
15-08-2024, 10:34 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,500
الدولة :
|
|
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (578)
سُورَةُ الْإِنْسَانِ .
صـ 383 إلى صـ 390
[ ص: 383 ] ومنها يوم الإثنين كما أسلفنا ، فقد جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن صيامه يوم الإثنين ، فقال : " هذا يوم ولدت فيه ، وعلي فيه أنزل " ، وكان يوم وصوله المدينة في الهجرة ، وكان يوم وفاته - صلى الله عليه وسلم - ، فقد احتفى به - صلى الله عليه وسلم - للمسببات المذكورة ، وكلها أحداث عظام ومناسبات جليلة .
فيوم مولده - صلى الله عليه وسلم - وقعت مظاهر كونية ابتداء من واقعة أبرهة ، وإهلاك جيشه إرهاصا بمولده - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ظهور نجم بني الختان ، وحدثت أمه وهي حامل به فيما قيل : أنها أتيت حين حملت به - صلى الله عليه وسلم - ، فقيل لها : " إنك قد حملت بسيد هذه الأمة ، فإذا وقع إلى الأرض فقولي :
أعيذه بالواحد من شر كل حاسد
ثم سميه محمدا " ، وذكر ابن هشام : أنها رأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بصرى من أرض الشام .
وذكر ابن هشام : أن حسان بن ثابت وهو غلام سمع يهوديا يصرخ بأعلى صوته على أطمة بيثرب : يا معشر يهود ، حتى إذا اجتمعوا إليه ، قالوا : ويلك ! ما لك ؟ ، قال : طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به .
وساق ابن كثير في تاريخه ، والبيهقي في خصائصه ، وابن هشام في سيرته أخبارا عديدة مما شهده العالم ليلة مولده - صلى الله عليه وسلم - ، نوجز منها الآتي :
عن عثمان بن أبي العاص : أن أمه حضرت مولده - صلى الله عليه وسلم - ، قالت : فما شيء أنظر إليه في البيت إلا نور ، وإني أنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول : ليقعن علي .
وعن أبي الحكم التنوخي ، قال : كان المولود إذا ولد في قريش دفعوه إلى نسوة إلى الصبح يكفأن عليه برمة ، فأكفأن عليه - صلى الله عليه وسلم - برمة ، فانفلقت عنه ، ووجد مفتوح العينين ، شاخصا ببصره إلى السماء .
وقد كان لمولده من الأحداث الكونية ما لفت أنظار العالم كله .
ذكر ابن كثير منها انكفاء الأصنام على وجوهها ، وارتجاس إيوان كسرى ، وسقوط بعض شرفه ، وخمود نار فارس ، ولم تخمد قبلها ، وغاضت بحيرة ساوة ، فكان في ذلك إرهاص بتكسير الأصنام وانتشار الإسلام ، ودخول الفرس في الإسلام ، ثم كان بدء الوحي [ ص: 384 ] عليه - صلى الله عليه وسلم - في يوم الإثنين .
الحفاوة بهذا اليوم .
لا شك أن العالم لم يشهد حدثين أعظم من هذين الحدثين : مولد سيد الخلق ، وبدء إنزال أفضل الكتب ، فكان - صلى الله عليه وسلم - يحتفي به ، وذلك بصيامه ، وهو العمل المشروع الذي يعبر به المسلم عن شعوره فيه ، والعبادة الخالصة التي يشكر الله تعالى بها على هاتين النعمتين العظيمتين .
أما ما يفعله بعض الناس من احتفالات ومظاهر ، فقد حدث ذلك بعد أن لم يكن لا في القرن الأول ولا الثاني ، ولا الثالث ، وهي القرون المشهود لها بالخير ، وأول إحداثه في القرن الرابع .
وقد افترق الناس فيه إلى فريقين : فريق ينكره ، وينكر على من يفعله ; لعدم فعل السلف إياه ، ولا مجيء أثر في ذلك . وفريق يراه جائزا ; لعدم النهي عنه ، وقد يشدد كل فريق على الآخر في هذه المسألة .
لابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم كلام وسط في غاية الإنصاف ، نورد موجزه لجزالته ، والله الهادي إلى سواء السبيل .
قال ابن تيمية في فصل قد عقده للأعياد المحدثة : فذكر أول جمعة من رجب وعيد خم في الثامن عشر من ذي الحجة ، حيث خطب - صلى الله عليه وسلم - ، وحث على اتباع السنة وبأهل بيته ، ثم أتى إلى عمل المولد ، فقال :
وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى - عليه السلام - ، وإما محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيما له ، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع من اتخاذ مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عيدا ، مع اختلاف الناس في مولده ، أي : في ربيع أو في رمضان ، فإن هذا لم يفعله السلف - رضي الله عنهم - مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه .
ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا لكان السلف - رضي الله عنهم - أحق به منا ، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتعظيما له منا ، وهم على الخير أحرص .
وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره ، وإحياء سنته باطنا [ ص: 385 ] وظاهرا ، ونشر ما بعث به ، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان ، فإن هذه طريقة السابقين الأولين منالمهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، وأكثر هؤلاء الذين تراهم حرصاء على أمثال هذه البدع ، مع ما لهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم به المثوبة تجدونهم فاترين في أمر الرسول عما أمروا بالنشاط فيه . وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه ولا يتبعه . وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه ، أو يصلي فيه قليلا ، وبمنزلة من يتخذ المسابيح والسجاجيد المزخرفة ، وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع ويصحبها من الرياء والكبر ، والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها .
واعلم أن من الأعمال ما يكون فيه خير لاشتماله على أنواع من المشروع .
وفيه أيضا من بدعة وغيرها ، ثم رسم طريق العمل السليم للفرد في نفسه والداعية مع غيره ، فقال : فعليك هنا بأدبين : أحدهما : أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطنا وظاهرا . الثاني : أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان ; فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه ، فلا تدعو إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه ، أو بترك واجب أو مندوب تركه أضمر من فعل ذلك المكروه .
ولكن إذا كان في البدعة نوع من الخير ، فعوض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان ، إذ النفوس لا تترك شيئا إلا بشيء .
ولا ينبغي لأحد أن يترك خيرا إلا إلى مثله أو إلى خير منه ، فإنه كما أن الفاعلين لهذه البدع معيبون ، قد أتوا مكروها فالتاركون أيضا للسنن مذمومون .
وكثير من المنكرين لبدع العبادات تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك أو الأمر به . . .
ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العادات المشتملة على نوع من الكراهة ، بل الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس ، ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد .
[ ص: 386 ] ولهذا قيل لأحمد : إن بعض الأمراء ينفق على مصحف ألف دينار ونحو ذلك ، فقال : دعه ، فهذا أفضل ما أنفق فيه الذهب ، أو كما قال ، مع أن مذهبه : أن زخرفة المصاحف مكروهة ، فمثل هؤلاء إن لم يفعلوا هذا ، وإلا اعتاضوا عنه الفساد الذي لا صلاح فيه مثل أن ينفقها في كتب فجور ، ككتب الأسمار والأصفار ، أو حكمة فارس والروم .
ومراتب الأعمال ثلاث : إحداها العمل الصالح المشروع الذي لا كراهة فيه .
والثانية : العمل الصالح من بعض وجوهه أو أكثرها ، إما لحسن القصد ، أو لاشتماله مع ذلك على أنواع من المشروع .
والثالثة : ما ليس فيه صلاح أصلا .
فأما الأولى : فهي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهي أعمال السابقين الأولين .
وأما الثانية فهي كثيرة جدا في طرق المتأخرين من المنتسبين إلى علم أو عبادة ، ومن العامة أيضا ، وهؤلاء خير مما لا يعمل عملا صالحا مشروعا ولا غير مشروع ، ومع هذا فالمؤمن يعرف المعروف وينكر المنكر ، ولا يمنعه من ذلك موافقة بعض المنافقين له في ظاهر الأمر بذلك المعروف والنهي عن ذلك المنكر ، ولا مخالفة بعض علماء المؤمنين ، فهذه الأمور وأمثالها مما ينبغي معرفتها والعمل بها اهـ .
لقد عالج - رحمه الله - هذه المسألة بحكمة الداعي وسياسة الدعوة مما لا يدع مجالا للكلام فيها .
ولكن قد حدث بعده - رحمه الله - أمور لم تكن من قبل ، ابتلي بها العالم الغربي ، وغزا بها العالم الشرقي ، ولبس بها على المسلمين ، وهي تلك المبادئ الهدامة والغزو الفكري ، وإبراز شخصيات ذات مبادئ اقتصادية أو فسلفية ، ارتفع شأنها في قومهم ، ونفثت سمومهم إلى بني جلدتنا ، وصاروا يقيمون لهم الذكريات ، ويقدمون عنهم الدراسات جهلا أو تضليلا ، فقام من المسلمين من يقول :
نعلم أن المولد ليس سنة نبوية ، ولا طريقا سلفيا ، ولا عمل القرون المشهود لها بالخير ، وإنما نريد مقابلة الفكرة بالفكرة ، والذكريات بالذكرى ، لنجمع شباب المسلمين [ ص: 387 ] على سيرة سيد المرسلين ، ويكون ذلك من باب : يحدث للناس من الأحكام بقدر ما أحدثت من البدع إلى آخره .
وهنا لا ينبغي الإسراع في الجواب ، ولكن انطلاقا من كلام ابن تيمية المتقدم ، يمكن أن يقال : إن كان المراد إحياء الذكرى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن الله تعالى قد تولى ذلك بأوسع نطاق ; حيث قرن ذكره - صلى الله عليه وسلم - مع ذكره تعالى في الشهادتين ، مع كل أذان على كل منارة من كل مسجد ، وفي كل إقامة لأداء صلاة ، وفي كل تشهد في فرض أو نفل مما يزيد على الثلاثين مرة جهرا وسرا . جهرا يملأ الأفق ، وسرا يملأ القلب والحس .
ثم تأتي الذكرى العملية في كل صغيرة وكبيرة : في المأكل باليمين ; لأنه السنة ، وفي الملبس في التيامن ; لأنه السنة ، وفي المضجع على الشق الأيمن ; لأنه السنة ، وفي إفشاء السلام وفي كل حركات العبد وسكناته إذا راعى فيها أنها السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وإن كان المراد التعبير عن المحبة ، والمحبة هي عنوان الإيمان الحقيقي ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه ، وولده ، وماله ، والناس أجمعين " .
فإن حقيقة المحبة طاعة من تحب ، وفعل ما يحبه ، وترك ما لا يرضاه أو لا يحبه ، ومن هذا يمكن أن يقال : إن ما يلابس عمل المولد من لهو ولعب واختلاط غير مشروع ، وأعمال في أشكال لا أصل لها ، يجب تركه وتنزيه التعبير عن محبته - صلى الله عليه وسلم - عما لا يرضاه - صلى الله عليه وسلم - .
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يكرم هذا اليوم بالصوم ، وإن كان المراد مقابلة فكرة بفكرة . فالواقع أنه لا مناسبة بين السببين ، ولا موجب للربط بين الجانبين لبعد ما بينهما ، كبعد الحق عن الباطل والظلمة عن النور .
ومع ذلك ، فإن كان ولا بد فلا موجب للتقييد بزمن معين ، بل العام كله لإقامة الدراسات في السيرة ، وتعريف المسلمين الناشئة منهم والعوام وغيرهم بما تريده من دراسة للسيرة النبوية .
وختاما ; فبدلا من الموقف السلبي عند التشديد في النكير ، أن يكون عملا إيجابيا فيه حكمة وتوجيه لما هو أولى بحسب المستطاع ، كما قال ابن تيمية . وبالله تعالى التوفيق .
ومن المناسبات ليلة القدر لبدء نزول القرآن فيها ; لقوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة القدر [ 97 \ 1 ] [ ص: 388 ] ثم بين تعالى مقدارها بقوله : ليلة القدر خير من ألف شهر [ 97 \ 3 ] ، وبين خواصها بقوله : تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر [ 97 \ 4 - 5 ] .
الحفاوة بها .
لقد بين - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله : " التمسوها في العشر الأواخر ، وفي الوتر من العشر الأواخر " ، وكان - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر كلها ; التماسا لتلك الليلة ، فكان يحييها قائما في معتكفه ، كما جاء في الحديث : " وإذا جاء العشر : شد مئزره ، وطوى فراشه ، وأيقظ أهله " ، فلم يكن يمرح ولا يلعب ولا حتى نوم ، بل اجتهاد في العبادة .
وكذلك شهر رمضان بكامله ; لكونه أنزل فيه القرآن أيضا ، كما تقدمت الإشارة إليه ، فكان تكريمه بصوم نهاره وقيام ليله ، لا بالملاهي واللعب والحفلات ، كماله بعض صار يعد الناس وسائل ترفيه خاصة ، فيعكس فيه القصد ويخالف المشروع .
ومن المناسبات يوم عاشوراء ، لقد كان له تاريخ قديم وكانت العرب تعظمه في الجاهلية وتكسو فيه الكعبة ، ولما قدم - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، وجد اليهود يصومونه ، فقال لهم : " لم تصومونه ؟ " ، فقالوا : يوما نجى الله فيه موسى من فرعون ، فصامه شكرا لله فصمناه . فقال - صلى الله عليه وسلم - : " نحن أحق بموسى منكم " ، فصامه ، وأمر الناس بصيامه . إنها مناسبة عظمى : نجاة نبي الله موسى من عدو الله فرعون ، نصرة الحق على الباطل ، ونصر جند الله وإهلاك جند الشيطان .
وهذا بحق مناسبة يهتم لها كل مسلم . ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - : " نحن أحق بموسى منكم ، نحن معشر الأنبياء أبناء علات ، ديننا واحد " .
وقد كان صيامه فرضا حتى نسخ بفرض رمضان ، وهكذا مع عظم مناسبته من إعلاء كلمة الله ونصرة رسوله ، كان ابتهاج موسى - عليه السلام - به في صيامه شكرا لله .
وكذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا هو الطريق السليم والسنة النبوية الكريمة ، لا ما يحدثه بعض العوام والجهال من مظاهر وأحداث لا أصل لها ، ثم يأتي العمل الأعم والمناسبات [ ص: 389 ] المتعددة في مناسك الحج منها الهرولة في الطواف ، لقد كانت عن مؤامرة قريش في عزمها على الغدر بالمسلمين في عمرة القضية ، فأمرهم - صلى الله عليه وسلم - أن يظهروا النشاط في الطواف ، وذلك حينما جاء الشيطان لقريش وقال لهم : هؤلاء المسلمون مع محمد - صلى الله عليه وسلم - ، جاءوا إليكم وقد أنهكتهم حمى يثرب ، فلو ملتم عليهم لاستأصلتموهم ، فأخبر جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكان الموقف خطيرا جدا وحرجا ; حيث لا مدد للمسلمين ، ولا سبيل للانسحاب ، ولا بد لهم من إتمام العمرة .
فكان التصرف الحكيم ، أن يعكسوا على المشركين نظريتهم ، ويأتونهم من الباب الذي أتوا منه . فقال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : " أروهم اليوم منكم قوة " ، فهرولوا في الطواف ، وأظهروا قوة ونشاطا مما أدهش المشركين ، حتى قالوا : والله ما هؤلاء بإنس إنهم لكالجن " ، وفوتوا عليهم الفرصة بذلك ، وسلم المسلمون .
فهو أشبه بموقف موسى من فرعون ، فنجى الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غدر قريش ، فكان هذا العمل مخلدا ومشروعا في كل طواف قدوم حتى اليوم ، مع زوال السبب حيث هرول المسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بعد فتح مكة بسنتين .
قال العلماء : بقي هذا العمل ; تأسيا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولا ، وتذكروا لهذا الموقف وما لقيه المسلمون في بادئ الدعوة .
وجاء السعي والهرولة فيه لما فيه من تجديد اليقين بالله ، حيث تركت هاجر ، وهي من سادة المتوكلين على الله والتي قالت لإبراهيم :
اذهب فلن يضيعنا الله . تركت حتى سعت إلى نهاية العدد ، كما يقول علماء الفرائض وهو سبعة .
إذ كل عدد بعده تكرار لمكرر قبله ، كما قالوا في عدد السماوات والأرض ، وحصى الجمار ، وأيام الأسبوع . إلخ .
وذلك لتصل إلى أقصى الجهد ، وتنقطع أطماعها من غوث يأتيها من الأرض ، فتتجه بقوة اليقين وشدة الضراعة إلى السماء ، وتتوجه بكليتها وإحساسها بقلبها وقالبها إلى الله . فيأتيها الغوث الأعظم سقيا لها وللمسلمين من بعدها .
فكان ذلك درسا عمليا ظل إحياؤه تجديدا له .
وهكذا النحر ، وقصة الفداء لما كان فيه درس الأمة لأفرادها وجماعتها في أسرة [ ص: 390 ] كاملة . والد ووالدة ، وولد كل يسلم قياده لأمر الله ، وإلى أقصى حد التضحية حينما قال إبراهيم لإسماعيل ما قصه تعالى علينا : يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى [ 37 \ 102 ] .
إنه حدث خطير ، وأي رأي للولد في ذبح نفسه ، ولكنه التمهيد لأمر الله ، فكان موقف الولد لا يقل إكبارا عن موقف الوالد :
ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين [ 37 \ 102 ] ، ولم يكن ذلك عرضا وقبولا فحسب ، بل جاء وقت التنفيذ إلى نقطة الصفر كما يقال .
والكل ماض في سبيل التنفيذ : فلما أسلما وتله للجبين [ 37 \ 103 ] ، يا له من موقف يعجز كل بيان عن تصويره ويئط كل قلم عن تفسيره ، ويثقل كل لسان عن تعبيره ، شيخ في كبر سنه يحمل سكينا بيده ، ويتل ولده وضناه بالأخرى ، كيف قويت يده على حمل السكين ، وقويت عيناه على رؤيتها في يده ، وكيف طاوعته يده الأخرى على تل ولده على جبينه ؟
إنها قوة الإيمان وسنة الالتزام ، وها هو الولد مع أبيه طوع يده ، يتصبر لأمر الله ويستسلم لقضاء الله : ستجدني إن شاء الله من الصابرين [ 37 \ 102 ] ، والموقف الآن والد بيده السكين ، وولد ملقى على الجبين ، ولم يبق إلا توقف الأنفاس للحظة التنفيذ ، ولكن - رحمة الله - أوسع ، وفرجه من عنده أقرب : وناديناه أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين [ 37 \ 104 - 105 ] .
فكانت مناسبة عظيمة وفائدتها كبيرة ، خلدها الإسلام في الهدي والضحية .
وفي رمي الجمار ، إلى آخره ، وهكذا كلها في مناسك وعبادة وقربة إلى الله تعالى في تجرد وانقطاع ، ودوام ذكر لله تعالى .
وهناك أحداث جسام ومناسبات عظام ، لا تقل أهمية عن سابقاتها ، ولكن لم يجعل لها الإسلام أي ذكرى ، كما في صلح الحديبية .
لقد كان هذا الصلح من أعظم المناسبات في الإسلام ، إذ كان فيه انتزاع اعتراف قريش بالكيان الإسلامي مائلا في الصلح ، والعهد الذي وثق بين الطرفين ، وقد سماه الله فتحا ، كما قال تعالى : فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا [ 48 \ 27 ] .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|