم مؤاخذته: وليس ما بعده تفسيرا له، بل زيادة إحسان على مطلوبه. ولذا عطف بالواو. انتهى.

السادس: قوله: وكذلك ننجي المؤمنين أي: إذا كانوا في غموم، وأخلصوا في أدعيتهم منيبين، لا سيما بهذا الدعاء: وقد روي في الترغيب آثار: منها عند أحمد والترمذي: ( دعوة ذي النون، لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط، إلا استجاب له ). وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[89] وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين .

وزكريا أي: واذكر خبره: إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا أي: حين طلب أن يهبه ربه ولدا يكون من بعده نبيا، ولا يتركه فردا وحيدا بلا وارث، وقد تقدمت القصة مبسوطة في أول سورة مريم وفي سورة آل عمران أيضا. وقوله: وأنت خير الوارثين [ ص: 4305 ] ثناء مناسب للمسألة. قال الغزالي في (شرح الأسماء الحسنى): الوارث هو الذي ترجع إليه الأملاك بعد فناء الملاك. وذلك هو الله سبحانه، إذ هو الباقي بعد فناء خلقه، وإليه مرجع كل شيء ومصيره. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[90] فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين .

فاستجبنا له أي: دعاءه: ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه أي: أصلحناها للولادة بعد عقرها، معجزة وكرامة له. وقوله تعالى: إنهم كانوا يسارعون في الخيرات تعليل لما فصل من فنون إحسانه تعالى، المتعلقة بالأنبياء المذكورين، أي: كانوا يبادرون في كل باب من الخير. وإيثار (في) على (إلى) للإشارة إلى ثباتهم واستقرارهم في أصل الخير. لأن (إلى) تدل على الخروج عن الشيء والتوجه إليه: ويدعوننا رغبا ورهبا أي: ذوي رغب ورهب، أو راغبين في الثواب راجين للإجابة: وكانوا لنا خاشعين أي: مخبتين متضرعين. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[91] والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين .

والتي أحصنت فرجها أي: اذكر نبأ التي أحصنته إحصانا كليا، عن الحلال والحرام جميعا. كما قالت: ولم يمسسني بشر والتعبير عنها بالموصول، لتفخيم شأنها، وتنزيهها عما زعموه في حقها، بادئ بدء: فنفخنا فيها من روحنا أي: نفخنا [ ص: 4306 ] الروح في عيسى فيها. أي: أحييناه في جوفها. فنزل نفخ الروح في عيسى ، لكونه في جوف مريم، منزلة نفخ الروح فيها. ونفخ الروح في الجسد عبارة عن إحيائه. وقيل المعنى: فعلنا النفخ فيها من جهة روحنا جبريل عليه السلام، أي: أمرناه فنفخ. أو فنفخنا فيها بعض روحنا، أي: بعض الأرواح المخلوقة لنا. وذلك البعض هو روح عيسى ، لأنها وصلت في الهواء الذي نفخه في رحمها: وجعلناها وابنها أي: نبأهما: آية للعالمين أي: في كمال قدرته واختصاصه من شاء بما شاء. وقد كان من آيتهما إتيان الرزق لمريم في غير أوانه. وتثمير النخل اليابس. وإجراء العين، ونطق ابنها في المهد. وإحياء الموتى. وإبراء الأكمه والأبرص.

قال الزمخشري : فإن قلت: هلا قيل: آيتين كما قال: وجعلنا الليل والنهار آيتين ؟ قلت: لأن حالهما بمجموعها آية واحدة. وهي ولادتها إياه من غير فحل. انتهى. وقيل: المعنى وجعلناها آية وابنها آية. فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها. ولما أنهى ما ذكر تعالى من شأن جماعة من الأنبياء صلوات الله عليهم، أشار إلى أن عقائدهم وأصول دينهم واحدة، بقوله سبحانه وتعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[92] إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون .

إن هذه أي: علة التوحيد والاستسلام لمعبود واحد لا شريك له: أمتكم أي: ملتكم التي يجب أن تحافظوا على حدودها وتراعوا حقوقها. والخطاب للناس كافة: أمة واحدة أي: غير مختلفة. بل هي ملة واحدة. أي: أن جميع الأنبياء ورسل الله على ملة واحدة ودين واحد. كما قال تعالى: إن الدين عند الله الإسلام وأنا ربكم أي: لا إله لكم غيري: فاعبدون أي: ولا تشركوا بي شيئا.

[ ص: 4307 ] تنبيه:

قلنا: إن الأمة هنا بمعنى الملة، وهو الدين المجتمع عليه، كما في قوله: إنا وجدنا آباءنا على أمة أي: على دين يجتمع عليه. والأمة بهذا المعنى هو ما رجحه كثير من المفسرين في هذه الآية، وفي آية: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون وتطلق (الأمة) بمعنى الجماعة. كما هي في قوله تعالى: وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون أي: جماعة. وكما في قوله: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولا تكون بمعنى الجماعة مطلقا، وإنما هي بمعنى الجماعة الذين تربطهم رابطة اجتماع، يعتبرون بها واحدا، وتسوغ أن يطلق عليهم اسم واحد كاسم الأمة. وتطلق الأمة بمعنى السنين كما في قوله تعالى: ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة وفي قوله: وادكر بعد أمة وبمعنى الإمام الذي يقتدى به،كما في قوله: إن إبراهيم كان أمة قانتا لله وبمعنى إحدى الأمم المعروفة كما في قوله: كنتم خير أمة أخرجت للناس وهذا المعنى الأخير لا يخرج عن معنى الجماعة، على ما ذكرنا. وإنما خصصه العرف تخصيصا. كذا حققه العلامة محمد عبده رحمه الله في تفسير آية: كان الناس أمة واحدة
[ ص: 4308 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[93] وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون .

وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون أي: تفرق الناس في دينهم الذي أمرهم الله به، ودعاهم إليه، فصاروا فيه أحزابا ومللا.

قال الزمخشري رحمه الله: والأصل (وتقطعتم) إلا أن الكلام صرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات. كأنه ينعي عليهم ما أفسدوه، إلى آخرين، ويقبح عندهم فعلهم، ويقول لهم: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله؟ والمعنى جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا، كما يتورع الجماعة الشيء ويقتسمونه. فيطير لهذا نصيب ولذاك نصيب، تمثيلا لاختلافهم فيه، وصيرورتهم فرقا وأحزابا شتى. ثم توعدهم بأن هؤلاء الفرق المختلفة، إليه يرجعون. فهو محاسبهم ومجازيهم، المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
القول في تأويل قوله تعالى:

[94] فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون .

فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون أي: فمن عمل من هؤلاء، الذين تفرقوا في دينهم، بما أمر الله به من العمل الصالح، وأطاعه في أمره ونهيه، وهو مقر بوحدانية الله، مصدق وعده ووعيده، متبرئ من الأنداد والآلهة، فلا كفران لسعيه، بل يشكر الله عمله هذا، ويثيبه ثواب أهل طاعته. وقوله تعالى: وإنا له أي: لسعيه المشكور: كاتبون أي: مثبتوه في صحيفة أعماله، ولا نضيعه.

تنبيه:

الكفران مصدر من: (كفر فلان النعمة كفرا وكفرانا) وأوثر (لا كفران) على (لا نكفر) للمبالغة. لأن نفي الجنس مستلزم له وأبلغ في التنزيه بعمومه. وعبر عن العمل [ ص: 4309 ] بالسعي لإظهار الاعتداد به. والآية كقوله تعالى: ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا

ثم أشار إلى مقابل هؤلاء، وهم من أعرض عن ذكره تعالى، بلحوق الوعيد لهم، لما جرت به سنته تعالى، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[95] وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون .

وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون أي: وحرام على أهل قرية فسقوا عن أمر ربهم، فأهلكهم بذنوبهم، أن يرجعوا إلى أهلهم، كقوله تعالى: ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون وقوله: فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون وزيادة (لا) هنا لتأكيد معنى النفي من (حرام) وهذا من أساليب التنزيل البديعة البالغة النهاية في الدقة. وسر الإخبار بعدم الرجوع مع وضوحه، هو الصدع بما يزعجهم ويؤسفهم ويلوعهم من الهلاك المؤبد، وفوات أمنيتهم الكبرى، وهي حياتهم الدنيا. وجعل أبو مسلم هذه الآية من تتمة ما قبلها، و(لا) فيها على بابها. وهي مع (حرام) من قبيل نفي النفي. فيدل على الإثبات. والمعنى: وحرام على القرية المهلكة، عدم رجوعها إلى الآخرة. بل واجب رجوعها للجزاء. فيكون الغرض إبطال قول من ينكر البعث. وتحقيق ما تقدم أنه لا كفران لسعي أحد. وأنه سبحانه سيحييه، وبعمله يجزيه. واللفظ الكريم يحتمله ويتضح فيه. إلا أن الأول لرعاية النظائر من الآي أولى. وأما ذكر سواهما، فلا يدل عليه السياق ولا النظير. وفيه ما يخل بالبلاغة من التعقيد وفوات سلاسة التعبير.
ثم أشار إلى تحقق نصر الرسل وغلبتهم، وكثرة أتباعهم حتى يحيطوا بأعدائهم من كل جانب، وينزلوا بهم ما تشخص لهم أبصارهم، يورثهم طول الندامة، بقوله تعالى:

[ ص: 4310 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[96] حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون .

حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج علم لكل أمة كثيرة العدد مختلطة من أجناس شتى: وهم من كل حدب ينسلون أي: من كل نشز من الأرض يسرعون، متجندين لقهر أعدائهم، تحت راية نبيهم أو أميره أو خليفته.
القول في تأويل قوله تعالى:

[97] واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين .

واقترب الوعد الحق أي: طلعت طلائع النصر والقهر، ودحر الباطل والكفر: فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا أي: لهول ما حل بساحتهم والدهشة منه، قائلين: يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا أي: لم نعلم أنه حق: بل كنا ظالمين أي لأنفسنا، بالإخلال بالنظر والإباء والعناد. ثم أشار إلى شأنهم في الآخرة بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[98] إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون [99] لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون [100] لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون .

إنكم وما تعبدون من دون الله أي: من الأوثان والأصنام: حصب جهنم أي: ما يرمى به إليها: أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون أي: فلا منجى لهم منها.

[ ص: 4311 ] قال الزمخشري : فإن قلت: لم قرنوا بآلهتهم؟ قلت: لأنهم لا يزالون لمقارنتهم في زيادة غم وحسرة. حيث أصابهم ما أصابهم بسببهم والنظر إلى وجه العدو باب من العذاب. ولأنهم قدروا أنهم يستشفعون بهم في الآخرة، ويستنفعون بشفاعتهم. فإذا صادفوا الأمر على عكس ما قدروا، لم يكن شيء أبغض إليهم منهم: لهم فيها زفير أي: ترديد نفس تنتفخ منه الضلوع: وهم فيها لا يسمعون أي: من الهول وشدة العذاب.
ثم بين تعالى حال المؤمنين إثر حال الكافرين، حسبما جرت به سنة التنزيل، من شفع الوعد بالوعيد، وإيراد الترغيب مع الترهيب، بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[101] إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون [102] لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون [103] لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون .

إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أي: الخصلة الحسنى، وهي السعادة أو التوفيق: أولئك عنها مبعدون لأنهم في غرفات الجنان آمنون. إذ وقاهم ربهم عذاب السعير: لا يسمعون حسيسها أي: صوتا يحس به منها، لبعدهم عنها وعما يفزعهم: وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر أي: للحشر كما قال تعالى: ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض وتتلقاهم الملائكة أي: تستقبلهم مهنئين لهم قائلين: هذا يومكم الذي كنتم توعدون أي في الدنيا، وتبشرون بنيل المثوبة الحسنى فيه.
وقوله تعالى:

[ ص: 4312 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[104] يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين [105] ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون [106] إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين [107] وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين .

يوم نطوي السماء أي: اذكره. أو ظرف لـ: لا يحزنهم أو لـ: " تتلقاهم " . والطي ضد النشر. وقوله: كطي السجل للكتب أي: كما يطوى السجل وهو الكتاب. واللام في (للكتب) لام التبيين. ولذلك قرئ: (الكتاب) بالإفراد. أو بمعنى (من) وفيه قرب من الأول. أو (الكتب) بمعنى المكتوب. أي: كطي الصحيفة على مكتوبها. فاللام بمعنى (على) وهو ما اختاره ابن جرير .

تنبيه:

ما نقل عن ابن عباس أن السجل اسم رجل كان يكتب للنبي صلوات الله عليه ، كما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما، فأثر منكر لا يصح.

قال ابن كثير : وقد صرح بوضعه جماعة من الحفاظ، وإن كان في سنن أبي داود. منهم شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي.

وكذلك تقدم في رده الإمام ابن جرير وقال: لا يعرف في الصحابة أحد اسمه السجل. [ ص: 4313 ] وكتاب النبي صلوات الله عليه، معروفون، وليس فيهم أحد اسمه السجل.

وصدق رحمه الله في ذلك. وهو من أقوى الأدلة على نكارة هذا الحديث.

وأما من ذكره في أسماء الصحابة، فإنما اعتمد على هذا الحديث. والصحيح عن ابن عباس أن السجل هي الصحيفة. انتهى.

هذه الآية كآية: وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون وطي السماء كناية عن انكدار نجومها، ومحو رسومها، بفساد تركيبها واختلال نظامها. فلا يبقى أمر ما فيها من الكواكب على ما نراه اليوم. فيخرب العالم بأسره: كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين أي: منجزين إياه. ثم أشار إلى تحقيق مصداقه، بإعزاز المنبئ عنه، وإيراثه ملك جاحده بقوله تعالى: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون أي: العاملون بطاعته. المنتهون إلى أمره ونهيه. دون العاملين منهم بمعصيته، المؤثرين طاعة الشيطان على طاعته. و(الزبور) علم على كتاب داود عليه السلام، ويقال: المراد به كل كتاب منزل. والذكر -قالوا- التوراة أو أم الكتاب. يعني اللوح الذي كتب فيه كل شيء قبل الخلق، والله أعلم. وقوله تعالى: إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين إشارة إلى المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة. أو إلى العبرة في إيراث الأرض الصالحين ودحر المجرمين. و(البلاغ) الكفاية. وقوله: لقوم عابدين أي: يعبدون الله، بما شرعه وأحبه ورضيه. ويؤثرون طاعته على طاعة الشياطين وشهوات النفس: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين أي: وما أرسلناك بهذه الحنيفية والدين الفطري، إلا حال كونك رحمة للخلق، فإن ما بعثت به سبب لسعادة الدارين. وفي جعله نفس الرحمة مبالغة جلية. وجوز كون (رحمة) مفعولا له. أي: للرحمة، فهو نبي الرحمة.

[ ص: 4314 ] تنبيه:

قال الرازي : إنه عليه السلام كان رحمة في الدين وفي الدنيا. أما في الدين فلأنه بعث والناس في جاهلية وضلالة وأهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم لطول مكثهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم. فبعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب. فدعاهم إلى الحق وبين لهم سبيل الثواب، وشرع لهم الأحكام وميز الحلال من الحرام. ثم إنما ينتفع بهذه الرحمة من كانت همته طلب الحق، فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والاستكبار، وكان التوفيق قرينا له. قال الله تعالى: قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء إلى قوله تعالى: وهو عليهم عمى وأما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من كثير من الذل والقتال والحروب، ونصروا ببركة دينه. انتهى.

وقد أشرت إلى وجه الرحمة في بعثته صلوات الله عليه ، في (الشذرة) التي جمعتها في سيرته الزكية، في بيان افتقار الناس جميعا إلى رسالته، فقلت: كل من لحظ بعين الحكمة والاعتبار، ونفذت بصيرته إلى مكنون الأسرار، علم حاجة البشر كافة إلى رسالة خاتم النبيين، وأكبر منة الله به على العالمين، فقد بعث صلوات الله عليه وسلامه على حين فترة من الرسل، وإخافة للسبل، وانتشار من الأهواء، وتفرق من الملل، ما بين مشبه لله بخلقه، وملحد في اسمه، ومشير إلى غيره، كفر بواح، وشرك صراح، وفساد عام، وانتهاب للأموال والأرواح واغتصاب للحقوق، وشن للغارات، ووأد للبنات وأكل للدماء والميتات، وقطع للأرحام، وإعلان بالسفاح، وتحريف للكتب المنزلة، واعتقاد لأضاليل المتكهنة. وتأليه للأحبار والرهبان، وسيطرة من جبابرة الجور وزعماء الفتن وقادة الغرور، ظلمات بعضها فوق بعض، وطامات طبقت أكناف الأرض، استمرت الأمم على هذه الحال، الأجيال الطوال، حتى دعا داعي الفلاح، وأذن الله تعالى بالإصلاح. فأحدث بعد ذلك أمرا، وجعل بعد عسر يسرا. فإن النوائب إذا تناهت انتهت، وإذا توالت تولت. وذلك أن الله تعالى أرسل إلى البشر رسولا ليعتقهم من أسر الأوثان، [ ص: 4315 ] ويخرجهم من ظلمة الكفر وعمى التقليد إلى نور الإيمان، وينقذهم من النار والعار، ويرفع عنه الآصار، ويطهرهم من مساوئ الأخلاق والأعمال، ويرشدهم إلى صراط الحق. قال تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وقال تعالى: لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين انتهى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[108] قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون [109] فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون [110] إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون [111] وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين [112] قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون .

قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد أي: ما يوحى إلي، إلا استئثاره تعالى بالوحدانية في الألوهية. ومعنى القصر على ذلك، أنه الأصل الأصيل، وما عداه راجع إليه في جنبه. فهو قصر دعائي: فهل أنتم مسلمون أي: منقادون لما يوحى من التوحيد، مستسلمون له: فإن تولوا أي: عن التوحيد: فقل آذنتكم على سواء أي: أعلمتكم وهديتكم على كلمة سواء بيننا وبينكم، نؤمن بها ونجني ثمرات سعادتها في الدارين. أو المعنى دللتكم على صراط مستقيم، وبلغتكم الأمر به. فإن آمنتم به فقد سعدتم، وإلا فإن وعد الجاحدين آتيكم، وليس بمصروف عنكم. وإن كنت لا أدري متى يكون ذلك، لأن الله تعالى لم يعلمني علمه، ولم يطلعني عليه كما قال: وإن أدري أي: وما أدري: أقريب [ ص: 4316 ] أم بعيد ما توعدون أي: من الفتح عليكم، وإيراث أرضكم غيركم، ولحوق الذل والصغار بعصيانكم: إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون أي: فسيجزيكم على ذلك: وإن أدري لعله فتنة لكم أي: وما أدري لعل تأخير جزائكم استدراج لكم، وزيادة في افتتانكم، أو ابتلاء لينظر كيف تعملون. فـ(الفتنة) إما مجاز عن الاستدراج بذكر السبب وإرادة المسبب، أو هو بمعناه الأصلي. فهو استعارة مصرحة. وقوله تعالى: ومتاع إلى حين أي: تمتيع لكم إلى أجل مقدور. والتمتيع بمعنى الإبقاء والتأخير: قال وقرئ: :" قل رب احكم بالحق " أي: افصل بيننا وبينهم بالحق. وذلك بنصر من آمن بما أنزلت، على من كفر به، كقوله تعالى: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون أي: من الكذب والافتراء على الله ورسوله. بنصر أوليائه، وقهر أعدائه. وقد أجاب سبحانه دعوته، وأظهر كلمته، فله الحمد في الأولى والآخرة، إنه حميد مجيد.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 01-09-2024 الساعة 06:59 AM.
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 48.96 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 48.30 كيلو بايت... تم توفير 0.66 كيلو بايت...بمعدل (1.35%)]