عرض مشاركة واحدة
  #454  
قديم 31-08-2024, 03:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,892
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4241 الى صـ 4255
الحلقة (454)





ومما يدل على أن هذه القرون الأخيرة لا تروج فيها مسائل المعجزات، تكذيب علماء أوربا بكل المعجزات السابقة. وهو، وإن كان تهورا منهم، إلا أنهم مصيبون في قولهم إننا في زمان لا يجدي فيه الاعتقاد إلا النور العقلي والدليل العلمي. لهذه الأسباب جاءت الشريعة الإسلامية تدعو إلى السبيل الحق، ببدائه العقل، وقواعد العلم. صارفة النظر عن المعجزات وإظهار المدهشات. لعلم الله سبحانه وتعالى بأنه سيأتي زمان تؤثر فيه المقررات العلمية على القوة العقلية، ما لا تؤثر عليها الخوارق للنواميس الطبيعية. انتهى.

ثم أشار تعالى إلى منته في إرسال الرسول صلوات الله عليه، والإعذار ببعثته، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[134] ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى [135] قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى .

ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله أي: من قبل إتيان البينة، أو محمد عليه السلام: لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل أي: بالعذاب الدنيوي: ونخزى أي: بالعذاب الأخروي. أي: ولكنا لم نهلكهم قبل إتيانها. [ ص: 4242 ] فانقطعت معذرتهم. فعند ذلك، قالوا: بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نـزل الله من شيء قل أي: لأولئك الكفرة المتمردين: كل أي: منا ومنكم: متربص أي: منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم: فتربصوا فستعلمون أي: عن قرب: من أصحاب الصراط السوي أي: المستقيم: ومن اهتدى أي: من الزيغ والضلالة. أي: هل هو النبي وأتباعه، أم هم وأتباعهم.

وقد حقق الله وعده. ونصر عبده. وأعز جنده. وهزم الأحزاب وحده. فله الحمد في الأولى والآخرة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ

سميت بذلك لاشتمالها على فضائل جليلة، لجماعة منهم عليهم السلام.

وهي مكية واستثنى منها بعضهم آية أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها وهي مائة واثنتا عشرة آية. وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: بنو إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء، هن من العتاق الأول، وهن من تلادي.

قال ابن الأثير : أي من أول ما أخذته وتعلمته بمكة. والتالد: المال القديم الذي ولد عندك، وهو نقيض الطارف.

[ ص: 4244 ] بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى:

[1] اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون .

اقترب للناس حسابهم أي: دنا لأهل مكة ما وعدوا به في الكتاب من الحساب الأخروي وهو عذابهم: وهم في غفلة أي: عما يراد بهم: معرضون أي: مكذبون به. وإنما كان مقتربا لأن كل آت وإن طالت أوقات استقباله وترقبه، قريب. وقد قال تعالى: إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا وقال تعالى: ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ولا يخفى ما في عموم (الناس) من الترهيب البليغ. وإن حق الناس أن ينتبهوا لدنو الساعة، ليتلافوا تفريطهم بالتوبة والندم . كما أن في تسمية يوم القيامة، بيوم الحساب زيادة إيقاظ، لأن الحساب هو الكاشف عن حال المرء، ففي العنوان ما يرهب منه، ولو قيل بأن الحساب أعم من الدنيوي والأخروي لم يبعد، ويكون فيه إشارة إلى قرب محاسبة مشركي مكة بالانتصاف منهم والانتصار عليهم، كما أشير إليه في آية: فعسى الله أن يأتي بالفتح ووعد به النبي وصحبه في آيات كثيرة. إلا أن شهرة الحساب فيما بعد البعث الأخروي، حمل المفسرين على قصر الآية عليه. والله أعلم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[2] ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون .

[ ص: 4245 ] ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون تقريع لهم على مكافحة الحكمة بنقيضها. وتسجيل عليهم بالجهل الفاضح. فإن من حق ما يذكر أكمل تذكير، وينبه على الغفلة أتم تنبيه، أن تخشع له القلوب وتستحذي له الأنفس.

قال الزمخشري : بعد أن وصفهم بالغفلة مع الإعراض، قرر إعراضهم عن تنبيه المنبه وإيقاظ الموقظ، فإن الله يجدد لهم الذكر وقتا فوقتا. ويحدث لهم الآية بعد الآية، والسورة بعد السورة، ليكرر على أسماعهم التنبيه والموعظة، لعلهم يتعظون. فما يزيدهم استماع الآي والسور وما فيها من فنون المواعظ والبصائر، التي هي أحق الحق وأجد الجد، إلا لعبا وتلهيا واستسخارا. و(الذكر) هو الطائفة النازلة من القرآن. انتهى.

تنبيه:

استدل بهذه الآية من ذهب إلى حدوث كلامه تعالى المسموع. وهم المعتزلة والكرامية والأشعرية . فأما المعتزلة فقالوا إنما كان القرآن حادثا لكونه مؤلفا من أصوات وحروف. فهو قائم بغيره وقالوا: معنى كونه متكلما، أنه موجد لتلك الحروف والأصوات في الجسم. كاللوح المحفوظ أو كجبريل أو النبي عليه الصلاة والسلام، أو غيرهم كشجرة موسى.

وأما الكرامية ، فلما رأوا ما التزمه المعتزلة مخالفا للعرف واللغة، ذهبوا إلى أن كلامه صفة له مؤلفة من الحروف والأصوات الحادثة القائمة بذاته تعالى. فذهبوا إلى حدوث الدال والمدلول. وجوزوا كونه تعالى محلا للحوادث.

والأشعرية قالوا: إن الكلام المتلو دال على الصفة القديمة النفسية، التي هي الكلام عندهم حقيقة.

قالوا: فما نزل على الأنبياء من الحروف والأصوات، وسمعوها وبلغوها إلى أممهم، هو محدث موصوف بالتغير والتكثر والنزول. لا مدلولها التي هي تلك الصفة القديمة. والمسألة شهير ما للعلماء فيها. والقصد أن الآية المذكورة رآها من ذكر، حجة فيما ذهب إليها.

[ ص: 4246 ] وقد عد الإمام ابن تيمية ، عليه الرحمة والرضوان، هذا الاحتجاج من الأغلاط، وعبارته في كتابه (مطابقة المنقول للمعقول): احتج من يقول بأن القرآن أو عبارة القرآن مخلوقة، بهذه الآية، مع أن دلالة الآية على نقيض قولهم، أقوى منها على قولهم. فإنها تدل على أن بعض الذكر محدث، وبعضه ليس بمحدث، وهو ضد قولهم. والحدوث في لغة العرب العام ليس هو الحدوث في اصطلاح أهل الكلام. فإن العرب يسمون ما تجدد حادثا، وما تقدم على غيره قديما. وإن كان بعد أن لم يكن كقوله تعالى: كالعرجون القديم وقوله تعالى عن إخوة يوسف: إنك لفي ضلالك القديم وقوله تعالى: وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم وقوله تعالى عن إبراهيم: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون انتهى.

وقال العارف ابن عربي في الباب التاسع والستين والثلاثمائة من فتوحاته في هذه الآية: المراد أنه محدث الإتيان، لا محدث العين. فحدث علمه عندهم حين سمعوه. وهذا كما تقول: حدث اليوم عندنا ضيف، ومعلوم أنه كان موجودا قبل أن يأتي. وكذلك القرآن جاء في مواد حادثة تعلق السمع بها. فلم يتعلق الفهم بما دلت عليه الكلمات. فله الحدوث من وجه والقدم من وجه.

فإن قلت: فإن الكلام لله والترجمة للمتكلم. فالجواب نعم. وهو كذلك بدليل قوله تعالى مقسما " إنه " يعني: القرآن: لقول رسول كريم . فأضاف الكلام إلى الواسطة [ ص: 4247 ] والمترجم، كما أضافه تعالى إلى نفسه بقوله: فأجره حتى يسمع كلام الله فإذا تلي علينا القرآن فقد سمعنا كلام الله تعالى. وموسى لما كلمه ربه سمع كلام الله. ولكن بين السماعين بعد المشرقين. فإن الذي يدركه من يسمع كلام الله بلا واسطة، لا يساويه من يسمعه بالوسائط. انتهى.

وبالحكمة فالمذهب المأثور عن أهل السنة والجماعة أئمة الحديث والسلف، كما قاله ابن تيمية في (منهاج السنة): أن الله تعالى لم ينزل متكلما إذا شاء بكلام يقوم به . وهو متكلم بصوت يسمع. وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يجعل نفس الصوت المعين قديما.

وبعبارة أخرى: أنه تعالى لم يزل متصفا بالكلام. يقول بمشيئته وقدرته شيئا فشيئا. فكلامه حادث الآحاد، قديم النوع.

ثم قال رحمه الله: فإن قيل لنا: فقد قلتم بقيام الحوادث بالرب. قلنا: نعم. وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل ومن لم يقل إن البارئ يتكلم ويريد ويحب ويبغض ويرضى ويأتي ويجيء -فقد ناقض كتاب الله. ومن قال: إنه لم يزل ينادي موسى في الأزل فقد خالف كلام الله مع مكابرة العقل. لأن الله تعالى يقول: فلما جاءها نودي وقال: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فأتى بالحروف الدالة على الاستقبال.

ثم قال رحمه الله: قالوا -يعني أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما- وبالجملة فكل ما يحتاج به المعتزلة والشيعة مما يدل على أن كلامه متعلق بمشيئته وقدرته ، وأنه يتكلم إذا شاء ويتكلم شيئا بعد شيء، فنحن نقول به. وما يقول به من يقول: إن كلام الله قائم بذاته، وأنه صفة له، والصفة لا تقوم إلا بالموصوف، فنحن نقول به. وقد أخذنا بما في قول كل من الطائفتين من الصواب، وعدلنا عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما. فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم منه أن تكون الحوادث قامت به، قلنا: ومن [ ص: 4248 ] أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل. وهو قول لازم لجميع الطوائف: ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته. ولفظ (الحوادث) مجمل فقد يراد به الأعراض والنقائض، والله منزه عن ذلك. ولكن يقوم به ما شاءه ويقدر عليه من كلامه وأفعاله ونحو ذلك، مما دل عليه الكتاب والسنة.

ثم قال: والقول بدوام كونه متكلما ودوام كونه فاعلا بمشيئته، منقول عن السلف وأئمة المسلمين من أهل البيت وغيرهم. كابن المبارك وأحمد بن حنبل والبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم.

ثم قال: فنحن قلنا بما يوافق العقل والنقل من كمال قدرته ومشيئته: وإنه قادر على الفعل بنفسه كيف شاء. وقلنا إنه لم يزل موصوفا بصفات الكمال متكلما ذاتا. فلا نقول إن كلامه مخلوق منفصل عنه، فإن حقيقة هذا القول أنه لا يتكلم. ولا نقول إنه شيء واحد، أمر ونهي وخبر. فإن هذا مكابرة للعقل. ولا نقول إنه أصوات منقطعة متضادة أزلية، فإن الأصوات لا تبقى زمانين. وأيضا فلو قلنا بهذا القول والذي قبله، لزم أن يكون تكليم الله للملائكة ولموسى ولخلقه يوم القيامة، ليس إلا مجرد خلق الإدراك لهم، لما كان أزليا لم يزل ومعلوم أن النصوص دلت على ضد ذلك. ولا نقول إنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما. فإنه وصف له بالكمال بعد النقص وإن صار محلا للحوادث التي كمل بها بعد نقصه. ثم حدوث ذلك الكمال لا بد له من سبب. والقول في الثاني كالقول في الأول. ففيه تجدد جلاله ودوام أفعاله. انتهى ملخصا.
ثم بين تعالى ما كانوا يتناجون به من ضلالهم، بقوله سبحانه:

[ ص: 4249 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[3] لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون .

لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أي: أسروا هذا الحديث ليصدوا عن سبيل الله. و(الذين) بدل من واو (أسروا) أو مبتدأ خبره (أسروا) أو منصوب على الذم: أفتأتون السحر أي: تنقادون له وتتبعونه. وقوله: وأنتم تبصرون حال مؤكدة للإنكار والاستبعاد. قال الزمخشري رحمه الله: اعتقدوا أن رسول الله لا يكون إلا ملكا، وأن كل من ادعى الرسالة من البشر وجاء بالمعجزة هو ساحر، ومعجزته سحره. فلذلك قالوا على سبيل الإنكار: أفتحضرون السحر وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر.

قال أبو السعود : وزل عنهم أن إرسال البشر إلى عامة البشر، هو الذي تقتضيه الحكمة التشريعية. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[4] قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم .

قال ربي حكاية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم. وقرئ: (قل) على الأمر له صلوات الله عليه: يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع أي: لما أسروه: العليم أي: به فيجازيهم.
ثم بين خوضهم في فنون الاضطراب وعدم اقتصارهم على ما تقدم من دعوى السحر، بقوله:

[ ص: 4250 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[5] بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون .

بل قالوا أضغاث أحلام أي: أخلاط يراها في النوم: بل افتراه أي: اختلقه: بل هو شاعر أي: ما أتى به شعر يخيل للناس معاني لا حقيقة لها. وهكذا شأن المبطل المحجوج، لا يزال يتردد بين باطل وأبطل، ويتذبذب بين فاسد وأفسد: فليأتنا بآية كما أرسل الأولون أي: مثل الآية التي أرسل بها الأولون. أي: حتى نؤمن له. ثم أشار تعالى إلى كذبهم في دعوى الإيمان بمجيء الآية، كما يشير إلى طلبهم لها، بقوله سبحانه وتعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[6] ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون .

ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون أي: لم تؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوه من الآيات. أفهؤلاء يؤمنون لو أجيبوا إلى ما سألوا، وأعطوا ما اقترحوا، مع كونهم أعتى منهم وأطغى. وفيه تنبيه على أن عدم الإتيان بالمقترح للإبقاء عليهم. إذ لو أتى به ولم يؤمنوا، استوجبوا عذاب الاستئصال، كمن قبلهم. وقدمنا أن رقي النوع البشري في العهد النبوي، اقتضى أن تكون الآية عقلية، لا كونية. فتذكر.

ثم أوضح جواب شبهتهم في منافاة البشرية للرسالة، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[7] وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون .

[ ص: 4251 ] وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم أي: لا ملائكة. وقرئ بالياء وفتح الحاء: فاسألوا أهل الذكر أي: العلماء بالتوراة والإنجيل: إن كنتم لا تعلمون أي: أن الرسل بشر، فيعلموكم أن المرسلين لم يكونوا ملائكة. وفي الآية دليل على جواز الاستظهار بأقوال أهل الكتاب ومروياتهم، لحج الخصم وإقناعه.

تنبيه:

قال الرازي : فأما ما تعلق كثير من الفقهاء بهذه الآية، في أن للعامي أن يرجع إلى فتيا العلماء، وفي أن للمجتهد أن يأخذ بقول مجتهد آخر- فبعيد. لأن هذه الآية خطاب مشافهة. وهي واردة في هذه الواقعة المخصوصة. ومتعلقة باليهود والنصارى على التعيين. انتهى.
ثم بين تعالى كون الرسل كسائر الناس، في أحكام الطبيعة البشرية، بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[8] وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين .

وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام أي: جسدا مستغنيا عن الطعام، بل محتاجا إلى ذلك لجبر ما فات بالتحليل كما قال تعالى: وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وفي هذا التعريف الرباني عن حال المرسل، أكبر رادع لأولئك المنزوين عن الناس المتصيدين به قلوب الرعاع والعامة والحمقى ومن لا يزن عند ربه جناح بعوضة. إذ يرون تناول الطعام في المحافل وتكثير سواد الناس في المجامع والخروج للأسواق لقضاء الحاجات، من أعظم الهوادم لصروح الاعتقاد فيهم. فتراهم يأنفون من شراء حوائجهم بأيديهم، وهو السنة. ومن المشي بالأسواق، وهو المأذون فيه. ومن إجابة الدعوة، وهي واجبة، لأوهام في أنفسهم شيدوها. ومحافظة على السمعة حموا جانبها. [ ص: 4252 ] فتبا لهم من قوم مبتدعين، يعبدون قلوب الخلق ولا يعبدون الله. ويريدون حالة فوق ما عليه رسل الله. وما ذلك إلا لله. فما أجرأهم على منازعة الجبار! وما أصبرهم على النار! وقوله تعالى:

وما كانوا خالدين أي: في الدنيا، بل كانوا يعيشون ثم يموتون كما قال تعالى: وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد وخاصتهم أنهم يوحى إليهم من الله عز وجل. تنزل عليهم الملائكة بما يحكمه في خلقه مما يأمر به وينهى عنه. وكونهم بشرا في تمام النعمة الإلهية. وذلك ليتمكن المرسل إليهم من الأخذ عنهم والانتفاع بهم. إذ الجنس أميل إلى الجنس.
القول في تأويل قوله تعالى:

[9] ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين .

ثم صدقناهم الوعد أي: في غلبتهم على أعدائهم: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي فأنجيناهم ومن نشاء أي: من أتباعهم ومن قضت الحكمة بإبقائه: وأهلكنا المسرفين أي: المجاوزين الحدود في الكفر. ثم نبه تعالى على شرف القرآن محرضا لهم على معرفة قدره، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[10] لقد أنـزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون .

لقد أنـزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أي: شرفكم وحديثكم الذي تذكرون به فوق شرف الأشراف: أفلا تعقلون أي: هذه النعمة وتتلقونها بالقبول كما قال تعالى: وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون وقيل: معنى: ذكركم موعظتكم [ ص: 4253 ] فالذكر بمعنى التذكير مضاف للمفعول. قال أبو السعود : وهو الأنسب بسباق النظم الكريم وسياقه. فإن قوله تعالى: أفلا تعقلون إنكار توبيخي، فيه بعث لهم على التدبر في أمر الكتاب، والتأمل فيما في تضاعيفه من فنون المواعظ والزواجر، التي من جملتها القوارع السابقة واللاحقة. ثم أشار تعالى إلى نوع تفصيل لإجمال هلاك المسرفين المتقدم له، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[11] وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين [12] فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون [13] لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون .

وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين فلما أحسوا بأسنا أي: عذابنا النازل بهم: إذا هم منها يركضون أي: يهربون مسرعين. ثم قيل لهم استهزاء بلسان الحال أو المقال: لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه أي: من التنعم والتلذذ، و(في) ظرفية أو سببية: ومساكنكم أي: التي كثر فيها إسرافهم: لعلكم تسألون أي: تقصدون للسؤال والتشاور والتدبير في المهمات والنوازل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[14] قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين [15] فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين [16] وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين .

[ ص: 4254 ] قالوا أي: لما أيقنوا بنزول العذاب: يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم أي: تلك الكلمة وهي: (يا ويلنا) دعوتهم فلا تختص بوقت الدهشة، بل تدوم عليهم ما أمكنهم النطق: حتى جعلناهم حصيدا أي: كنبات محصود: خامدين أي: هالكين بإخماد نار أرواحهم: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين أي: بل للإنعام عليهم. وما أنعمنا عليهم بذلك إلا ليقوموا بشكرها وينصرفوا إلى ما خلقوا له. قال الزمخشري عليه الرحمة: أي: وما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من أصناف الخلائق، مشحونة بضروب البدائع والعجائب، كما تسوي الجبابرة سقوفهم وفرشهم وسائر زخارفهم، للهو واللعب. وإنما سويناها للفوائد الدينية، والحكم الربانية، لتكون مطارح افتكار واعتبار واستدلال ونظر لعبادنا، مع ما يتعلق لهم بها من المنافع التي لا تعد والمرافق التي لا تحصى. وقال أبو السعود : في هذه الآية إشارة إجمالية إلى أن تكوين العالم وإبداع بني آدم، مؤسس على قواعد الحكم البالغة، المستتبعة للغايات الجليلة. وتنبيه على أن ما حكي من العذاب الهائل والعقاب النازل بأهل القرى، من مقتضيات تلك الحكم، ومتفرعاتها. عن حسب اقتضاء أعمالهم إياه. وإن للمخاطبين المقتدين بآثارهم ذنوبا مثل ذنوبهم. أي: ما خلقناهما وما بينهما على هذا النمط البديع والأسلوب المنيع، خالية عن الحكم والمصالح. وإما عبر عن ذلك باللعب واللهو، حيث قيل: لاعبين لبيان كمال تنزهه تعالى عن الخلق الخالي عن الحكمة. بتصويره بصورة ما لا يرتاب أحد في استحالة صدوره عنه تعالى. بل إنما خلقناهما وما بينهما لتكون مبدأ لوجود الإنسان وسببا لمعاشه. ودليلا يقوده إلى تحصيل معرفتنا التي هي الغاية القصوى، بواسطة طاعتنا وعبادتنا. كما ينطق به قوله تعالى: وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا وقوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
وقوله تعالى:

[ ص: 4255 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[17] لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين .

لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين استئناف مقرر لما قبله من انتفاء اللعب واللهو. أي: لو أردنا أن نتخذ ما يتلهى به ويلعب لاتخذناه من عندنا. كديدن الجبابرة في رفع العروش وتحسينها، وتسوية الفروش وتزيينها. لكن يستحيل إرادتنا له لمنافاته الحكمة. فيستحيل اتخاذنا له قطعا. وقوله تعالى: إن كنا فاعلين جوابه محذوف دل عليه ما قبله. أي: لاتخذناه. وقيل: إن (إن) نافية. أي: ما كنا فاعلين. أي: لاتخاذ اللهو، لعدم إرادتنا إياه. فيكون بيانا لانتفاء التالي، لانتفاء المقدم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[18] بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون .

بل نقذف بالحق على الباطل إضراب عن اتخاذ اللهو بل عن إرادته. وتنزيه منه لذاته العلية كأنه قال: سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب أو نريده، بل من شأننا أن ندحض الباطل بالحق: فيدمغه أي: يمحقه بالكلية كما فعلنا بأهل القرى المحكية: فإذا هو زاهق أي: هالك بالكلية. وقد استعير لإرسال الحق على الباطل (القذف) الذي هو الرمي الشديد بالجرم الصلب كالصخرة. ولمحقه للباطل. (الدمغ) الذي هو كسر الشيء الرخو الأجوف. وهو الدماغ بحيث يشق غشاءه المؤدي إلى زهوق الروح، استعارة تصريحية تبعية. ويصح أن يكون تمثيلا لغلبة الحق على الباطل حتى يذهبه، برمي جرم صلب على رأس دماغها رخو ليشقه، وذكر: فإذا هو زاهق لترشيح المجاز. لأن من رمى فدمغ تزهق روحه. فهو من لوازمه. قال أبو السعود : وفي (إذا) الفجائية والجملة الاسمية من الدلالة على كمال المسارعة في الذهاب والبطلان، ما لا يخفى. فكأنه زاهق من الأصل [ ص: 4256 ] وفي الآية إيماء إلى علو الحق وتسفل الباطل. وأن جانب الأول باق والثاني فان: ولكم الويل مما تصفون أي: مما تصفونه به من اتخاذ الولد ونحوه، مما تتنزه عظمته عنه. ثم أخبر تعالى عن عبودية الملائكة له، ودأبهم في طاعته ليلا ونهارا، وبراءتهم من البنوة المفتراة عليهم، إثر إخباره عن ملكه للخلق كافة، بقوله:






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 31-08-2024 الساعة 10:12 PM.
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 45.12 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 44.46 كيلو بايت... تم توفير 0.66 كيلو بايت...بمعدل (1.46%)]