عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 14-08-2024, 04:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,175
الدولة : Egypt
افتراضي تفسير سورة التوبة (الحلقة الثالثة عشرة) حكمة الوحي وتصنيفه للمجتمع الإسلامي

تفسير سورة التوبة (الحلقة الثالثة عشرة)

حكمةُ الوحي وتصنيفُه للمجتمع الإسلامي

في آخر عهد النبوة

الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.


قال الله تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ *يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ * وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * [سورة التوبة: 91، 110].




الأهداف السامية الكبيرة والقيم الراقية الخطيرة، لا يسعى لها ولا يحمل همها أو يدفع ضريبتها إلا ذوو النفوس الأبية والهمم العالية والعقول النيرة السوية، وهل في الكون أعلى وأرقى وأسمى من قيم الإسلام، وهل في الناس أسمى نفسا وأعلى همة وأسطع نورا من محمد صلى الله عليه وسلم، وبعده خيار صحابته من المهاجرين والأنصار وقد قال عنهم الحق تعالى:﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود [الفتح: 29]، يليهم الصابرون المحتسبون من إخوانه صلى الله عليه وسلم وقد قال عنهم:[1] (وددت أني لقيت إخواني، فقال أصحابه: أوليس نحن إخوانك؟ قال: أنتم أصحابي ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني)، وهم نخبة كل جيل من حملة الهم الإسلامي في كل عصر، بشر بهم صلى الله عليه وسلم فقاللا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)[2]،


هؤلاء حملة هم الإسلام، ونصراء دعوته كلما استأسد الباطل وتنمر الجهل وطغى عدوان الظالمين، وتخاذل المتهاونون وخانه المنافقون، وعجز عن نصرته الضعفة، انبعثوا غير هيابين ولا متقاعسين أو مترددين، يحمون مسيرة الإسلام بالنفس والمال والأهل والولد، كما تجلى ذلك في أول محاولة استضعاف للمسلمين في المدينة، إذ انطلق أسودهم في غزوة بدر بقيادته صلى الله عليه وسلم يذيقون المعتدين أقسى آيات الزجر والتأديب، وفي آخر غزوة بقيادته أيضا صلى الله عليه وسلم إلى تبوك إذ انطلقت إليها النخبة تلقن الروم في الشام ما يكف شرهم، ويخضد شوكتهم، وتأخرت عنها فئات من ذوي الأعذار الحقيقية، وأخرى من المنافقين المعذِّرين والمتآمرين، فنزلت سورة التوبة بمسح شامل لجميع فئات المجتمع الإسلامي في هذه الفترة وما بعدها خلال السنتين الأخيرتين من حياته صلى الله عليه وسلم، مسح أقر الصادقين الأقوياء بصدقهم وأشاد بهم، وصنفهم، صنفا أسلموا ولم يبلغ بهم إيمانهم حد السخاء بالمال والنفس، وصنفا منافقا كذبوا على الله فكشف أسرارهم وبين مآلهم في الدنيا والآخرة، وحذرهم وحذر منهم، وصنفين آخرين من المؤمنين: أولهما الذين عجزوا عن الخروج إلى الجهاد لعذر شرعي، ضعفا بينا أو مرضا معجزا أوفقرا مدقعا أوعجزا عن المساهمة في النصرة بالمال والنفس، فرفع عنهم الله الإثم والمساءلة وقال عن أولهم: ﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة: 91].


والصنف الثاني مؤمنون ليست لهم رواحل يركبونها وليس للرسول صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه، والطريق إلى تبوك طويل شاق والعدو شرس قوي، فأعفاهم صلى الله عليه وسلم من الخروج ولم يأثموا بتخلفهم، وقال عنهم الحق تعالى:﴿ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ [التوبة: 92].


أما الصنف الأول فجاء ذكره عقب الحديث عن طائفة من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك بعذر منتحل باطل وآخرين مثلهم قعدوا جرأة من غير تكلف عذر، ليميزه الله عنهم، ويثبت له أجره ولو لم يخرج، لأن مانعه فوق الطاقة تجاوزه، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم[3]إن الله تعالى كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله تعالى عنده حسنة كاملة، فإن هم بها فعملها كتبها الله تعالى عنده عشرة حسنات، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هم بها فعملها كتبها الله تعالى سيئة واحدة، ولا يهلك على الله إلا هالك).


هذا الصنف من الصادقين حال بينهم وبين الخروج عجز تام بسبب منهم وسبب من غيرهم، كما روي عن زيد بن ثَابت قَالَ: كنت أكتب لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَرَاءَة، فَكنت أكتب مَا أنزل الله عَلَيْهِ، فَإِنِّي لواضع الْقَلَم على أُذُنِي إِذْ أمرنَا بِالْقِتَالِ، فَجعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينظر مَا ينزل عَلَيْهِ، إِذْ جَاءَ أعمى فَقَالَ: كَيفَ بِي يَا رَسُول الله وَأَنا أعمى؟ فَنزلت: ﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة: 91]. والمعفون من الخروج للجهاد بنص هذه الآية الكريمة هم:﴿ الضُّعَفَاءِ [التوبة: 91]، من الشُّيُوخ والصبيان الذين لم يبلغوا الحلم والزًّمْنَى[4] المصابين بعوائق بدنية مزمنة كالعمى والعته ومبتوري بعض الأطراف، و﴿ الْمَرْضَى [التوبة: 91]، بأي مرض من طبيعته أن يعوق عن الخروج، مرجوَّ الشفاء أو غير مرجوِّ، و﴿ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ [التوبة: 91]، أي: الذين لايستطيعون توفير حاجاتهم الضرورية أثناء الخروج، لأن المقاتل حينئذ كان ملزما بتوفير غذائه وركوبته بصفتهما من الجهاد بالمال.


وقد بدئت هذه الآية الكريمة بفعل ماض ناقص جامد يفيد نفي الحرج ابتداء وانتهاء عن هذه الطائفة من المؤمنين هو ﴿ لَيْسَ [التوبة: 91]، وخبرها مقدم هو شبه الجملة من قوله تعالى:﴿ عَلَى الضُّعَفَاءِ [التوبة: 91]، وما عطف عليها من قوله عز وجل:﴿ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ [التوبة: 91]، أما اسم ليس فمؤخر هو ﴿ حَرَج [التوبة: 91].


والحرَج لغة هو تجمع الشيء وضيقه، أو الضيق الذي لَا منفذ فِيهِ ولا مخرج منه، ومنه يقال: "الحَرَجَة"، وَهِي الشّجر الملتف حَتَّى لَا يُمكن الدُّخُول فِيهِ وَلَا الْخُرُوج منه، ومنه قوله تعالى:﴿ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا الأنعام 125، أي ضيقا غير قابل لنصح أو تذكير، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أُحَرِّج حق الضعيفين اليتيم والمرأة)، فلا يعتدى عليه أو يغتصب أو يُنتقَص، ويطلق حسب سياق وروده أحيانا على الشك، كما في قوله تعالى:﴿ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65] أي شكا، لِأَن الشاك فِي الْأَمر لَا ينفُذ فِيهِ، ويطلق الحرج أيضا على الإثم كما في هذه الكريمة التي تنفي الإثم عن أصحاب الأعذار الشرعية المذكورين فيها، وهي بذلك حكم شرعي رفع الله تعالى به الحرج الذي هو الإثم وعقوبته، عن المؤمنين في مواطن العسر والعجز عن أداء الواجب الديني، ضعفا عاما عائقا أو مرضا معجزا أو فقرا مدقعا، سبق نزوله من قبل في سورة النور بقوله تعالى:﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [النور: 61]، وفي سورة الفتح بقوله عز وجل: ﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [الفتح: 17].


إلا أن رفع الإثم عنهم في هذه الآية مشروط ومقيد بقوله تعالى عقبها مباشرة: ﴿ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة: 91]، والنصح والنصيحة خلاف الغش والخديعة، ومنه التوبة النصوح أي لا غش فيها ولا تردد، والفعل منه "نصح" يتعدى بنفسه فيقال: نصحه، ويتعدى باللام فيقال: نصح له، كما في هذه الآية الكريمة:﴿ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِأي: لاحرج عليهم ما حافظوا على إخلاصهم ونصحهم لله وللرسول أثناء تخلفهم عن الخروج، فلم يخونوا ذمة، ولم يتآمروا مع عدو، ولم يطعنوا في المجاهدين، ولم يخونوهم في أهلهم أو ذرياتهم أثناء غيابهم، أو يسلموهم لما يضرهم، وكانوا حماة للأمة صادقين وعيونا ساهرة يقظة، ودروعا متينة واقية، فإن فعلوا ذلك أدوا واجب النصيحة، وكانوا نصحاء لله صادقين في إيمانهم به سبحانه، ونصحاء لرسوله مؤمنين حقا برسالته موفين بعهدهم معه، نصحاء للمسلمين يحفظون غيبتهم ويرعون حرمتهم، وذلك منهم الدين القيم الذيبينه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله فيما أخرجه مسلم: (إنَّما الدِّينُ النَّصيحَةُ، إنَّما الدّينُ النَّصيحَةُ، إنَّما الدّينُ النَّصيحَةُ). فقيلَ: لِمَن يا رسولَ اللهِ؟ قال: (للهِ ولِكِتابه ورسولِه ولأِئمَّة المُؤمِنينَ وعامَّتِهِم)، ثم ختم عز وجل الآية مؤكدا مضمونها بقوله سبحانه: ﴿ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة: 91]، أي ليس إلى هذه الطائفة التي تخلفت بإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصحت، من سبيل لمؤاخذتها أو سبب لتأثيمها أو مبرر لمساءلتها ﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة: 91]، يغفر ذنوبهم ويشملهم برحمته.


أما الصنف الثاني من المؤمنين الذين لا يضرهم التخلف عن الجهاد فهم من قال عنهم الحق تعالى: ﴿ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ [التوبة: 92]، أي: الذين إذا ما لبوا نداء الجهاد وليست لهم ركوبة فأتوك ولم تستطع توفيرها لهم ﴿ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ [التوبة: 92]، أي: ليس لدي رواحل أُرْكِبكُموها ﴿ تَوَلَّوْا [التوبة: 92]، فرجعوا إلى بيوتهم ﴿ وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا [التوبة: 92]، بكاء من شدة الحزن ﴿ أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ [التوبة: 92]، يحزنهم فوات فرصة الجهاد عليهم لافتقارهم إلى مال يشترون به الرواحل،قال ابن عباس: "سألوه أن يحملهم على الدواب فقال عليه السلام: (لا أجد ما أحملكم عليه) لأن الشقة بعيدة، والرجل يحتاج إلى بعيرين، بعير يركبه وبعير يحمل عليه ماءه وزاده"، وإن لم يكن للمقاتل زاد ولا راحلة صار كلا ووبالا على رفاقه في السفر وأثناء القتال.


وقد ذكرت الروايات أسماء كثيرة من هؤلاء الذين عجزوا عن توفير الركوبة فتولوا حزانى باكين، منها ما رُوي عن ابن عباس قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه، فجاءته عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل، فقالوا: يا رسول الله احملنا، فقال لهم: (واللهِ لا أجِدُ ما أحملكم عليه)، فتَوَلَّوا وهم يبكون، وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملا"، ومنها ما أخرجه ابْن جرير عَن مُحَمَّد بن كَعْب قَالَ: جَاءَ نَاس من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يستحملونه، فَقَالَ: ﴿ لَا أجد مَا أحملكم عَلَيْهِ [التوبة: 92]، فَأنْزل الله: ﴿ وَلَا على الَّذين إِذا مَا أتوك لتحملهم... الآية... [التوبة: 92]، قَالَ: وهم سَبْعَة نفر من بني عمر بن عَوْف سَالم بن عُمَيْر وَمن بني واقن حرميّ بن عَمْرو وَمن بني مَازِن ابْن النجار عبد الرَّحْمَن بن كَعْب يكنى أَبَا ليلى وَمن بني المعلي سلمَان بن صَخْر وَمن بني حَارِثَة عبد الرَّحْمَن بن زيد أَبُو عبلة وَمن بني سَلمَة عَمْرو بن غنمة وَعبد الله بن عَمْرو الْمُزنِيّ، وفي رواية أنهم قالوا: "يا نبي الله إن الله عزّ وجلّ قد ندبنا للخروج معك فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغزومعك"، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: ﴿ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ [التوبة: 92]، فتولوا وهم يبكون، وما أخرجه ابْن سعد وَيَعْقُوب بن سُفْيَان فِي تَارِيخه وَابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه عَن عبد الله بن معقل قَالَ: إِنِّي لمن الرَّهْط الَّذين ذكر الله ﴿ وَلَا على الَّذين إِذا مَا أتوك لتحملهم.. الْآيَة... [التوبة: 92]،، وقال عنهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لقد خَلَّفْتُمْ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا أنفقتم من نَفَقَة وَلَا قطعْتُمْ وَاديا وَلَا نِلتُم من عدوّ نيلاً إِلَّا وَقد شَركُوكُمْ فِي الْأجر، ثمَّ قَرَأَ ﴿ وَلَا على الَّذين إِذا مَا أتوك... الْآيَة... [التوبة: 92].


وإذ حكم الله تعالى في هذه الآيات الكريمة بأنه لا سبيل إلى إدانة هاتين الطائفتين من المؤمنين ولا حجة على مخالفتهم أو إساءتهم، وأنهم مأجورون بصدق نيتهم الخروج، وسعيهم فيه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، عقب عز وجل كأنه يمهد لختام سورة التوبة بتقريرٍ جمع بين الإيجاز والدقة، عن حالة المجتمع المسلم بجميع فئاته طبقا لموقفها من الدين اعتقادا وعملا واستماعا وطاعة، في السنتين الأخيرتين من حياته صلى الله عليه وسلم، وقبل نزول سورة المائدة التي أتم الله لهم بها تشريعات دينهم بقوله تعالى:﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 3]، وبعدها سورة التوديع المسماة سورة النصر، ثم انقطع الوحي بوفاة مبلغه صلى الله عليه وسلم، وتحميل من بقي بعده من المسلمين مسؤولية الدين والدولة، لينظر ربهم كيف يعملون ﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [آل عمران: 163]، مبتدئا بالذين عليهم سبيل المؤاخذة واللوم والعقاب وقوله تعالى:
﴿ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ [التوبة: 93]، إنه على الذين آثروا الدعة والراحة على البذل ومواقف العز والجهاد فذلت أنفسهم، وسألوك الإذن لهم بالتخلف وهم قادرون سلامةَ أبدان ووفرةَ أموال ﴿ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ لِضَعَةِ نفوسهم وسقوط هِمَمِهِمْ آثروا البقاء في البيوت مع الصبية والنساء والعجزة والعجائز، واستطابوا الضعة مع الدعة ورضوا بها ﴿ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [التوبة: 93]، كره الله انبعاثهم وختم على قلوبهم فلا ينفذ إليها إيمان ينهضهم من حضيضهم﴿ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [التوبة: 93]، خطورة ما يرتكبون ولا عاقبة ما يرضون.


ثم بين سبحانه وتعالى ما يكون عليه حال الذين تخلفوا عن تبوك بمعاذير واهية أو جرأةً بدون استئذان، إذا ما رجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة منتصرا غانما، وشعروا بخزي موقفهم بين أهلهم وذويهم وعامة المسلمين، وكان من عادته صلى الله عليه وسلمإذا رجع من سفر أو غزاة أن يبدأ بالمسجد، فيصلي ركعتين ثم يجلس للناس. فجاءه كما قال كعب بن مالك رضي الله عنه بضعة وثمانون رجلا من المنافقين المخلفين، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، هذا يشكي مرضه، وذاك قلة ذات اليد عنده، وآخر نساءه وعوراته، فقال عز وجل: ﴿ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ [التوبة: 94]، يلفقون لكم معاذير وتعلات لتخلفهم إذا رجعتم من غزوة تبوك فلا تصدقوهم وإنما ﴿ قُلْ [التوبة: 94]، لهم يا محمد﴿ لَا تَعْتَذِرُوا [التوبة: 94]، لا داعي لاعتذاركم ﴿ لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ [التوبة: 94]، لن نصدقكم ﴿ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ [التوبة: 94]، قد نزل الوحي بأخبارك كشفا لها وتحذيرا منها إشارة إلى قوله تعالى:﴿ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة: 47]، فاختاروا لأنفسكم توبة أو إصرارا على النفاق ﴿ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ [التوبة: 94]، لأن العمل مصداق الإيمان المعلن باللسان ﴿ وَرَسُولُهُ [التوبة: 94]، يرى دليل إيمانكم وطاعتكم في عملكم زكاة وصدقة وجهادا ﴿ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [التوبة: 94]، سبحانه يوم القيامة ﴿ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة: 94]، فيكشف لكم حقيقة أعمالكم بميزان عدله، ما كان منها له وما كان لغيره.


وأضاف فئة أخرى ممن عليهم سبيل التأثيم والمؤاخذة لتخلفهم فقال عز وجل﴿ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ [التوبة: 95]، حلفا كاذبا أنهم مؤمنون صادقون فيما يقولون ويزعمون ﴿ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ [التوبة: 95]، إذا رجعتم إلى المدينة ﴿ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ [التوبة: 95]، لتتجاوزوا عما ارتكبوه وتتغاضوا عنه وتعرضوا عن محاسبتهم عليه أو لومهم أو التعريض بهم ﴿ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ [التوبة: 95]، أعرضوا عن لومهم أو عتابهم أو الحديث معهم حول تخلفهم أو في أي أمر من أمور المسلمين ﴿ إِنَّهُمْ رِجْسٌ [التوبة: 95]، والرِّجْسُ لغة هو القَذَرُ نفسه والنجاسة نفسها، من فعل: رَجُسَ الشيءُ يَرْجُسُ رَجاسَةً فهو رِجْس، أي نَجِس ينجَس نجاسة، فهو نَجَسٌ، ومنه قوله تعالى:﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 90]، وقوله عز وجل: ﴿ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِه [الأنعام: 145]، ولم يقل تعالى إنهم مرجوسون أي: ملوثون بالرجس، لأن المرجوس تغسل نجاسته فيتطهر، ولكنه تعالى قال: ﴿ إِنَّهُمْ رِجْسٌ أي هم عين الرجس، والرجس لا يتطهر وإنما يُتطهَّر منه، والسلامة من قذره لا تتحقق إلا بالإعراض عنه وتجنبه، ولذلك قال تعالى: (فأعرضوا عنهم) [التوبة: 95]، أي تجنبوهم وابتعدوا عنهم، ثم بين مبرر الإعراض عنهم فقال: (إنهم رجس) [التوبة: 95]،، أي إنهم لخبث نفوسهم ونواياهم وأعمالهم عين الرجس الذي لا يُتطهَّرُ منه إلا برميه في المزابل، ﴿ وَمَأْوَاهُمْ [التوبة: 95]، ومقامهم المعد لهم في الآخرة هو ﴿ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [التوبة: 95] نار جهنم جزاء لما كسبوه في الدنيا من الآثام.


وطائفة أخرى من المخلفين الحلافين، لا يحلفون طلبا لتجاوزكم عن خياناتهم، وإنما لينالوا الرضا عنهم فيستردوا مكانتهم السابقة بينكم، وعضويتهم الكاملة في المجتمع المسلم معكم، قال عنهم تعالى:﴿ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ [التوبة: 96]، ليسترجعوا مودتكم ورضاكم عن إيمانهم وسلوكهم، ولهذا حذر تعالى من الرضاء عنهم بقوله عز وجل: ﴿ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 96]، أي: فإن رضيتم عنهم وقد نافقوا وخذلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواقف الجهاد والنصرة فقد خالفتم ما يرضاه الله وارتكبتم ما يضركم ولا ينفعهم، وأنتم تعلمون أن الله لا يرضى عن الفاسقين، وأن ما لا يُرضِي الله لا يجوز للمسلم أن يرضى به، والآية إشارة واضحة بينة إلى بَدَهِيَّة عقدية هي أن من رضي بما يغضب الله فقد أغضب الله، ومن رضي بفسق الفاسقين فهو فاسق مثلهم، قال تعالى: ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُم [المجادلة: 22].


ثم ذكر الحق تعالى بعدهم ثلاث طوائف أخرى في المجتمع الإسلامي من الأعراب، وهم العرب القاطنون خارج المدن في البادية سهولا وجبالا وصحارَى، وكان يغلب على طباعهم الجفاء والغلظة والشدة والقسوة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ بَدَا جَفَا)[5]، وذلك تبعا لطبيعة بيئتهم وندرة وسائل العيش فيها، فقال تعالى عن الطائفة الأولى:
﴿ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 97]، ولفظ الأعراب جمع أعرابي، وهو من استوطن ما سوى المدينة من العرب أما لفظ العرب فخاص بجنس العرب عامة، سواء سكنوا البوادي أم سكنوا المدن والحواضر ﴿ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا [التوبة: 97]، من أهل الحضَر، لجفائهم وحدة طباعهم وشراستهم التي نشؤوا عليها، وبعدهم عن مواطن اللين والرفاه ومجالس العلم والتربية في المدن والحواضر ﴿ وَأَجْدَرُ ألا يَعْلَمُواْ [التوبة: 97]، وأحقُّ وأخلقُ بأن يجهلوا﴿ حُدُودَ ما أنزل الله على رَسُولِهِ [التوبة: 97]، من أحكام الدين وهي الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرمة، لبعدهم عن مجلسه صلى الله عليه وسلم وانقطاعهم عن الاتصال بالمسلمين في المدينة، ولما في طباعهم من الحدة والجفاء والكبرياء ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 97]، عليم بطباع كل من أهل البادية وأهل المدينة، وبما في قلوبهم من الكفر أو النفاق أو الإيمان، يقدر لهم جميعا ما يناسبهم وما يستحقونه من أمري الدنيا والآخرة.


يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 42.54 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 41.92 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.48%)]