عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 20-08-2024, 03:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,920
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام

كتاب قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام لمحمود محمد شاكر

صفية الشقيفي


الوجوه الخمسة الملثمة في رسالة ابن سلام
قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر بن أحمد الحسيني (ت: 1418هـ)
ما هذا الذي فعله ابن سلام؟ ولم؟ وفيم؟ وعلام؟ وأسئلة أخرى كثيرة، فاستيقنت نفسي أني لن أجد إلى جوابها سبيلاً إلا بعد تحليل هذه الفقرة الثالثة تحليلاً شافيًا كافيًا معينًا على استخراج ما كمن فيها وفي ألفاظها من دوافعه ومعانيه، ثم أعرض ما أقف عليه عرضًا متصلاً بلا ملل، وإلا فإني واقف طويلاً حيث أنا من حيرتي وتلددي، بلا بصيص من نور يهدي. وما كذبت أن فعلت، وكانت غمة فانزاحت، وتبلج عمود الصبح عن بياضه، بحمد الله على إحسانه وفضله. وبيان ذلك:
أني رأيت هذه الفقرة المباغتة التي شرع ابن سلام يحدثنا فيها عن >مصنوع، مفتعل، موضوع<، قد اشتملت على ذكر >ناس< لم يحدد هو معارفهم وأوصافهم في كلامه، ولم يفصل بين ناس منهم وناس، واشتملت أيضًا على ألفاظ لا ندري نحن حد معانيها عنده، قبل أن تنتهي إلينا محملة بمعان نشبت فيها على مر القرون وعلى طول الاستعمال. فاستخرجت منها خمسة وجوه ملثمة، لا بد من كشف القناع عن ملامحها حتى نتبين قسماتها تبينًا ينفي عنها الغموض والإبهام، وهذه هي على ترتيبها في كلام ابن سلام:
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 29]
الوجه الأول: >قوم تداولوا شعرًا من كتاب إلى كتاب<. ولا ندري من الناس يعني ابن سلام؟
الوجه الثاني: وصف هؤلاء القوم بأنهم >لم يأخذوا هذا الشعر عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء<، فذكر >أهل البادية< >والعلماء<. وهذا أيضًا غير محدد، لأنا لا نعرف ماذا يريد بقوله >أهل البادية<، ولا نعلم من هم هؤلاء >العلماء<؟
الوجه الثالث: ذكر قومًا آخرين سماهم >أهل العلم والرواية الصحيحة<، لهم وحدهم حق إبطال بعض هذا الشعر، ولكنه لم يبين من هم >أهل العلم< ولا معنى ما يريده بالرواية الصحيحة.
الوجه الرابع: ذكر >صحيفة< نهى عن قبول هذا الشعر عنها، وذكر >صحفيًا< نهى كل أحد أن يروى عنه هذا الشعر. وأيضًا تركنا في عمياء دون أن يحدد لنا معنى ما يريد بالصحيفة، ودون أن يبين من يكون هذا >الصحفي<؟
وهذه الوجوه، غير ممكن تبين ملامحها وحدودها على وجه الدقة، فيما أظن، حتى يتم توسم آخرهن، وهو الوجه الخامس، ولذلك رأيت أن أتجاوزها حتى أفرغ منه.
أما الوجه الخامس: فهو وجه >الشعر<، وهو عندي أخفاهن صورة، وأعسرهن على التوسم، وهو أحق بالتقديم، لأنه هو الحقيقة المشتركة الموزعة بين جميعهن. وتحليل معانيه عند ابن سلام في سياق هذه الفقرة، هو الذي سيضيء بنوره معارف هذه الوجوه الأربعة، فنخرج من الشك والتردد، إلى اليقين والاطمئنان.
كان انتقال ابن سلام المفاجئ من منتهى الفقرة الثانية إلى رأس الفقرة الثالثة على هذا الوجه: >فبدأنا بالشعر، وفي الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه<. وأيسر النظر والتأمل دال على أن في أيدينا قسمة واضحة، تجعل >الشعر< قسمين: أحدهما ظاهر في صريح لفظه، وهو >الشعر المصنوع المفتعل
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 30]
الموضوع<، والآخر محدثٌ مضمرٌ يخرج بدلالة المخالفة وهو >الشعر غير المصنوع<. وظاهر السياق بعد ذلك يوهم أن كل ما في هذه الفقرة مصروف إلى الظاهر منهما وهو >الشعر المصنوع< وحده دون >الشعر غير المصنوع<، ولكني بعد تأمل وجدت الأمر غير مستقيم ولا واضح، لأنه بعد أن فرغ من وصف >الشعر المصنوع<، أتى بجملتين متتابعتين فيهما أربعة ضمائر، أولاهن فيها ثلاثة ضمائر متتابعات في قوله: >وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء<، فهذه الثلاثة لا غضاضة في عودتها إلى >الشعر المصنوع<، إلا الضمير الثالث في >لم يعرضوه<، فإن عودته إليه قد تجعل هذه الجملة فضولاً محضًا لا معنى له، لأنه إذا كان جوهر الحديث كله عن >الشعر المصنوع< وحده، فعرضه على العلماء وترك عرضهم عليهم سواء، فإن عرضه عليهم لا ينفعه شيئًا، ومحال أن يصححوه أو يصححوا شيئًا منه؛ لأن الحديث هنا عن >الشعر المصنوع< لا عن غيره من الشعر.
ثم تأتي الجملة الثانية وفيها الضمير الرابع، وهي قوله: >وليس لأحد، إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه، أن يقبل من صحيفة أو يروى عن صحفي< فإن هذه الجملة إذا كانت بضميرها هذه تمامًا لسياق الحديث عن >الشعر المصنوع< وحده، صارت أشد فضولاً وبطلانًا واضطرابًا من الجملة السالفة، إذ لا معنى لإجماع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء، أي بعض من المصنوع دون بعض، وهو عندنا هنا كله مصنوع. وإذا أجمعوا على إبطال بعض المصنوع، فما حكم هذا الباقي، وهو مصنوع أيضًا؟ هذا خلف من الكلام غير مستقيم. بل أكبر من ذلك وأسوأ مصيرًا، أنه إذا كان السياق كله عن >الشعر المصنوع< وحده، فإن هذه الجملة تكون عطفًا على ما قبلها، فإذا بدئ بالشرط الذي فيها، والشرط محتاج إلى جزاء، كان تركيبها هكذا: >وإذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه، فليس لأحد أن يقبل من صحيفة ولا يروى عن صحفي<، وهو كلام، كما يقولون
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 31]
>كبعر الكبش<، يقع متفرقًا غير جار على نظم متصل ولا مشاكلة بين الشرط وجوابه، و>بعر الكبش<، هو الذي يقول فيه القائل:
وشعر كبعر الكبش، فرق بينه .... لسان دعى في القريض دخيل
وهذا لا يقبل ممن هو دون ابن سلام بمنازل لا تعد، فما ظنك بابن سلام! ولو كان الحديث كله عن >المصنوع< وحده لكان حق هذه الجملة أن تكون خاتمة قائمة برأسها، غير معطوفة على ما قبلها، وتكون نهيًا من ابن سلام عن قبول هذا المصنوع وروايته، فيكون حق تركيبها: >وليس لأحد أن يقبل من صحيفة ولا يروى عن صحفي< بإسقاط الشرط المعترض الذي أحال معناها، وجعلها من تمام الحديث >المصنوع< معطوفة عليه. وبذلك يستقيم الكلام على بعض الخلل.
بل إن الأمر سينتهي إلى فساد في المعاني والمقاصد أبلغ وأفحش، فإنه يقول بعقب هذا الكلام مباشرة: >وقد اختلف العلماء بعد في بعض الشعر، كما اختلف في سائر الأشياء، فأما ما اتفقوا عليه، فليس لأحد أن يخرج منه< فنحن بين اثنتين حيال هذه الجملة: إما أن تكون عن سياق حديثه عن >الشعر المصنوع< وحده، والذي استمر في الحديث عنه إلى آخر الفقرة الثالثة عشرة = وإما أن تكون جملة معترضة قائمة على حيالها في خلال الحديث عن >الشعر المصنوع<.
فإذا كانت الثانية، وذلك أن تكون جملة معترضة في السياق قائمة على حيالها، لا علاقة بما قبلها من حديث >الشعر المصنوع<، ولا بما بعدها منه، كأن ابن سلام أعرض عنه إعراضة ليحدثنا مبتدئًا عن >العلماء< الذين عندهم شعر شعراء العرب، ويدلنا على أن هؤلاء العلماء قد اختلفوا في بعض ما عندهم من شعر العرب، واتفقوا على بعض، فما اتفقوا عليه فليس لأحد أن يخرج منه = فإن كان هذا منه، فمعنى ما حدثنا عنه صحيح لا غبار عليه، وهو حق كله، لا يقدح فيه أنه لم يبين لنا معنى اختلافهم هذا، ما هو؟ وما صورته؟ وعلى أي وجه يكون؟ أيختلفون في نسبة قصيدة، ينسبها بعضهم إلى
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 32]

شاعر جاهلي بعينه، وينسبها آخرون إلى جاهلي آخر؟ أم في نسبة بعض أبياتها إلى جاهلي، ونسبة بعضها الآخر إلى جاهلي غيره أو إلى جاهلين آخرين؟ أم في نسبتها كلها إلى مخضرم أو إسلامي؟ أم في نسبة بعضها إلى جاهلي، ونسبة بعضها إلى مخضرم أو إلى إسلامي؟ ووجوه أخرى من الاختلاف كثيرة كلها صحيح وممكن. ولكن ينبغي هنا أن يبقى هذا الاختلاف بعيدًا كل البعد عن الصنع والافتعال والوضع، لأن ابن سلام كما قلنا قد قطع هذا الحديث وأعرض عنه إعراضة، ليحدثنا مبتدئًا عن شيء غير >الشعر المصنوع< ... وإذا كان ذلك كذلك، فقد عدنا مرة أخرى إلى >بعر الكبش< الذي يقع متفرقًا متعاديًا متنافرًا، وبذلك يكون ابن سلام قد ارتكب عملاً غريبًا جدًا، هو إسقاطه جملة معادية لسياق حديثه عن >الشعر المصنوع<، يقذف بها في خلاله، وفي موضع لا يليق بها، وبلا هدف مفهوم، وبلا داع يدعوه إلى ذلك أو يسوله له. وهذا غير سائغ، بل هو فساد واختلال في تنزل الكلام منازله، وسفه متهور في البيان والتبيين، وهو على أي وجوهه غير مرضي ولا مقبول. ولا أظن أن أحدًا يرتاب في أن ابن سلام منزه كل التنزيه عن مثل هذا الخلل والفساد بدلالة كتابه كله.
وأما إذا كانت الأولى، وهي أن تكون هذه الجملة جزءًا من سياق قد أخلصه للحديث عن >الشعر المصنوع< وحده، فعندئذ يصبح معنى قوله: >وقد اختلفت العلماء بعد في بعض الشعر< أن العلماء قد اختلفوا في بعض المصنوع من الشعر. وهذا كلام لا معنى له البتة، على أي وجه كان. وليت شعري في أي شيء يختلفون؟ أيختلفون فيمن صنعه وافتعله ووضعه؟ من يكون أو من يكونون؟ هذا سخف وقلة عقل = أم يختلفون فيقول بعضهم: هذا الشعر المصنوع مصنوع، ويقول آخرون: هذا الشعر المصنوع غير مصنوع!! هذه تخاليط ممرورين لا اختلاف علماء. وأشنع من اختلافهم اتفاقهم: أيتفقون على بعض الشعر المصنوع أنه مصنوع؟ وإذن، فما حكم باقي المصنوع؟ أيفوض هؤلاء العلماء أمره إلى غيرهم ليحكم عليه؟ فيقول المحكم ماذا؟ هذا
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 33]
كله عجب وفوق العجب، وهو بيقين باطل وفوق الباطل، ومحال أن يريد هذا المعنى رجل متهافت العقل، فما ظنك بابن سلام. وإذ بطل هذا الفرض يقينًا، فلم يبق إلا الفرض الأول، أن تكون هذه الجملة معترضة قائمة على حيالها، لا علاقة لها بالحديث عن الشعر المصنوع = وأنها من حيث هي جملة تامة، صحيحة المعنى، على رغم كل ما قلته آنفًا من وقوعها موقعًا غريبًا معاديًا لسياق ما سبقها، وعلى رغم كل ما أدى إليه هذا الموقع الذي لا يليق بها.
وهذا التحليل الموجز المقتضب قد أفضى إلى غرائب في تركيب هذه الفقرة، وهذه هي على تتابعها في السياق:
أولاها: قوله في أولها: >وفي الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه، ولا حجة في عربية، ولا أدب يستفاد، ولا معنى يستخرج ولا مثل يضرب ولا فخر معجب ولا نسيب مستطرف< وهذا بلا ريب حديث طويل عن >الشعر المصنوع< وكشف عن عواره. ثم يقول بعقبه، وقد صرف أذهاننا كلها إليه: >وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء<، فالضمائر الثلاثة في هذه الجملة مصروفة إلى >الشعر المصنوع< وحده خالصة له، وهي لائقة به لا تستنكر.
ثانيتها: وهي الجملة التي تليها مباشرة ملاصقة لها، وهي قوله: >وليس لأحد، إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه، أن يقبل من صحيفة، ولا يروى عن صحفي<، فهذا الضمير الرابع في >شيء منه<، هو أخر الضمائر الثلاثة وشقيقها راضع بلبانها، أو ابن عمها لحا، لازق نسبه بنسبها. والتبعيض في >شيء منه< تبعيض لما يعود إليه هذا الضمير، وهو >الشعر المصنوع<، والشرط المزحزح عن مكانه، يجعل الجملة معطوفة على ما سبقها من حديث عن >الشعر المصنوع<، وأصل سياقه جملة الشرط هكذا: >وإذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه، فليس لأحد أن يقبل من صحيفة ولا يروى عن صحفي<. وهذا خلف من الكلام لا يستقيم من وجوه، أفدحها أن لا معنى لإجماع أهل العلم والرواية على إبطال بعض
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 34]
المصنوع دون بعض. هذا، فضلاً عن أن قوله: >فليس لأحد أن يقبل من صحيفة ولا يروى عن صحفي<، هو جزاء للشرط في صدر الكلام من جهة التركيب النحوي، ولكنه من جهة المعنى >بعر كبش< محض، إذ لا مشاكلة بين المعنى الذي في الشرط والمعنى الذي في الجزاء، كالذي يقول: >إذا كبر الإمام مستقبل القبلة وكبر المأمون، فليس لأحد أن يعبد غير الله<!! وهو كلام كما ترى! وإذا أريد لهذه الجملة أن تدخل في حيز الحديث عن >الشعر المصنوع<، فلا مفر من إسقاط جملة الشرط برمتها، فتكون ختامًا للحديث عن >الشعر المصنوع< ونهيًا عن قبوله، أي تصير: >وليس لأحد أن يقبل من صحيفة ولا يروى عن صحفي<، فهي عندئذ لائقة بالحديث عنه، غير مستنكرة فيه. ولكن أنى لنا هذا!.
وثالثة الغرائب: جملة تختم بها هذه الفقرة التي جرى الحديث فيها خالصًا للشعر المصنوع، وهي قوله: >وقد اختلفت العلماء بعدُ في بعض الشعر، كما اختلفت في سائر الأشياء، فأما ما اتفقوا عليه، فليس لأحد أن يخرج منه<، فكان محالاً كذبًا، كما يقول سيبويه، أن يكون لفظ >الشعر< فيها يراد به >الشعر المصنوع<، وإلا صار اختلاف العلماء واتفاقهم هنا ضربًا مزيدًا من تخاليط الموسوسين. ولكنها إذا فصلت عن السياق، فهي في ذاتها صحيحة المعنى لا غبار عليها، لا بل صادقة بينة الصدق، لأن العلماء فيما نعلمه يقينًا قد اختلفوا في بعض ما عندهم، واتفقوا على بعض. ولما كان ذلك كذلك، وكانت محالاً كذبًا في سياق ما قبلها، فهي إذن جملة معترضة قائمة على حيالها، نزلت في الكلام منزلاً لا يليق بها، وهو تنزيل، شئنا أو لم نشأ، مخل متهور.
وإذن فهذه فقرة فيها ثلاث جمل متتابعات آخذ بعضها برقاب بعض: الأولى أصل في الحديث عن >الشعر المصنوع<، بلا ريب، وفيها ثلاثة ضمائر راجعة إليه = والثانية: فيها ضمير رابع هو شقيق الضمائر الثلاثة الماضية، وبذلك صارت من تمام الحديث عن >الشعر المصنوع<، ولكنها عندئذ أيضًا خلف من
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 35]
الكلام لا يستقيم، وكلام أيضًا يعادي بعضه بعضًا = والثالثة: بيقين قاطع خارجة من سياق الحديث عن >الشعر المصنوع<. هل هذا ممكن؟ هل هذا لائق؟ هل هذا كلام؟ والأمر لله من قبل ومن بعد!!
وقعنا، إذن، في الذي يقول فيه مضرس بن ربعي الفقعسي:
وليل يقول القوم من ظلماته ..... سواء بصيرات العيون وعورها
سواء بصيرات العيون وعورها! لا حول ولا قوة إلا بالله. ما الذي أوقعنا في هذا التيه المتراكب الظلمات. إنه التحليل! أليس كذلك؟ ولكن لا، ولا بد من بيان نستطرد به كما استطرد أسلافنا رحمهم الله. فالتحليل، في الكلام وفي غير الكلام، أمر عسير يشق على الناس، ولا سيما في زماننا. لأنه يبدأ بانتزاع شيء مجتمع له صورة ومعنى، يجزئه المحلل أجزاء دقيقة، فيصير كل جزء منفردًا على حياله، ثم ينظر فيه على حياله أيضًا، ثم يبحث المحلل بعد عن الروابط التي تربط كل جزء بأخيه، ثم عن الروابط الأخرى التي تجعله شيئًا مجتمعًا له صورة ومعنى. وهذا عناء عسر بلا ريب، ولكنه في الحقيقة عناء لذيذ، وعنت مرغوب فيه، لأنه يفضي بنا إلى غاية من الرضى والاطمئنان، وإلى الثقة بوضوح الصورة، وإلى التثبت من سلامة المعنى، وإلى التحقق من براءة الروابط من كل عيب يقدح في وضوح الصورة، وفي سلامة المعنى وانتظامه جمل الكلام من أوله إلى آخره. وقد نظن أن تحليلنا هذا الموجز، لم يفض بنا إلى شيء من ذلك، بل زاد حيرتنا خبالاً. هذا ظاهر الأمر، نعم، ولو لجأنا إلى ضروب أخرى من التحليل هي في طبيعتها أعنف وأغمض وأوغل وأقسى، لزاد الأمر عسرًا وعنتًا فيما أظن، ولكني في الحقيقة مطمئن إلى أن هذا التحليل الذي زاد حيرتنا، هو الذي سوف يعيننا على التهدي إلى مخرج ينقذنا من هذا التيه ومن ظلماته، وينقذ ابن سلام أيضًا معنا، لأنه كان هو قائدنا الذي قذف بنا في ظلماته، وإذا لم نصبر على التحليل في هذه الفقرة
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 36]

الثالثة، فإن مصير المعاني التي ساقها ابن سلام في رسالة كتابه هذا، سوف تكون أشد تهالكًا واضطرابًا وتنافرًا من هذه الفقرة، التي قلت قبل إن غيابها من طبعة الأعجمي يوسف هل كان ضارًا بفهم كلام ابن سلام وبمقاصده، وأن حضورها في طبعتنا كان ضارًا أيضًا في فهم هذه المعاني والمقاصد. وسأنصرف الآن عن تمام التحليل المجرد إلى طلب المخرج، ولكن لا تظن أني سأفارق التحليل بتة واحدة لا رجعة فيها، فهذا ليس مذهبي ولا طريقي في المعرفة والعلم، ولكني سأجتهد أن أنفي ما يزعج وما يشق وما يجلب العنت، بلا مفارقة قاطعة بيني وبين مذهبي وطريقي.
وأعود أدراجي إلى المطلب الأول، وهو كشف القناع عن خامس الوجوه الملثمة في الفقرة الثالثة من كلام ابن سلام وهو >وجه الشعر<، لأنه هو الذي ألجأنا باستطراده إلى شيء غريب عجيب، وهو أن نعود بعد القرون المتتابعة منذ الجاهلية الأولى إلى يومنا هذا، إلى محالة منكرة في لفظ >الشعر< نلتمس بها تحديد معارف وجهه وملامحه وصورته عند ابن سلام.
ووجه >الشعر< عندنا نحن عرب اليوم، وعند أسلافنا منذ دهور متطاولة، ومنهم ابن سلام نفسه، وجه معروف لا يتنازع في تبينه أحد، هذا أمر مسلم به فيما أظن. ولفظ >الشعر< في لسان العرب موضوع للدلالة على كل كلام شريف المعنى، نبيل المبنى، محكم اللفظ، يضبطه إيقاع متناسب الأجزاء، وينتظمه نغم ظاهر للسمع، مفرط الإحكام والدقة في تنزيل الألفاظ وجرس حروفها في مواضعها منه، لينبعث من جميعها لحن تتجاوب أصداؤه متحدرة من ظاهر لفظه ومن باطن معانيه، وهذا اللحن المتكامل هو الذي نسميه >القصيدة<، وهذا اللحن المتكامل مقسم أيضًا تقسيمًا متعانق الأطراف متناظر الأوصال، تحدده قواف متشابهة البناء والألوان، متناسبة المواقع، متساوية الأزمان، هذا هو >الشعر<. والذي يتوخى هذا الضرب الشريف النبيل المحكم من الكلام، ويأخذه بحقه، ويبذله بحقه، فتصغى إليه الأسماع والألباب مأخوذة بسحره وجماله وجلاله، هو >الشاعر<. هذه هي بديهة اللغة، وبديهة
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 37]
أصحاب اللسان العربي قديمه وحديثه، في الأحقاب بعد الأحقاب. والذي يسمع مثلاً ما رواه أبو عبد الله البخاري في صحيحه، وأبو عبد الله أحمد بن حنبل في مسنده، من حديث أبيّ بن كعب الأنصاري، سيد قراء القرآن، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: >إن من الشعر حكمة<. لا يخالجه ارتياب يدعوه إلى طلب حد أو رسم أو تصنيف للفظ >الشعر<، ولا يلتمس له بيانًا سوى هذا البيان الحاضر في كل نفس عربية على بديهة اللغة، وعلى البديهة التي توارثها أصحاب اللسان العربي من المحدثين والقدماء. فهل يرتاب في ذلك أحد؟ أظن أن لا.
فإذا جاء أبو عبد الله محمد بن سلام الجمحي، وقد عقد عزمه على أن يؤلف كتابًا في >الشعر< و>الشعراء<، ورأى أن يعرض علينا منهجه في تأليف الكتاب، لم يخالجنا شك في معنى هذين اللفظين على ما في أنفسنا من بديهة اللغة. وإذا بدا له أن يبدي لنا عذره الذي حمله على جعله كتابًا مختصرًا غير مستوعب لشعر العرب وشعرائها جميعًا، فنحن معه نتابعه على هذه البديهة العربية. فإذا ابتدأ كتابه برسالة يذكر فيها هذا العذر بكلام متصل بلا استطراد يجمع الفقرة الثانية من تقسيمنا نحن للكتاب. إلى أختها التي لا يتم الكلام إلا بها فقال: >ذكرنا العرب وأشعارها، والمشهورين المعروفين من شعرائها وفرسانها وأشرافها وأيامها، إذ كان لا يحاط بشعر قبيلة واحدة من قبائل العرب، وكذلك فرسانها وساداتها وأيامها. فاقتصرنا من ذلك على ما لا يجهله عالم ولا يستغنى عن علمه ناظر في أمر العرب فبدأنا بالشعر، ففصلنا الشعراء من أهل الجاهلية والإسلام والمخضرمين الذين كانوا في الجاهلية وأدركوا الإسلام فنزلناهم منازلهم، واحتججنا لكل شاعر بما وجدنا له من حجة، وما قال فيه العلماء ...< ومضى على ذلك حتى يفرغ من كتابه كله. فنحن معه بلا ريب على بديهة اللغة وبديهة أصحاب اللسان العربي وورثته، لا يخامرنا شك في أنه عنى بالشعر، هذا الكلام الشريف النبيل المحكم الذي وصفناه، وعنى بالشعراء، هؤلاء العرب الذين أخذوا الشعر بحقه وبذلوه بحقه. كما قلنا. ولم نحتج نحن
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 38]
إلى سؤاله عن معناه عنده، ولا يرى هو حاجة إلى أن يبين لنا بيانًا آخر عنهما. أليس كذلك؟ بلا ريب، بلى، وجير، أيضًا كما يقول امرؤ القيس.
ولكن ابن سلام لم يفعل ذلك، بل فعل ما أشقانا وأشقاه كلامه، وقف يستريح استراحة لينفس نفسًا أو نفسين عند آخر قوله: >فبدأنا بالشعر<، وغاب عنا غيبة، ثم إذا به يأتي من تلك الغيبة منقضًا مسرعًا عجلاً ثائرًا، مخترمًا حديثه عن >الشعر<، مقتحمًا بديهتنا التي كنا معه عليها، متهجمًا على بديهة اللغة المتوارثة، محدثًا فيها صدعًا جائزًا بائنًا وهو يقول: >وفي الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه، ولا حجة في عربية، ولا أدب يستفاد، ولا معنى يستخرج ولا مثل يضرب، ولا مديح رائع، ولا هجاء مقذع ولا فخر معجب ولا نسيب مستطرف<، ولولا أنه تعب، فيما أظن، لما كفكف من انقضاضه وعجلته وسرعته وثورته شيئًا حتى يستقصى كل عيب كائن فيما يتحدث عنه، أي >شعر<، هذا الذي فيه ما فيه مما وصف بعد؟ أهو >الشعر< الذي تعرفه بديهة اللغة وبديهة أصحاب اللسان العربي، وهو كل كلام شريف المعنى، نبيل المبنى، محكم اللفظ، كما وصفناه آنفًا، والذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: >إن من الشعر حكمة<؟ بلا ريب لا. أهو >الشعر< الذي عقد ابن سلام عزمه على أن يؤلف فيه كتابًا، فحدثنا عنه إلى أن وقف عند قوله: >فبدأنا بالشعر<؟ بلا ريب لا، أيضًا. فإذا كان ذلك صحيحًا وهو صحيح بلا ريب، فما معنى هذا الذي اخترم به ابن سلام بديهة اللغة، وصدعَ به هذه البديهة صدعًا بائنًا بقوله: >وفي الشعر مصنوع مفتعل ...< إلى آخر ما قال؟
وفي بعض الأناة خير إن شاء الله. هذا >الشيء< الذي سلبه ابن سلام كل فضيلة فقال: >هو مصنوع مفتعل موضوع لا خير فيه، ولا حجة في عربية، ولا أدب يستفاد، ولا معنى يستخرج، ولا مثل يضرب، ولا مديح رائع، ولا هجاء مقذع، ولا فخر معجب، ولا نسيب مستطرف<، ولولا التعب لزاد وبالغ، أهذا >الشيء< الذي سلبه كل فضيلة، وهو كلامٌ بلا ريب، ممكن أن يدخل في الكلام الشريف النبيل المحكم، الذي تلتمس في بعضه الحكمة،
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 39]
والذي هو >الشعر<، على بديهة العرب وبديهة لغتهم، ويكون جزءًا منه أو معدودًا فيه أو مسمى باسمه؟ أظنه محالاً مفرط الاستحالة، وأنا لا أحب أن أستقصى هنا الأسئلة، وأعود محللاً موغلاً في التحليل مرة أخرى، فمن أجل ذلك أوجز مقالتي ما استطعت. وأنا لا أشك أن ابن سلام لما جاء مقتحمًا متهجمًا على بديهة لفظ >الشعر>، كاد يفلت لسانه فيقول: >وفي الشعر، >شعر< مصنوع مفتعل موضوع...< ولكنه أمسك ورد اللفظ، مستنكفًا متقذرًا، من تسمية هذا الكلام المسلوب كل فضيلة >شعرا<، فقال: >وفي الشعر، مصنوع مفتعل موضوع<، لأنه أبى من أن يجعل هذا الشيء المتقذر قسيمًا للفظ >الشعر< الشريف النبيل المحكم، أو نظيرًا له، أو بعضًا منه، وعجل، فلم يغير ما ابتدأ به، وأفاض في سلب الفضائل عما تقذره من الكلام.
والدليل على هذا الذي أقول قائم حاضر في كلام ابن سلام نفسه فيما بعد ذلك بقليل، ومأخوذ عنه، فإنه لما فرغ من هذه الفقرة الثالثة، وعقب عليها بحديث يتصل ببعضها اتصالاً وثيقًا، بدأ في الفقرة السابعة يدلنا على أسباب ثورته وعجلته، فقال، وتأن عند كل لفظ من قوله: >وكان ممن أفسد الشعر وهجنه، وحمل كل غثاء منه: محمد بن إسحق بن يسار مولى آل مخرمة ... وكان من علماء الناس بالسير = قال الزهري: لا يزال في الناس علم ما بقى مولى آل مخرمة. وكان أكثر علمه بالمغازي والسير وغير ذلك، فقبل الناس عنه الأشعار، وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لي بالشعر، أتينا به فأحمله. ولم يكن ذلك له عذرًا. فكتب في السير أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط، وأشعار النساء فضلاً عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود، فكتب لهم أشعارًا كثيرة، وليس بشعر، إنما هو كلام مؤلف معقود بقواف<. هذه واحدة.
ثم إنه قال في آخر الفقرة الثانية عشرة، بعد أن فرغ من استطراده فقال: >ونحن لا نجد لأولية العرب المعروفين شعرًا، فكيف بعاد وثمود؟ فهذا الكلام
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 40]
الواهن الخبيث، ولم يرو قط عربي منها بيتًا واحدًا، ولا راوية للشعر، مع ضعف أسره وقلة طلاوته<، هذه ثانية.
ثم عقب على ذلك بالفقرة الثالثة عشرة، التي ختم بها هذا الجزء من استطراده المقتحم، ما بين الفقرة الثانية والفقرة الحادية والثلاثين، فقال الجملة المشهورة التي زل عليها من زل من المشككين في الشعر الجاهلي، وهي قوله: >وقال أبو عمرو بن العلاء في ذلك: ما لسان حمير وأقاصي اليمن اليوم، بلساننا، ولا عربيتهم بعربيتنا، فكيف بما على عهد عاد وثمود، مع تداعيه ووهيه، فلو كان الشعر مثل ما وضع لابن اسحق، ومثل ما روى الصحفيون، ما كانت إليه حاجة، ولا فيه دليل على علم< هذه ثالثة.
ثم لما فرغ ابن سلام من استطراده بعد الفقرة الثلاثين، ودخل في تتمة عرض كتابه منذ الفقرة الحادية والثلاثين، ذكر دليله على ذهاب شعر الجاهلية وسقوطه (أي ضياعه ونسيانه فسقط من ذاكرة العرب) فقال في الفقرة الرابعة والثلاثين: >ومما يدل على ذهاب الشعر وسقوطه، قلة ما بقى بأيدي الرواة المصححين لطرفة وعبيد، اللذين صح لهما قصائد بقدر عشر، وإن لم يكن لهما غيرهن، فليس موضعهما حيث وضعا من الشهرة والتقدمة. وإن كان ما يروى من الغثاء لهما، فليس يستحقان مكانهما على أفواه الرواة< فهذه رابعة.
وهذه الأربعة فيها تمام نعت >الشيء< الذي تقذرت بديهته العربية أن تسميه شعرًا، فأسقط الموصوف من عبارته واستبقى الصفة، فقال: >وفي الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه، ولا حجة في عربية، ولا أدب يستفاد،...<، إلى آخر النعوت التي سلبته وعرته من كل فضيلة حتى بدت سوأته. وتمام هذه النعوت المعرية، أنه >الغثا<، و>الكلام الواهن الخبيث<، >مع ضعف أسره وقلة طلاوته<، و>مع تداعيه ووهيه<، و>لم يرو قط عربي منه بيتًا واحدًا ولا راوية للشعر<، و>لو كان الشعر مثل هذا الذي وضع لابن إسحق، ومثل ما روى الصحفيون، ما كانت إليه حاجة، ولا فيه دليل على
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 41]

علم، ثم نفاه نفيًا من طريقه فقال: >وهو ليس بشعر، إنما هو كلام مؤلف معقود بقواف<.
وإذن، فابن سلام يستنكف أن يكون هذا الكلام الواهن الخبيث المصنوع المفتعل ضريعًا للشعر، أو قسيمًا له يشاركه في الاسم، أو نظيرًا له وإن باينه في الصفة، أو جزءًا منه يفارقه في الجودة أو الرداءة، أو معدودًا معه يقع تحت الطرف البعيد من أقاصي ظله، فنفاه نفيًا، ولم يطق إلا أن يسميه، لخبثه ووهيه ووهنه، >كلامًا مؤلفًا< قد عقدت أواخره بقافية! وحين احتاج إلى الإشارة إليه في سائر كلامه، وفي أكثر من عشرة مواضع، لجأ إلى الحيلة في العبارة عنه، تقززًا من أن يختلط هذا الغثاء الخبيث، بالكلام الشريف النبيل المحكم، معدن الحكمة، وهو >الشعر<، فهجر هذا اللفظ المفرد، ولجأ إلى الجمع وهو >الأشعار<، فأطلقه عليه حيث وقع من كلامه، لأن اللغة استعصت عليه أن يجد له فيها وسمًا يسمه به، أو لفظًا يدل عليه، ولأن هذا الغثاء الخبيث مطروح على وزن الشعر معقود بمثل قوافيه، ولأن بعضه ينسب إلى من تعرف من الشعراء، أو إلى ناس تكذب واضعوه عليهم فأقحموهم مع الشعراء، فأشار إليه بقوله >الأشعار<، ولكنه ليس من >الشعر< المعروف في بديهة اللغة في شيء، لا قليل ولا كثير.
وإذن، فابن سلام حين انتهى عند قوله: >فبدأنا بالشعر<، وسكت يستريح، ثم جاء بغتة منقضًا ثائرًا متقحمًا عجلا مندفعًا يقول: >وفي الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه<، قد اخترم بديهة اللغة، وبديهة سامعيه، وبديهة نفسه هو، وصدع البديهة صدعًا بائنًا جائزًا، وكان في عجلته وتسرعه الزلل والخطأ في التعبير، وصار ظاهره لظفه الذي سبق لسانه أناته وفكره، يوهم من قرب أن الكلام الشريف النبيل المحكم معدن الحكمة، الذي تتفجر ينابيعه على ألسنة الشعراء عبيد >الشعر<، وذلك الغثاء الخبيث الواهن المؤلف المطروح على عقد القوافي، والذي لا يعرف له أب ولا صاحب = كلاهما يقع عليه لفظ >الشعر< المعروف ببديهة اللغة وقوعًا واحدًا = وأن هذا الخبيث قسيم ذلك الشريف في دلالة اللفظ!.
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 42]
ومن جراء هذا الإيهام القريب الظاهر قلت في فاتحة تحليلي السالف: >إن أيسر النظر والتأمل، دال على أن في أيدينا قسمة واضحة، تجعل الشعر قسمين: أحدهما ظاهر في صريح لفظه، وهو الشعر المصنوع المفتعل الموضوع، وآخر محدث مضمر يخرج بدلالة المخالفة، وهو >الشعر غير المصنوع<، وأستغفر الله وأتوب إليه، فقد تبين الآن أن هذا قول باطل أشد البطلان عندنا وعند ابن سلام نفسه = وأن الذي في أيدينا إنما هو وهم فاسد = وأن ليس في أيدينا قسمة واضحة أو غير واضحة، وأن ليس في أيدينا ظاهر يقال له >شعر مصنوع<، بل غثاء خبيث معقود بقواف، وأن ليس في أيدينا مضمر يخرج بدلالة المخالفة يقال له >شعر غير مصنوع<، لأن لفظ >شعر< جار أبدًا على بديهة اللغة وبديهة ورثتها، لا يحتاج إلى صفة تبين عنه، أو نعت يميزه من غيره. وإذن فقد بطلت القسمة، وهلك التقسيم الفاسد، وبقى لفظ >الشعر< في قول ابن سلام: >وفي الشعر مصنوع<، جاريًا على بديهته ونقائه وشرفه ونبله، مبرأ من كل حاجة إلى بيان يرفع من خسيسته، لأنه بائن من كل كلام بشرفه ونبالته. وآخر عذر لأبي عبد الله محمد بن سلام الجمحي أنه عجل، فزل، فأخطأ، فأضلنا خطؤه عن مراده. ولكن هل من سبيل إلى معرفة السر الذي قاده إلى هذا الزلل، وإلى تبين الصواب الذي ينفي هذا الخطأ، وإلى المخرج من التيه المتراكب الظلمات الذي أوقعتنا فيه هذه الفقرة الثالثة المحيرة، في فاتحة رسالة >طبقات فحول الشعراء<؟ فأقول: نعم! ونعامى عين.
ويبدو أن الحيرة التي رافقتنا بما أحدثته الفقرة الثالثة، فعالجت أمرها حتى كدت أفلت منها ولما، عادت تحاصرني الآن بأسباب من قبل نفسي! بأيهما أبدأ، أبالبحث عن سر ما أوقع ابن سلام في الزلل، أم بتبين الخطأ في عبارته، وتصحيح سياقها؟ وسياق ما كنا فيه آنفًا يتطلب أن أبدأ بثانيهما، ليكون سياقًا واحدًا، بعد أن ثبت أنه محال أن يكون بناء الفقرة الثالثة مقصورًا على الغثاء
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 43]
المصنوع المفتعل الموضوع وحده، وأشد منه استحالة أن يكون لفظ >الشعر< في عبارة ابن سلام واقعًا على هذا الغثاء الخبيث مشتملاً عليه، فيكون بعضًا منه، أو داخلاً في بديهته. ولكني تأملت، وجدت أن ما في صدري في الحديث إذا أنا تابعت السياق مضطرب غير قابل للبيان، أو على الأصح وجدتني محبوسًا عن هذا البيان. وأنا كثير الترداد؛ لما قرأته قديمًا من كلمة لإمامنا محمد بن إدريس الشافعي، بلغ بها أقصى غوامض النفس الإنسانية التي علمها الله البيان بقدرته وعزته، وفوض إليها الجهاد في بلوغ ما تريد منه. وذلك أن الإمام يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري، وهو من أصحاب الشافعي، وكان ركنًا من أركان الإسلام في زمانه (170 – 264هـ) سأل الشافعي يومًا عن مسألة، فقال له: >يا يونس، إني لأجد بيانها في قلبي، ولكن لا ينطلق به لساني<. ما أروعها كلمة! وكل ناطق بلسان أو كاتب بقلم، يجد ذلك في نفسه وجدانًا ظاهرًا، إذا أخذ البيان بحقه، وحرص على إجادته، وأنا أجد هذا في نفسي الآن، وأنا أحاول أن أسوق الحديث على وجهه من التعانق والتواصل، وأجده عسيرًا أن أبين عن جميع ما فيها، لأن بعض هذا الحديث يخلجني ويشدني شدًا إلى الحديث عن سر ما أوقع ابن سلام في الزلل، لأنهما في الحقيقة مترابطان. فجعلت أميل الرأي بين الأمرين حائرًا حتى كاد يضيع وقتي في الحيرة. وبعد لأي عزمت على أن أبدأ بأولهما كما وقع اتفاقًا في ترتيب الأسئلة، مهما يكن في ذلك من انقطاع حديثي عن الفقرة الثالثة.
ولد أب عبد الله محمد بن سلام الجمحي بالبصرة سنة 139، وقضى بها أكثر عمره، ثم بدا له فانتقل إلى بغداد سنة 222، وهو في الثانية والثمانين من عمره، وأقام بها حتى توفى في سنة 231، وقد بلغ الثانية والتسعين. وقد بلغ ابن سلام مرتبة الإمام في علم الشعر والأخبار، حتى قال الرياشي عنه: >أحاديث محمد بن سلام عندنا (يعني عند أهل العلم والرواية الصحيحة) مثل حديث أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة<، يعني حديث أيوب بن أبي تميمة السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، في الصحة
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 44]
والسلامة والقوة، ومع ذلك لم يقع في أيدينا من كتب ابن سلام سوى كتاب >طبقات فحول الشعراء<، وقد دلت رسالة هذا الكتاب الذي أفرده للشعر، على أنه سوف يتبعه بكتاب أو كتب عن >أشراف العرب وساداتها وفرسانها وأيامها<. وفي فهرس النديم أن له كتابًا سماه >بيوتات العرب<، لم يصل إلينا منه شيء، وظني أنه كتاب عن >أشراف العرب وساداتها وما لهم من شعر<. ودلنا أبو الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني على كتاب آخر هو كتاب >الفرسان< أو >فرسان الشعراء<، لم يصل إلينا نصًا، ولكنه كان عند أبي الفرج، تلقاه مكتوبًا من أبي خليفة الفضل بن الحباب الجمحي، ابن أخت ابن سلام. وظاهر كلام ابن سلام في رسالة الطبقات. فمتى ألف هذه الكتب الثلاثة؟ وأولهن خاصة؟). [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 29- 45]



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.64 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 41.01 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.51%)]