عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 17-08-2024, 08:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

‌‌جهل الربح في المضاربة وأحكامه
قوله: [ومُضارَبةٌ]: وكذلك المضاربة، مُفاعَلةٌ من الضرب في الأرض للتجارة، وسيأتي -إن شاء الله- الكلام على عقد المضاربة وحقيقته ومشروعيته وأحكامه ومسائله إن شاء الله تعالى.
لكن مراد المصنف بقوله: [ومُضارَبةٌ] أي: مثل الذي مضى من الحكم بالتحريم في حال إعطاء نسبة من الربح مجهولة ينطبق على عقد المضاربة كما ينطبق على عقد الشركة، فلو قال له: خذ مائة ألف واضرب بها في الأرض للتجارة، وما كان من ربح فسأرضيك منه، أو سأعطيك ما يسرك، فهذا مجهول؛ فإنه لا يدري ما الذي يسره، فقد يكون الذي يسر العامل ثلاثة أرباع الربح، والذي يسره عند رب المال ربع الربح، وقد يسره النصف بالكثير، فهذا يُدخل المفاسد والشرور؛ وقد ذكرنا هذا في مقدمة البيوع حينما بيَّنَّا أن بيوع الجهالة تفضي إلى النزاع والخصومة، كذلك أيضاً لو قال له: اضرب بمالي في الأرض، فاشترى عشرين سيارة -مثلاً-، وأراد أن يتاجر بها، فقال له: هذه العشرون، لي منها فقط ربح سيارتين، والباقي لك ربحه، فهذا لا يجوز؛ لأنه يحتمل ألَّا تربح إلا هاتان السيارتان، واحتمال ألَّا تربح السيارتان وتربح بقية السيارات، ولذلك يدخل على غرر، فلابد أن يشتركا في الغُنْم والغُرْم، وعلى هذا فلابد أن يحددا نسبةً مشاعةً معلومة، كما قلنا في الشركة.
ولو قال له: اضرب بمالي في الأرض، والربح بيني وبينك -يعني: مناصفةً- وأعطيك مع الربح إكرامية، أو هدية، أو أرضيك بزيادة، لم يجز
‌‌الخسارة في الشركة على قدر رأس المال
قوله: [والوضيعة على قدر المال]: [والوضيعة] أي: الخسارة.
[على قدر المال] أي: على قدر ما دفعه الطرفان، فمن دفع النصف فعليه الخسارة بالنصف.
وهذه المسألة تتعلق بالنكسة والمصيبة التي تحدث للشركة، فالطرفان دفعا مائة ألف، ودخلا في تجارة قماش أو طعام أو سيارات أو غير ذلك، ولما دخلا في التجارة اشتريا وخسرا في البيع، ووقعت الخسارة (بخمسين ألفاً)، سلمت خمسون وبقيت خمسون، فالسؤال الآن: هذه الخمسون ألفاً التي وقعت فيها الخسارة، وحصلت فيها النكسة للشركة، هل نجعلها على أحد الشريكين، أو نجعلها على الشريكين؟ وإذا جعلناها على الشريكين هل نجعلها بنسبة الربح أو بنسبة رأس المال؟

‌‌الجواب
أن الوضيعة تكون على نسبة رأس المال، في قول جماهير العلماء رحمهم الله، فمن دفع نصف مال الشركة يتحمل نصف الخسارة، ومن دفع ثلاثة أرباع مال الشركة يتحمل ثلاثة أرباع الخسارة، فلو أن الشركة بأربعين ألفاً، وهم أربعةُ أشخاص فقط، وكلُّ شخص دفع عشرة آلاف، وخسرت الشركة أربعة آلاف ريال من الأربعين، فإن ما بقي من رأس مال الشركة -وهو ستة وثلاثون- يقسم بينهم -أي: الأربعة-، وبعد ذلك تُجَزَّأُ الخسارة، وكلُّ واحد منهم يغرم ألف ريال؛ لأنه دَفَعَ رُبُعَ رأسِ المال، فيتحمل رُبُعَ الخسارة، فالأربعةُ آلاف ريال رُبُعُها ألف، فكل واحد منهم يتحمل ألف ريال، فتصبح حينئذٍ الخسارة مقسمة على الرءوس بحسب النسبة التي دخل بها الشركاء في شركتهم
‌‌حكم خلط المال في الشركة
قال رحمه الله تعالى: [ولا يشترط خلط المالين، ولا كونهما من جنس واحد]: (فلا يشترط خلط المالين): في شركة العنان إذا دفع أحدهما مالاً والآخر دفع مثله، كأن يكون خمسين بخمسين، فللعماء قولان: - القول الأول: يجب أن يخلط الشريكان ماليهما حتى يصيرا كالمال الواحد، وأكَّدوا هذه الخلطة بأن يختلط المالان على وجه لا يمكن تمييز مال أحدهما من الآخر.
إذاً: لا بد عندهم من شرطين: - الخُلطة، وهو أن يجتمع المالان في مكان واحد، ويُخلَطان مع بعضهما.
- ثانياً: ألَّا يكون أحد المالين متميزاً عن الآخر.
فمثلاً: لو اشترك الاثنان فدفع أحدهما ريالات، والآخر دفع دولارات، فإن الدولارات متميزة عن الريالات، فعند هؤلاء لا يصح، بل لا بد أن يدخلا بالريالات فقط أو الدولارات فقط.
ولو دخلا بالدراهم القديمة، مثل: الدرهم الإسلامي والدرهم البغلي، فالدراهم البغلية نوع، والدراهم الإسلامية نوع، فلو خلطت عُرف أن الدراهم البغلية لفلان، والدراهم الإسلامية لفلان، فالواجب أن تكون بدراهم معينة.
فيشترطون الخُلطة على أتَمِّ الوجوه وأكملِها، وهذا هو أشد المذاهب، وهو مذهب الشافعية.
وأكدوا هذا بأن: - لفظ الشركة وصورة الشركة وحقيقتها في الأصل تقتضي المشاركة، بحيث لا نستطيع أن نميز مال هذا من مال هذا، فإذا كان أحد المالين مميزاً لم تقع الشركة (هذا الوجه الأول).
- قالوا: لو أن المالين دخلا مع بعضهما فإن ذلك أدعى لنصيحة كل من الطرفين للآخر، فإن الذي دفع ماله خمسين ألفاً حينما يراها مع خمسين ألفاً أخرى لا يستطيع أن يميزها ويحس أن ماله مع مال أخيه كالشيء الواحد، وهذا أدعى للحفظ، وأدعى لقوة النصيحة للمال؛ لكن لو أن المال تميَّز وعرفت الدولارات من الريالات، والدراهم من الدنانير، والدراهم بعضُها من بعض، والدنانير المشرقية من الدنانير المغربية -كما في القديم-، فإنه حينئذٍ لا يبعُد أن يضر أحدهما بمصلحة الآخر.
(هذا الوجه الثاني).
- القول الثاني: الجمهور: على أنه لا تشترط الخُلطة، وهذا مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة.
إلا أن المالكية رحمهم الله يشترطون وجود نوع من الخلطة تكون فيه إطلاق اليد، كما لو كان المالان في صندوق واحد أو حانوت واحد، وكلا الشريكين يعملان في المتاجرة به واستثماره.
وهذا المذهب توسط بين المذهبين.
والمذهب الثالث يختلف في هذا.
ولعل مسألة الشركة بالعروض لها تأثير في هذه المسألة.
قال رحمه الله: [ولا يشترط خلط المالين] قلنا: الأصل: الخلط؛ ولا شك أن الشريكين إذا أرادا أن يخرجا من الشبهة فليخلطا ماليهما خلطاً لا يتميز.
هذا هو الأفضل والأكمل

‌‌مسألة: اشتراط أن يكون المال في الشركة من جنس واحد

قوله: [ولا كونهما من جنس واحد]: أي: لا يشترط كون المالين من جنس واحد، فيمكن أن يكون أحدهما من الدراهم، والثاني من الدنانير.
وقد فصلنا في هذه المسألة حينما تكلمنا عن الشروط، وبينا أن الصحيح أن يكونا إما ذهباً وإما فضة، وأنه ينبغي إذا كانا من الذهب أن لا يكون مما يدخله الصرف، وبينا الشبهة في كون أحدهما من الدراهم، والثاني من الدنانير؛ لاحتمال اختلاف الصرف، وبينا أن من الأسباب التي تدعو إلى خوف الضرر: أنه -مثلاً- لو كان مال أحدهما من الدولارات -كما في زماننا-، والثاني من الريالات، وكان العرف الموجود -مثلاً- عندنا هنا بالريالات، فلربما دخلا في الشركة والدولار قيمته ثلاثة ريالات، وإذا تفاصلا وفسخا الشركة صارت قيمة الدولار أربعة ريالات، فيدخل الشريك على الربح بنسبة زائدة في قيمة الدولار؛ لأنه سيُرد له رأسُ ماله، ورأس ماله من الدولارات، وهذا يضر بمصلحة أحد الشريكين، إن كان الدولار غالياً أضر بالربح، وإن كان الدولار رخيصاً أضر بالشريك، فإذا كانت قيمة الدولار ريالين فإنه في هذه الحالة سيخسر ريالاً؛ لأنه دخل وقيمة الدولار ثلاثة ريالات، ويخرج من الشركة وقيمة الدولار ريالان، وحينئذٍ يتضرر.
وعلى هذا قلنا أنه لا بد من اتحاد العملة، واتحاد النقدين على وجه يؤمَن فيه الضرر والغرر
‌‌الأسئلة
‌‌حكم الخسارة بسبب تفريط أحد الشريكين

‌‌السؤال
لو كانت الخسارة بسبب تفريط أحد الشريكين، فما الحكم؟


‌‌الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
أما بعد: فإذا كانت الخسارة بسبب تفريط من أحد الشريكين، فإنه يتحمل مسئولية ذلك التفريط، وبينا ذلك بالأمثلة، منها: أن يقول الشريكان: نتفق على أن البيع لا يكون إلا بالنقد، فباع بالأجل، وباع بالنسيئة والتقسيط، ثم شاء الله أن الذي بِيْعَ له مفلس، وهذا فيه ضرر على الشركة؛ لأن الدفع يتأخر وتدخل الشركة أسوة للغرماء في مال المفلس، وهذا فيه مماطلة وفيه تأخير وإجحاف بمال الشريكين، فحينئذ هذا الضرر أدخله أحد الشريكين دون رضا الآخر.
فنقول للشريك الآخر: هل ترضى بما فعل؟ فإن قال: أرضى، فحينئذٍ يثيبه الله على صبره، وهذا من الإحسان.
أما لو قال: لا أرضى، فحينئذٍ يتحمل الشريك عاقبة هذه الخسارة، ويصبح الدين في مال الشريك، ويغرم لشريكه قيمة المال وربحه، واختلف العلماء: فقال بعضهم: يغرم قيمة المال والربح نقداً، فمثلاً: باع سيارة بعشرة آلاف ريال نسيئةً الذي هو التأخير بالتقسيط، والسيارة لو بيعت نقداً فستباع بخمسة آلاف، ورأس مال الشركة في السيارة أربعة آلاف ريال، فمعنى ذلك أن الربح للشركة سيكون ألف ريال.
فبعض العلماء يقول: يغرم الأربعة آلاف فقط، بمعنى أنه يرد لشريكه ألفين، دون الربح؛ لأن الصفقة ألغيت من أصلها ولأن البيع لم يكن بيع ربح، فقالوا: يرد الأصل فقط.
وبعض العلماء يقول: لا.
البيع تمت فيه صفقةُ ربح رضي فيها الشريك، وكان بالإمكان أن تكون بربح معجل، ففرَّط الشريك، فأدخل الربح المؤجل بالضرر، فيضمن الخمسمائة التي هي نصيب شريكه، فيدفع لشريكه ألفين وخمسمائة، التي هي قيمة البيع بخمسة آلاف نقداً، وهذا هو الأصح والأوجه، أنه يضمن لشريكه -في مثل هذه الصورة- الألفين التي هي جزء الشريك من رأس مال الشركة في الصفقة، ويضمن له الربح من نفس العين المباعة نقداً، وأما بالنسبة للشريك فيكون وجهه على المشتري ويتحمل مماطلته وتأخيره.
والله تعالى أعلم

‌‌حكم زكاة الأموال المضارب بها


‌‌السؤال
اشتركت مع آخر في شركة (مضاربة)، وبعد عامين فسخت الشركة، فهل علي زكاة المال الذي اشتركتُ به مدة السنتين التي مكث المال فيها عند الشريك؟


‌‌الجواب
مال المضاربة تجب فيه الزكاة، والمال المعد للتجارة الأصل وجوب الزكاة فيه، حتى يدل الدليل على إسقاطها، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267] وهذه الآية احتج بها أئمة السلف رحمهم الله، كـ مجاهد ومن تبعه من الأئمة الأربعة، وفقهاء المدينة السبعة كـ سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وغيرهم على أن عروض التجارة تجب فيها الزكاة؛ لأن الله عمم وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267]، والكسب كان بالتجارة.
فالأصل في هذه الآية أن تكون في التجارة؛ لأن الغالب عندما يقال: إن الشخص اكتسب، إنما هو في الشيء الذي يكون فيه الكسب والربح، فهذه الآية من أقوى الحجج على إثبات الزكاة في عروض التجارة.
وعلى ذلك: الفتوى عند أئمة السلف وجماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم على أن عروض التجارة تجب فيها الزكاة، وضُعِّف خلاف مَن خالف في هذه المسألة؛ لأن الأدلة فيها قوية، والأصل أنه مال، فكيف لا نوجب في عروض التجارة الزكاة وقد أوجبنا الزكاة على من حدث ماله بدون تجارة؟! فمن تاجر بماله فإنه من باب أولى وأحرى أن يزكي، وأقل ما نقول: إنه يجب عليه زكاة رأس المال؛ لأن رأس المال في حكم المال المدخر.
وعلى هذا تجب الزكاة في المضاربة تفريعاً على مسألة عروض التجارة؛ لأن مال المضارب مال قد دخل فيه صاحبه من أجل أن ينميه، ويقصد منه الربح والنتاج، كعروض التجارة سواءً بسواء، وعلى هذا تجب عليه الزكاة.
وللعلماء تفصيل في هذا: - بعض العلماء يرى أنه من الدَّين الذي إذا أراد أن يفسخه فسخه، فيقوّم ما عنده على رأس الحول ويزكيه، ويقومه كتقويم عروض التجارة.
- ومنهم من يرى أن الربح غير مضمون، فيزكي رأس المال، ولا يزكي الربح.
على تفصيل عند العلماء، سيأتي -إن شاء الله- عند بيان مسائل المضاربة
‌‌حكم البيع في المسجد

‌‌السؤال
هل الاتفاق على سعر السلعة في المسجد يدخل تحت النهي عن البيع في المسجد؟!


‌‌الجواب
سبحان الله! إذا اتفقوا على قيمة السلعة، فماذا بقي في البيع؟! يعني: إذا اتفقوا على أن السلعة بخمسمائة فهذا أتم ما يكون به البيع، وإذا لم يكن هذا بيعاً فأي شيء يكون البيع؟! فلا شك أنه يدخل في البيع، وهذه من الغفلة عن الله؛ لأن المساجد بنيت لذكر الله عزَّ وجلَّ، ولا شك أن النهي عن البيع وحديث الدنيا -أعني: كراهية حديث الدنيا في المساجد- خاصةً إذا غلب مقصود الشرع، وقد قرر الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات أنه ينبغي أن يكون المكلف في أموره وشئونه على وفق قصد الشرع.
فماذا قصد الشرع من المساجد؟ قصد الله عزَّ وجلَّ من بناء المساجد وعمارتها ما بينه في كتابه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (مَن سمعتموه ينشد ضالته في المسجد فقولوا: لا ردها الله عليك) الله أكبر! مكروب، مفجوع في ماله، حلت به المصيبة، والشريعة شريعة رحمة وتيسير، يقوم يناشد الناس: مَن رأى ضالتي، كما في الحديث: (مَن رأى البعير الأحمر)، (فقولوا: لا ردها الله عليك) يعني: لا يقال له فقط: اسكت، بل يقال له: لا ردها الله عليك، وهذا يدل على عِظَم خطر الحديث في أمور الدنيا في المساجد، وإخراج المساجد عن مقصودها، بل ينبغي أن تعظم وتجل، والله إذا أحب عبداً من عباده قذف في قلبه حب المسجد وإجلاله وتعظيمه؛ لأنه لا يُعَظِّم المسجد إلا من يخاف الله جلَّ جلالُه، ولا يعظم المسجد إلا من يتقي الله سبحانه، كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].
وإذا أردت أن تنظر إلى الرجل الذي يحب الله عزَّ وجلَّ صدق المحبة، ويعَظِّمه كمال التعظيم فانظر إليه -ليس عند دخول مسجده- ولكن منذ أن يخرج من بيته، وهو خاشع متخشع، متذلل متضرع، ذاكر لربه، مقبل على الله عزَّ وجلَّ، لا تلهيه تجارة، ولا تلهيه شئون الدنيا، قد أقبل على الله ورمى بالدنيا وراء ظهره، فإذا دخل بيت الله عزَّ وجلَّ دخله بصدر منشرح، وقلب مطمئن، مقبل على الله عزَّ وجلَّ بكليته، وكأنه أسعد الناس في المسجد، وهذه نعم ينعم الله بها على من يشاء، والمحروم من حرم، فما جعل الله السنن الرواتب، والتبكير إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة إلا من أجل عمارة هذه المساجد.
ومن تعلق قلبه بها، فأحبها وأكثر من غشيانها، وأصبح قلبُه معلقاً بها صدق التعلق فقد تأذَّن الله أن يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، والله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
فالمساجد ما بنيت للقيل والقال، وهذه وصية خاصة لطلاب العلم: إذا أردت أن تعْظُم منزلتك عند الله سبحانه وتعالى فأعطِ كل عبادة حقها وقدرها، سواءً في الزمان أو في المكان، فمثلاً: إذا كان الزمان زمان عبادة، كعشرٍ من ذي الحجة، والعشر الأواخر، وقيام الأسحار، ونحو ذلك من الأوقات المفضلة، فإن استطعت أن تري الله منك الجد والاجتهاد فافعل، فإن الله يُعلي قدرك، ويُعْظِم أجرك، ويفتح عليك من واسع فضله.
وإذا أردت أن تعرف منزلتك عند الله، ومكانتك عند الله، فانظر إلى مقدار حرصك على هذا الخير، فإن كنتَ كلما دخلت المسجد وجدت في قلبك تعظيماً لبيوت الله، ووجدت أنك تطمئن، وأنك تنشرح، وأن هموم الدنيا كلها وراء ظهرك، وأنك في أنس وسعادة وغبطة، وتحس إذا خرجت من باب المسجد أنك في عذاب وشجى.
فإذا بلغت هذه المنزلة فاحمد الله، فإن الله قد أعطاك من فضله شيئاً عظيماً، وإن الله لا يعطي الدين إلا لمن أحب، وأما الدنيا فيعطيها لمن أحب وكره.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل لنا ولكم من ذلك أوفر حظ ونصيب.
ومما كان يوصي به بعض المشايخ رحمة الله عليهم أنه إذا دخل الإنسان المسجد فمن الأمور التي تعين على تعظيم هذه المساجد: - أن يتذكر المحروم من هذه المساجد.
- أن يتذكر المريض الذي حُبس عن بيت الله في مرضه، فهو يتأوَّه ويتألَّم ويتمنى أنه في بيت الله جلَّ جلالُه.
- وأن يتذكر مَن حُرِم من الطاعة كليةً، زاغ قلبه فأزاغ الله فؤاده.
فيحمد الله أن الله شرح صدره للإسلام، وأن حببه للطاعة والقيام، فيدخل هذه المساجد وهو يحس أن الفضل كله لله وحده لا شريك له.
كذلك مما يعين على تعظيمها: أن يحس الإنسان أنه ربما تكون هذه هي آخر صلواته وطاعاته، فيدخل إلى المسجد وهو منكسر القلب لله جلَّ جلالُه لعل الله سبحانه وتعالى أن يجبر كسره، وأن يُعْظِم أجره، فيحسن في عبادته وذكره وشكره، وهذا في معنى قولهم: (صلِّ صلاة مودِّع)، فإن الإنسان إذا أحس كأنها آخر صلاة يصليها، ولربما تكون آخر صلاة يصليها في المسجد، فكم من صحيح سوي قوي خرج من المسجد فأصابه الشلل فلم يعد إليه أبداً، وكم من صحيح سوي صلى عشاءه وأصبح وهو في لحده وقبره، فالمسلم الصالح الموفق يجعل مثل هذه الأمور والعبر والعظات أمام عينيه.
ثم إذا عَظَّمْتَ شعائر الله -وهذا من الأمور التي يبارَك فيها للعبد- لوجدتَ الانشراح في المسجد، في حلق الذكر، في بيوت الله، ولأحسست أن هذه هي الدنيا، وأن هذه هي السعادة، ولا تحس أن غيرك أفضل منك، فمن عَظَّم نعمة الله تأذن الله له بالبركة فيها.
فكم من طالب علم في مجلس علم لا يشعر بنعمة الله عليه، حتى يتأذن الله -والعياذ بالله- بزوال نعمته عنه.
فالشعور بمكانة المساجد، وما فيها من الخير مطلوب.
فهنيئاً ثم هنيئاً لمن عفَّر جبينه بالسجود بين يدي الله.
وهنيئاً لمن رزقه الله عزَّ وجلَّ حب الآخرة والشوق إليها، فأقبل إلى بيوت الله يعمرها بذكره وشكره، وهو يحس أنه أسعد الناس بربه جلَّ جلالُه.
ما الذي يجعل المصلي بمجرد انتهائه من الصلاة مع الجماعة ينطلق كالسهم وكأنه مسجون في مسجده؟! لأنه ما عرف قيمة هذه النعمة التي هو فيها، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (لَغَدْوَةٌ أو رَوْحَةٌ في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها) في الطاعات يستشعر الإنسان أنه لربما هذه اللحظة من رضوان الله عزَّ وجلَّ تكون سبباً في سعادة لا يشقى بعدها أبداً.
والله يا أيها الأحبة! ما قَدَرْنا اللهَ حق قدره، ولو شعر الإنسان بعظيم ما يعده الله لأوليائه وأحبائه وأهل طاعته من رحمته وبركاته ومنِّه وكرمه لأصبح العبد معلقاً بالله جلَّ جلالُه لا يفتر عن ذكر الله طرفة عين، لكنا ما شعرنا بقيمة الطاعة، والمسلم لو تأمل حاله وهو موسد في قبره، وحيد فريد، لا مال ولا بنون، لا ينفعه جاه ولا سلطان، ولا أحد يغني عنه من الله شيئاً، وإذا بهذه الصلاة في ذلك الضيق، وفي تلك الظلمة تتفتح بها أركان القبر فتصبح نوراً له في قبره.
في ظلمة القبر لا أمٌّ هناك ولا أبٌ ولا صديقٌ ثَمَّ يؤنسني فامنن علي بفضل منك يا أملي ما لي سواك إلهي من يخلصني من شعر أن هذه العبادة في هذا البيت من بيوت الله تكون نوراً له في الدنيا والآخرة، ونوراً له في قبره، حَسَّنها وأتمها، وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43].
فلنقدر نعمة الله، ولنشعر أننا أسعد الناس بالله جلَّ جلالُه، وليشعر كل من دخل المسجد أنه ليس بحاجة إلى أن يضيع وقته في البيع والشراء والأخذ والعطاء، وإنه لمن العار على طالب علم وفقه الله فعلم الحلال والحرام وشرائع الإسلام، وأصبح قدوة أمام الناس والأنام أن يُنظر إليه وهو جالس في المسجد يضحك مع هذا ويلهو مع هذا، ولربما وقع ذلك في المواسم المفضلة، كالعشر الأواخر ونحوها.
وقد كان السلف الصالح إذا دخلوا المساجد دخلوها بقلوب مطمئنة، خاشعة متخشعة، كما روي عن عبد الله بن عمر.
فقد كان ابن عمر من أخشع الناس في طوافه، وكان رضي الله عنه وأرضاه ربما بقي في الشوط الواحد قدر خمسمائة آية، وهذا من طول ما كان؛ لأنه كان لا يجاوز الحجر حتى يقبِّله رضي الله عنه وأرضاه، وهذا الصحابي الجليل روى عنه أبو نعيم أن عروة بن الزبير دخل عليه وهو يطوف فسأله عن بنته رمانة، وكانت بنت عبد الله بن عمر، ويُثني عليها بالخير، فأراد عروة أن ينكحها، والنكاح للنفس جائز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكح الواهبة نفسها من الرجل، وقال له إنه يخطب رمانة إليه، فلم يلتفت إليه ابن عمر ولم يرد عليه شيئاً، وإنما أعرض وانصرف في ذكره وعبادته، فظن عروة أنه لا يأبه به، وأنه لا يريد إنكاحه وتزويجه، ثم مضى ابن عمر وسافر إلى المدينة؛ لأن ابن عمر كان في المدينة، وكان قد أتى إلى مكة إما في حج أو عمرة، فلما مرض ابن عمر إبان قدومه من المدينة، جاء عروة يعوده، فلما دخل عليه قال له ابن عمر رضي الله عنه: لقد ذكرت لي أنك تريد رمانة أكما أنت؟ أي: هل أنت على رغبتك وطلبك؟ قال: نعم، فقام فزوجه إياها، وقال له يعتذر: إنك قد سألتنيها في مقامٍ يتراءى للعبد ربُّه.
والمراد بذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث عمر: (أن تعبد الله كأنك تراه) وهو مقام الإحسان.
لا يحب أن يراه اللهُ وهو يلتفت إلى القيل والقال، ولا يحب أن يرى اللهُ منه ما لا يرضيه، وطلاب العلم وأهل الفضل خاصة، يتوجب عليهم أن يدخلونها -المساجد- بقلوب مطمئنة شاكرة ذاكرة تثني على الله بما هو أهله، فإذا بالناس ينظرون إليهم قدوةً، وكم من طالب علم سوي تقي نقي ذكي هدى الله به مَن نظر إليه في بكائه وخشوعه، فدله على ربه.
وهذا كله من توفيق الله.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يجعلنا وإياكم هداةً مهتدين، غير ضالين ولا مضلين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن ل

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 32.17 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 31.54 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.95%)]