
منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية
أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحنبلي الدمشقي
المجلد الثالث
الحلقة (185)
صـ 107 إلى صـ 114
قدرة عليه تقارن مقدورها كان دعوى (1) امتناعه بهذا التفسير مورد النزاع فيحتاج نفيه إلى دليل.
الوجه الرابع (2) : أن من أهل الإثبات للقدر (3) من يجوز تكليف ما لا يطاق للعجز عنه، بل من غاليتهم من يجوز تكليف الممتنع لذاته، وبعضهم يدعي أن ذلك واقع في الشريعة، كتكليف أبي لهب الإيمان مع تكليف تصديق خبر الله أنه لا يؤمن، وهذا القول وإن كان مرجوحا لكن (4) هذا القدري لم يذكر دليلا على إبطال ذلك ولا على جواب معارضته، بل اكتفى بمجرد قوله وهو قبيح عقلا.
وهؤلاء يقولون: لا مجال للعقل في تحسين ولا تقبيح، فإن لم يكمل البحث في هذه اللوازم (5) لم يكن ما ذكره حجة عليهم، فضلا عن أن يكون حجة على غيرهم من أهل الإثبات للقدر، أو على المثبتين لخلافة أبي بكر وعمر [رضي الله عنهما] . رضي الله عنهما: (6)
[فصل كلام الرافضي على الأفعال الاختيارية عند أهل السنة والرد عليه]
(فصل) قال [الرافضي] (7) : " ومنها أنه يلزم أن تكون أفعالنا (8)
_________
(1) أ، ب: معنى.
(2) ن، م: الخامس، وهو خطأ.
(3) للقدر، ساقطة من (ع) .
(4) ع: ليس، وهو تصحيف.
(5) م فقط: فيما ذكر في هذه اللوازم.
(6) زيادة في (أ) ، (ب) .
(7) الرافضي: زيادة في (ع) ، والكلام التالي في (ك) 87 (م) 88 (م) .
(8) ن، م: أفعاله، وهو تحريف
=========================
الاختيارية [الواقعة] (1) بحسب قصودنا (2) ودواعينا، مثل حركتنا يمنة ويسرة، وحركة البطش باليد والرجل (3) في الصنائع المطلوبة لنا، كالأفعال الاضطرارية مثل حركة النبض وحركة الواقع من شاهق (4) بإيقاع غيره، لكن الضرورة قاضية بالفرق بينهما، فإن كل عاقل يحكم بأنا [قادرون على الحركة الاختيارية] (5) وغير قادرين على الحركة إلى السماء [من الطيران وغير ذلك] (6) .
قال أبو الهذيل العلاف: حمار بشر أعقل من بشر ; لأن حمار بشر لو أتيت به إلى جدول صغير وضربته للعبور (7) فإنه يطفره (8) ولو أتيت به إلى جدول كبير لم يطفره (9) ; لأنه يفرق (10) بين ما يقدر على طفره (11) وما لا يقدر عليه (12) وبشر لا يفرق بين المقدور عليه وغير المقدور [عليه] (13)
_________
(1) الواقعة: ساقطة من (ن) ، (م) .
(2) ك: تصورنا.
(3) ن، م: بالرجل واليد.
(4) أ، ب: النبض والوقوع من شاهق.
(5) ما بين المعقوفتين ساقط من (ن) ، (م) ، (ع) .
(6) ما بين المعقوفتين ساقط من (ن) ، (م) ، (ع) .
(7) ب (فقط) : لعبوره.
(8) ع، ن: يظفره، وهو تصحيف.
(9) ع، ن: يظفره، وهو تصحيف.
(10) ك: لأنه فرق.
(11) ع، ن: ظفره، وهو تصحيف.
(12) م فقط: وما لا يقدر على ظفره.
(13) عليه: زيادة في (ع) ، وفي (ك) : وغير المقدور، وعلق مستجى زاده في هامش (ع) على هذا الكلام بقوله: يفهم من هذا الكلام أن بشر المريسي لم يوافق المعتزلة في الأفعال الاختيارية للعباد بأنها بخلقهم وإيجادهم، بل بخلق الله تعالى وحده مثل قول الأشعري، إلا أنه يقول في القرآن مثل قول المعتزلة بأنه مخلوق، والشائع منه أنه ملتزم لأصول أهل السنة جميعا سوى هذا القول، ومثله ضرار الذي هو رئيس الضرارية أنه على أصول أهل الحق إلا أنه ينكر عذاب القبر مثل أكثر أهل الاعتزال، فنسب إلى الاعتزال بسبب هذا القول مثل بشر نسب إلى الاعتزال بسبب القول بخلق القرآن، مع أن رئيس أهل الاعتزال وهو أبو الهذيل يطعنه ويذمه لمخالفته مذهبه. "
================================
والجواب: أن هذا إنما يلزم من يقول إن العبد لا قدرة له على أفعاله الاختيارية، وليس هذا قول إمام معروف ولا طائفة معروفة من طوائف أهل السنة (1) ، بل ولا من طوائف المثبتين للقدر، إلا ما يحكى (2) عن الجهم بن صفوان وغلاة المثبتة أنهم سلبوا العبد قدرته، وقالوا: إن حركته كحركة الأشجار بالرياح، إن صح النقل عنهم (3) .
وأشد الطوائف قربا من هؤلاء هو الأشعري ومن وافقه من الفقهاء من (4) أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وهو مع هذا يثبت للعبد قدرة محدثة واختيارا، ويقول إن الفعل كسب للعبد، لكنه يقول: لا تأثير لقدرة العبد في إيجاد المقدور.
فلهذا قال من قال: إن هذا الكسب الذي أثبته الأشعري غير معقول. وجمهور أهل الإثبات على أن العبد فاعل لفعله حقيقة (5) ، وله قدرة واختيار، وقدرته مؤثرة في مقدورها، كما تؤثر القوى والطبائع (6) وغير ذلك من الشروط والأسباب.
_________
(1) أ، ب: من الطوائف من أهل السنة.
(2) ن: ما حكي.
(3) عنهم: ساقطة من (أ) ، (ب) .
(4) الفقهاء من: زيادة في (ن) .
(5) م فقط: جميعه.
(6) ب (فقط) : القوى الطبائع
==============================
فما ذكره لا يلزم جمهور أهل السنة، وقد قلنا غير مرة: نحن لا ننكر أن يكون في بعض أهل السنة من يقول الخطأ، لكن لا يتفقون على خطأ، كما تتفق الإمامية على خطأ، بل كل مسألة خالفت فيها الإمامية أهل (1) السنة فالصواب فيها مع أهل السنة. وأما ما تنازع فيه أهل السنة وتنازعت فيه الإمامية، فذاك لا اختصاص له بأهل السنة ولا بالإمامية.
وبالجملة فجمهور أهل السنة من السلف والخلف يقولون: إن العبد له قدرة وإرادة وفعل، وهو فاعل حقيقة، والله خالق ذلك كله كما هو خالق كل شيء، كما دل على ذلك الكتاب والسنة.
قال تعالى عن إبراهيم: {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} [سورة البقرة: 128] ، وقال [تعالى عن إبراهيم] (2) : {رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي} [سورة إبراهيم: 40] ، وقال [تعالى] (3) : {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا} [سورة السجدة: 24] (4) وقال [تعالى] (5) : {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين} [سورة الأنبياء: 73] وقال: {إن الإنسان خلق هلوعا - إذا مسه الشر جزوعا - وإذا مسه الخير منوعا} [سورة المعارج: 19، 21] فأخبر أن الله يجعل المسلم مسلما، والمقيم للصلاة مقيم الصلاة، والإمام الهادي إماما هاديا.
_________
(1) ع، ن: لأهل.
(2) تعالى عن إبراهيم: زيادة في (أ) ، (ب) .
(3) تعالى: زيادة في (أ) ، (ب) .
(4) سقطت آية 24 من سورة السجدة من (ن) ، (م) .
(5) تعالى زيادة في (أ) ، (ب)
============================
وقال عن المسيح [صلى الله عليه وسلم] (1) : {وجعلني مباركا أين ما كنت} إلى قوله: {وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا} [سورة مريم: 31، 32] ، فبين أن الله هو الذي جعله برا بوالدته ولم يجعله جبارا شقيا. وهذا صريح قول أهل السنة في أن الله [عز وجل] (2) خالق أفعال العباد.
وقال تعالى عن فرعون وقومه: {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار} [سورة القصص: 41] . وقد قال تعالى (3) : {لمن شاء منكم أن يستقيم - وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} [سورة التكوير: 28، 29] ، وقال تعالى: {إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا - وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما} [سورة الإنسان: 29، 30] ، وقوله (4) : {كلا إنه تذكرة - فمن شاء ذكره} [سورة المدثر: 54، 55] فأثبت مشيئة العبد، وأخبر أنها لا تكون إلا بمشيئة الرب [تعالى] (5) . (6) . وهذا صريح قول أهل السنة في إثبات مشيئة العبد، وأنها لا تكون إلا بمشيئة الرب (7) .
وقد أخبر أن العباد يفعلون ويصنعون ويعملون ويؤمنون ويكفرون
_________
(1) صلى الله عليه وسلم: زيادة في (أ) ، (ب) ، وفي (ن) : عليه السلام.
(2) عز وجل: زيادة في (ع) .
(3) أ، ب: وقال تعالى.
(4) أ، ب: وقال.
(5) تعالى: زيادة في (أ) ، (ب) .
(6) ساقط من (أ) ، (ب) .
(7) ساقط من (أ) ، (ب)
=============================
ويتقون ويفسقون ويصدقون ويكذبون ونحو ذلك في مواضع كثيرة (1) ، وأخبر أن لهم استطاعة وقوة في غير موضع.
وأئمة أهل السنة وجمهورهم يقولون إن الله خالق (2) هذا كله. والخلق عندهم ليس هو المخلوق، فيفرقون بين كون أفعال (3) العباد مخلوقة مفعولة للرب، وبين أن يكون (4) نفس فعله الذي هو مصدر فعل يفعل فعلا، فإنها فعل للعبد بمعنى المصدر، وليست فعلا للرب [تعالى] (5) بهذا الاعتبار، بل هي مفعولة له، والرب تعالى لا يتصف بمفعولاته.
ولكن هذه الشناعات لزمت من لا يفرق بين فعل الرب ومفعوله، ويقول مع ذلك إن أفعال العباد فعل لله (6) ، كما يقول ذلك الجهم [بن صفوان] (7) وموافقوه، والأشعري وأتباعه ومن وافقهم من أتباع الأئمة (8) ولهذا ضاق بهؤلاء (9) البحث في هذا الموضع، كما قد بسط في موضعه.
وكذلك أيضا لزمت من لا يثبت في المخلوقات (10) أسبابا وقوى وطبائع، ويقول (11) : إن الله يفعل عندها لا بها، فلزمه (12) أن لا يكون فرق بين القادر
_________
(1) كثيرة: ساقطة من (أ) ، (ب) .
(2) أ، ب: خلق.
(3) أفعال: ساقطة من (ع) .
(4) ب (فقط) : تكون.
(5) تعالى: زيادة في (أ) ، (ب) .
(6) ب (فقط) : فعل الله.
(7) بن صفوان: زيادة في (أ) ، (ب) .
(8) ع: ومن وافقه من الأئمة، ن، م: ومن وافقه من أتباع الأئمة.
(9) أ، ب: لهؤلاء.
(10) ع (فقط) : للمخلوقات.
(11) أ، ب: ويقولون.
(12) أ، ب: فلزم
==============================
والعاجز، وإن أثبت قدرة وقال إنها مقترنة بالكسب، قيل له (1) : لم تثبت فرقا معقولا بين ما تثبته من الكسب وتنفيه من الفعل (2) ، ولا بين القادر والعاجز، إذا كان مجرد الاقتران لا اختصاص له بالقدرة، فإن [فعل] (3) العبد يقارن حياته وعلمه (4) وإرادته وغير ذلك من صفاته، فإذا لم يكن للقدرة تأثير إلا مجرد الاقتران فلا فرق بين القدرة وغيرها.
وكذلك [قول] (5) من قال: إن (6) القدرة مؤثرة في صفة الفعل لا في أصله، كما يقول القاضي أبو بكر ومن وافقه، فإنه إن أثبت تأثيرا بدون خلق الرب، لزم (7) أن يكون بعض الحوادث لم يخلقه الله [تعالى] (8) ، وإن جعل ذلك معلقا بخلق الرب، فلا فرق بين الأصل والصفة.
وأما أئمة أهل (9) السنة وجمهورهم فيقولون بما دل عليه الشرع والعقل.
قال الله تعالى: {سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات} [سورة الأعراف: 57] (10) ، وقال: {وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها} [سورة البقرة: 164] ، وقال:
_________
(1) له: ساقطة من (ع) .
(2) ع، ن، م: بين ما أثبته من الكسب ونفيته من الفعل.
(3) فعل: ساقطة من (ن) ، (م) .
(4) ع: وعمله.
(5) قول: ساقطة من (ن) ، (م) ، (ع) .
(6) إن: ساقطة من (أ) ، (ب) .
(7) ب (فقط) : فإنه أثبت تأثيرا بدون خلق الرب فلزم. . . إلخ.
(8) ع (فقط) : لزم أن لا يكون بعض الحوادث لم يخلقه الله تعالى، وهو تحريف، وسقطت تعالى من (ن) .
(9) أهل: ساقطة من (أ) ، (ب) .
(10) في جميع النسخ جاءت الآية محرفة هكذا: فسقناه إلى بلد ميت فأنزلنا. . . إلخ
=================================
{يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام} [سورة المائدة: 16] ، وقال: {يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا} [سورة البقرة: 26] ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة يخبر الله تعالى أنه يحدث (1) الحوادث بالأسباب.
وكذلك [دل] الكتاب والسنة على إثبات القوى والطبائع (2) التي جعلها الله في الحيوان وغيره، كما قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [سورة التغابن: 16] ، وقال: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة} [سورة فصلت: 15] ، وقال: {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء} [سورة الروم: 54] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم «لأشج عبد القيس: " إن فيك لخصلتين (3) يحبهما الله: الحلم والأناة " فقال: أخلقين تخلقت بهما (4) أم خلقين جبلت عليهما؟ فقال: " بل خلقين جبلت عليهما " فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله» (5) . ومثل هذا كثير ليس هذا موضع بسطه.
وهؤلاء يثبتون للعبد قدرة (6) ويقولون: إن تأثيرها في مقدورها كتأثير
_________
(1) ن، م: أحدث.
(2) ن، م: وكذلك دل (سقطت دل من (ن)) الكتاب والسنة على مثل إثبات القوى والطبائع.
(3) أ، ب: خصلتين.
(4) ع: فيهما، م: بهذا.
(5) سبق الكلام على هذا الحديث في هذا الجزء ص 36 وجاء فيه هناك: إن فيك لخلقين. . . إلخ.
(6) م فقط: القدرة
=============================