السندات، تحرير التخريج، وبيان الحكم، ومناقشة البدائل
د. طالب بن عمر بن حيدرة الكثيري
المبحث الأول: تحرير المسألة الممنوعة:
تعددت صور وإغراءات السندات الربوية،[1] لما كانت هذه السندات تحقق - وبشكل مباشر - عملية الربا الأولى؛ وهي الإقراض بزيادة مشروطة، لتأتي بعد ذلك المصارف الإسلامية، فتقف على مواضع الإشكال، وتنسج بدائلها الإسلامية بعيدًا عنها.
وأول ما نحتاج إليه أن نتتبع هذه المواضع، ونجلّيها في مطلبين:
المطلب الأول: صورة المسألة:
أولاً: تعريف السندات:
معنى السند في اللغة يدور حول معنى انضمام الشيء إلى الشيء،[2] كما يطلق السند على معنى الاعتماد والركون إلى الشيء، وما ارتفع من الأرض،[3] وجرى الاصطلاح المصرفي بإطلاقه على ورقة مالية، قابلة للتداول، تمثل التزامًا بدين طويل الأجل، تعطي مالكها حق الحصول على دخل محدد، ويتعهد محررها بأن يسدد قيمتها في تاريخ معين[4].
وظهرت - من خلال هذا التعريف - أبرز خصائص السندات[5]:
(1) أن لمالك السند حق الحصول على دخل ثابت، مهما كانت أوضاع مصدِر السند من ربحٍ، أو خسارة.
(2) وله الحق في استرداد قيمة السند في الأجل المحدد.
(3) وله الحق في التنازل عن السند عن طريق تداوله بالطرق التجارية، فيما يسمى بعملية تسييل الأصول.
(4) وإذا أفلست الجهة المصدِرة للسند سقط أجل الدين، واشترك مالك السند مع بقية الدائنين في تقاضي الحق منها.
ثانيًا: التخريج الفقهي للسندات:
اُختلف في تخريج السندات على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن السند عبارة عن قرض[6].
ووجه التخريج (من جهة حقيقة العقد): أن هذا السند يمثل دينًا طويل الأجل، بين مالكه ومصدِره؛ بدليل استحقاق المالك لاسترداد قيمته في الأجل المحدد.
ونوقش من وجهين:
الأول (من جهة حال العاقد): أن القرض إنما يكون من الغني للفقير المحتاج، والسندات تصرف لصالح البنوك، والشركات، والحكومات التي تملك الملايين[7].
وأجيب: أنه لا يلزم أن يكون القرض من غني إلى فقير، ما دامت قد تحققت حقيقته،[8] وقد كان الزبير بن العوام رضي الله عنه من الأغنياء، وكان يأخذ المال من الناس على أساس القرض، ففي البخاري: "وإنما كان دينه الذي عليه؛ أن الرجل كان يأتيه بالمال، فيستودعه إيّاه، فيقول الزبير: لا، ولكنه سلف، فإني أخشى عليه الضيعة"[9].
والثاني (من جهة القصد من العقد): أن القرض عقد إرفاق ومساعدة، والمشترون للسندات لم يقصدوا ذلك، وإنما قصدوا استثمار أموالهم[10].
وأجيب: أن أخصَّ أحكام القرض - وهو ردّ المثل مع الضمان - إذا توفر في المعاملة انقلبت قرضًا، كما في فعل الزبير رضي الله عنه، وتدل على ذلك تطبيقات الفقهاء -رحمهم الله-،[11] والمشترون للسندات قصدوا أن تحفظ أموالهم، والعقد الذي يحقق هذه النتيجة هو عقد القرض.
القول الثاني: أن السند عبارة عن شركة مضاربة[12].
ووجه التخريج (من جهة شكل العقد): أن هذه السندات يتكوّن منها رأس مال شركة تجارية، وتعطي مالكها الحق في دخل مستمر، وتأخذ الشركات هذه الأموال؛ لتستثمرها مع أموالها، فكانت بذلك بمثابة شركة المضاربة؛ المالكون للسندات هم أصحاب رأس المال، والإدارة بمنـزلة العامل في شركة المضاربة.
ونوقش من وجهين:
الأول (من جهة أخصّ أحكام العقد): أن مالك السند يأخذ نسبة ثابتة، لا علاقة لها بالربح والخسارة، بل متناسبة مع مقدار القرض، ومدته، وسعر الفائدة السائد،[13] وهذه النسبة الثابتة تبطل المضاربة، قال ابن المنذر: "وأجمعوا على إبطال القراض الذي يشترط أحدهما، أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة". [14]
وأجيب (من جهة الحاجة): أن تحديد نسبة الربح انضبطت لما تطورت وسائل القياس الحديثة، وقوانين المحاسبة والاحتمالات، وهي أسلم للتعاملات اليوم، مع فساد ذمم كثير من الناس. [15]
واعترض (من جهة حقيقة العقد): أن نصيب مالك السند من الدخل يقدر بنسبة ثابتة من رأس المال، وليس هو جزءًا مشاعًا من مجموع الربح، حتى يحكم بأنها شركة في الربح،[16] ثم إن دعوى أن نسبة الربح صارت في هذا العصر منضبطة، ومضمونة النتائج يكذبها الواقع الشاهد بالإفلاسات المتكررة لكبرى الشركات والبنوك. [17]
والوجه الثاني من المناقشة (من جهة أخصّ أحكام العقد): أن مصدِر السند يضمن رجوع قيمته كاملةً في كل الأحوال،[18] وقد أجمع العلماء على أن اشتراط الضمان في المضاربة على العامل باطل. [19]
القول الثالث: أن السند عبارة عن وديعة. [20]
ووجه التخريج (من جهة شكل العقد): أن مالك السند قد أودع قيمته عند مصدِره، وأذن له في استثماره، فللمالك ربحه، وعلى مصدِر السند ردّه بالقيمة التي أُودعت عنده.
ونوقش (من جهة التفريق بين العقود): أن السند يخالف الوديعة من وجوه: [21]
أ-فالسند يردّ مثله مع الزيادة، والوديعة تردّ لصاحبها بعينها.
ب-والسند يُقصد منه انتفاع آخذه به، والوديعة يقصد منها المحافظة على المال لدافعه.
ج- والقضاء يلزم بردّ قيمة السند، ولو هلك أو تلف بقوة قاهرة، والوديعة ليست كذلك.
وهذه الأحكام كلها من أحكام القرض، بل نصّ الفقهاء على أن الوديعة إذا أذن صاحبها باستعمالها، تنقلب قرضًا. [22]
القول المختـار:
التخريج الأول هو أصحّ هذه التخريجات، كما ظهر من بيان خصائص السندات، وكما تبين في مناقشة التخريجات الأخرى، ويشهد له:
(1) اعتبار قصد المصدِرين للسندات، الذين قصدوا الاقتراض بزيادة، لا مشاركة أرباب السندات لهم في الأرباح، بدليل عدولهم عن إصدار صكوك أسهم إلى إصدار صكوك سندات.
(2) توفر أخصّ أحكام القرض في السندات، وهو الضمان مع رد المثل، فيستحق مالك السند استرداد قيمته كاملة في الأجل المحدد في كل الأحوال، بل ويلزم القضاء بردّ قيمة السند، ولو هلك أو تلف بقوة قاهرة.
(3) والزيادة الحاصلة زيادة ربوية، فارقت ربح المضاربة في أمور، منها:
أ- أن مالك السند يأخذ نسبة ثابتة، لا علاقة لها بالربح والخسارة، وإنما تقدر بحسب مقدار القرض، ومدته، وسعر الفائدة السائد.
ب- أن هذه النسبة تحدد بحسب رأس المال، وليست جزءًا مشاعًا من مجموع الربح.
المطلب الثاني: بيان محل المنع (طلب الربح بشرط ضمان رأس المال، مع القدرة على تسييل الأصول):
لما كانت حقيقة السندات قروضًا، كان أخذ زيادةٍ مسبقةٍ محددةٍ، مع بقاء رأس المال كاملاً من ربا الجاهلية؛ ربا القروض، الذي حرّمه الإسلام،[23] ونُقل الإجماع على تحريمـه،[24] قال تعـالى: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾،[25] قال الرازي في بيان ما يشابه هذه الصورة: "أما ربا النسيئة، فهو الأمر الذي كان مشهورًا متعارفاً في الجاهلية، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدرًا معيناً، ويكون رأس المال باقياً، ثم إذا حلّ الدين طالبوا المديون برأس المال، فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل، فهذا هو الربا، الذي كانوا في الجاهلية يتعاملون به". [26]
وقد حاول بعض الباحثين - مع القول بأن السندات قروض - تبرير أخذ هذه الزيادة تحت عدّة مسميات:
التبرير الأول (من جهة التركيب بين العقود): أن هذه الزيادة هبة، فالمقرض يُسدد له قرضه، ويُعطى هبةً من مصدِر السند، في شكل دخل ثابت. [27]
ونوقش من وجهين:
الأول (من جهة قواعد معرفة الباعث): أن هذه الهبة أُعطيت للمقرض بسبب القرض، فكان حكمها حكم الهدية للمقرض، وهي محرّمة. [28]
والثاني (من جهة أخصّ أحكام العقد): أن القانون المنظِّم للسندات اعتبر هذه الزيادات فوائد ملزمة، لا يجوز الامتناع عن دفعها، في حين أن الهبة غير ملزمة، ويجوز للواهب قبل القبض الرجوع عنها. [29]
والتبرير الثاني (من جهة دليل الضرورة والحاجة): أن هذه الزيادة تباح من باب الضرورة، والحاجة الملحّة، إذ حاجة الاقتصاد للسندات في دعم المشاريع الاستثمارية والإنتاجية الكبيرة قائمة. [30]
ونوقش: أن شروط الضرورة لم تنطبق على حالة السندات؛ إذ الضرورة ما أوقع في الهلاك، أو قاربه، وهي كذلك لا تبيح المحرم إلا في الأحوال الخاصة دون العامة، وأما الحاجة فلا تبلغ أن تبيح ربا القروض، وهي كذلك لم تتعين؛ إذ البدائل المباحة كثيرة لدعم الاقتصاد، وتعزيزه. [31]
والتبرير الثالث (من جهة التخريج على الفروع): أن هذه الزيادة تخرّج على ما أفتى به بعض متأخري الحنفية من جواز تحديد منفعة مالية على القروض من قبل السلطان،[32] وسمّوه "بيع المعاملة".[33]
ونوقش: أن هذه الفتوى مخالفة للأدلة الدالّة على تحريم القرض المشروط النفع، ولا اجتهاد مع ورود النص. [34]
المبحث الثاني: البدائل الإسلامية لإصدار السندات، وتقويمها:
جرت المصارف الإسلامية على عدم التعامل بالسندات،[35] وبدأ التفكير مبكرًا في إيجاد البدائل الشرعية لها، فقد عُقد المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي سنة 1396هـ- 1976م، ليخرج ببعض التوصيات التي تساهم في وضع البدائل الشرعية للسندات الربوية.[36]
وتأتي هذه البدائل لتحقق غايتين أساسيتين: الأولى: إبعاد المسلمين عن أبواب الربا، والثانية: جذب أموال المحجمين عن الربا إلى الاستثمارات المشروعة، والمحقّقة للتنمية الاقتصادية في المجتمع،[37] ونتناول هذا المبحث في مطلبين:
المطلب الأول: عرض البديل الأول: صكوك المقارضة، وتقويمه:
عرّف مجمع الفقه الإسلامي بجدة صكوك المقارضة بأنها: "أداة استثمارية تقوم على تجزئة رأس مال القراض (المضاربة)، بإصدار صكوك ملكية برأس مال المضاربة، على أساس وحدات متساوية القيمة، ومسجلة بأسماء أصحابها؛ باعتبارهم يملكون حصصاً شائعة في رأس مال المضاربة، وما يتحول إليه، بنسبة ملكية كل منهم فيه".[38]
أولاً: عرض فكرة هذا البديل، وذكر من قال به:
صكوك المقارضة، وقد يقال لها سندات المقارضة، أو المضاربة تقوم فكرتها على الآتي:
(1) تجزئة رأس مال المضاربة (القراض) إلى أجزاء متساوية القيمة، ثم يُصدر صكٌ لكل جزء، ويسمى باسم من يكتتب فيه، ويمثل ملكية حصّة شائعة من رأس مال المضاربة.
(2) تباع هذه الصكوك في الاكتتاب العام، ويمكن تداولها بعد ذلك في أسواق الأوراق المالية.
(3) يموّل المشروع الاستثماري من رأس مال المضاربة، إن كانت هذه الصكوك مخصّصة، أو تموّل عدّة مشاريع استثمارية إن كانت صكوكًا مشتركة.
(4) تُقسّم أرباح المشروع (الإيراد أو الغلّة) إلى قسمين: قسم يخصص للإطفاء التدريجي للقيمة الاسمية، التي اُشتري بها الصكّ، حتى تنتهي جهة الاستثمار المصدِرة للصكوك إلى امتلاك المشروع كاملاً.
(5) ويُقسّم القسم الآخر بين جهة الاستثمار - باعتبارها مضاربًا - وبين ملاك الصكوك، بحسب الشروط المتفق عليها في نشرة الإصدار.
(6) وإذا عجزت الجهة المصدِرة للصكوك عن سداد قيمتها الاسمية كفل طرف ثالث؛ كالدولة تسديد القيمة الاسمية لمن أراد بيعها (إطفاءها)، وتصبح هذه المبالغ المدفوعة قرضاً حسنًا على جهة الإصدار.
• وقد اقترح أصل هذه الفكرة الدكتور سامي حمود،[39] وتبنتها الحكومة الأردنية.[40]
ثمّ طوّرها البنك الإسلامي للتنمية،[41] وأقرّها مجمع الفقه الإسلامي في دورته الرابعة بجدة، في جمادى الآخرة 1408هـ، مع تعديل في الفقرة الرابعة والسادسة. [42]
ثانيًا: الحكم الشرعي لهذا البديل:
دارت فكرة هذا البديل على إعطاء الصكوك بعض خصائص السندات، وبعض خصائص الأسهم على النحو التالي:
(1) تجزئة رأس المال إلى صكوك، يسهل تسييلها، عن طريق تداولها في أسواق الأوراق المالية.
(2) تحقيق عائد للمستثمرين، يتمثل في ربح احتمالي من المشروع؛ باعتبارهم شركاء فيه.
(3) ضمان رأس مال المكتتبين، من خلال كفالة طرف أجنبي.
(4) رجوع ملكية المشروع بالكامل إلى جهة الإصدار، عن طريق الإطفاء التدريجي للصكوك.
وقد اختلف المعاصرون في تخريج هذه الصكوك، وفي حكمها على قولين:
القول الأول: أنها عقد مضاربة مشروع.
واختاره بعض المعاصرين. [43]
واستدلوا: أن جهة الاستثمار تمثل العامل، والمكتتبون يمثلون أرباب المال، ويجوز تعدد المالكين لرأس مال المضاربة، فلا حرج من تجزئة مال المشروع إلى صكوك، ويُقسم الربح بينهم إن ربح المشروع، وينعدم الربح إن خسر، وهذه حقيقة عقد المضاربة. [44]
ونوقش من وجهين:
الأول: لو كان العقد عقد مضاربة، للزم أن يتملك حملة الصكوك من موجودات الشركة في حدود حصصهم، ولا تنتقل عنهم هذه الملكية إلا بسبب ناقل لها برضا الطرفين، وبالقيمة السوقية لهذه الموجودات، وهذا بخلاف ما عليه هذه الصكوك. [45]
فالمضارب لا يملك من مال المضاربة إلا نسبته من الربح، وبقية المشروع ملك لأرباب المال، بينما في صكوك المقارضة انعكس الأمر. [46]
والثاني: أن الدولة تكفل للمكتتبين رأس المال، وهذا يعني عدم تعرضهم للخسارة في أيّ حال، وهو خلاف عقد المضاربة.
وأجيب: أن كفالة الدولة إنما هي من باب تبرع طرف ثالث بالضمان، وهو جائز. [47]
واعترض: أن تبرع طرف ثالث بالضمان مما وقع الخلاف فيه،[48] لكن ضمان الدولة هنا ليس من ضمان التبرع، بل هو من قبيل القرض؛ لأن جهة الإصدار تتكفل بسداده فور الإطفاء الكامل للصكوك، وبه يظهر أن الضمان الحقيقي يقع على كاهل المضارب (جهة الإصدار)،[49] ولا يجوز شرعًا أن يضمن المضارب مال المضاربة ما لم يتعدّ، أو يفرّط، قال ابن قدامة: "متى شُرط على المضارب ضمان المال، أو سهمًا من الوضيعة، فالشرط باطل، لا نعلم فيه خلافًا". [50]
ثمّ إذا قبلنا كفالة الدولة لرأس مال المكتتبين، جاز أن نقبل كفالتها لمستوى معين من الربح؛ فأيّ فرق بين هذا، وبين السندات الربوية؟. [51]
القول الثاني: أنها صكوك قرض ربويّ.
واختاره عدد من المعاصرين. [52]
واستدلوا: أن هذه الصكوك مضمونة السداد، مع زيادة على أصل الدين؛ بدليل أنها تسدد بقيمتها الاسمية التي اشتريت بها، ولو كان ملاك الصكوك مالكين لموجودات الشركة، لكان حقهم في قيمتها الفعلية بحسب أنصبتهم، وبحسب سعر السوق،[53] مما يعني أنه ليس للملاك "إلا حق نقديّ اسميّ في ذمّة الطرف الآخر، وهذا هو مركز الدائن، لا مركز الشريك".[54]
ونوقش: أن الصكوك إنما صدرت لتمويل مشروع، أو مجموعة مشاريع استثمارية، تدرّ أرباحًا، مما يدل على أنها عقود مضاربة. [55]
وأجيب من وجهين:
الأول: أن القروض كذلك قد تموّل مشاريع استثمارية إنتاجية. [56]
والثاني: أن توزيع الربح لم يتمّ على شروط عقد المضاربة:
أ- فمقتضى عقد المضاربة توزيع جميع الربح على الشركاء، مع بقاء أصل مالهم في الشركة، ومن الظلم البيّن أن يمنع حملة الصكوك من بعض الربح الذي يستحقونه، مما يخصص للإطفاء. [57]
ب- كما أن الربح - محل القسمة - في المضاربة هو الزائد عن رأس المال، وليس هو الإيراد أو الغلّة، ويعرف مقداره بالتنضيض،[58] أو بالتقويم، بينما في صكوك المضاربة لا يوزع إلا الإيراد السنوي. [59]
القول المخـتار:
هو القول الثاني؛ لتوافق هذه الصكوك مع السندات الربوية في أخصّ أحكامها؛ من ضمان رأس المال مع إعطاء زيادة، وسواء كانت هذه الزيادة مبلغًا مقطوعًا، أو نسبة ثابتة، أو نسبة متغيرة من الربح فالحكم واحد، وعدم تحديدها لا يمنع كون العقد قرضًا، ما دام أن أصل القرض مضمون، فالمقرض قد يطلب من المقترض مشاركته في أرباح القرض، مع ضمان أصله، ولا يخرج العقد عن كونه قرضًا، فحقيقة صكوك المقارضة أنها قروض ومشاركة في الأرباح. [60]
قال ابن قدامة: "وكل قرض شُرط فيه أن يزيده فهو حرام، بغير خلاف، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة، أو هدية، فأسلف على ذلك، أن أخذ الزيادة على ذلك ربا".[61]
وإذا أردنا أن نصفي هذه الصكوك من مواضع الإشكال، احتجنا إلى ثلاث خطوات:
الأولى: ترك ضمان رأس المال، وإن كان تبرعًا.
والثانية: تقسيم الربح الزائد عن رأس المال على حملة الصكوك، لا مجرد الإيرادات.
والثالثة: أن يملك حملة الصكوك من موجودات الشركة في حدود حصصهم، ولا يلزموا ببيعها إلا برضاهم؛ بغير وعد منهم، أو بوعد غير ملزم، وبما يُتفق عليه يوم البيع، أو بالقيمة السوقية يومه، وذلك على أساس كونها شركة متناقصة، أو منتهية بالتمليك.[62]
وعندها تأخذ هذه الصكوك حكم عقد المضاربة المشروع؛ سواء كانت مطلقة، أو مقيّدة في مجالات استثمارية محدّدة، واُشترِط فيها ما يشترط لصحة عقد المضاربة من العلم برأس المال، وطريقة توزيع الأرباح، ونحوها من شروط المضاربة، مع تبيين ذلك في نشرة الإصدار.
وإذا أراد المصدِرون لهذه الصكوك المحافظة على التوازن في العائد، ومواجهة مخاطر رأس المال فلهم إنشاء صندوق احتياطي، يموّل عن طريق استقطاع نسبة معينة من أرباح كل دورة، برضا ملاك الصكوك؛ كما سبق. [63]
ويصح تداول هذه الصكوك - بصيغتها المشروعة - في سوق الأوراق المالية بعد انتهاء فترة الاكتتاب بالضوابط الشرعية، ووفقًا لظروف العرض والطلب وإرادة العاقدين.
لكن لما كانت لا تخلو موجودات أيّ شركة مضاربة من أن تكون ديونًا، أو نقودًا، إضافة للأعيان والمنافع، وكان لبيع النقد والدين أحكام تخصّهما، اختلف المعاصرون في حكم تداول هذه الصكوك على خمسة أقوال:
القول الأول: أن وجود النقود والديون مؤثر في تداول الصكوك؛ فتجري عليها أحكام الصرف وأحكام بيع الدين.[64]
واستدلوا: بأنه لا عبرةبحالة الاختلاط، ويعطى كل مكوّن للصكّ حكمه الخاص.
ونوقش من وجهين:
الأول: أن حقيقة الصكّ ليس كونه حصة شائعة من موجودات أو مكونات الشركة، بل كونه حصة شائعة من الشركة نفسها، من جهة شخصيتها الاعتبارية.
والثاني: أن موجودات الشركة من النقود والديون وغيرها غير مقصودة عند تداول الصكوك، بل المقصود ما يحصل من ربح عند بيعها بقيمتها السوقية، والتي لا ترتبط بقيمة موجودات الشركة.[65]
القول الثاني: أن وجود النقود والديون غير مؤثر على تداول الصكوك. [66]
واستدلوا: بأن الصكّ حصّة مشاعة من الشركة نفسها، وموجوداتها دخلت في البيع على سبيل التبع، وما كان تابعًا لا يُفرد بحكم؛ كما سبق. [67]
ونوقش: أن حق المشاركة لا تجوز المعاوضة عنه، فإذا كان هو المقصود من تداول الصكوك بطل تداولها أصلاً. [68]
وأجيب: أن حق المشاركة حق متقوم عرفًا، فتجوز المعاوضة عنه؛ كحق المرور، والشرب، والشفعة، ونحوها من الحقوق المجردة. [69]
القول الثالث: أن وجود النقود والديون مؤثر في تداول الصكوك، إذا كانت مقصودة. [70]
ويعرف القصد بالنظر إلى طبيعة نشاط الشركة؛ فإن كان نشاطها في أعمال الصرافة، أو بيع العملات والذهب والفضة فالنقود مقصودة أصالةً، وإن كان نشاطها في التعامل بالديون، أو البيع الآجل فالديون مقصودة أصالة، وإن كان نشاطها في التعامل في الأعيان والمنافع والحقوق؛ كالاستثمارات الزراعية، أو التجارية، أو الصناعية، أو العقارية، أو الخدمية، فالنقود والديون غير مقصودة أصالةً.
واستدلوا: بأن الصكّ يمثل حصّة من موجودات الشركة؛ من أعيان ومنافع ونقود وديون، فيُحكم للمقصود منها أصالة بالعقد، وغيره يدخل تبعًا؛ إذ يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها،[71] ويُحدد المقصود أصالةً بأصل نشاط الشركة المصرّح به في نظامها الأساسي؛ لأن المشترين للصكوك يقصدون حقيقة أنشطة الشركة وإنتاجها، ومن ثمّ الحصول على أرباحها، ومتى ما حققت الشركة نقودًا، أو حصّلت ديونًا فإنها تعيد استثمارها في نشاطها الأصلي. [72]
ونوقش: أن كثيرًا ممن يتداولون صكوك الشركات لا يعلمون موجوداتها أصلاً، ولا نشاطها، فدلّ على أن اعتبار ذلك غير مؤثر في الحكم. [73]
وأجيب: أن العبرة هنا ليست بقصد العاقد، بل بما يَرِد العقد عليه، وهو يرد على الصكّ بجميع مكوناته. [74]
القول الرابع: أن وجود النقود والديون مؤثر في تداول الصكوك، إذا كانت غالبة. [75]
واستدلوا: بأن محل الصكّ هو موجودات الشركة؛ بما فيها النقود والديون، فإن كانت قليلة كانت تابعة غير مؤثرة، قال العز بن عبد السلام: "القليل يتبع الكثير في العقود، ولا يجوز أن يجعل معظم المقصود تابعًا لأقله". [76]
ونوقش من وجهين:
الأول: أن ضابط التفريق بين القليل والكثير فيه خلاف عند القائلين به، ثم إن تحديد ذلك من موجودات الشركة عسير من الناحية العملية؛ حيث تتبدل مالية الشركة بشكل سريع، ولا يمكن معرفة هذا الشرط لحظة تداول الصكّ. [77]
والثاني: أننا لو اعتبرنا الحقوق المعنوية للشركة؛ كاسمها الاعتباري، ودراسات الجدوى لها، والعقود والامتيازات التي حصلت عليها، والتصريح لها بمزاولة أعمالها لوجدنا أن لها قيمة، تغلب - عادةً – على مجموع نقودها وديونها.[78]
القول الخامس: أن وجود النقود والديون غير مؤثر في تداول الصكوك، إذا كان معها شيء من الأعيان والمنافع.[79]
واستدلوا: بأنالمقصود بالصكّ ما يمثله من أعيان ومنافع وحقوق معنوية؛ بدليل أن غرض المضاربة هو الاسترباح بتحويل النقود إلى أعيان ومنافع، ثم بيعها، فهي المقصودة أساساً في عقود المشاركات، ووجود النقود والديون تابع لها، فلا يفرد بحكم. [80]
ويناقش: بأن نشاط الشركة قد يكون في التجارة بالعملات، أو بالذهب والفضة، أو بالبيع الآجل فيرجع أصل نشاطها إلى تحويل النقود إلى نقود، أو إلى ديون.
سبب الخـلاف:
هل حقيقة الصكوك أنها حصص مشاعة من الشركة نفسها، أو من موجوداتها؟، وهل العبرة بقصد العاقد أو بمحل العقد؟.
يتبع