
منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية
أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحنبلي الدمشقي
المجلد الثالث
الحلقة (189)
صـ 137 إلى صـ 144
وغاية الأمر أن يكون يكون: (1) الله جعل هذا مستحقا للمدح والثواب، وهذا مستحقا للذم والعقاب فإذا كان قد جعل هذا مستحقا وهذا مستحقا، لم يمتنع أن يمدح هذا ويذم هذا (2) ، لكن خلقه لهذين الزوجين كخلقه لغير ذلك، وهذا يتعلق بالحكمة الكلية في خلق (3) المخلوقات، كما قد ذكر في غير هذا الموضع.
وعلى رأي القدري لا يستحق المدح والثناء والشكر إلا من لم يجعله الله محسنا، ولا يستحق الذم إلا من لم يجعله الله مسيئا (4) ، بل من لا يقدر [الله] أن (5) يجعله محسنا ولا مسيئا فعنده (6) لا مدح ولا ذم إلا بشرط عجز الله [تعالى] (7) وقصور مشيئته وخلقه، وحدوث الحوادث بدون محدث.
[فصل من كلام الرافضي على مقالة أهل السنة في القدر المعصية إما من العبد أو من الله أو منهما]
(فصل) قال [الرافضي] (8) : " ومنها التقسيم الذي ذكره سيدنا ومولانا الإمام موسى بن جعفر الكاظم (9) ، وقد سأله أبو حنيفة وهو صبي، فقال: المعصية ممن؟ فقال الكاظم (10) : المعصية إما
_________
(1) ساقطة من (ب) فقط.
(2) ع: لم يمنع أن يذم هذا ويمدح هذا.
(3) أ، ب: في حق.
(4) أ، ب: من لم يجعله مسيئا
(5) ن، م: من لا يقدر أن.
(6) أ، ب: فعندهم.
(7) تعالى: زيادة في (أ) ، (ب) .
(8) الرافضي: في (ع) فقط. والنص التالي في (ك) ص [0 - 9] 8 (م) .
(9) ك: مولانا وسيدنا موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام.
(10) ك: الكاظم عليه السلام
=============================================
من العبد أو من الله (1) أو منهما (2) ، فإن كانت من الله فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ويؤاخذه (3) بما لم يفعله، وإن كانت المعصية منهما فهو شريكه، والقوي أولى بإنصاف عبده الضعيف، وإن كانت المعصية من العبد (4) وحده فعليه وقع الأمر (5) وإليه توجه (6) المدح والذم. وهو أحق بالثواب والعقاب، ووجب له (7) الجنة أو النار (8) فقال أبو حنيفة: " {ذرية بعضها من بعض} ".
فيقال: أولا: هذه الحكاية لم يذكر لها إسنادا فلا تعرف صحتها، فإن المنقولات (9) إنما تعرف صحتها بالأسانيد الثابتة، لا سيما مع كثرة الكذب في هذا الباب، كيف والكذب عليها ظاهر، فإن أبا حنيفة (10) من المقرين بالقدر باتفاق أهل المعرفة به وبمذهبه، وكلامه في الرد على
_________
(1) ك: أو من ربه ; ن، م: وإما من الله.
(2) ن، م: وإما منهما.
(3) ك: ويأخذه.
(4) ن، م: وقعت من العبد.
(5) ك: وقع الأمر والنهي.
(6) أ، ب، ع: وإليه يتوجه، ن: وعليه توجه.
(7) أ، ب، ع: ووجبت له، م: فوجبت له.
(8) ع، ن، م: والنار.
(9) أ، ب: فالمنقولات.
(10) ع: فإن أبا حنيفة رضي الله عنه
==============================
القدرية (1) معروف في الفقه الأكبر (2) وقد بسط (3) الحجج في الرد عليهم بما لم يبسطه على غيرهم في هذا الكتاب، وأتباعه متفقون على أن هذا هو (4) مذهبه، وهو مذهب الحنفية المتبعين له، ومن انتسب إليه في الفروع وخرج عن هذا (5) من المعتزلة ونحوهم فلا يمكنه (6) أن يحكي هذا القول عنه، بل هم عند أئمة الحنفية الذين يفتى بقولهم مذمومون معيبون من (7) أهل البدع والضلالة (8) ، فكيف يحكى عن أبي حنيفة أنه استصوب قول من يقول إن الله لم يخلق أفعال العباد؟
وأيضا فموسى بن جعفر وسائر علماء أهل البيت متفقون على إثبات القدر، والنقل بذلك عنهم (9) ظاهر معروف. وقدماء الشيعة كانوا متفقين على إثبات القدر والصفات، وإنما شاع فيهم رد (10) القدر من حين اتصلوا بالمعتزلة في دولة بني بويه (11) .
_________
(1) ع: وبكلامه في القدرية.
(2) كتب مستجي زاده في هامش (ع) أمام هذا الموضع ما يلي: كتاب الفقه الأكبر قال بعض الناس إنه ليس بتأليف لأبي حنيفة، بل ألفه رجل يقال له أبو حنيفة غيره، وهو مخالف لما قاله العظماء الأقدمون مثل الأستاذ أبي منصور عبد القاهر البغدادي وفخر الإسلام علي البزدوي، وهذا ابن تيمية صاحب الإحاطة التامة، وهو مصرح بما صرح به هؤلاء الأقدمون مع أن الأستاذ من الشافعية وفخر الإسلام من الحنفية وابن تيمية من الحنابلة. وقال الأستاذ عبد القاهر البغدادي في كتاب التبصرة: إن أول من رد وأبطل قول أهل الاعتزال من الفقهاء الأقدمين هو أبو حنيفة النعمان إمام الحنفية.
(3) أ، ب، م: وبسط.
(4) هو: ساقطة من (أ) ، (ب) ، (م) .
(5) ب (فقط) : بهذا.
(6) ب فقط: فلا يمكن.
(7) ب معدودون من، أ: معيوبون من، م: متعبون من.
(8) أ، ب: والضلال.
(9) أ، ب: عنهم بذلك، ن: فذلك عنهم، وهو تحريف.
(10) ع: إنكار.
(11) علق مستجي زاده في هذا الموضع بقوله: وهذا المحل من المهمات، ولم أر من باحث مع الإمامية مثل ابن تيمية، شكر الله سعيه، حيث أحاط بمقالاتهم ومذاهبهم ومللهم ونحلهم وقدمائهم، ومتأخريهم إحاطة تامة، وبعض المتأخرين تصدر لرد الإمامية ردا عنيفا، إلا أنه أين من هذا البحر الحبر المحيط بمذاهبهم وفرقهم من الأولين والآخرين ولولا أنه كان راجلا في مذاهب الفلاسفة لكان هو في غاية من الإحاطة والإتقان إلا أن الكمال لله تعالى لكن مع ذلك أين مثله في التتبع والإحاطة
================================
وأيضا، فهذا الكلام المحكي عن موسى بن جعفر يقوله أصاغر القدرية وصبيانهم، وهو معروف من حين حدثت القدرية قبل أن يولد موسى بن جعفر، فإن موسى بن جعفر ولد بالمدينة سنة ثمان أو تسع وعشرين ومائة قبل الدولة العباسية بنحو ثلاث سنين، وتوفي ببغداد سنة ثلاث وثمانين ومائة. قال أبو حاتم: ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين (1) والقدرية حدثوا قبل هذا التاريخ، بل حدثوا في أثناء المائة الأولى من زمن الزبير وعبد الملك (2) .
[وهذا مما يبين أن هذه الحكاية كذب، فإن أبا حنيفة إنما اجتمع بجعفر بن محمد، وأما موسى بن جعفر فلم يكن ممن سأله (3) أبو حنيفة ولا اجتمع به، وجعفر بن محمد هو من أقران أبي حنيفة، ولم يكن أبو حنيفة (ممن) (4) يأخذ عنه مع شهرته بالعلم، فكيف يتعلم من موسى بن جعفر] (5) ؟
_________
(1) سبقت ترجمة موسى الكاظم 2/460.
(2) يقول ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل 5/244: والمرجئة والقدرية حدثوا في أواخر عصر الصحابة، ويقول ابن طاهر البغدادي في الفرق بين الفرق، ص [0 - 9] 7: ثم حدث في زمان المتأخرين من الصحابة خلاف القدرية في القدر والاستطاعة من معبد الجهني وغيلان الدمشقي والجعد بن درهم. وقد خرج معبد الجهني مع ابن الأشعث وقتل بعد سنة ثمانين.
(3) ع: ممن يسأله.
(4) ممن: في (ع) فقط.
(5) ما بين المعقوفتين ساقط من (ن) ، (م) وهو في (ع) ، (أ) ، (ب) ، وفي آخر هذه العبارات في (أ) ، (ب) كلمة انتهى وهي ليست في (ع) ، وعلق مستجي زاده عند هذا الموضع في (ع) بتعليق جاء فيه فإن قلت: إن أبا نعيم صاحب الحلية ذكر فيه أن جعفر الصادق لما اجتمع بأبي حنيفة نهاه عن القياس، فقال: أول من قاس إبليس، فقال أبو حنيفة مثنيا عليه وقبولا لهذا الكلام: " ذرية بعضها من بعض "، مع أن أبا حنيفة ممن يقول بالقياس وصحة الاحتجاج به، وإن أبا نعيم ذكر هذه القصة بسندها المسرودة على جعفر، والجواب أن القياس الذي قال به أبو حنيفة هو في الأحكام والفروع التي تختلف باختلاف الملل والأديان فهو مذموم ومدار الفرق الضالة من الفرق الإسلامية من المعتزلة وغيرها على هذه المقالة الخبيثة، ومن ثم اتفق عظماء الأمة وكبراء الملة على ذم القياس في الأصول الدينية، والحكاية التي يشير إليها مستجي زاده في حلية الأولياء 3/196 - 197 وهي لا تدل على أن أبا حنيفة كان يتعلم من جعفر الصادق، ولا يمنع إن صحت الحكاية أن يكون قد استفاد منه بعض العلم. وانظر كتاب " الإمام الصادق " لمحمد أبي زهرة، ص \ 252 - 255 - 291 - 293 ط. دار الفكر العربي بدون تاريخ
==================================
وما ذكره (1) في هذه الحكاية من قول القائل: هو أعدل من أن يظلم عبده ويؤاخذه بما لم يفعله، هو أصل كلام القدرية الذي يعرفه عامتهم وخاصتهم، وهو أساس مذهبهم وشعاره (2) ; ولهذا سموا أنفسهم العدلية، فإضافة هذا إلى موسى بن جعفر لو كان حقا ليس فيه فضيلة [له] ولا مدح (3) ، إذا كان صبيان القدرية يعرفونه، فكيف إذا كان كذبا مختلقا عليه؟
ويقال: ثانيا: الجواب عن هذا التقسيم أن يقال: هذا التقسيم ليس بمنحصر (4) . وذلك أن قول القائل: " المعصية ممن؟ " لفظ
_________
(1) ن، م: وما ذكر.
(2) أ، ب: وشعارهم.
(3) ن، م: ليس فيه فضيلة ولا مدح ; ع: ليس فيه مدح له ولا فضيلة.
(4) ن، م: بمختصر، وهو تصحيف
============================
مجمل، فإن المعصية والطاعة عمل وعرض قائم بغيره (1) ، فلا بد له من محل يقوم به، وهي قائمة بالعبد لا محالة، وليست قائمة بالله [تبارك وتعالى] (2) بلا ريب.
ومعلوم أن كل مخلوق يقال: هو من الله، بمعنى أنه خلقه بائنا عنه لا بمعنى أنه قام به واتصف به، كما في قوله [تعالى] (3) : {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه} [سورة الجاثية: 13] (4) ، وقوله تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله} [سورة النحل: 53] .
والله تعالى وإن كان خالقا لكل شيء فإنه خلق الخير والشر لما له في ذلك من الحكمة التي باعتبارها كان فعله حسنا متقنا، كما قال: {الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين} [سورة السجدة: 7] وقال: {صنع الله الذي أتقن كل شيء} [سورة النمل: 88] فلهذا لا يضاف إليه الشر مفردا، بل إما أن يدخل في العموم، وإما أن يضاف إلى السبب، وإما أن يحذف فاعله.
فالأول: كقول [الله تعالى] (5) {الله خالق كل شيء} [سورة الزمر: 62] والثاني: كقوله: {قل أعوذ برب الفلق - من شر ما خلق} [سورة الفلق: 1، 2] والثالث كقوله فيما حكاه عن الجن: {وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا} [سورة الجن: 10] و [قد]
_________
(1) أ، ب: بغير، وفي (ع) والطاعة عرض. . . إلخ.
(2) تبارك وتعالى: زيادة في (أ) ، (ب) .
(3) تعالى: زيادة في (أ) ، (ب) .
(4) آية سورة الجاثية ليست في (ع) .
(5) ن، م، ع: كقوله
===============================
قال ن، م: قال. في أم القرآن: {اهدنا الصراط المستقيم - صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [سورة الفاتحة: 6، 7] فذكر أنه فاعل النعمة، وحذف فاعل الغضب، وأضاف الضلال إليهم. وقال الخليل [عليه السلام] (1) {وإذا مرضت فهو يشفين} [سورة الشعراء: 80] ، ولهذا كان لله الأسماء الحسنى، فسمى (2) نفسه بالأسماء الحسنى المقتضية للخير.
وإنما يذكر الشر في المفعولات، كقوله: {اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم} [سورة المائدة: 98] (3) ، وقوله في آخر سورة (4) الأنعام: {إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم} [سورة الأنعام: 165] (* وقوله في الأعراف: (5) {إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم} [سورة الأعراف: 167] . *) (6) وقوله: {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم - وأن عذابي هو العذاب الأليم} [سورة الحجر: 49، 50] وقوله: {حم - تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم - غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو} [سورة غافر: 13] .
وهذا لأن ما يخلقه من الأمور التي فيها شر (7) بالنسبة إلى بعض الناس
_________
(1) عليه السلام: زيادة في (ع) .
(2) ع: فيسمى.
(3) ع: كقوله: اعلموا أن الله شديد العقاب، وقوله: إن الله غفور رحيم.
(4) سورة: ساقطة من (أ) ، (ب) ، (ع) .
(5) ن، م: وفي الأعراف.
(6) ما بين النجمتين ساقط من (أ) ، (ب) .
(7) ن، م: الشر
================================
فله فيها (1) حكمة، هو بخلقه لها (2) حميد مجيد، له الملك وله الحمد، فليست بالإضافة إليه شرا ولا مذمومة، فلا يضاف إليه ما يشعر بنقيض ذلك، كما أنه سبحانه خالق (3) الأمراض والأوجاع والروائح الكريهة والصور المستقبحة والأجسام الخبيثة كالحيات والعذرات (4) لما له في ذلك من الحكمة البالغة.
فإذا قيل: هذه العذرة وهذه الروائح الخبيثة من الله، أوهم ذلك أنها خرجت منه، والله منزه عن ذلك. وكذلك إذا قيل: القبائح من الله [أو المعاصي من الله] (5) ، قد يوهم ذلك أنها خارجة من ذاته، كما تخرج من ذات العبد، وكما يخرج الكلام من المتكلم، والله منزه عن ذلك، أو يوهم [ذلك] أنها (6) منه قبيحة وسيئة، والله منزه عن ذلك.
بل جميع خلقه خلقه له حسن على قولي (7) التفويض والتعليل. وكذلك إذا قيل للطعوم والألوان والروائح ونحوها من الأعراض: هذا الطعم الحلو والمر من الله أو من هذا النبات، وهذه الروائح الطيبة أو الخبيثة من الله أو من هذه العين (8) ، وأمثال ذلك. وقد يوهم إذا قيل:
_________
(1) أ، ب، م: له فيها.
(2) أ، ب: هو يخلقها لها، ن: هو يخلقه لها ; م: فهو يخلقه لها.
(3) ن، م: خلق.
(4) ن، م: والعذرة.
(5) ما بين المعقوفتين ساقط من (أ) ، (ب) .
(6) ن: ويوهم أنها، م: وتوهم أنها.
(7) ع، م: بل جميع خلقه له حسن على قول. . . إلخ، وفي (ن) : بل جميع خلقه خلقه له حسن على قول. . . إلخ.
(8) ن: أو من هذا العين ; م: أو الغيرة
==================================