عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 31-08-2024, 02:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,873
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ طَهَ
المجلد الحادى عشر
صـ 4196 الى صـ 4210
الحلقة (451)





واعلم أنه لا بد من نكتة تناسب الأمرين -التعظيم والتحقير- وتلك، والله أعلم، [ ص: 4196 ] هي إرادة المذكور مبهما، لأن: ما في يمينك أبهم من: " عصاك " وللعرب مذهب في التنكير والإبهام، والإجمال، تسلكه مرة لتحقير شأن ما أبهمته، وأنه عند الناطق به أهون من أن يخصه ويوضحه. ومرة لتعظيم شأنه، وليؤذن أنه من عناية المتكلم والسامع بمكان، يغني في الرمز والإشارة. فهذا هو الوجه في إسعاده بهما جميعا.

ثم قال الناصر: وعندي في الآية وجه سوى قصد التعظيم والتحقير. والله أعلم. وهو أن موسى عليه السلام، أول ما علم أن العصا آية من الله تعالى، عندما سأله عنها بقوله تعالى: وما تلك بيمينك يا موسى ثم أظهر له تعالى آيتها، فلما دخل وقت الحاجة إلى ظهور الآية منها، قال تعالى: وألق ما في يمينك ليتيقظ بهذه الصيغة للوقت الذي قال الله تعالى له: وما تلك بيمينك وقد أظهر له آيتها، فيكون ذلك تنبيها له وتأنيسا، حيث خوطب بما عهد أن يخاطب به وقت ظهور آيتها. وذلك مقام يناسب التأنيس والتثبيت. ألا ترى إلى قوله تعالى: فأوجس في نفسه خيفة موسى ؟ انتهى.

ولأبي حيان نكتة أخرى. وهي ما في اليمين من الإشعار باليمن والبركة. ولا يقال جاء في سورة الأعراف: ألق عصاك والقصة واحدة. لأنه يجاب بأنه مانع من رعاية هذه النكتة فيما وقع هنا، وحكاية ما جاء بالمعنى.

هذا وقال الشهاب الخفاجي : فيما ذكروه نظر لأنه إنما يتم إذا كان الخطاب بلفظ عربي أو مرادف له، يجري فيه ما يجري فيه. والأول خلاف الواقع. والثاني دونه خرط القتاد، فتأمل.

أقول: إنما استبعد الثاني، لتوهم أن لا بلاغة ولا نكات إلا في اللغة العربية. مع أن الأمر ليس كذلك. وحينئذ فيتعين الثاني. وهو ظاهر. وبه تستعاد تلك اللطائف.
ثم أشار تعالى إلى عنايته بموسى وقومه، من إنجائهم وإهلاك عدوهم، وقد طوى هنا ما فصل في آيات أخر: بقوله سبحانه:

[ ص: 4197 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[77] ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى .

ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي أي: سر بهم من مصر ليلا: فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا أي: يابسا. فضرب موسى بعصاه البحر فانفلق وجاوزه إلى ساحله: لا تخاف دركا أي: لا تخاف من فرعون وجنوده أن يدركوك من ورائك ولا تخشى أي: غرقا من بين يديك، ووحلا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[78] فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم [79] وأضل فرعون قومه وما هدى .

فأتبعهم فرعون بجنوده لأنه ندم على الإذن بتسريحهم من مصر، وأنهم قهروه على قلتهم كما قال: إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون فتبعهم ومعه جنوده حتى لحقوهم، ونزلوا في الطريق الذي سلكوه. ففاجأهم الموج كما قال تعالى: فغشيهم من اليم ما غشيهم أي: علاهم منه وغمرهم، ما لا يحاط بهوله: وأضل فرعون قومه وما هدى أي: أوردهم الهلاك، بعتوه وعناده في الدنيا والآخرة. وما هداهم سبيل الرشاد.
ثم ذكر تعالى نعمه على بني إسرائيل ومننه الكبرى ، وما وصاهم من المحافظة على شكرها، وحذرهم من التعرض لغضبه بكفرها، بقوله سبحانه:

[ ص: 4198 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[80] يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونـزلنا عليكم المن والسلوى [81] كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى .

يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وهو فرعون وقومه. فقد كانوا يسومونكم سوء العذاب. يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم. وذلك بأن أقر أعينكم منهم، بإغراقهم، وأنتم تنظرون: وواعدناكم جانب الطور الأيمن أي: بمناجاة موسى وإنزال التوراة عليه. واليهود السامرية تزعم أن هذا الجبل في نابلس ويسمونه جبل الطور ويذكر في الجغرافيا بلفظ عيبال ولهم عيد سنوي فيه يصعدون إليه، ويقربون فيه القرابين. والله أعلم.

قال الزمخشري : وإنما عدى المواعدة إليهم، لأنها لابستهم واتصلت بهم، حيث كانت لنبيهم ونقبائهم. وإليهم رجعت منافعها التي قام بها دينهم وشرعهم، وفيما أفاض عليهم من سائر نعمه وأرزاقه.

و(جانب) مفعول فيه، أو مفعول به على الاتساع. أو بتقدير مضاف. أي: إتيان جانب ونـزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم أي: من لذائذه. فإن المن كالعسل. والسلوى من الطيور الجيد لحمها: ولا تطغوا فيه أي: فيما رزقناكم، بأن يتعدى فيه حدود الله، ويخالف ما أمر به: فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى أي: هلك.
[ ص: 4199 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[82] وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى .

وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى أي: تاب عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق، وعمل صالحا بجوارحه، ثم اهتدى أي: استقام وثبت على الهدى المذكور. وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح. ونحوه قوله تعالى: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا وفي الآية ترغيب لمن وقع في وهدة الطغيان، ببيان المخرج له منه، كي لا ييأس .
وقوله تعالى:

القول في تأويل قوله تعالى:

[83] وما أعجلك عن قومك يا موسى .

وما أعجلك عن قومك يا موسى أي: أي شيء عجل بك عنهم، على سبيل الإنكار، وكان قد مضى معه النقباء الذين اختارهم من قومه إلى الطور، على الموعد المضروب، ثم تقدمهم شوقا إلى كلام ربه ورضاه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[84] قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى .

قال هم أولاء على أثري أي: قادمون ينزلون بالطور، وإنما سبقتهم بما ظننت أنه خير. ولذا قال: وعجلت إليك رب لترضى أي: عني، بمسارعتي إلى الامتثال بأمرك. واعتنائي بالوفاء بعهدك. وزيادة (رب) لمزيد الضراعة والابتهال، رغبة في قبول العذر. أفاده أبو السعود .

[ ص: 4200 ] فإن قيل: كان مقتضى جواب السؤال من موسى أن يقول: طلب زيادة رضاك أو الشوق إلى كلامك، فالجواب. أن هذا من الغفلة عن سر الإنكار. وذلك لأن الإنكار بالذات إنما هو للبعد والانفصال عنهم. فهو منصب على القيد. كما عرف في أمثاله. فالسؤال في المعنى عن الانفصال الذي يتضمنه (أعجلك) المتعدي بـ(من). وإنكار العجلة لأنها وسيلة له. فالجواب: هم أولاء على أثري. وقوله: وعجلت إلخ تتميم. وقيل الجواب إنما هو قوله: وعجلت إلخ، وما قبله تمهيد له.

وقال الناصر: إنما أراد الله بسؤاله عن سبب العجلة، وهو أعلم، أن يعلم موسى أدب السفر. وهو أنه ينبغي تأخر رئيس القوم عنهم في المسير، ليكون نظره محيطا بطائفته، ونافذا فيهم، ومهيمنا عليهم. وهذا المعنى لا يحصل في تقدمه عليهم، ألا ترى الله عز وجل كيف علم هذا الأدب، لوطا، فقال: واتبع أدبارهم فأمره أن يكون أخيرهم. على أن موسى عليه السلام إنما أغفل هذا الأمر مبادرة إلى رضاء الله عز وجل، ومسارعة إلى الميعاد. وذلك شأن الموعود بما يسره، يود لو ركب إليه أجنحة الطير. ولا أسر من مواعدة الله تعالى له صلى الله عليه وسلم. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[85] قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري .

قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك أي: ابتليناهم بعد ذهابك للمناجاة: وأضلهم السامري يعني اليهودي الذي وسوس لهم أن يعبدوا عجلا يتخذوه إلها، لما طالت عليهم غيبة موسى ويئسوا من رجوعه. و( السامري ) في لغة العرب، بمعنى اليهودي. وقد قال بالظن، من ادعى تسميته أو حاول تعيينه. وأما الطائفة السامرية الآن فهم فئة من اليهود في ( نابلس ) قليلة العدد تخالف بقية اليهود في جل عاداتها.

[ ص: 4201 ] وقد تضمنت هذه الجملة -أعني إخباره تعالى لموسى بالفتنة -الأمر- برجوعه لقومه، وإصلاحه ما فسد من حالهم، كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[86] فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي .

فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا أي: حزينا: قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أي: بإنزال التوراة علي، ورجوعي بها إليكم: أفطال عليكم العهد أي: زمان الإنجاز، أو مجيئي: أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي أي: وعدكم إياي بالثبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من الميقات.
القول في تأويل قوله تعالى:

[87] قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري [88] فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي .

قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا قرئ بالحركات الثلاث على الميم.

قال الزمخشري : أي: ما أخلفنا موعدك، بأن ملكنا أمرنا. أي: لو ملكنا أمرنا، وخلينا وراءنا، لما أخلفناه. ولكن غلبنا من جهة السامري وكيده: ولكنا حملنا بفتح الحاء مخففا، وبضمها وكسر الميم مشددا: أوزارا أي: أثقالا وأحمالا: من زينة القوم [ ص: 4202 ] أي: من حلي القبط، قوم فرعون، وهو حلي نسائهم: فقذفناها أي: في النار لسبكها: فكذلك ألقى السامري أي: كان إلقاؤه: فأخرج لهم أي: من تلك الحلي المذابة: عجلا جسدا له خوار أي: صوت عجل. وقد قيل: إنه صار حيا، وخار كما يخور العجل. وقيل: لم تحله الحياة وإنما جعل فيه منافذ ومخارق، بحيث تدخل فيها الرياح فيخرج صوت يشبه صوت العجل. أفاده الرازي .

وقوله: فقالوا أي: السامري ومن افتتنوا به: هذا إلهكم وإله موسى فنسي أي: غفل عنه وذهب يطلبه في الطور. ثم أنكر تعالى على من ضل بهذا العجل وأضل. مسفها لهم فيما أقدموا عليه، مما لا يشتبه بطلانه على أحد، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[89] أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا .

أفلا يرون ألا يرجع أي: العجل: إليهم قولا أي: لا يردد لهم جوابا: ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا أي: دفع ضر ولا جلب نفع، أي: فكيف يتخذ إلها؟
القول في تأويل قوله تعالى:

[90] ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري .

ولقد قال لهم هارون من قبل أي: قبل رجوع موسى إليهم: يا قوم إنما فتنتم به أي: ضللتم بعبادته: وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري في عبادته سبحانه، ونبذ العجل.
[ ص: 4203 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[91] قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى [92] قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا [93] ألا تتبعني أفعصيت أمري .

قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى قال أي: موسى : يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أي: في الغضب لله، وشدة الزجر عن الكفر. ولا مزيدة. أو المعنى ما حملك على أن لا تتبعني، بحمل النقيض على النقيض. فإن المنع عن الشيء مستلزم للحمل على مقابله. أو ما منعك أن تلحقني وتخبرني بضلالهم، فتكون مفارقتك مزجرة لهم: أفعصيت أمري وهو ما أمره به من أن يخلفه في قومه، ويصلح ما يراه فاسدا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[94] قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي .

قال أي: هارون: يا ابن أم بكسر الميم وفتحها. أراد أمي وذكرها أعطف لقلبه: لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي أي: بشعره. وكان قبض عليهما يجره إليه من شدة غضبه: إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل أي: بتركهم لا راعي لهم: ولم ترقب قولي أي: لم تراعه في الاستخلاف والوجود بين ظهرانيهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[95] قال فما خطبك يا سامري .

قال فما خطبك يا سامري أي: ثم أقبل على السامري وقال له منكرا: ما شأنك فيما صنعت؟ وما دعاك إليه؟
[ ص: 4204 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[96] قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي [97] قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا .

قال بصرت بما لم يبصروا به أي: فطنت لما لم يفطنوا له: فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها أي: في الحلي المذاب حتى حي: وكذلك سولت لي نفسي أي: حسنته وزينته: قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك أي: لعذابك: موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا أي: لنطيرنه رمادا في البحر، بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر.

تنبيهات:

الأول: اعلم أن هارون عليه السلام، سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه. لأنه زجرهم عن الباطل، أولا بقوله: إنما فتنتم به ثم دعاهم لمعرفة الله تعالى ثانيا بقوله: وإن ربكم الرحمن ثم دعاهم ثالثا إلى معرفة النبوة بقوله تعالى: فاتبعوني ثم دعاهم إلى الشرائع رابعا بقوله: وأطيعوا أمري وهذا هو الترتيب الجيد. لأنه لا بد قبل كل شيء في إماطة الأذى عن الطريق، وهو إزالة الشبهات. ثم معرفة الله تعالى، فإنها هي الأصل. ثم النبوة ثم الشريعة. فثبت أن هذا الترتيب على أحسن الوجوه. أفاده الرازي .

وقد برأ الله تعالى بهذه الآيات البينات، هارون عليه السلام مما افتراه عليه كتبة التوراة [ ص: 4205 ] من أنه هو السامري الذي اتخذ العجل وأمر بعبادته، كما هو موجود عندهم. وهو من أعظم الفرى، بلا امترا.

الثاني: عامة المفسرين قالوا: المراد بالرسول في قوله تعالى: فقبضت قبضة من أثر الرسول هو جبريل عليه السلام. وأراد بأثره، التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته. ثم اختلفوا: أن السامري متى رآه؟ فقيل: إنما رآه يوم فلق البحر. وقيل: وقت ذهابه بموسى إلى الطور.

واختلفوا أيضا في: أن السامري كيف اختص برؤية جبريل عليه السلام، ومعرفته من بين سائر الناس؟ فقيل إنما عرفه لأنه رآه في صغره، وحفظه من قتل آل فرعون له، وكان ممن رباه. وكل هذا ليس عليه أثارة من علم ولا يدل عليه التنزيل الكريم. ولذا قال أبو مسلم الأصفهاني : ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون. فههنا وجه آخر وهو: أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام. وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به، فقد يقول الرجل: فلان يقفو أثر فلان ويقبض أثره، إذا كان يمتثل رسمه. والتقدير، أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم، والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في باب العجل، فقال: بصرت بما لم يبصروا به أي: عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول، أي: شيئا من سنتك ودينك." فقذفته " ، أي: طرحته. فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة. وإنما أورد بلفظ الإخبار عن غائب، كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له: ما يقول الأمير في كذا؟ وبماذا يأمر الأمير؟.

وأما دعاؤه موسى عليه السلام رسولا، مع جحده وكفره، فعلى مثل مذهب من حكى الله تعالى عنه قوله: وقالوا يا أيها الذي نـزل عليه الذكر إنك لمجنون وإن لم يؤمنوا بالإنزال. انتهى.

[ ص: 4206 ] قال الرازي: ما ذكره أبو مسلم أقرب إلى التحقيق مما ذكره المفسرون، لوجوه:

أحدها: أن جبريل عليه السلام ليس بمشهور باسم الرسول. ولم يجر له فيما تقدم ذكر، حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه. فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل عليه السلام، كأنه تكليف بعلم الغيب.

وثانيها: أنه لا بد فيه من الإضمار. وهو قبضة من أثر حافر فرس الرسول، والإضمار خلاف الأصل.

وثالثها: أنه لا بد من التعسف في بيان أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته؟ ثم كيف عرف أن لتراب حافر فرسه هذا الأثر؟ والذي ذكروه من أن جبريل عليه السلام هو الذي رباه، فبعيد. لأن السامري، إن عرف جبريل حال كمال عقله، عرف قطعا أن موسى عليه السلام نبي صادق. فكيف يحاول الإضلال؟ وإن كان ما عرفه حال بلوغ، فأي منفعة لكون جبريل عليه السلام مربيا له حال الطفولية، في حصول تلك المعرفة؟ انتهى.

التنبيه الثالث: في قوله: لا مساس وجوه:

أحدها: إني لا أمس ولا أمس.

وثانيها: المراد المنع من أن يخالط أحدا أو يخالطه أحد، عقوبة له.

ثالثها: ما ذكره أبو مسلم من أنه يجوز في حمله: ما (أريد مسي النساء)، فيكون من تعذيب الله إياه انقطاع نسله. فلا يكون له ولد يؤنسه، فيخليه الله تعالى من زينتي الدنيا اللتين ذكرهما بقوله: المال والبنون زينة الحياة الدنيا أي: لأن المس يكنى به عن النكاح كما في آية: من قبل أن تمسوهن والله أعلم.

[ ص: 4207 ] ولما فرغ موسى عليه السلام من إبطال ما دعا إليه السامري، عاد إلى بيان الدين الحق، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى:

[98] إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما .

إنما إلهكم أي: المستحق للعبادة والتعظيم: الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما أي: أحاط علمه كل شيء. ثم أشار تعالى إلى فضله، فيما قصه على خاتم رسله صلوات الله عليه، من أنباء الأنبياء، تنويها بشأنه، وزيادة في معجزاته، وتكثيرا للاعتبار والاستبصار في آياته، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[99] كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا .

كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا أي: كتابا عظيما جامعا لكل كمال، وسمي القرآن: ذكرا لما فيه من ذكر ما يحتاج إلى الناس من أمر دينهم ودنياهم، ومن ذكر آلاء الله ونعمائه. ففيه التذكير والمواعظ، ولما فيه من الذكر والشرف له صلوات الله عليه ولقومه.

قال الرازي: وقد سمى تعالى كل كتبه (ذكرا) فقال: فاسألوا أهل الذكر
ثم، كما بين تعالى نعمته بذلك، بين شدة الوعيد لمن أعرض عنه ولم يؤمن به، بقوله:

[ ص: 4208 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[100] من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا [101] خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا .

من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا أي: إثما. يعني عقوبة ثقيلة. شبهت بالحمل الثقيل لثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها: خالدين فيه أي: في احتماله المستمر: وساء لهم يوم القيامة حملا
وقوله تعالى:

القول في تأويل قوله تعالى :

[102] يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا [103] يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا .

يوم ينفخ في الصور بدل من يوم القيامة أو منصوب بمحذوف. والنفخ في الصور تمثيل لبعث الله للناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إلا نفخة في بوق: فإذا هم قيام ينظرون وعلينا أن يؤمن بما ورد من النفخ في الصور. وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور. والبحث وراء هذا، عبث لا يسوغ للمسلم. أفاده بعض المحققين.

ونحشر المجرمين أي: نسوقهم إلى جهنم: يومئذ زرقا أي: زرق الوجوه. الزرقة تقرب من السواد. فهو بمعنى آية: وتسود وجوه

وقال أبو مسلم: المراد بهذه الزرقة شخوص أبصارهم. والأزرق شاخص، لأنه لضعف بصره، يكون محدقا نحو الشيء يريد أن يتبينه. وهذه حال الخائف المتوقع لما يكره. وهو كقوله تعالى: إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار نقله الرازي. والأول أظهر [ ص: 4209 ] يتخافتون بينهم أي: يتسارون من الرعب والهول، أو من الضعف، قائلين: إن لبثتم أي: في الدنيا: إلا عشرا أي: عشر ليال.

قال الزمخشري : يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا، إما لما يعاينون من الشدائد التي تذكرهم أيام النعمة والسرور، فيتأسفون عليها ويصفونها بالقصر. لأن أيام السرور قصار. وإما لأنها ذهبت عنهم وتقضت. والذاهب، وإن طالت مدته، قصير بالانتهاء. ومنه توقيع عبد الله بن المعتز تحت: أطال الله بقاءك كفى بالانتهاء قصرا. وإما لاستطالتهم الآخرة، وأنها أبد سرمد، يستقصر إليها عمر الدنيا، ويتقال لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة.
وقد استرجح الله قول من يكون أشد تقالا منهم، في قوله تعالى:

القول في تأويل قوله تعالى:

[104] نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما .

نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة أي: أعدلهم رأيا: إن لبثتم إلا يوما ونحوه قوله تعالى: قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين انتهى.

قال أبو السعود : ونسبة هذا القول إلى أمثلهم، استرجاع منه تعالى له، لكن لا لكونه أقرب إلى الصدق، بل لكونه أدل على شدة الهول. أي: ولكونه منتهى الأعداد القليلة. وكذلك لبثهم بالنسبة إلى الخلود السرمدي، وإلى تقضي الغائب الذي كأن لم يكن. ولا ينافي هذا ما جاء في آية: ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة لأن المراد بالساعة الحصة من الزمان القليل، فتصدق باليوم. كما أن المراد باليوم مطلق الوقت. ولذلك نكر، تقليلا له وتحقيرا.

[ ص: 4210 ] قال الشهاب : ليس المراد بحكاية قول من قال (عشرا) أو (يوما) أو (ساعة) حقيقة اختلافهم في مدة اللبث، ولا الشك في تعيينه. بل المراد أنه لسرعة زواله، عبر عن قلته بما ذكر. فتفنن في الحكاية، وأتى في كل مقام بما يليق به.
القول في تأويل قوله تعالى:

[105] ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا [106] فيذرها قاعا صفصفا [107] لا ترى فيها عوجا ولا أمتا .

ويسألونك عن الجبال أي: هل تبقى يوم القيامة أو تزول: فقل ينسفها ربي نسفا أي: يزيلها عن مقارها. فيسيرها مقذوفة في الفضاء. وقد تمر على الرؤوس مر السحاب. حتى تتساوى مع سطح الأرض. كما قال: فيذرها أي: فيذر مقارها ومراكزها. أو الأرض المدلول عليها بقرينة الحال: قاعا أي: سهلا مستويا: صفصفا أي: أملس: لا ترى فيها عوجا ولا أمتا أي: نتوءا يسيرا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[108] يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا .

يومئذ يتبعون الداعي أي: يجيبون الداعي إلى المحشر، فينقلبون من كل صوب إليه: لا عوج له أي: لا يعوج له مدعو، ولا ينحرف عنه. بل يستوون إليه. متبعين لصوته، سائرين بسيره.

في شروح (الكشاف): هذا كما يقال: (لا عصيان له)، أي: لا يعصى. و(لا ظلم له) أي: لا يظلم. وضمير (له): للداعي. وقيل: للمصدر. أي: لا عوج لذلك الاتباع: وخشعت [ ص: 4211 ] الأصوات للرحمن أي: انخفضت لهيبته ولهول الفزع: فلا تسمع إلا همسا أي: صوتا خفيا.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 46.45 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 45.83 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.35%)]