عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 24-08-2024, 03:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,968
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثامن

سُورَةُ الْمَعَارِجِ
الحلقة (527)
صــ 370 إلى صــ 384






قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا قوله تعالى: فلم يزدهم دعائي إلا فرارا أي: تباعدا من الإيمان "وإني كلما دعوتهم" إلى الإيمان والطاعة "جعلوا أصابعهم في آذانهم" لئلا يسمعوا صوتي "واستغشوا ثيابهم" أي: غطوا بها وجوههم لئلا يروني "وأصروا" على كفرهم "واستكبروا" عن الإيمان بك واتباعي "ثم إني دعوتهم جهارا" أي: معلنا لهم بالدعاء . قال ابن عباس: بأعلى صوتي "ثم إني أعلنت لهم" أي: كررت الدعاء معلنا "وأسررت لهم إسرارا: قال ابن عباس: يريد أكلم الرجل بعد الرجل في السر، وأدعوه إلى توحيدك وعبادتك "فقلت استغفروا ربكم" قال المفسرون: منع الله عنهم القطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة، فقال لهم نوح: "استغفروا ربكم" من الشرك، أي: استدعوا مغفرته بالتوحيد يرسل السماء عليكم مدرارا قد شرحناه في أول [الأنعام: 6] ومعنى الكلام أنه أخبرهم أن الإيمان يجمع لهم خير الدنيا والآخرة .

قوله تعالى: ما لكم لا ترجون لله وقارا؟ فيه أربعة أقوال .

أحدها: لا ترون لله عظمة، قاله الفراء، وابن قتيبة .

والثاني: لا تخافون عظمة الله، قاله الفراء، وابن قتيبة .

والثالث: لا ترون لله طاعة، قاله ابن زيد .

والرابع: لا ترجون عاقبة الإيمان والتوحيد، قاله الزجاج .

"وقد خلقكم أطوارا" أي: وقد جعل لكم في أنفسكم آية تدل على توحيده من خلقه إياكم من نطفة، ثم من علقة شيئا بعد شيء إلى آخر الخلق . قال ابن الأنباري: الطور: الحال، وجمعه: أطوار . وقال ابن فارس: الطور: التارة، طورا بعد طور، أي: تارة بعد تارة . وقيل: أراد بالأطوار: اختلاف المناظر والأخلاق، من طويل، وقصير، وغير ذلك، ثم قررهم، فقال تعالى: ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة "طباق" بتنوين القاف، وكسرها من غير ألف . وقد بينا هذا في سورة [الملك: 3] .

قوله تعالى: وجعل القمر فيهن نورا فيه قولان .

أحدهما: أن وجه القمر قبل السموات، وظهره قبل الأرض يضيء لأهل السموات، كما يضيء لأهل الأرض، وكذلك الشمس، هذا قول عبد الله بن عمرو .

والثاني: أن القمر في السماء الدنيا . وإنما قال: "فيهن" لأنهن كالشيء الواحد، ذكره الأخفش والزجاج، وغيرهما . وهذا كما تقول: أتيت بني تميم، وإنما أتيت بعضهم، وركبت السفن، "وجعل الشمس سراجا" يستضيء بها العالم "والله أنبتكم من الأرض" يعني: أن مبتدأ خلقكم من الأرض، هو آدم "نباتا" قال الخليل: معناه: فنبتم نباتا . وقال الزجاج: "نباتا" محمول في المصدر على المعنى، لأن معنى أنبتكم: جعلكم تنبتون نباتا . قال ابن قتيبة: هذا مما جاء فيه المصدر، على غير المصدر لأنه جاء في نبت . ومثله: وتبتل إليه تبتيلا [المزمل: 8] فجاء على "بتل"

قال الشاعر:


وخير الأمر ما استقبلت من ه وليس بأن تتبعه اتباعا


فجاء على اتبعت .

وقال الآخر:


وإن شئتم تعاودنا عوادا


فجاء على "عاودنا" وإنما تجيء المصادر مخالفة الأفعال، لأن الأفعال وإن اختلفت أبنيتها، واحدة في المعنى .

قوله تعالى سبلا فجاجا قال الفراء: هي الطرق الواسعة .

قوله تعالى: واتبعوا من لم يزده ماله وولده قرأ أهل المدينة، وابن عامر، وعاصم، "وولده" بفتح اللام والواو . وقرأ الباقون "ولده" بضم الواو، وسكون اللام . قال الزجاج: وهما بمعنى واحد، مثل العرب، والعرب، والعجم، والعجم . وقرأ الحسن، وأبو العالية، وابن يعمر، والجحدري: "وولده" بكسر الواو، وإسكان اللام . قال المفسرون: المعنى: أن الأتباع، والفقراء اتبعوا رأي الرؤساء والكبراء .

قوله تعالى: ومكروا مكرا كبارا قرأ أبو رجاء، وأبو عمران: "كبارا" برفع الكاف وتخفيف الباء . وقرأ ابن يعمر، وأبو الجوزاء، وابن محيصن "كبارا" بكسر الكاف مع تخفيف الباء . والمعنى "كبيرا" يقال: كبير، وكبار . وقد شرحنا هذا في أول [ص] ومعنى "المكر": السعي في الفساد . وذلك أن الرؤساء منعوا أتباعهم من الإيمان بنوح "وقالوا لا تذرن آلهتكم" أي: لا تدعن عبادتها "ولا تذرن ودا" قرأ أبو جعفر ، ونافع بضم الواو . والباقون بفتحها . وهذا الاسم وما بعده أسماء آلهتهم . وجاء في التفسير أن هذه أسماء قوم صالحين، كانوا بين آدم ونوح، ونشأ قوم بعدهم يأخذون بأخذهم في العبادة، فقال لهم إبليس: لو صورتم صورهم كان أنشط لكم، وأشوق للعبادة، ففعلوا . ثم نشأ قوم بعدهم، فقال لهم إبليس: إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم، فعبدوهم، وكان ابتداء عبادة الأوثان من ذلك الوقت . وسميت تلك الصور بهذه الأسماء، لأنهم صوروها على صور أولئك القوم المسمين بهذه الأسماء . وقيل: إنما هي أسماء لأولاد آدم، مات منهم واحد، فجاء الشيطان فقال: هل لكم أن أصور لكم صورته، فتذكرونه بها؟ فصورها . ثم مات آخر، فصور لهم صورته، إلى أن صور صورا خمسة . ثم طال الزمان، وتركوا عبادة الله، فقال لهم الشيطان: ما لكم لا تعبدون شيئا؟ فقالوا: لمن نعبد؟ قال: هذه آلهتكم، وآلهة آبائكم، ألا ترونها مصورة في مصلاكم؟! فعبدوها .

وقال الزجاج: هذه الأصنام كانت لقوم نوح، ثم صارت إلى العرب، فكان "ود" لكلب، "وسواع" لهمدان، و"يغوث" لبني غطيف، وهم حي من مراد . وقيل: لما جاء الطوفان غطى على هذه الأصنام وطمها التراب، فلما ظهرت بعد الطوفان صارت إلى هؤلاء المذكورين، قال الواقدي: كان "ود" على صورة رجل، و"سواع" على صورة امرأة، و"يغوث" على صورة أسد، و"يعوق" على صورة فرس، و"نسر" على صورة النسر من الطير .

قوله تعالى: وقد أضلوا كثيرا فيه قولان .

أحدهما: وقد أضلت الأصنام كثيرا من الناس، أي: ضلوا بسببها .

والثاني: وقد أضل الكبراء كثيرا من الناس "ولا تزد الظالمين" يعني: الكافرين "إلا ضلالا" وهذا دعاء من نوح عليهم، لما أعلمه الله أنهم لا يؤمنون .

مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا

قوله تعالى: مما خطيئاتهم "ما" صلة . والمعنى: من خطيآتهم: أي: من أجلها، وسببها . وقرأ أبو عمرو "مما خطاياهم" وقرأ أبو الجوزاء، والجحدري "خطيئتهم" من غير ألف "أغرقوا فأدخلوا نارا" قال ابن السائب: المعنى: سيدخلون في الآخرة نارا، فجاء لفظ الماضي بمعنى الاستقبال، لأن الوعد حق، هذا قول الأكثرين . وقال الضحاك: فأدخلوا نارا في الدنيا، وذلك أنهم كانوا يغرقون من جانب، ويحترقون في الماء من جانب .

[ ص: 375 ] قوله تعالى: فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا أي: لم يجدوا أحدا يمنعهم من عذاب الله .

قوله تعالى: ديارا قال ابن قتيبة: أي: أحدا . يقال: ما بالمنازل ديار أي: ما بها أحد، وهو من الدار، أي: ليس بها نازل دارا . وقال الزجاج: أصلها: "ديوار" فيعال، فقلبت الواو ياء، وأدغمت إحداهما في الأخرى . وإنما دعا عليهم نوح، لأن الله تعالى أوحى إليه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن [هود: 36] .

قوله تعالى: يضلوا عبادك وذلك أن الرجل منهم كان ينطلق بابنه إلى نوح فيحذره تصديقه .

وقوله تعالى: ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا قال المفسرون: إن الله تعالى أخبر نوحا أنهم لا يلدون مؤمنا، فلذلك علم الفاجر الخارج عن الطاعة .

قوله تعالى: رب اغفر لي ولوالدي قال الحسن: وذلك أنهما كانا مؤمنين . وقرأ أبو بكر الصديق، وسعيد بن المسيب، وابن جبير، والجحدري، والجوني "ولوالدي" ساكنة الياء على التوحيد . وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، وابن يعمر، والزهري، والنخعي "ولولدي" من غير ألف على التثنية "ولمن دخل بيتي" وقرأ حفص عن عاصم "بيتي" بفتح الياء . وفيه ثلاثة أقوال .

أحدها: منزله، قاله ابن عباس . والثاني: مسجده، قاله الضحاك . والثالث: سفينته، حكاه الثعلبي .

قوله تعالى: وللمؤمنين والمؤمنات هذا عام في كل من آمن "ولا تزد الظالمين" يعني: الكافرين "إلا تبارا" أي: هلاكا . ومنه قوله تعالى: تبرنا تتبيرا [الفرقان: 39] .

سُورَةُ الْجِنِّ

كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعِهِمْ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا [ ص: 377 ] قوله تعالى: قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن قد ذكرنا سبب نزول هذه الآية في [الأحقاف: 29] وبينا هنالك سبب استماعهم . ومعنى "النفر" وعددهم، فأما قوله تعالى: قرآنا عجبا فمعناه: بليغا يعجب منه لبلاغته "يهدي إلى الرشد" أي: يدعو إلى الصواب من التوحيد والإيمان "ولن نشرك بربنا" أي: لن نعدل بربنا أحدا من خلقه . وقيل: عنوا إبليس، أي: لا نطيعه في الشرك بالله .

قوله تعالى: وأنه تعالى جد ربنا اختلف القراء في اثنتي عشرة همزة في هذه السورة، وهي: "وأنه تعالى"، "وأنه كان يقول"، "وأنا ظننا"، "وأنه كان رجال"، "وأنهم ظنوا"، " وأنا لمسنا"، "وأنا كنا"، " وأنا لا ندري"، "وأنا منا"، " وأنا ظننا أن لن نعجز الله"، "وأنا لما سمعنا"، "وأنا منا"، ففتح الهمزة في هذه المواضع ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم، ووافقهم أبو جعفر في ثلاثة مواضع "وأنه تعالى"، "وأنه كان يقول"، "وأنه كان رجال"، وكسر الباقيات .

وقرأ الباقون بكسرهن . وقال الزجاج: والذي يختاره النحويون في هذه السورة أن ما كان من الوحي قيل فيه: "أن" بالفتح، وما كان من قول الجن قيل: "إن" بالكسر . معطوف على قوله تعالى: إنا سمعنا قرآنا عجبا وعلى هذا يكون المعنى: وقالوا: إنه تعالى جد ربنا، وقالوا: إنه كان يقول سفيهنا . فأما من فتح، فذكر بعض النحويين: يعني الفراء، أنه معطوف على الهاء في قوله تعالى: فآمنا به وبأنه تعالى جد ربنا . وكذلك ما بعد هذا . وهذا رديء في القياس، لا يعطف على الهاء المتمكنة المخفوضة إلا بإظهار الخافض . ولكن وجهه [ ص: 378 ] أن يكون محمولا على معنى آمنا به، فيكون المعنى: وصدقنا أنه تعالى جد ربنا . وللمفسرين في معنى "تعالى جد ربنا" سبعة أقوال .

أحدها: قدرة ربنا، قاله ابن عباس . والثاني: غنى ربنا، قاله الحسن . والثالث: جلال ربنا، قاله مجاهد، وعكرمة . والرابع: عظمة ربنا، قاله قتادة . والخامس: أمر ربنا، قاله السدي . والسادس: ارتفاع ذكره وعظمته، قاله مقاتل . والسابع: ملك ربنا وثناؤه وسلطانه، قاله أبو عبيدة "وأنه كان يقول سفيهنا" فيه قولان .

أحدهما: أنه إبليس، قاله مجاهد، وقتادة .

والثاني: أنه كفارهم، قاله مقاتل . و"الشطط" الجور، والكذب، وهو: وصفه بالشريك، والولد . ثم قالت الجن: " وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا" وقرأ يعقوب: "أن لن تقول" بفتح القاف، وتشديد الواو . والمعنى: ظنناهم صادقين في قولهم: لله صاحبة وولد، وما ظنناهم يكذبون حتى سمعنا القرآن، يقول الله عز وجل : وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن وذلك أن الرجل في الجاهلية كان إذا سافر فأمسى في قفر من الأرض قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيبيت في جوار منهم حتى يصبح . ومنه حديث كردم بن أبي السائب الأنصاري، قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة، وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء ذئب، فأخذ حملا من الغنم، فوثب الراعي فنادى: يا عامر الوادي جارك، فنادى مناد لا نراه: [ ص: 379 ] يا سرحان أرسله . فإذا الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم "وأنه كان رجال من الإنس . . . " الآية .

وفي قوله تعالى: فزادوهم رهقا قولان .

أحدهما: أن الإنس زادوا الجن رهقا لتعوذهم بهم، قاله مقاتل . والمعنى: أنهم لما استعاذوا بسادتهم قالت السادة: قد سدنا الجن والإنس .

والثاني: أن الجن زادوا الإنس رهقا، ذكره الزجاج . قال أبو عبيدة: زادوهم سفها وطغيانا . وقال ابن قتيبة: زادوهم ضلالا . وأصل الرهق: العيب . ومنه يقال: فلان يرهق في دينه .

قوله تعالى وأنهم ظنوا يقول الله عز وجل: ظن الجن "كما ظننتم" [ ص: 380 ] أيها الإنس المشركون أنه لا بعث . وقالت الجن: " وأنا لمسنا السماء" أي: أتيناها "فوجدناها ملئت حرسا شديدا" وهم الملائكة الذين يحرسونها من استراق السمع "وشهبا" جمع شهاب، وهو النجم المضيء : وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع" أي: كنا نستمع، فالآن حين حاولنا الاستماع بعد بعث محمد صلى الله عليه وسلم رمينا بالشهب . ومعنى "رصدا" قد أرصد له المرمى به " وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض" بإرسال محمد إليهم، فيكذبونه، فيهلكون "أم أراد بهم ربهم رشدا" وهو أن يؤمنوا فيهتدوا، قاله مقاتل . والثاني: أنه قول كفرة الجن، والمعنى: لا ندري أشر أريد بمن في الأرض بحدوث الرجم بالكواكب، أم صلاح؟ قاله الفراء . ثم أخبروا عن حالهم، فقالوا: "وأنا منا الصالحون" وهم المؤمنون المخلصون "ومنا دون ذلك" فيه قولان .

أحدهما: أنهم المشركون .

والثاني: أنهم أهل الشر دون الشرك "كنا طرائق قددا" قال الفراء: أي: فرقا مختلفة أهواؤنا . وقال أبو عبيدة: واحد الطرائق: طريقة، وواحد القدد: قدة، أي: ضروبا وأجناسا ومللا . قال الحسن، والسدي: الجن مثلكم، فمنهم قدرية، ومرجئة، ورافضة .

قوله تعالى: وأنا ظننا أي: أيقنا "أن لن نعجز الله في الأرض" أي: لن نفوته إذا أراد بنا أمرا "ولن نعجزه هربا" أي: أنه يدركنا حيث كنا "وأنا لما سمعنا الهدى" وهو القرآن الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم "آمنا به" أي: صدقنا أنه من عند الله عز وجل "فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا" أي: نقصا من الثواب "ولا رهقا" أي: ولا ظلما ومكروها يغشاه "وأنا منا المسلمون" قال مقاتل: المخلصون لله "ومنا القاسطون" وهم المردة . قال [ ص: 381 ] ابن قتيبة: القاسطون: الجائرون . يقال: قسط: إذا جار، وأقسط: إذا عدل . قال المفسرون: هم الكافرون "فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا" أي: توخوه، وأموه . ثم انقطع كلام الجن . قال مقاتل: ثم رجع إلى كفار مكة فقال تعالى: وأن لو استقاموا على الطريقة يعني: طريقة الهدى، وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والسدي، واختاره الزجاج . قال: لأن الطريقة ها هنا بالألف واللام معرفة، فالأوجب أن تكون طريقة الهدى . وذهب قوم إلى أن المراد بها: طريقة الكفر، قاله محمد بن كعب، والربيع، والفراء، وابن قتيبة، وابن كيسان . فعلى القول الأول يكون المعنى: لو آمنوا لوسعنا عليهم "لنفتنهم" أي: لنختبرهم "فيه" فننظر كيف شكرهم؟ ، والماء الغدق: الكثير . وإنما ذكر الماء مثلا، لأن الخير كله يكون بالمطر، فأقيم مقامه إذ كان سببه . وعلى الثاني: يكون المعنى: لو استقاموا على الكفر فكانوا كفارا كلهم، لأكثرنا لهم المال لنفتنهم فيه عقوبة واستدراجا، ثم نعذبهم على ذلك . وقيل: لأكثرنا لهم الماء فأغرقناهم، كقوم نوح "ومن يعرض عن ذكر ربه" يعني: القرآن "يسلكه" قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر "نسلكه" بالنون . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي بالياء . "عذابا صعدا" قال ابن قتيبة: أي: عذابا شاقا . يقال: تصعدني الأمر: إذا شق علي . ومنه قول عمر: ما تصعدني شيء ما تصعدتني خطبة النكاح .

ونرى أصل هذا كله من الصعود، لأنه شاق، فكني به عن المشقات . وجاء في التفسير أنه جبل في النار يكلف صعوده، وسنذكره عند قوله تعالى: سأرهقه [ ص: 382 ] صعودا [المدثر: 17] إن شاء الله تعالى .

وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا

قوله تعالى: وأن المساجد لله فيها أربعة أقوال .

أحدها: أنها المساجد التي هي بيوت الصلوات، قاله ابن عباس . قال قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا، فأمر الله عز وجل المسلمين أن يخلصوا له إذا دخلوا مساجدهم .

والثاني: الأعضاء التي يسجد عليها العبد، قاله سعيد بن جبير ، وابن الأنباري، وذكره الفراء . فيكون المعنى، لا تسجدوا عليها لغيره . [ ص: 383 ] والثالث: أن المراد بالمساجد ها هنا: البقاع كلها، قاله الحسن . فيكون المعنى: أن الأرض كلها مواضع للسجود، فلا تسجدوا عليها لغير خالقها .

والرابع: أن المساجد: السجود، فإنه جمع مسجد . يقال: سجدت سجودا، ومسجدا، كما يقال: ضربت في الأرض ضربا، ومضربا، ثم يجمع، فيقال: المساجد، والمضارب . قال ابن قتيبة: فعلى هذا يكون واحدها: مسجدا: بفتح الجيم . والمعنى: أخلصوا له، ولا تسجدوا لغيره . ثم رجع إلى ذكر الجن فقال تعالى: وأنه لما قام عبد الله يعني محمدا صلى الله عليه وسلم "يدعوه" أي: يعبده . وكان يصلي ببطن نخلة على ما سبق بيانه في [الأحقاف: 29] "كادوا يكونون عليه لبدا" قرأ الأكثرون: "لبدا" بكسر اللام، وفتح الباء . وقرأ هشام عن ابن عامر، وابن محيصن "لبدا" بضم اللام، وفتح الباء مع تخفيفها . قال الفراء: ومعنى القراءتين واحد . يقال: لبدة، ولبدة . قال الزجاج: والمعنى: كاد يركب بعضهم بعضا . ومنه اشتقاق اللبد الذي يفترش . وكل شيء أضفته إلى شيء فقد لبدته . وقرأ قوم منهم الحسن، والجحدري: "لبدا" بضم اللام مع تشديد الباء . قال الفراء: فعلى هذه القراءة يكون صفة للرجال، كقولك: ركعا وركوعا، وسجدا وسجودا . قال الزجاج: هو جمع لابد، مثل راكع، وركع . وفي معنى الآية ثلاثة أقوال .

أحدها: أنه إخبار الله تعالى عن الجن يحكي حالهم . والمعنى: أنه لما قام يصلي كاد الجن لازدحامهم عليه يركب بعضهم بعضا، حرصا على سماع القرآن، رواه عطية عن ابن عباس .

والثاني: أنه من قول الجن لقومهم لما رجعوا إليهم، فوصفوا لهم طاعة أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وائتمامهم به في الركوع، والسجود فكأنهم قالوا: [ ص: 384 ] لما قام يصلي كاد أصحابه يكونون عليه لبدا . وهذا المعنى في رواية ابن جبير عن ابن عباس .

والثالث: أن المعنى: لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة تلبدت الإنس والجن، وتظاهروا عليه، ليبطلوا الحق الذي جاء به، قاله الحسن، وقتادة، وابن زيد .

قوله تعالى: قل إنما أدعو ربي قرأ عاصم، وحمزة "قل إنما أدعو ربي" بغير ألف . وقرأ الباقون "قال" على الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال مقاتل: إن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك جئت بأمر عظيم لم يسمع بمثله فارجع عنه، فنزلت هذه الآية .

قوله تعالى: قل إني لا أملك لكم ضرا أي: لا أدفعه عنكم "ولا" أسوق إليكم "رشدا" أي: خيرا، أي: إن الله تعالى يملك ذلك، لا أنا "قل إني لن يجيرني من الله أحد" أي: إن عصيته لم يمنعني منه أحد، وذلك أنهم قالوا: اترك ما تدعو إليه ونحن نجيرك "ولن أجد من دونه ملتحدا" وقد بيناه في [الكهف 27] "إلا بلاغا من الله" فيه وجهان ذكرهما الفراء .

أحدهما: أنه استثناء من قوله تعالى لا أملك لكم ضرا ولا رشدا إلا أن أبلغكم .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 54.80 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 54.17 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.15%)]