عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 31-08-2024, 02:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,905
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ طَهَ
المجلد الحادى عشر
صـ 4211 الى صـ 4225
الحلقة (452)






القول في تأويل قوله تعالى:

[109] يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا .

يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا أي: قبل قوله.

والمعنى: يومئذ لا يستطيع أحد أن يشفع لأحد، إلا إذا أذن الله له. ولا يأذن إلا لمن علم أنه سيجاب.

قال بعض المحققين: وإنما يكون الكلام ضربا من التكريم، لمن يأذن الله له به، يختص به من يشاء. ولا أثر فيما أراد الله البتة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[110] يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما .

يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما أي: بمعلوماته، أو بذاته العلية.
القول في تأويل قوله تعالى:

[111] وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما .

وعنت الوجوه للحي القيوم أي: ذلت وخضعت خضوع العناة، أي: الأسارى. لأنها في أسر مملكته وذل قهره وقدرته. لا تحيا ولا تقوم إلا به.

ولما كانت الوجوه يومئذ، منها الظالمة لنفسها ومنها الصالحة، أشار إلى ما يجزي به الكل، بقوله سبحانه: وقد خاب من حمل ظلما أي: خسر.
[ ص: 4212 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[112] ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما

ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما أي: نقص ثواب: ولا هضما أي: ولا كسرا منه، بعدم توفيته.
القول في تأويل قوله تعالى:

[113] وكذلك أنـزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا .

وكذلك أنـزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد أي: بعبارات شتى، تصريحا وتلويحا، وضروب أمثال، وإقامة براهين: لعلهم يتقون أي: الكفر والمعاصي بالفعل: أو يحدث لهم ذكرا أي: اتعاظا واعتبارا، يؤول بهم إلى التقوى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[114] فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما .

فتعالى الله الملك الحق أي: تناهى في العلو والعظمة، بحيث لا يقدر قدره، ولا يغدر أمره في ملكه الذي يعلو كل شيء، ويصرفه بمقتضى إرادته وقدرته. وفي عدله الذي يوفي كل أحد حقه بموجب حكمته: ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه أي: بل أنصت. فإذا فرغ الملك من قراءته فاقرأه بعده. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقنه جبريل الوحي، يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة، لكمال اعتنائه بالتلقي والحفظ. فأرشد إلى أن لا يساوقه في قراءته، وأن يتأنى عليه ريثما يسمعه ويفهمه. ثم ليقبل [ ص: 4213 ] عليه بالحفظ بعد ذلك. ونحوه قوله تعالى: لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه ثم أمره تعالى باستفاضة العلم واستزادته منه بقوله: وقل رب زدني علما أي: سله زيادة العلم. فإن مدده غير متناه.

وهذا -كما قال الزمخشري - متضمن للتواضع لله تعالى والشكر له، عندما علم من ترتيب التعلم. أي: علمتني يا رب لطيفة في باب التعلم، وأدبا جميلا ما كان عندي، فزدني علما إلى علم. فإن لك في كل شيء حكمة وعلما. قيل: ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم.

ثم أشار تعالى إلى أخذه العهد على بني آدم، من اتباعهم كل هدى يأتيهم منه سبحانه، وترتب الفوز عليه. وإلى أن الإعراض عنه من وسوسة الشيطان، العدو لهم ولأبيهم قبلهم. وترتب الشقاء عليه، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[115] ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما .

ولقد عهدنا إلى آدم من قبل أي: من قبل هذا الزمان، أن لا يقرب من الشجرة: فنسي أي: العهد: ولم نجد له عزما أي: تصميما في حفظه. إذ لو كان كذلك، لما أزله الشيطان ولما استطاع أن يغره. كما بينه الله تعالى بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[116] وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى [117] فقلنا يا آدم [ ص: 4214 ] إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى .

وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى أي: بالابتلاء. وإسناد الشقاء إليه خاصة، لأصالته في الأمور، واستلزام شقائه بشقائها. فاختصر الكلام لذلك، مع المحافظة على الفاصلة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[118] إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى [119] وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى .

إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى أي: لا تتصون من حر الشمس.

قال أبو السعود : هذا تعليل لما يوجبه النهي. فإن اجتماع أسباب الراحة فيها. مما يوجب المبالغة في الاهتمام بتحصيل مبادئ البقاء فيها. والجد في الانتهاء عما يؤدي إلى الخروج عنها. والعدول عن التصريح بأن له عليه السلام فيها تنعما بفنون النعم. من المآكل والمشارب، وتمتعا بأصناف الملابس البهية والمساكن المرضية، مع أن فيه من الترغيب في البقاء فيها، ما لا يخفى. إلا ما ذكر من نفي نقائضها التي هي الجوع والعطش والعري والضحو، لتذكير تلك الأمور المنكرة والتنبيه على ما فيها من أنواع الشقوة التي حذره عنها، ليبالغ في التحامي عن السبب المؤدي إليها. انتهى.

لطيفة:

قال الناصر : في الآية سر بديع من البلاغة، يسمى قطع النظير عن النظير. وذلك أنه قطع الظمأ عن الجوع، والضحو عن الكسوة، مع ما بينهما من التناسب. والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم وتصنيفها، ولو قرن كلا بشكله لتوهم المعدودات نعمة واحدة. [ ص: 4215 ] وقد رمق أهل البلاغة سماء هذا المعنى قديما وحديثا، فقال الكندي الأول:


كأني لم أركب جوادا للذة ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل
لخيلي: كري كرة بعد إجفال


فقطع ركوب الجواد عن قوله: لخيلي كري كرة، وقطع تبطن الكاعب عن ترشف الكأس، مع التناسب. وغرضه أن يعدد ملاذه ومفاخره ويكثرها.

على أن هذه الآية سرا لذلك، زائدا على ما ذكر، وهو قصد تناسب الفواصل. ولو قرن الظمأ بالجوع فقيل: إن لك أن لا تجوع فيها ولا تظمأ، لانتثر سلك رؤوس الآي. وأحسن به منتظما. انتهى. وهذا السر الذي سماه: قطع النظير عن النظير يسمى بالوصل الخفي. ومما قيل في وجه القطع: أن فيه التنبيه على أن الأولين، أعني الشبع والكسوة أصلان. وأن الأخيرين متممان. فالامتنان على هذا أظهر. ولذا فرق بين القرينتين. فقيل إن لك وأنك وأيضا روعي مناسبة الشبع والكسوة. لأن الأول يكسو العظام لحما. وأما الظمأ والضحى فمن واد واحد. وقيل: إن الغرض تعديد هذه النعم. ولو قرن كل بما يشاكله، لتوهم المقرونان نعمة واحدة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[120] فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى [121] فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى .

فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد أي: من أكل [ ص: 4216 ] منها خلد ولم يمت: وملك لا يبلى فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما أي: يلزقان: من ورق الجنة أي: لهما هذا الخزي، بدل عز الملك المخلد. وهذه الأوراق الفانية، بدل نفائس الملابس الخالدة: وعصى آدم ربه أي: بارتكاب النهي، وترك العزم في حفظ العهد: فغوى أي: عن المأمور به. حيث اعتز بقول العدو.
القول في تأويل قوله تعالى:

[122] ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى [123] قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى .

ثم اجتباه ربه أي: اصطفاه ووفقه للإنابة: فتاب عليه وهدى قال أي: بعد قبول توبته: اهبطا منها جميعا أي: انزلا من الجنة إلى الأرض: بعضكم لبعض عدو أي: متعادين.

قال المهايمي : فالمرأة عدوة الزوج، في إلجائه إلى تحصيل الحرام. والزوج عدوها في إنفاقه عليها. وإبليس يوقع الفتنة بينهما، ويدعوهما إلى أنواع المفاسد التي لا ترتفع إلا باتباع الأمر السماوي فإما يأتينكم مني هدى أي: من كتاب ورسول فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى أي: لا في الدنيا ولا الآخرة. قال أبو السعود : ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: (هداي) مع الإضافة إلى ضميره تعالى، لتشريفه والمبالغة في إيجاب اتباعه.
وقوله تعالى:

[ ص: 4217 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[124] ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى [125] قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا [126] قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .

ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى اعلم أنه لما أخبر سبحانه عن حال من اتبع هداه في معاشه ومعاده، أخبر عن حال من أعرض عنه ولم يتبعه، من شقائه في الدنيا والآخرة. وهذا الشقاء بقسميه، هو نوع من أفانين العذاب اللاحقة لمن تولى عن هدى الله الذي بعث به خاتم أنبيائه، ولم يقبله ولم يستجب له، ولم يتعظ به فينزجر عما هو عليه مقيم من خلافه أمر ربه.

وفي الآية مسائل:

الأولى: قال الرازي في قوله تعالى: عن ذكري الذكر يقع على القرآن وعلى سائر كتب الله تعالى. ويحتمل أن يراد به الأدلة. وقال ابن القيم في (مفتاح دار السعادة): أي: عن الذكر الذي أنزلته. و(الذكر) هنا مصدر مضاف إلى الفاعل. كـ(قيامي وقراءتي) لا إلى المفعول. وليس المعنى: ومن أعرض عن أن يذكرني. بل هذا لازم المعنى ومقتضاه من وجه آخر. وأحسن من هذا الوجه أن يقال: الذكر هنا مضاف إضافة الأسماء، لا إضافة [ ص: 4218 ] المصادر إلى معمولاتها. والمعنى: ومن أعرض عن كتابي ولم يتبعه، فإن القرآن يسمى ذكرا . قال تعالى: وهذا ذكر مبارك أنـزلناه وقال تعالى: ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم وقال تعالى: وما هو إلا ذكر للعالمين وقال تعالى: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وقال تعالى: إنما تنذر من اتبع الذكر وعلى هذا فإضافته كإضافة الأسماء الجوامد التي لا يقصد بها إضافة العامل إلى معموله. ونظيره في إضافة اسم الفاعل: غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب فإن هذه الإضافات لم يقصد بها قصد الفعل المتجدد، وإنما قصد الوصف الثابت اللازم. ولذلك جرت أوصافا على أعرف المعارف، وهو اسم الله تعالى في قوله تعالى: تنـزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب

الثانية: قرئ (ضنكا) بالتنوين على أنه مصدر وصف به، ولذا لم يؤنث لاستوائه في القبيلين. كما قال ابن مالك :


ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا


وفي القاموس: الضنك الضيق في كل شيء، للذكر والأنثى. يقال: ضنك ككرم، ضنكا وضناكة وضنوكة، ضاق. وقال السمين: (ضنكا) صفة معيشة. وأصله المصدر فلذلك لم يؤنث. ويقع للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد. وقرأ الجمهور (ضنكا) بالتنوين وصلا وإبداله ألفا وقفا كسائر المعربات. وقرأت فرقة (ضنكى) بألف كسكرى. وفي هذه الألف احتمالان: فإما أن تكون بدلا من التنوين، وإنما أجري الوصل مجرى الوقف، وإما أن تكون ألف التأنيث بني المصدر على (فعلى) نحو دعوى.

[ ص: 4219 ] الثالثة: ذكروا في هذه المعيشة الضنك التي للكافر أقوالا: إنها في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة أو في الدين. والأظهر الأول لمقابلته بالوعيد الأخروي. قال ابن كثير : أي: ضنكا في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره. بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء، وأكل ما شاء. وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى، فهو في قلق وحيرة وشك. فلا يزال في ريبه يتردد: فهذا من ضنك المعيشة. انتهى.

وذلك لأن الاعتقاد بالدين الحق واليقين الصحيح لراحة الضمائر والأنفس، فوق كل الأهواء والذات والمآرب. فالضنك المعني بها، إذن هو الضنك الحيوي والقلق الدنيوي، من اضطراب القلب وعدم سكون النفس إلى الاعتقاد الحق والإيمان بالدين القيم الذي هو دين الإسلام. فكل من لم يؤمن به فهو في ضيق صدر وهموم ومحابس، لا يجد منها مخارج إلا به ولا يرتاب في ذلك من كابر حسه وناقض وجدانه. فإن دين الإسلام هو دين الفطرة . دين اليسر. دين العقل. دين النور الذي تنشرح به الصدور وتطمئن به القلوب وتشفى به الأنفس من أدوائها، وتهتدي به من ضلالها وحيرتها، وتستنير به من ظلماتها. ولذلك سمي هدى ونورا وشفاء ورحمة. ألق نظرك على الأديان كلها، وقابل بينها وبينه، لتدرك ذلك.

هذه اليهودية، يرى في اشتراعها في الآصار والأغلال والتكاليف الشاقة في المعيشة الحيوية ما لا يطاق. قيود في المأكل والمشرب. وحجر في المنكح والمبيت والمعاشرة. وضغط على الأنفس بتقسيمها إلى طاهرين يحضرون الاحتفالات، ونجسين مبعدين لا يلمسون ولا يلمسون. دع عنك خرافات الاعتقادات والافتراء بالأهواء في التشريعات وتشعبها في الأهواء إلى شعب تتباين في العبادات.

وهذه النصرانية، الذي أساسها تعديل الشرعة الموسوية قام رهبانها بعد رفع المسيح، [ ص: 4220 ] ومضي عصر الحواريين. فأطلقوا لأتباعهم كل قيد في اليهودية. وأمروهم بنبذ أحكام التوراة نكاية لليهود. وأخذوا يشرعون للناس ما لا ينطبق على أصل التوراة ولا بعثة عيسى . فإنه عليه السلام قال: (ما جئت لأهدم الناموس -التوراة- بل لأتممه).

فترى ما أحدث من طقوس الكنيسة وتعاليمها، اعتقادا وعبادة وسلطة وسيطرة جائرة على العقل والفكر، وربط الأمور بأيدي الكهنة حلا وإبراما، تبعا لرغائب الأنفس والشهوات، مما يتضجر منه كل مسيحي ذاق جوهر الدين المسيحي حقا. إذ جوهره مع ابتداعهم على طرفي نقيض، فأنى لا يضيق ذرعه ولا تضنك معيشته! لذلك لما استقر سلطان الإسلام بالأندلس، واحتك النصارى بالمسلمين في الحروب الصليبية، واستمدوا من معارف الإسلام وعلومه ما قلد جيدهم مننا لا تنكر; أخذوا يقاومون الكنيسة في حظرها على المعارف والفنون، ومعاداتها للعلوم. وجرى بإغراء الكهنة، من الدماء المسفوكة ما اسودت به صحف التاريخ. ثم كان الفوز لدعاة الإصلاح. وتفرقوا أحزابا. ولا يزالون يتقربون إلى الإسلام، بنبذهم سخائف ما ورثوه. ولذا تراهم في عيشة ضنك يسعون لأرقى مما هم عليه، علما بأن الدخائل والبدع في دينهم، أفسدت عليهم ما أفسدت. ولن يتسنى لهم الرقي إلا بالرجوع إلى دين الفطرة. وهم يسعون إليه، وإن كانوا لا يشعرون، أو يشعرون ويتجاهلون. هذه رشحات من المعيشة الضنك لأمتين عظيمتين، وهما تنتميان إلى كتابين منزلين.. فما ظنك بالمجوس والوثنيين وفرقهم التي لا تحصى. ولا يزال عقلاؤهم يطلبون التملص منها، لكثرة خرافاتها وضررها، نفسا ومالا وعرضا. فأهلها في شقاء وعذاب لا يشاكله عذاب. ومن نجا من ويلاتها بالإسلام، لا يعد ولا يحصى. وقس على هؤلاء، الطائفة المسماة بالماديين. وهم الدهريون والطبيعيون. فإنهم بلا ريب أضيق صدرا وأضنك معيشة وأشد اضطرابا وأعظم فرقة. فلا يمكن أن يوجد اثنان على رأي واحد. بل يتصور كل منهم إلهه كما يهوى وكما تخيله له رغائبه وشهواته. قال بعضهم: هؤلاء الذين يحصرون دينهم في أن يعرف الإنسان الله، ويكون مستقيما في أعماله، إذا سئلوا: [ ص: 4221 ] ما هو الدين الطبيعي الذي تعترفون به؟ فيجيبون إنما هو الذي يرشد إليه العقل عريا عن الوحي. فيقال لهم: العقل، من حيث هو، ضعيف متغير قاصر. يرى اليوم صوابا ما يراه في الغد خطأ. ويحكم اليوم على أمر أنه حلال مباح، ويرى غدا أنه حرام لا يجوز إتيانه. تحمله أغراضه على استحلال ما يلذ له وتجعله مستنفرا مما يضاد أهواءه، فكيف يكون صاحبه مستقيما في أعماله؟ وما هي القاعدة المطردة الثابتة للاستقامة عند هؤلاء؟ وكل يرى نفسه ويخيل له أنه مستقيم!! فالصيني مثلا يرى نفسه مستقيما ولو باع أو قتل أولاده. والهندي يرى هذه الاستقامة في نفسه، ولو أحرق المرأة على جثة رجلها. والوثني يرى نفسه مستقيما، ولو ارتكب الفحشاء تكرمة للزهرة.

هذا، وإن أكبر الفلاسفة ضلوا في مواد ما يشرعون. ولم يهتدوا لجادة الاستقامة الحقة. فأنى يمكن لعامة الناس أن يكون لكل منهم دين طبيعي يقبله كيف شاء، ويجعله كشيء مرن، يمده إلى ما طاب له، ويقصره عن كل ما عافه. فيختلف هذا الدين باختلاف العقول والأهواء فيهم. وكيف نسمي شريعة ثابتة عامة، ما كان وقفا على إرادة كل فرد وأهوائه؟ وإذا سلمنا، مجاراة، أنه يوجد من كان ميالا طبعا إلى الاستقامة والعدل والعفة، فيحمله طبعه على ذلك، فماذا نقول فيمن كان بالطبع محبا للانتقام والاعتداء والشهوات. لا سيما والعقل ضعيف والنفس أمارة بالسوء، فأنى يكون العقل وحده وازعا عن ارتكاب المعاصي والجرائم. فما قضى سبحانه بشريعته لمخلوقاته رحمة منه بهم، إلا لضعفهم وميلهم إلى الشر. وضعف الإنسان وانحرافه يقضي بإلزامه شريعة يخضع لها. فهي ضرورية له ضرورة نظام الأجرام الفلكية لها. وملازمة له ملازمة النطق والإدراك والحرية، ولزوم الامتداد والثقل والجذب والدفع للأجرام الجامدة. وأول بينة على ملازمة الشريعة طبع الإنسان، ما يجده في نفسه ووجدانه من انغراسها فيه انغراسا نظريا. حتى لا يمكنه أن يجرد نفسه. مثلا، كيف يمكن للإنسان، ولو مهما تعامى في الشر، أن يجرد نفسه عن تصور [ ص: 4222 ] أنه خاضع لشريعة تنهاه عن القتل واختلاس مال غيره والاعتداء عليه بأي نوع كان؟ فالشريعة مكتوبة على قلوبنا في ألواح لحمية. ومن بحث عن عموم سكان البسيطة، وجد إجماع القبائل والشعوب قاطبة على شرائع، وإن اختلفت في بعض موادها. والحرية التي منحت للإنسان إنما قيدت محاسنها بالشرائع والخضوع لها. وإلا فهي دمار لنظام العالم، وجائحة للأدب، وآفة لما غرس البارئ في عقول الناس أجمعين، من عهد آدم إلى يومنا هذا. وذلك لاستلزامها إفساد الطبع الإنساني، والإجحاف بالشرائع الأدبية. لأن الإنسان متى علم أن ليس له إله يثيب على الخير ويعاقب على الشر، أطلق لنفسه عنان الفاسد، واطرح العذار في مضمار الشهوات وإحراز الرغائب، قضاء لما يحسبه من سعادته، واعتقاد أن نفسه ليست خالدة. وليس لسعادته موضوع خارج عن هذه العاجلة. ولاستلزامها أيضا هدم الاجتماع الإنساني والذهاب بشأفته. إذ لا ترعى بعد الله ذمة بين الملأ، ولا حرمة للسنن والشرائع، ولا بر بالملوك، ولا عدل بالرعية، ولا محبة ولا صدق ولا وفاء ولا نحو ذلك مما هو ضروري بالذات لقيام الألفة البشرية ونظام العمران.

وبالجملة، فلا يظنن أحد أن العالم يدوم أو يبقى فيه شيء من النظام أو الهيئة الاجتماعية، إذا لم يكن الناس مقيدين بشريعة إلهية، تصد الفاجر عن الفجور. فكما أن الهواء ضروري للحياة الطبيعية، فكذا الشريعة ضرورية للحياة الأدبية . فلا حياة للموجودات الحية دون هواء، فكذا لا انتظام ولا هيئة في العالم دون الشريعة . انتهى.

وقال إمام مدقق، في بحث تصحيح الاعتقاد وضرورته لطمأنينة النفس وسعادتها، ما مثاله: إنا نرى أمام أعيننا بعضا من الناس قد رزقوا صحة عظيمة وثروة جسيمة وتهذبوا بأنواع العلوم والمعارف، ولكنهم كثيرو الضجر شديدو الحيرة. لا يكادون يشعرون بالراحة ولا يتلذذون بملذة. كأن لهم في لذة ألما، وبإزاء كل فرح ترحا، يحسون بكآبة قد رانت على صدورهم: فلا يعلمون سببها ولا يعرفون موجبها. كآبة لا تزايلهم إلا بزوال عقولهم [ ص: 4223 ] عنهم، بكأس من الرحيق. فلذلك تراهم شديدي الكلف به كثيري التحرق لفقدانه، لأنه دواؤهم الوحيد. ما سر هذا الأرق والضجر، مع هذه الصحة الجسمية وتلك الثروة المالية، وهما الأمران اللذان عليهما، كما يزعمون، مدار السعادة الإنسانية؟ ما هذه الحيرة الوجدانية والوحشة الضميرية، مع تهذبهم بأنواع العلم، وهو كما يزعمون، الشافي للناس من نزعات الوسواس؟.

أما يدلنا هذا الضجر السري على أن النفس تائقة لأمر ما، إن غاب على الإنسان علمه، فقد دله عليه أثره. وإن ذلك الأمر ليس هو صحة البدن ولا وفرة المال ولا كثرة البنين، ولا سكنى القصور، ولا أكل الصنوف، ولا سماع العيدان، ولا مغازلة الغيد. بل هو أمر آخر لا تعد هذه الملاذ بالنسبة له إلا هباء، ولا الأكوان بجانبه إلا فناء.. ما هو هذا الأمر السامي الذي لو حصلت عليه النفس اطمأنت وسكنت، وهامت به وسكرت، ورضيت به وقنعت. هو لا شك صحة المعتقد، وإليك الدليل:

ليست النفس من طبيعة هذه الأجسام الصماء. ولا من طينة هذه المادة العمياء، حتى تأنس إلى شيء من أشياء هذه الأرض الحقيرة، أو تهتم بملاذها مهما كانت كبيرة. بل هي من طبيعة نورانية محضة. فلا تأنس إلا لنور يجلي عنها ظلمات الأشياء الأرضية الكثيفة، لتشرف على حضرة القدس المنيفة، وتطل على حظائرها الشريفة. النفس أجل من أن تقنع بالمشتهيات الجسمانية، وأكبر من أن ترضى بملاذها المموهة الفانية. فمهما غالط الإنسان نفسه، بجمع المال ورفاهة الحال، ليرتاح سره ويسكن اضطرابه، فإن النفس لا تفتأ تقيم عليه الحجة بعد الحجة، ليهتدي إلى وضح المحجة. فإن تبصر في أمره، واكتنه حقيقة سره، وأنال نفسه بغيتها من إبلاغها نورها المرجو لها، سكن فؤاده وآب إليه رشاده. ولو كان جسمه بين القنا والقنابل. وحاله من الفقر في أخس المنازل. فما هو السبيل إلى إبلاغ هذه النفس الهائمة أمنيتها، وإمتاعها بطلبتها، من صحة العقيدة؟ السبيل لذلك هو العقل [ ص: 4224 ] السليم. العقل في النوع الإنساني خصيصة من أجل خصائصه، ومنحة من أفضل منح الله عليه، لو استعمل فيما وضع له، واعتنى بصحته واعتداله. بالعقل يسبر الإنسان غور هذا الوجود العظيم، على ضخامة أجزائه وعظم أبعاده، ويستكنه سير النواميس السائدة عليه، فيستدل بها على وجود الخالق عز وجل، وعلى تنزه أفعاله عن العبث، وصنائعه عن اللهو. كما يستدل به على علمه وتدبيره ورحمته وحكمته، استدلالا محسوسا لا يقبل شبهة ولا يداخله ريبة. بالعقل يدرس الإنسان أحوال الجمعيات البشرية. في نواميس رقيها وهبوطها، وأسباب رفعتها وضعتها. ويتصبر في أحوال الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى خلقه هادين مرشدين. فيستدل بالتدقيق فيما جاؤوا به، وفي الآثار التي تركوها، على معنى النبوة وضرورتها للبشر. وحكمة الله تعالى في اختلاف المدارك والإحساسات، وفي تباين الملل والديانات. بالعقل يميز الإنسان بين أحوال الماضي والحال. فيفرق تبعا لذلك بين الديانات الخاصة وبين الديانات العامة. ويعثر بتعضيد العلم والبداءة، على الديانة التي يجب أن تكون خاتمة الأديان كلها، وباقية بقاء النوع الإنساني، وهي شريعة خاتم النبيين صلوات الله عليه وسلامه.

الرابعة: رأيت للإمام ابن القيم ، رحمه الله، كلاما على هذه الآية في كتابيه: (الجواب الكافي) و (مفتاح دار السعادة) فأحببت نقله هنا لفوائده وللعناية بهذه الآية، فإنها جديرة بذلك. قال في (الجواب الكافي) في فصل أبان فيه العقوبات المترتبة على المعاصي: ومنها المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ والعذاب في الآخرة. قال: وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر. ولا ريب أنه من المعيشة الضنك. والآية تتناول ما هو أعم منه، وإن كانت نكرة في سياق الإثبات، فإن عمومها من حيث المعنى. فإنه سبحانه رتب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره. فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه، وإن تنعم في الدنيا بأوصاف النعم، ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب، والأماني الباطلة [ ص: 4225 ] والعذاب الحاضر ما فيه، وإنما تواريه عنه سكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة، إن لم ينضم إلى ذلك سكر الخمر. فسكر هذه الأمور أعظم من سكر الخمر. فإنه يفيق صاحبه، ويصحو. وسكر الهوى وحب الدنيا لا يصحو صاحبه إلا إذا سكر في عسكر الأموات. فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والبرزخ ويوم المعاد. ولا تقر العين ولا يهدأ القلب ولا تطمئن النفس إلا بإلهها ومعبودها الذي هو حق، وكل معبود سواه باطل، فمن قرت عينه بالله، قرت به كل عين. ومن لم تقر عينه بالله، تقطعت نفسه على الدنيا حسرات. والله تعالى إنما جعل الحياة الطيبة لمن آمن بالله وعمل صالحا، كما قال تعالى: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون فضمن لأهل الإيمان والعمل الصالح، الجزاء في الدنيا بالحياة الطيبة، والحسنى يوم القيامة. فلهم أطيب الحياتين وهم أحياء في الدارين. ونظير هذا قوله تعالى: للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين ونظيرها قوله تعالى: وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله ففاز المتقون المحسنون بنعيم الدنيا والآخرة، وحصلوا على الحياة الطيبة في الدارين، فإن طيب النفس وسرور القلب وفرحه ولذته وابتهاجه وطمأنينته وانشراحه ونوره وسعته وعافيته، من ترك الشهوات المحرمة والشبهات الباطلة، هو النعيم على الحقيقة. ولا نسبة لنعيم البدن إليه، فقد كان بعض من ذاق هذه اللذة يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف. وقال آخر: إنه يمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيش [ ص: 4226 ] طيب. وقال آخر: إن في الدنيا جنة، هي في الدنيا كالجنة في الآخرة. من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 46.87 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 46.25 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.34%)]