عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 21-08-2024, 05:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,481
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أقوال الفقهاء حول تفضيل إعانة الفقراء والمحتاجين على تكرار نافلة الحج والعمرة



فقد ثبت عن بعض من ينهى عن العمرة من مكة أنه جوَّز ذلك، مما يدل على أن النهي كان على شيء آخر؛ ولهذا قال طاوس: الذين يعتمرون من التنعيم ما أدري يؤجرون عليها أو يعذبون؟ قيل له: فلم يعذبون؟ قال: لأنه يدع الطواف بالبيت ويخرج إلى أربعة أميال ويجيء، وإلى أن يجيء من أربعة أميال قد طاف مائتي طواف، وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غير شيء[24].

♦♦♦♦♦
الأفضلية بين عمرة التطوع والإنفاق على الفقراء والمحتاجين
أيهما أفضل عمرة التطوع أو الإنفاق على الفقراء والمحتاجين؟
أحبُّ النفقة إلى الله تعالى ما كانت أنفعَ للناس وأجدى في إصلاح أحوالهم.

وذلك لما ثبت عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أفضل الأعمال إلى الله تعالى، فقال: «مَنْ أَدْخَلَ عَلَى مُؤْمِنٍ سُرُورًا؛ إِمَّا أن أَطْعَمَهُ مِنْ جُوعٍ، وَإِمَّا قَضَى عَنْهُ دَيْنًا، وَإِمَّا يُنَفِّسُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرَبَ الْآخِرَةِ، وَمَنْ أَنْظَرَ مُوسِرًا أَوْ تَجَاوَزَ عَنْ مُعْسِرٍ؛ أظَلَّهُ اللهُ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ في نَاحِيَةِ الْقَرْيَةِ لِتَثَبُّتِ حَاجَتِهِ ثَبَّتَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الْأَقْدَامُ، وَلَأَنْ يَمْشِي أَحَدُكُمْ مَعَ أَخِيهِ في قَضَاءِ حَاجَتِهِ أَفْضَلُ مِنْ أن يَعْتَكِفَ في مَسْجِدِي هَذَا شَهْرَيْنِ وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ»؛ أخرجه الحاكم في "المستدرك".

ولما ثبت عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ في المالِ لَحَقًّا سِوى الزَّكاةِ»، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177]؛ أخرجه الترمذي في "السنن".

قال الإمام أبو بكر الجَصَّاص الحنفي في "أحكام القرآن": "المفروض إخراجه هو الزكاة، إلَّا أن تحدث أمورٌ توجب المواساةَ والإعطاءَ؛ نحو: الجائع المضطر، والعاري المضطر، أو ميتٌ ليس له مَن يُكفِّنه أو يُواريه"؛ ا هـ.

ومن المقرر فقهًا أن العبادة المُتَعَدِّيَةَ أفضل من القَاصِرَةِ غالبًا كما في "الأشباه والنظائر" للإمام السيوطي، وهذا ما فهمه جماعةٌ من السلف الصالح حين نصُّوا على أن الصدقة أفضل من التطوع بالحج، ومثله العمرة؛ لأن الصدقة عبادةٌ متعدية، أما الحج والعمرة تطوعًا؛ فعبادتان قاصرتان على صاحبهما.

لما روى أبو بكر بن أبي شيبة في "المصنف" عن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: "لَأَنْ أَقُوتَ أَهْلَ بَيْتٍ بِالْمَدِينَةِ صَاعًا كُلَّ يَوْمٍ، أَوْ كُلَّ يَوْمٍ صَاعَيْنِ شَهْرًا، أَحَبُّ إليَّ مِنْ حَجَّةٍ في إِثْرِ حَجَّةٍ".


نصوص الفقهاء في أن الإنفاق على الفقراء والمحتاجين أفضل من عمرة التطوُّع:
نصوص فقهاء المذاهب الأربعة في أن الصدقة أفضل من التطوع بالحج، ومثله العمرة؛ لأن الصدقة عبادةٌ متعدية؛ وهذا ما تواردت عليه عبارات الفقهاء في المذاهب الأربعة، فإنهم وإن تكلموا عن التطوُّع بالحج؛ إلا أنه يشمل التطوع بالعمرة أيضًا بطريق الأولى.

عند الحنفية أن تقديم الصدقة أيام الغلاء وشدة احتياج الفقراء؛ أفضل من التطوع بالحج.
وفي "كنز الدقائق": قال الحنفية حج النفل أفضل من الصدقة؛ اهـ.

قال ابن نُجَيْم في "البحر الرائق": "قلت: قد يقال: إن صدقة التطوع في زماننا أفضل... ولا سيما في أيام الغلاء وضيق الأوقات، وبتعدي النفع تتضاعف الحسنات"؛ اهـ.

وقال العلامة ابن عابدين الحنفي معلقًا عليه في حاشيته "رد المحتار": "(قوله: ورجح في "البزازية" أفضلية الحج) حيث قال: الصدقة أفضل من الحج تطوعًا، كذا روي عن الإمام، لكنه لَمَّا حج وعرف المشقة أفتى بأن الحج أفضل، ومراده: أنه لو حج نفلًا وأنفق ألفًا، فلو تصدق بهذه الألف على المحاويج فهو أفضل، لا أن يكون صدقة؛ فليس أفضل من إنفاق ألف في سبيل الله تعالى، والمشقة في الحج لَمَّا كانت عائدة إلى المال والبدن جميعًا فُضِّل في المختار على الصدقة"؛ اهـ.

وعند المالكية: تقديم الصدقة على حج التطوع أفضل في سَنة المجاعة؛ بناءً على أن التوَقِّي من إثم تضييع الفقراء مقدمٌ على تحصيل أجرِ حج النافلة، كما نصَّ عليه الإمام مالك.

وفي "مواهب الجليل": سئل مالك عن الحج والصدقة أيهما أحب إليك؟ فقال: الحج، إلا أن تكون سنة مجاعة؛ اهـ.

قال العلامة ابن رشد الجد المالكي [المتوفى 520 هـ] في "البيان والتحصيل": "وإنما قال: إن الحج أحب إليه من الصدقة، إلا أن تكون سَنة مجاعة؛ لأنه إذا كانت سَنة مجاعة، كانت عليه المواساة، فالصدقة واجبة، فإذا لم يُواسِ الرجلُ في سَنة المجاعة مِن ماله بالقدر الذي يجب عليه المواساةُ في الجملة؛ فقد أثم، وقدرُ ذلك لا يعلمه حقيقةً؛ فالتوَقِّي من الإثم بالإكثار من الصدقة؛ أولى من التطوع بالحج الذي لا يأثم بتركه"؛ اهـ.


بل فرَّع المالكية على القول بوجوب الحج على التراخي؛تقديم الصدقة على حج الفريضة، ونصوا على أنه إذا تعينت المواساةُ على مُريد حج الفريضة: فإنه يجب عليه تقديمها على الحج؛ للاتفاق على وجوب المواساة على الفور، بخلاف الحج الذي اختلف في كونه واجبًا على الفور أو التراخي.

• وعند الشافعية: أن الأصح تقديم سائر الوصايا -ومنها الوصية بالصدقة على الفقراء- على الوصية بحج التطوع؛ نظرًا إلى أن الحج من حقوق الله تعالى، والصدقة من حقوق الآدميين، وحقوق الله مبنية على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحة، حتى جزموا بأنه لا وجه لتقديم الحج إلا إذا نص الموصي على تقديمه.

قال الإمام الرافعي في "الشرح الكبير": "وهل يقدم حجُّ التطوُّع في الثلث على سائر الوصايا؟ عن القفَّال: أنه على القولين في تقديم العتق على سائر الوصايا؛ لأن الحج قربةٌ كالعتق، قال الشيخ أبو علي رحمه الله: ولم أرَ هذا لأحد من أصحابنا، وجعلوا الوصية به مع سائر الوصايا على الخلاف فيما إذا اجتمع حق الله تعالى وحقوق الآدميين"؛ اهـ.

وقال الإمام الزركشي الشافعيفي "البحر المحيط: "قال العبادي في "فتاويه": الصدقة أفضل من حج التطوع في قول أبي حنيفة، وهي تُحتَمَل في هذا الزمان"؛ اهـ.

وعند الحنابلة:نصَّ الإمام أحمد على أن إطعام الجائعين وإعطاء المحتاجين أفضل من حج التطوع، وعلى أن الصدقة عند الحاجة لا يَعدلها شيء؛ لأن نفعها عامٌّ ومتعدٍّ.

كما نصَّ الحنابلة على أن الوصية بالصدقة أفضل من الوصية بحج التطوع.

قال العلامة المرداوي الحنبلي في "تصحيح الفروع":مسألة: قوله: وهل حج التطوع أفضل من الصدقة مطلقًا؟ أم الصدقة مع الحاجة؟ أم مع الحاجة على القريب؟ أم على القريب مطلقًا؟ روايات أربع.

وفي "المستوعب": وصيته بالصدقة أفضل من وصيته بحج التطوع، فيؤخذ منه أن الصدقة أفضل بلا حاجة.

قال الشيخ تقي الدين:الحج أفضل من الصدقة، وإنه مذهب أحمد.

وقال ابن الجوزي في كتاب "الصفوة":الصدقة أفضل من الحج ومن الجهاد؛ انتهى.

قلت: الصواب أن الصدقة زمن المجاعة على المحاويج أفضل، لا سيما الجار، خصوصًا صاحب العائلة، وأخص من ذلك القرابة، فهذا فيما يظهر لا يَعْدِلُه الحجُّ التطوع، بل النفس تقطع بهذا، وهذا نفع عام، وهو متعدٍّ، وهو قاصر، وهو ظاهر كلام المجد في "شرحه" وغيره.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "الاختيارات": وأما إذا كان له أقارب محاويج، فالصدقة عليهم أفضل، وكذا إذا كان هناك قوم مضطرون إلى نفقته، فأما إذا كان كلاهما تطوعًا، فالحج أفضل؛ لأنه عبادة بدنية مالية، وكذا الأضحية والعقيقة أفضل من الصدقة بقيمة ذلك؛ اهـ.

وقال الشوكاني في "نيل الأوطار" في شرح حديث:«أي الأعمال أفضل؟ فذكر الإيمان، ثم الجهاد، ثم الحج»؛ رواه البخاري ومسلم. قال الشوكاني: هو حجة لمن فضل حج النفل على الصدقة؛ اهـ.

والناظر في أحوال الأمة اليوم يرى أن المضطرين إلى النفقة كثر، فكم من المسلمين في مشرق الأرض ومغربها لا يجدون المأكل والمشرب والمسكن، فيكون التصدق على مثل هؤلاء أولى من إنفاق المال في الحج والعمرة.

فلا يجوز للواجدين إهمالُ المعوزين تحت مبرر الإكثار من النوافل والطاعات؛ فإنه لا يجوز ترك الواجبات لتحصيل المستحبات، ولا يسوغ التشاغل بالعبادات القاصرة ذات النفع الخاص، وبذل الأوقات والأموال فيها، على حساب القيام بالعبادات المتعدية ذات المصلحة العامة، وعلى مريد التطوع بالحج والعمرة السعيُ في بذل ماله في كفاية الفقراء، وسد حاجات المساكين، وقضاء ديون الغارمين، قبل بذله في تطوع العبادات، كما أن تقديم سد حاجات المحتاجين وإعطاء المعوزين على التطوع بالحج أو العمرة ينيل فاعلها ثواب الأمرين معًا[25].

إن ضرورة حفظ نفس المسلم تقدم على حاجيات حفظ الدين على أهميتها: فتقدم حاجيات حفظ النفس على تحسينيات حفظ الدين؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ- يَعْنِي المَسْجِدَ النبوي- شَهْرًا»[26].

وقد ورد عن فقهاء الأمة أنهم "كانوا يرون أنه إذا حج مرارًا أن الصدقة أفضل".

• ولما ثبت أن عبدالله بن المبارك رحمه الله خرج للحج سنة، فلقي فتاة تقول له: أنا وأخي هنا ليس لنا شيء إلا هذا الإزار، وليس لنا قوت إلا ما يلقى على هذه المزبلة، وقد حلت لنا الميتة منذ أيام. فدفع إليها نفقة الحج، وقال: هذا أفضل من حجنا في هذا العام، ثم رجع؛ "البداية والنهاية" (10/ 191).

قال الفقيه الثقة جابر بن زيد رحمه الله وهو من كبار علماء التابعين: «لأنْ أتصدَّق بدرهم على يتيم أو مسكين، أحبُّ إليَّ من حجة بعد حجة الإسلام».

عن سفيان الثوري، أنه سأله رجل فقال: الحج أفضل بعد الفريضة أم الصدقة؟ فقال: أخبرني أبو مسكين، عن إبراهيم النخعي أنه قال: "إذا حجَّ حِجَجًا، فالصَّدَقَةُ". وكان الحسن يقول: "إذا حج حجَّةً".

عن الحسن البصري رحمه الله تعالى قال: "يَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَحُجُّ أَحُجُّ، قَدْ حَجَجْتَ، صِلْ رَحِمًا، نَفِّسْ عَنْ مَغْمُومٍ، أَحْسِنْ إِلَى جَارٍ".

عن الشعبي قال: جَاءَ أَمْضَى حَرَّانَةَ فقال: إني قد تهيأتُ للخروج، ولي جيران محتاجون متعففون، فما ترى إلى جعل كراي وجهازي فيهم، أو أمضي لوجهي للحج؟ فقال: "والله إن الصدقة يعظم أجرها، وما تعدل عندي موقفًا من المواقف، أو شيئًا من الأشياء"[27].

عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: "مَا عَلَى النَّاسِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِطْعَامِ مِسْكِينٍ"[28].

قال الإمام أحمد رحمه الله: "يضعها في أكباد جائعة أحبُّ إليَّ يعني من حج النافلة".

كان سفيان الثوري رحمه الله يعظِّم المساكين، ويجفُو أهل الدنيا، فكان الفقراء في مجلسه هم الأغنياء، والأغنياء هم الفقراء.

وعن المرُّوذي، قال: «لم أر الفقيرَ في مجلسٍ أعزَّ منه في مجلس أحمد بن حنبل رحمه الله، كان مائلًا إليهم، مُقصِّرًا عن أهل الدنيا».

كان السلف يرون الصدقةَ عليهم من أعظم الأعمال، وأحسنِ الخصال. وكانوا يحبون الفقراء محبةً عظيمةً، ويجدون لذَّةً وسرورًا عند لقائهم.

فهذا علي بن الحسين رحمه الله إذا ناول السائل الصدقة، قبله ثم ناوله.

فهكذا يُقدِّر الصالحون والعلماء المساكين والفقراء، ولا يحتقرونهم لأجل فقرهم، ولا يترفَّعون عنهم لأجل وَضاعةِ قدْرهم.

إن الناظر في أحوال المسلمين يرى أن أغلبهم إن لم نقل كلّهم من المضطرين إلى النفقة والمحتاجين إلى الصدقة، ليستعينوا بها على قضاء حوائجهم الضرورية، فهم لا يجدون المأكل والمشرب والمأوى والعلاج والوقود، فيكون الإنفاق والتصدُّق عليهم أوْلَى من إنفاق المال في نافلة الحج والعمرة أو ادخاره، فهذا خير وقت للإنفاق وإخراج الصدقات.

إنَّ أفضل العبادات ما كانت في وقتها، فإذا كان الناس في حاجة إلى الصدقة فالصدقة أفضل، وإذا كان هناك قوم مضطرون للنفقة، فإن الإنفاق عليهم في هذه الحال أفضل من حج النافلة وعمرة التطوع، ومن المقرر عند وجود مجاعات وفقر شديد، فإنَّ الصدقة أفضل من تكرار الحج والعمرة.

إن التزاحم في أداء النوافل تحكمه القاعدة الفقهية: "إن فعل القربات المندوبة ينبغي فيه مراعاة ما يحبه المعبود لا ما يشتهيه العبد"، كما في الحديث القدسي: «وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه»؛ رواه البخاري، وفي ظل الظروف العصيبة التي يمر بها المسلمون، وقيام الحاجة الشديدة إلى إمدادهم بالغذاء والدواء والوقود وبقية مستلزمات الحياة الإنسانية الكريمة، نرى أن الإنفاق على فقراء المسلمين والمحتاجين منهم في الدول المنكوبة بسبب الحروب والكوارث الطبيعية وغيرها هو من أفضل القربات وأعظم الطاعات، وهو أولى من حج النافلة وعمرة التطوع، مع ما فيهما من الخير والفضل، وهذا ينسجم مع مقاصد الشريعة وأسرار التشريع والقواعد الكلية[29].

إن الصدقة وإغاثة الملهوف وإنقاذ المضطر في زمان الفاقة والحاجة وشدة الجوع أوْلَى وأفضل من نافلة الحج والعمرة؛ لأنَّ نفع الحج والعمرة قاصر على صاحبه، والصدقة على الجياع يتعدَّى نفعها إلى غيره، وما كان نفعه متعدِّيًا أفضل مما كان نفعه قاصرًا، وهذا الأمر عام في فقراء المسلمين.

إن الإنفاق على الفقراء والمحتاجين أفضل من عمرة التطوع، وقواعد الشريعة وحكمة الله تعالى واضحة في توجيه العباد إلى فعل الخير على أساس تقديم الأهم والأصلح، وذلك يقتضي بأن يُقَدِّمَ السائلُ مصالحَ وحاجاتِ إخوانه من الفقراء والمحتاجين الذين هم في مسيس الحاجة إلى ما يؤويهم، وما يستعينون به على قضاء حوائجهم الضرورية.

إن الله لا يقبل النافلة إذا كانت تؤدي إلى فعل محرم؛ لأن السلامة من إثم الحرام مقدمة على اكتساب مثوبة النافلة، فإذا كان يترتب على كثرة الحجاج والمعتمرين المتطوعين إيذاء لكثير من المسلمين، من شدة الزحام مما يسبب غلبة المشقة، وانتشار الأمراض، وسقوط بعض الناس هلكى، حتى تدوسهم أقدام الحجيج وهم لا يشعرون، أو يشعرون ولا يستطيعون أن يقدموا أو يؤخروا - كان الواجب هو تقليل الزحام ما وُجِد إلى ذلك سبيل- وأولى الخطوات في ذلك أن يمتنع الذين حجوا عدة مرات عن الحج ليفسحوا المجال لغيرهم، ممن لم يحج حجة الفريضة[30].

إن درء المفاسد مُقدَّم على جلب المصالح، وخصوصًا إذا كانت المفاسد عامة، والمصالح خاصة، فإذا كانت مصلحة بعض الأفراد أن يتـنـفل بالحج مرات ومرات، وكان من وراء ذلك مفسدة عامة للألوف ومئات الألوف من الحجيج مما يلحقهم من الأذى والضرر في أنفسهم وأبدانهم حتى هؤلاء المتنفلون أيضًا يتأذون من ذلك - كان الواجب منع هذه المفسدة بمنع ما يؤدي إليها وهو كثرة الزحام.

إن أبواب التطوع بالخيرات واسعة وكثيرة، ولم يضيق الله على عباده فيها، والمؤمن البصير هو الذي يتخير منها ما يراه أليق بحاله، وأوفق بزمانه وبيئته، فإذا كان في التطوع بالحج أذى أو ضرر يلحق بعض المسلمين؛ فقد فسح الله للمسلم مجالات أُخَر، يتقرب بها إلى ربه دون أن يؤذي أحدًا، فهناك الصدقة على ذوي الحاجة والمسكنة، ولا سيما على الأقارب وذوي الأرحام، فقد جاء في الحديث: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة، وصلة»[31].

وقد تكون نفقتهم عليه واجبة، إذا كان من أهل اليسار وهم من أهل الإعسار، وكذلك على الفقراء من الجيران، لما لهم من حق الجوار بعد حق الإسلام، وقد ترتفع المساعدة المطلوبة لهم إلى درجة الوجوب، الذي يأثم من يفرط فيه؛ ولهذا جاء في الحديث: «ليس بمؤمن من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع»؛ (رواه الطبراني وأبو يعلى عن ابن عباس، ورواه الحاكم عن عائشة والطبراني والبزار عن أنس مع اختلاف في اللفظ)[32].

إن من المسلمين من يحرص على أداء فريضة الحج كل عام، وربما يحرص مع ذلك على أن يعتمر في كل رمضان، مع ما في الحج من زحام شديد، وما يتكبده الحجيج من نفقات باهظة يحتاج إليها الفقراء والمساكين في بلدانهم أو في بلاد تعاني ظروفًا غاية في القسوة، فلو تركوا فعل ذلك لتوسيع مكان لغيرهم من المسلمين الوافدين من أقطار الأرض، ممن لم يحج حجة الإسلام المفروضة عليه؛ فهذا أولى بالتوسعة والتيسير منهم بلا ريب، وترك التطوع بالحج بنية التوسعة لهؤلاء، وتخفيف الزحام عن الحجاج بصفة عامة، لا يشك فقيهٌ أنه قربة إلى الله تعالى، لها مثوبتها وأجرها "وإنما لكل امرئ ما نوى"[33].

إن الشرع الشريف يراعي ترتيب الأولويات؛ فأمر عند التعارض بتقديم المصلحة المتعدية على القاصرة، والعامة على الخاصة، والناجزة على المتوقعة، والمتيقنة على الموهومة.

وصية لمن يريد تكرار الحج والعمرة:
ننصح المخلصين الحريصين على تكرار شعيرتَي الحج والعمرة أن يكتفوا بما سبق لهم من ذلك، وإن كان ولا بد من التكرار، فليكن كل خمس سنوات، وبذلك يستفيدون فائدتين كبيرتين لهم أجرهما:
الأولى: توجيه الأموال الموفرة من ذلك لأعمال الخير والدعوة إلى الإسلام، ومعاونة المسلمين المحتاجين في كل مكان.

الثانية: توسيع مكان لغيرهم من المسلمين القادمين من أقطار الأرض، ممن لم يحج حجة الإسلام المفروضة عليه. فهذا أولى بالتوسعة والتيسير منهم بلا ريب[34].

مسألة: هل يحج حج التطوع أم يزوِّج ابنه بهذا المال؟
يلزم الرجل أن يزوج ولده إذا كان الولد محتاجًا إلى الزواج، وعاجزًا عن تكاليفه، في أصح قولي العلماء؛ لأن الحاجة إلى النكاح قد لا تقل عن الحاجة إلى الأكل والشرب، فتدخل في النفقة الواجبة.

قال المرداوي في "الإنصاف" (9/ 204): "يجب على الرجل إعفاف من وجبت نفقته عليه من الآباء والأجداد والأبناء وأبنائهم وغيرهم، ممن تجب عليه نفقتهم. وهذا الصحيح من المذهب يعني مذهب الإمام أحمد"؛ انتهى.

وإذا تعارض حج الوالد مع زواج الابن، لكون المال الذي يملكه الأب لا يكفي إلا لأحدهما، فإنه ينظر في نكاح الابن هل يجب الآن أم يمكن تأخيره؟ فإن كان الابن محتاجًا إلى النكاح ويخشى على نفسه الوقوع في الحرام، فإن زواجه مقدم على حجه هو لنفسه، ومقدم على حج أبيه كذلك لأمرين:
الأول: أن إعفافه وصيانته عن الوقوع في الحرام أمر واجب لا يحتمل التأخير، أما الحج فيمكن تأخيره إلى أن ييسر الله له.

والثاني: أن الحج لا يجب على الأب إلا إذا ملك مالًا فائضًا عن نفقته ونفقة من تلزمه نفقته، وقد لزمه هنا تزويج ابنه حتى لا يقع في الحرام.

قال ابن قدامة رحمه الله في "المغني" (5/ 12):"وَإِنْ احْتَاجَ إلَى النِّكَاحِ، وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْعَنَتَ (أي: المشقة)، قَدَّمَ التَّزْوِيجَ يعني: على الحج؛ لأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَلا غِنى بِهِ عَنْهُ، فَهُوَ كَنَفَقَتِهِ. وَإِنْ لَمْ يَخَفْ، قَدَّمَ الْحَجَّ؛ لأَنَّ النِّكَاحَ تَطَوُّعٌ، فَلا يُقَدَّمُ عَلَى الْحَجِّ الْوَاجِبِ"؛ انتهى.

أما إن كان الولد لا يحتاج إلى النكاح أو لا يخاف على نفسه الوقوع في الحرام لو أخَّر النكاح، فإنه لا يلزم تزويجه الآن، وعليه فيكون الحج واجبًا على الأب؛ لأنه ملك مالًا فائضًا عن نفقته ونفقة من يعول، قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران: 97][35].

[1] يُنظر: فتوى الشيخ عطية صقر رحمه الله، رئيس لجنة الفتوى بالأزهر.

[2] يُنظر: أيهما أقرب لله حج النافلة أم إعانة الفقراء والمرضى.

[3] يُنظر: حكم الإنفاق على الفقراء بدلًا من الحج والعمرة في أيام الوباء، فتوى مفتي الديار المصرية الدكتور شوقي علام.

[4] يُنظر: تكرار حج التطوع بين المصلحة الخاصة والمفسدة العامة.

[5] يُنظر: فتوى الدكتور شوقي علام، مفتي الديار المصرية في حكم الإنفاق على الفقراء بدلًا من الحج والعمرة في أيام الوباء.

[6] يُنظر: الإنصاف للمرداوي (3/ 387)، والتجريد للقدوري (4/ 1692)، والرسالة للقيرواني (ص: 78)، والأم للشافعي (2/ 144).

[7] يُنظر: الإنصاف للمرداوي (3/ 387)، والأم للشافعي (2/ 144)، والنوادر والزيادات (2/ 362)

[8] يُنظر: حكم الحج والعمرة، يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف.

[9](رد المحتار 2/ 472، المجموع 7/ 149، كشاف القناع 2/ 520).

[10]يُنظر: تكرار العمرة في السفرة الواحدة، الدليل الفقهي.

[11](رواه البخاري 1561، ومسلم 1211).

[12](مسند الشافعي 778، وعن طريقه البيهقي 8730).

[13] (المصنف 13017).

[14] (مواهب الجليل 2/ 464-465).

[15] (المغني 3/ 220)

[16](الاستذكار 4/ 115، وانظر: أضواء البيان 4/ 488).

[17](مجموع الفتاوى 26/ 264).

[18](انظر: مواهب الجليل 2/ 467).

[19](رواه البخاري 1773، ومسلم 1349).

[20] (التمهيد 20/ 21)

[21](مسند الشافعي 778، وعنه البيهقي 8730).

[22] (ابن أبي شيبة 13020).

[23] (ابن أبي شيبة 12724)

[24] (المغني 3/ 220-221).

[25]ينظر: مساعدة الفقراء أم نافلة الحج والعمرة؟ فتاوى دار الإفتاء المصرية.

[26]رواه الطبراني في المعجم الكبير.

[27] المصنف ابن أبي شيبة في كتاب الحج، باب الصدقة والعتق والحج، الجزء رقم4.

[28] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الحج، باب الصدقة والعتق والحج، الجزء رقم 4.

[29] ينظر: أيهما أفضل أداء نافلة الحج والعمرة أم التبرع لأهل غزة؟ المفتي الدكتور طه أحمد الزيدي عضو الهيئة العليا ولجنة الفتوى في المجمع الفقهي العراقي.

[30] يُنظر: الضوابط الشرعية لمن يريد حج النافلة.

[31](رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم عن سلمان بن عامر الصيفي بإسناد صحيح).

[32] يُنظر: الحج أكثر من مرة أم مساعدة الفقراء والمساكين؟ فتوى الدكتور يوسف بن عبدالله.

[33] يُنظر: فتوى التبرع للفلسطينيين أولى من تكرار الحج والعمرة.

[34] ينظر: فتوى أيهما أفضل تكرار الحج والعمرة أم الإنفاق في سبيل الله.

[35] انظر: "المجموع" (7/ 71) للنووي.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 36.76 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.13 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.71%)]