
منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية
أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحنبلي الدمشقي
المجلد الثالث
الحلقة (199)
صـ 217 إلى صـ 224
[فصل من كلام الرافضي قوله: لا يبقى وثوق بوعد الله ووعيده]
(فصل)
قال [الرافضي] : (1) " ومنها أنه (2) لا يبقى وثوق بوعد الله ووعيده، لأنهم إذا جوزوا استناد (3) الكذب في العالم إليه، جاز أن يكذب في إخباراته كلها، فتنتفي فائدة بعثة الأنبياء (4) ، بل (5) وجاز منه إرسال الكذاب (6) ، فلا يبقى لنا طريق إلى تمييز الصادق من الأنبياء والكاذب ".
والجواب عن هذا من وجوه:
أحدها (7) : أنه تقدم غير مرة أنه فرق (8) بين ما خلقه صفة لغيره، وبين ما اتصف هو [به] (9) في نفسه، وفرق بين إضافة المخلوق إلى خالقه، وإضافة الصفة إلى الموصوف بها.
وهذا الفرق معلوم باتفاق العقلاء، فإنه إذا خلق (10) لغيره حركة لم يكن
_________
(1) الرافضي: زيادة في (ع) ، والكلام التالي في (ك) ص [0 - 9] 9 (م) .
(2) ن، ع، أ، ب: أن.
(3) ن، م: إسناد.
(4) أ، ب، ع: البعثة للأنبياء.
(5) بل: ساقطة من (ب) فقط.
(6) ك: الكذابين.
(7) أحدها: ساقطة من (أ) ، وفي (ب) : الأول.
(8) ن: أنه لا فرق ; م: أن لا فرق، وكلاهما خطأ.
(9) به: ساقطة من (ن) ، وفي (م) : به هو.
(10) ع: فإذا خلق، ب: فإنه إذ خلق
==============================
هو المتحرك بها (1) ، وإذا خلق للرعد صوتا لم يكن هو المتصف بذلك الصوت، وإذا خلق الألوان في النباتات والحيوانات والجمادات لم يكن هو المتصف بتلك الألوان، وإذا خلق في غيره علما وقدرة وحياة لم تكن تلك المخلوقات في غيره صفات له، وإذا خلق في غيره عمى وصمما وبكما لم يكن هو الموصوف بذلك العمى (2) والبكم والصمم، وإذا خلق في غيره خبثا أو فسوقا لم يكن هو المتصف بذلك الخبث والفسوق، وإذا خلق في غيره كذبا وكفرا لم يكن هو المتصف بذلك الكذب وبذلك الكفر، كما أنه إذا قدر أنه (3) خلق فيه طوافا وسعيا ورمي جمار وصياما وركوعا وسجودا، لم يكن هو الطائف الساعي الراكع الساجد الرامي بتلك الحجارة (4) .
وقوله تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} [سورة الأنفال: 17] معناه: ما أصبت إذ حذفت ولكن الله هو الذي أصاب، فالمضاف إليه الحذف باليد، والمضاف إلى الله تعالى الإيصال إلى العدو وإصابتهم به، وليس المراد بذلك ما يظنه بعض الناس أنه لما خلق الرامي [والرمي] (5) ، قالوا (6) : كان هو الرامي في الحقيقة، فإن ذلك لو كان صحيحا لكونه خالقا لرميه لاطرد ذلك في سائر الأفعال، فكان يقول:
_________
(1) بها ساقطة من (أ) ، (ب) .
(2) ب: هو الموصوف بالعمى، أ: هذا الموصوف العمى
(3) عبارة " قدر أنه " ساقطة من (ب) ، وفي (أ) : قد خلق فيه، وفي (ع) : قدر أنه إذا.
(4) ن، م: والساعي والراكع والساجد والرامي بتلك الجمار.
(5) والرمي: ساقطة من (ن) ، (م) .
(6) قالوا: ساقطة من (أ) ، (ب) ، (ع)
============================
وما مشيت [إذا مشيت] (1) ولكن الله مشى، وما لطمت ولكن الله لطم، وما طعنت ولكن الله طعن، وما ضربت بالسيف ولكن الله ضرب، وما ركبت الفرس (2) ولكن الله ركب، وما صمت، وما صليت، وما حججت (3) ، ولكن الله صام وصلى وحج.
ومن المعلوم بالضرورة (4) بطلان هذا كله، وهذا (5) من غلو المثبتين للقدر. ولهذا يروى عن عثمان بن عفان [رضي الله عنه] (6) أنهم (7) كانوا يرمونه بالحجارة لما حصر (8) ، فقال لهم: لماذا ترمونني؟ (9) فقالوا: ما رميناك ولكن الله رماك. فقال: لو أن الله رماني لأصابني، ولكن أنتم ترمونني وتخطئونني.
وهذا مما احتج به القدرية النفاة على أن الصحابة لم يكونوا يقولون: إن الله خالق أفعال العباد. كما احتج بعض المثبتة (10) بقوله تعالى: {ولكن الله رمى} [سورة الأنفال: 17] وكلاهما خطأ. فإن الله إذا خلق في
_________
(1) عبارة إذا مشيت: زيادة في (ع) .
(2) ن، م: الفرس إذ ركبت.
(3) ن، م: ولا صليت ولا حججت.
(4) بالضرورة: ساقطة من (أ) ، (ب) .
(5) وهذا: ساقطة من (أ) ، ب.
(6) رضي الله عنه: ساقطة من (ن) ، (م) .
(7) أنهم: ساقطة من (أ) ، (ب) .
(8) ن، م: لما حصر بالحجارة.
(9) أ، ب: لماذا ترمونني وتخطئونني.
(10) أ: كما احتج به المثبتة ; ب: كما احتج المثبتة
=====================================
عبد (1) فعلا، لم يجب أن يكون ذلك المخلوق صوابا من العبد، كما أنه إذا خلق في الجسم طعما أو ريحا، لم يجب أن يكون [ذلك] (2) طيبا، وإذا خلق للعبد عينين (3) ولسانا، لم يجب أن يكون بصيرا ناطقا. فاستناد الكذب الذي في الناس، كاستناد جميع ما يكون في المخلوقين (4) من الصفات القبيحة والأحوال المذمومة وذلك لا يقتضي أنه في نفسه مذموم، ولا أنه موصوف بتلك الصفات. ولكن لفظ " الاستناد " لفظ مجمل. أتراه [أنه] (5) إذا استند إليه العجز المخلوق في الناس لكونه خالقه، يكون هو عاجزا؟ فهذا مما يبين فساد هذه الحجة (6) .
[الوجه] (7) الثاني: أنهم يجوزون أنه يخلق القدرة على الكذب مع علمه بأن (8) صاحبها يكذب، ويخلق القدرة على الظلم والفواحش مع علمه أن صاحبها يظلم ويفحش. ومعلوم أن الواحد منا (9) يجري تمكينه من القبائح وإعانته عليها مجرى فعله لها، فمن أعان غيره على الكذب بإعطاء أمور (10) يستعين بها على الكذب، كان بمنزلة الكذب (11) في القبح،
_________
(1) أ، ب، م: عبده.
(2) ذلك: ساقطة من (ن) ، (ع) .
(3) أ: عينان، ن، م، ع: عينا.
(4) أ، ب: المخلوقات.
(5) أنه: ساقطة من (ن) ، (م) .
(6) أ، ب: هذه الحجة، والله أعلم.
(7) الوجه: ساقطة من (ن) ، (م) .
(8) أ، ب: أن.
(9) منا: ساقطة من (أ) ، (ب) .
(10) ن: أعان على غيره من الكذب وأعطاه أمورا
(11) ن، م: الكذاب
==============================
فلا يجوز لنا أن نعين على إثم و [لا] عدوان (1) ، كما نهى (2) الله عن ذلك. فإن كان ما قبح منه قبح منا، فيلزم أن يجوزوا عليه إذا أعان على الكذب أن يكذب، ويلزمهم (3) المحذور.
فإن قالوا: إنما أعطاه القدرة ليطيع لا ليعصي.
قيل: إذا كان عالما بأنه يعصي كان بمنزلة من يعطي (4) الرجل سيفا ليقاتل به الكفار مع علمه بأنه يقتل به نبيا، وهذا لا يجوز في حقنا، فإن من فعل فعلا لغرض مع علمه بأن الغرض (5) لا يحصل به كان سفيها فينا، والله تعالى منزه عن ذلك. فعلم أن حكمه في أفعاله مخالف لأفعال عباده (6) ، وإن عللوا ذلك بعلة يمكن استقامتها. قيل لهم: وكذلك ما يخلقه في غيره له حكمة، كما للإعانة عليه بالقدرة حكمة.
الوجه الثالث: أن يقال: ليس كل ما كان قادرا عليه وهو ممكن نشك في وقوعه، بل نحن نعلم بالضرورة أنه لا يفعل أشياء مع أنه قادر عليها وهي ممكنة. فنعلم أنه لا يقلب البحار أدهانا، ولا الجبال يواقيت، ولا يمسخ جميع الآدميين (7) ثعالب، ولا يجعل الشمس والقمر عودي ريحان، وأمثال هذه الأمور التي لا تحصى. وعلمنا بأن الله منزه عن الكذب وأنه يمتنع عليه - أعظم من علمنا بهذا.
_________
(1) ن، م: وعدوان.
(2) ن، م: كما نهانا.
(3) ن، م: ويلزم.
(4) ن، ع: أن أعطى، م: أن يعطى.
(5) ساقط من (أ) ، (ب) .
(6) ن، م: العباد.
(7) أ، ب: العالمين
================================
[الوجه] (1) الرابع: أنا نقول: نحن نعلم أن الله موصوف (2) بصفات الكمال، وأن كل كمال ثبت (3) لموجود فهو أحق به، وكل نقص تنزه (4) عنه موجود فهو أحق بالتنزيه عنه. ونحن نعلم (5) أن الحياة والعلم والقدرة صفات كمال، فالرب تعالى أحق أن يتصف بها من العباد. وكذلك الصدق هو صفة كمال، فهو أحق بالاتصاف به من كل من اتصف به، كما قال تعالى: {الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا} [سورة النساء: 87] . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: " «إن أصدق الكلام كلام الله» " (6) .
[الوجه] (7) الخامس: أن يقال: [قد] (8) اتفق السلف وأتباعهم على أن كلام الله غير مخلوق بل قائم به. ثم تنازعوا: هل يتكلم بمشيئته وقدرته؟
_________
(1) الوجه: ساقطة من (ن) ، (م) .
(2) أ، ب: يوصف.
(3) ن: يثبت.
(4) أ، ب: ينزه.
(5) ن، م: ونعلم.
(6) في سنن النسائي 3 53 كتاب صلاة العيدين، باب كيف الخطبة. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضله فلا هادي له، إن أصدق الحديث كتاب الله. . . الحديث. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فيما رواه ابن ماجه في سننه 1 18 المقدمة، باب اجتناب البدع والجدل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنما هما ثنتان: الكلام والهدى، فأحسن الكلام كلام الله.
(7) الوجه: ساقطة من (ن) ، (م) .
(8) قد: ساقطة من (ن) ، (م)
===============================
على قولين [معروفين] . فالأول (1) : قول السلف والجمهور. والثاني: قول ابن كلاب ومن تبعه (2) .
ثم تنازع أتباع ابن كلاب هل القديم الذي لا يتعلق بمشيئته (* وقدرته معنى قائم [بذاته] (3) ، أو حروف (4) ، أو حروف وأصوات أزلية؟ على قولين. [كما قد بسط في موضعه] (5) .
وإذا كان كذلك فمن قال: إنه لا يتعلق بمشيئته امتنع أن يقوم به غير *) (6) ما اتصف به، والصدق عندهم هو العلم أو معنى يستلزمه العلم (7) . ومعلوم أن علمه من لوازم ذاته، ولوازم العلم من لوازم ذاته، فيكون الصدق من لوازم ذاته (8) ، فيمتنع اتصافه بنقيضه، فإن لازم الذات القديمة الواجبة بنفسها يمتنع (9) عدمه كما يمتنع عدمها، فإن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم. وأيضا فالصدق والكذب حينئذ مثل البصر والعمى، والسمع والصمم، والكلام والخرس، وكما وجب أن يتصف بالبصر دون العمى، وبالسمع دون الصمم، وبالكلام دون الخرس (10) ، وجب أيضا أن يتصف (11) بالصدق دون الكذب.
_________
(1) ن، م: على قولين، الأول.
(2) ن، م: تابعه.
(3) بذاته: ساقطة من (ن) .
(4) عبارة أو حروف ساقطة من (ب) فقط، وفي (ن) : قائم حروف.
(5) ما بين المعقوفتين ساقط من (ن) .
(6) ما بين النجمتين ساقط من (م) .
(7) العلم: ساقطة من (أ) ، (ب) .
(8) ساقط من (أ) ، (ب) وسقطت عبارة " ولوازم العلم من لوازم ذاته " من (ع) .
(9) أ، ب: ممتنع.
(10) ساقط من (أ) ، (ب) .
(11) وكما وجب أن يتصف ب: فوجب أن يتصف
==========================
وأما من قال: الكلام يتعلق بمشيئته وقدرته، فهؤلاء عامتهم يقولون: إنه يتكلم لحكمة ويفعل لحكمة، وأنه سبحانه منزه عن فعل القبيح. وأدلة هؤلاء على تنزيهه عن فعل (1) القبائح أعظم من أدلة المعتزلة وأقوى، فإن كل دليل يدل على تنزيهه عن فعل قبيح منفصل عنه - فإنه يدل على تنزيهه عن فعل قبيح يقوم به بطريق الأولى والأحرى، فإن كون ما يقوم به من القبائح نقصا هو أظهر من كون فعل المستقبحات المنفصلة نقصا، فإذا امتنع هذا فذاك أولى بالامتناع.
[الوجه] : السادس (2) أن يقال: الأدلة العقلية دلت على امتناع اتصافه سبحانه بالنقائص والقبائح وإنما يتصف بما يقوم به منها. والكلام قائم بالمتكلم، فيمتنع أن يتكلم بكذب ; لأن كلامه قائم به، فيمتنع أن يقوم به القبيح الذي اختاره. وهذا طريق يختص به أهل الإثبات لتنزيهه عن الكذب. والمعتزلة لا يمكنهم ذلك ; لأن كلامه منفصل عنه عندهم. فإذا قال لهم [هؤلاء] (3) المثبتة: الدليل إنما دل على تنزيهه عن الاتصاف في نفسه بالقبائح وعن فعله لها، والفعل ما قام بالفاعل، وأما المنفصل فهو مفعول له، لا فعل له، وأنتم لم تذكروا دليلا على امتناع وقوع ذلك في مفعولاته، وهو محل النزاع كانت (4) حجة هؤلاء حجة ظاهرة على القدرية.
_________
(1) فعل: زيادة في (ن) ، (م) .
(2) ن، م: فذاك أولى، السادس. . . . .
(3) هؤلاء: ساقطة من (ن) ، (م) .
(4) أ، ب: كان
===========================