عرض مشاركة واحدة
  #286  
قديم 18-08-2024, 06:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,565
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 286)

من صــ 491 الى صـ 500



قال: فتركتم ما أتت به الرسل والنبوات في المسيح وهو أصلكم الذي وقع عليه بناؤكم، وجعلتم لأنفسكم شريعة غيرها، ومثل الذين عقدوا هذه الشريعة لكم مثل من آمن بنبوة رجل ينتفي من النبوة، لأن المسيح عليه السلام يقول: إنه مربوب مبعوث، ويقول جبريل: إنه مكرم مصطفى، وأن أباه داود، وأن الله جعله ملكا على آل يعقوب، وينادي مناد من السماء بمثل ذلك، ويشهد يحيى بن زكريا على مثله، وتقولون: بل هو خالق أزلي إلا أنه يستر نفسه، ويقول: المسيح وغيره ممن سمينا أنه معطى وأن الله معطيه، وتقولون: بل رازق النعم وواهبها، ويقول: إن الله أرسله، وتقولون:
بل هو الذي نزل لخلاصنا، وتعتقدون سبب نزوله من السماء أنه أراد أن يخلصكم، ويحتمل الخطيئة، ويربط الشيطان! فقد وجدنا الخلاص لم يقع، والخطيئة قائمة لم تزل، والشيطان أعتى ما كان لم يربط، بل سلطه الله عليه على ما تقولون، فحصره في الجبل أربعين يوما يمتحنه، وقال له في بعض أحواله معه: (إن كنت ابن الله فقل لهذه الصخور تصير خبزا، فقال له المسيح مجيبا له: إنه مكتوب أن حياة الإنسان لا تكون بالخبز، بل بكل كلمة تخرج من الله.

ثم ساقه الشيطان إلى مدينة بيت المقدس، وأقامه على قرنة الهيكل، وقال له: إن كنت ابن الله فارم بنفسك من هاهنا، فإنه مكتوب إن الملائكة توكل بك، لئلا تعثر رجلك بالحجر. قال يسوع: ومكتوب أيضا: لا تجرب الرب إلهك. ثم ساقه إلى جبل عال وأراه جميع مملكات الدنيا وزخارفها، وقال له: إن خررت على وجهك ساجدا لي جعلت هذا الذي ترى كله لك. قال له المسيح: اغرب أيها الشيطان، فإنه مكتوب: اسجد للرب إلهك، ولا تعبد شيئا سواه. ثم بعث الله عز وجل ملكا اقتلع العدو من مكانه ورمى به في البحر، وأطلق السبيل للمسيح.

وقال: أفلا يعلم من كان في عقله أدنى مسكة، أن هذا الفعل لا يكون من شيطان إلى إله، ولو كان إلها لأزاله عن نفسه قبل أن يأتيه الملك من عند ربه، ولما قال: (أمرنا أن لا نجرب الله، وأن نسجد للرب، ولا نعبد شيئا سواه). وكيف لم يربط الشيطان عن نفسه قبل أن يربط عن أمته؟ قال: فهذه أمور إذا تأملها المتأمل قبحت جدا، وكثر اختلافها، واشتد تناقضها واضطرابها.

قال: ومما يعجب منه أنكم تعتقدون أن الابن الأزلي اتحد بالمسيح فصارا بجهة واحدة ولم يفارقه قط منذ اتحد به، ومكث على ذلك في بطن أمه تسعة أشهر، ثم أقام مولودا وتغذى باللبن، ومربوبا صبيا مغذى بالأغذية إلى أن بلغ ثلاثين سنة لا يظهر منه شيء من آلة الربوبية، ولا أمر يوجب هذا المحل، ولا كان بينه وبين نظرائه من الآدميين فرق، ولا سطع منه نور، ولا ظهرت له سكينة، ولا حفته الملائكة بالتهليل، ولا ألم به الشعث بعد ذلك فوق ما كان من الأنبياء قبله، فقد كلم الله موسى من العوسجة كيف شاء فأشرق ما حولها نورا، وكلمه من طور سيناء فاضطربت في الجبل النيران، والتبس وجهه النور الساطع حتى كان يتبرقع إذا جلس مع بني إسرائيل بعد ذلك، لأنهم كانوا لا يستطيعون النظر إليه، ثم سأل موسى ربه عز وجل لما قرب

منه فقال: رب أرني أنظر إليك. قال: لن تراني ولكن انظر إلى الجبل، فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق) من صعقته استغفر ربه فتاب عليه، وتجلى مجد الله لجماعة من الأنبياء فرأوا حول مجده ربوات الملائكة.

وقال داود: (يا رب إنك حيث عبرت ببلاد سنين تزلزلت الأرض منك وانفطرت من هيبتك). وقال أيضا كالمخاطب للبحر والجبال والمتعجب منها: (ما لك أيها البحر هاربا، وأنت يا نهر الأردن لم وليت راجعا، وما لك أيتها الجبال تنفرين كالأبابيل، ومالكن أيتها الشوامخ والهضبات تنزو نزو الشياء). ثم قال كالمجيب عنهم: (من قدام الرب تزلزلت البقاع).
قال: فإن كان المسيح هو الأزلي الخالق أو كان متحدا به، فكيف لم ترجف بين يديه الجبال ولم تتصرف عن مشيئته الأنهار والبحار؟ أو كيف لم تظهر منه آيات باهرات أجل من آيات الأنبياء قبله مثل المشي على متون الهواء، والاضطجاع على أكتاف الرياح، والاستغناء عن
المآكل والمشارب وإحراق من قرب منه من الشياطين والجن، كما أحرق إيليا من قرب منه من جند أحاب الملك، ويمنع الآدميين من نفسه، وما فعلوا على زعمكم بجسمه ليعلم الناس أنه خالقهم أو أنه هيكل الخالق؟

قال: ووجدناكم تقولون: إن الابن إنما يسمى ابن الله وكلامه، لأنه تولد من الأب وظهر منه، فلم نقف على معنى ذلك، لأن شريعة إيمانكم تقول: إن الروح أيضا تخرج من الأب، فإن كان الأمر كما تقولون فالروح أيضا ابن، لأنها تخرج عن الله تعالى، وإلا فما الفرق بينهما؟
قال: ولم نفهم أيضا قولكم: إن الابن تجسد من روح القدس، وأن روح القدس ساقه إلى البر ليمتحنه الشيطان، فما كانت حاجة الابن إلى أن تكون الروح وهي في قولكم مثله تدبره وتغيره من حال إلى حال، أوما علمتم أن الغير السابق المدبر فاعل، والمسبوق
المدبر مفعول به، فالابن إذن دون الروح وليس مثله، لأن الأزلي لا ينفك من الأزلي وهو مثله.

قال: وإن كان المسيح من روح القدس، كما قال جبريل الملك لأمه مريم، فلم سميتموه كلمة الله وابنه، ولم تسموه روحه، فإنما قال لها الملك: إن الذي تلدين من روح القدس. والروح غير الابن، ولو كان المعنى واحدا لما قالت الشريعة إنه تجسد من روح القدس، وإن روح القدس ساقه إلى البر، وإن روح القدس نزل عليه، ولم تثلثون به في إيمانكم فتقولون: نؤمن بالأب والابن والروح القدس؟
قال: ووجدناكم تقولون أيتها النسطورية: إن لله علما وحكمة هما الابن، وحياة هي الروح قديمين، ولعلمه وحياته ذات كذات الله، وذلك أن علم الله له علم وحياة، ولحياته التي هي روحه علم وحياة، وأن الله الأب لما رأى استيلاء العدو على خلقه ونكول الأنبياء عن مناوأته، أرسل إليه ابنه الفرد وحبيبه وجعله فداء ووفاء للناس أجمعين، وأن ابنه نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانا، ثم ولد ونشأ وعاش ثلاثين سنة يتقلب بين بني إسرائيل كواحد منهم، يصلي
في كنائسهم، ويستن بسننهم، لا يدعي دينا غير دينهم، ولا ينتحل رسالة ولا نبوة ولا بنوة حتى إذا انقضت تلك السنون. أظهر الدعوة وجاء بالآيات الباهرة والبراهين المشهورة، فأنكرته اليهود وقتلته وصلبته، ثم صعد إلى السماء.
وصدقتم بشريعة الإيمان وكفرتم من خالفها، ثم لم تلبثوا أن خلعتموها وانسلختم منها وقلتم: إن المسيح جوهران وأقنومان، جوهر قديم وجوهر حديث، ولكل جوهر أقنوم على حياله، وإن الله جوهر قديم يقوم بمعنيين، فهو واحد يقوم بثلاثة معان، وثلاثة لها معنى واحد، كالشمس التي هي شيء واحد ولها ثلاثة معان: القرص والحر والنور. فالمسيح هو الله، وهو مبعوث غير أنه ليس يعبد.

فكان معنى قولكم هذا: أن المسيح مولود لكنه ليس مفعولا به، وهو مبعوث مرسل لكنكم تستحيون أن تسموه رسولا، إذ كنتم لا تفرقون بين الله وبينه في شيء من الأشياء، وأقبلتم على الملكانية واليعقوبية بالتكفير واللعن لقولهم إن الله والمسيح شيء واحد، ثم لم تلبثوا أن قدمتم المسيح على الله تبارك وتعالى وبدأتم به في التمجيد، ورفعتم إليه تهاليلكم ورغائبكم في أوقات القرابين خاصة، وهي أجل صلواتكم وأفضل محافلكم عندكم، فإنه يقوم الإمام منكم على المذبح من مذابحكم
وأهله مرعوبون فتتوقعون نزول روح القدس، بزعمكم من السماء بدعائه.

فيفتح دعاءه ويقول: (ليتم علينا وعليكم نعمة يسوع المسيح ومحبة الله الأب، ومشاركة روح القدس إلى دهر الداهرين). ثم يختم صلاته بمثل ذلك، فهذا تصريح بالشرك، وتصغير لعظمة الله وعزته أن جعلتم النعم والمواهب لمن هو دونه، وهو معطى ومخول من عند الله على قولكم، وجعلتم لله بعد المسيح محبة ولروحه مشاركة.
قال: ووجدناكم قد عبتم على اليعقوبية قولهم: إن مريم ولدت الله، عز الله وجل عن ذلك، وفي شريعة الإيمان التي بيناها المجتمع عليها أن المسيح إله حق، وأنه ولد من مريم، فما معنى المنافرة، وما الفرق، وما تنكرون من قولهم: إن المقتول المصلوب هو الله عز الله وجل عن ذلك؟
وشريعة إيمانكم تقول: نؤمن بالرب المسيح الذي من خبره وحاله الذي ولد من مريم وتألم وصلب على عهد الملك " بيلاطيس "
النبطي، ودفن وقام في اليوم الثالث، أليس هذا إقرارا بمثل قولهم؟ فتدبروا هذا القول يا أولي الألباب.
فإنكم إن قلتم: إن المقتول المصلوب هو الله، فإن مريم عندكم ولدت الله.
وإن قلتم: إنه إنسان فإن مريم ولدت إنسانا، وبطلت الشريعة، فأي القولين اخترتموه ففيه نقض دينكم، ثم عبتم على الملكانية قولهم: إنه ليس للمسيح إلا أقنوما واحدا، لأنه صار مع الأزلي الخالق شيئا واحدا لا فرق بينهما، وقلتم بأن له أقنومين، لكل جوهر أقنوم على حياله، ثم لم تلبثوا أن رجعتم إلى مثل قولهم فقلتم: إن المسيح وإن كان مخلوقا من مريم مبعوثا، فإنه هيكل لابن الله الأزلي، ونحن لا نفرق بينهما، فإذا كان الأمر عندكم على هذا فما تنقمون على الملكية، وما معنى الافتراق؟ وقد رجعتم في الاتحاد إلى مثل قولهم؟ إن هذا الأمر تحار فيه الأفهام.

فإن كانت الشريعة بمعنى الأمانة عندكم حقا، فالقول ما قال يعقوب، وذلك أنا إذا ابتدأنا من الشريعة في ذكر المسيح، ثم نسقنا المعاني نسقا واحدا وانحدرنا فيها إلى آخرها، وجدنا القوم الذين ألقوها لكم قد صححوا أن يسوع المسيح هو ابن الله وهو بكر الخلائق كلها، وهو الذي ولد من مريم ليس بمصنوع، وهو إله حق من إله حق من جوهر أبيه، وهو الذي أتقن العوالم وخلق كل شيء على يده، وهو الذي نزل لخلاصكم، فتجسد وحملته مريم وولدته، وقتل وصلب، فمن أنكر قول اليعقوبية لزمه أن ينكر هذه الشريعة التي تشهد بصحة قولهم ويلعن من ألفها.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 25.38 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 24.75 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.47%)]