معـــالـــم في الوسطية والاعتدال 2- وسـطيــة أهــل السنة في باب الجهاد
معلوم أن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام هذا الأمر، وقد أعدّ الله للمجاهدين درجات عالية وفضلا عظيما.
- إلا أن الجهاد في الإسلام غاية، قد حددها الله عز وجل في كتابه فقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}(الأنفال: 39)، وبينها رسول الله[ بقوله: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله».
فليس كل من اندفع للقتال -وإن أفضى إلى مفاسد أكبر أو أكثر- كان مجاهداً ممدوحاً مشكوراً.
- كما أن الجهاد لم ينحصر في القتال، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله عز وجل من الجهاد الكبير، كما قال تعالى في سورة الفرقان المكية: {ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا}(الأنفال: 51 - 52) ومعلوم أن الجهاد في مكة لم يكن بالسيف والسنان، إنما كان بالحجة والبيان.
بل إن هذا الجهاد هو أعظم أنواع الجهاد، كما قال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- بما حاصله: الجهاد نوعان جهاد بالسيف والسنان، وهو جهاد العامة، وأنصاره كثير، وجهاد بالحجة والبيان، وهو جهاد الخاصة من أتباع الرسل وهو جهاد الأئمة، وأنصاره قليل، وهو أفضل النوعين، لعظم منفعته، وشدة مؤنته، وكثرة أعدائه (انظر) مفتاح دار السعادة (1/ 70) ط / رئاسة البحوث العلمية والإفتاء.
- كما أنه يُفَرّق عند الكلام على الجهاد بين حالة الضعف وحالة القوة، ففي زمن الضعف يكون الجهاد الأكبر هو جهاد الدعوة، ودفع شبهات المخالفين، للحفاظ على سلامة اعتقاد المسلمين، وكذلك الجهاد بالحوار والمناظرات، والجهاد بالدعوة إلى الفضيلة وكشف المخططات التي تُحاك للأمة، والجهاد بتربية أبناء المسلمين على الإسلام الصافي، وبث روح الثقة بالله وبدينه، والاعتزاز بالحق، والحياة من أجله، وكشف عوار البدع والمحدثات والنظريات التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، ونشر العلم النافع، وتعليم المسلمين أمر دينهم في عقائدهم، وعباداتهم ومعاملاتهم، ومزاحمة أهل الباطل بالمنهج الرباني الصحيح، وعدم تخلية المجالات لهم، كل هذا مع التدين، والعفاف، والزهد، ومكارم الأخلاق، والحكمة والوسطية في الأمر كله.
وإذا كان المسلمون أقوياء مجتمعين على راية الحق، دعْوا إلى الله الأمم الأخرى وبيّنوا لهم محاسن الإسلام وكشفوا لهم عن بؤس النظريات، أو الديانات المنحرفة، وحاوروا حملة وسدنة هذه الأفكار بالتي هي أحسن، حتى يدخل الناس في دين الله أفواجًا، ويحيى من حيّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، ولا يكون همهم القتال وإراقة الدماء، إنما همهم دخول الناس في الدين، فمن أبى، ووقف أمام الدعوة، وحاربها؛ حاربه المسلمون، ومن سالمها سالموه على تفاصيل معروفة في كتب الفقه.
وإن الذين ينادون بالجهاد المسلح اليوم: إما أن يقولوا: المسلمون أقوياء قادرون على ذلك، وصفوفهم متماسكة، كما وصفهم الله تعالى بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}(الصف: 4)، وإما أن يقولوا: المسلمون ضعفاء في القوة والعدة أمام عدوهم، وصفوفهم ممزقة بالبدع والأهواء والشركيات، وأكثرهم خاضعون لدول كافرة!
فإن قالوا بالقول الأول؛ رد عليهم الواقع، وإن قالوا بالثاني فكيف ينادون بالجهاد المسلح والأمة كذلك؟ أليس الله عز وجل يأمر بإعداد العدة: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ }(الأنفال: 60) وهذا الأمر يتضمن مسألتين:
- الأولى: إيجاد الفئة التي هُيّئت لهذا الخطاب «وأعدوا»؛ فلو كان المسلمون على الوصف السابق فهم بحاجة إلى إيجاد أمة قد رُبِّيت تربية صحيحة تخاطب بهذا أولا، ثم تخاطب بعد ذلك بإعداد القوة.
- الثانية: الأمر بالإعداد الذي يوقع الرهبة في العدو، فما لم يوقع الرهبة فليس هو الإعداد الذي أُمرنا به، ولا يجوز الإقدام به على الحرب التي تستأصل المسلمين بلا نكاية في العدو تدرأ فتنتهم، وتجعل كلمة الله هي العليا.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد استؤذن من بعض أصحابه في مكة ليأذن لهم في القتال، فأمرهم بالكف؛ لأن الله -عز وجل- يعلم أنهم إن قاموا بذلك، ولم يتموا العدة والقوة، فستكون الدائرة عليهم، ولا يراد بالجهاد الانتحار واستئصال ما بقي من المسلمين، إنما يراد به عزة الدين، فإذا كان الجهاد يؤول إلى عكس المقصد الشرعي من الجهاد فهو فساد، وليس بجهاد.
ولو سألنا من ينادي بذلك: هل المؤمنون -بفكرته- يقدر كل منهم في قريته أومدينته على جهاد أهلها لو سلمنا له بقوله بأنهم أهل لأن يُجَاهدوا أم غير قادرين؟ فإن قال: نعم، هم قادرون، كذَّبه الواقع، وإن قال: لا، غير قادرين،فلماذا يصرخ فيهم بما يكلفهم فوق طاقتهم؟ فإن قال: نحن في مقام جهاد الدفع لا الطلب، ولايُشترط فيه وجود قوة، إنما يُراد إخراج الكفار من بلاد المسلمين.
فالجواب: إخراجهم وهم بالقوة التي لا تخفى يحتاج إلى قوة تدفع قوتهم، فدعوى عدم اشتراط القوة يردها الواقع والدليل، فإن جهاد الدفع واجب من الواجبات الشرعية، ويُشترط فيه القوة والقدرة، لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: 16)، وقوله صلى الله عليه وسلم : «ما أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» وما دليلكم على إخراج جهاد الدفع من هذا العموم؟ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في «مجموع الفتاوى» (28/ 396): «ومن كان عاجزاً عن إقامة الدين بالسلطان والجهاد، ففعل ما يقدر عليه: من النصيحة بقلبه، والدعاء للأمة، وحبه الخير، وفعل ما يقدر عليه من الخير ؛ لم يُكَلَّف ما يعجز عنه..» ا هـ.
وقال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: «المهم أنه يجب على المسلمين الجهاد، حتى تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، لكن الآن ليس بأيدي المسلمين ما يستطيعون به جهاد الكفار، حتى ولو جهاد مدافعة، وجهاد المهاجمة ما في شك الآن أنه غير ممكن، حتى يأتي الله بأمة واعية، تستعّد إيمانيًا ونفسيًا، ثم عسكريا، أما نحن على هذا الوضع فلا يمكن أن نجاهد «ا هـ» من لقاء الخميس الثالث والثلاثين، في شهر صفر سنـة 1414هـ. نقلا عن (مهمات الجهاد) ص17.وانظر كتابي (فتنة التفجيرات والاغتيالات) (ص278ـ 281) الشبهة السابعة والثلاثين.
- ثم يُنظر إلى آثار من نادى بالجهاد بالعلم والتعليم والدعوة إلى الله عز وجل، وآثار من نادى بالجهاد المسلَّح، وماذا جَرَّ كل منهما على الأمة؟ ومن الذي تأصَّل فيه منهج السلف وقواعدهم، ومن تخطَّفته الآراء والأفكار، وأكثر التنقُّل؟
ومن الذي احتاجت إليه الأمة في أمر دينها من أصحاب المنهجين؟ ومن الذي زاحم أهل البدع والأهواء والفرق التي تقذف بآلاف الشبهات على الأمة؟ ومن انحاز واعتزل، أوهرب وطلب اللجوء السياسي عند الكفار؟
ومن الذي له يد بيضاء على أبناء النهضة واليقظة في العالم كله من أهل هذين المنهجين؟ ومن همه التكفير منهما، ومن همه الإصلاح والتغيير ولو بتقليل الشر إن عجز عن تعطيله بالكلية؟ ومن يحترم العلماء والمصلحين على اختلاف بلدانهم ومشاربهم، ويعرف لهم حقهم وقدرهم , ومن يطعن في صدعهم وصلاحهم، ويرميهم بما يتنزه عنه عقلاء العوام؟! ومن دخل بدعوته أدغال إفريقيا، وغياهب أوربا، وظلمات الصين، وغيرهم، ومن كان دعوته سببا في تفرق الدعاة والدعوة، وطيّ الفراش الذي بسطه العلماء الكبار بحكمتهم وجدهم وإخلاصهم؟ كل هذا وغيره يدلنا على أي المنهجين أقوم قيلا وأهدى سبيلا.
- ثم إنك ترى المشغولين بالجهاد المسلح لايهمهم من الدين في أكثر أوقاتهم إلا هذه الجزئية، وذلك على حساب كليات وجزئيات أخرى، وأما أهل العلم ففي ميدان العقيدة ينافحون، وبتعليم العبادات والأحكام يشتغلون، وبغرس الورع والزهد والتقى قائمون، وبكشف مكايد الأعداء يصولون ويجولون، وبالسعي إلى رص ِّالصفوف وتبجيل العلماء مهتمون، وعن الإصلاح بين الناس، والقضاء في الخصومات، وإصلاح الأسر والمجتمعات لايغيبون، وعن تنقية السنة وتصفيتها لايتخلفون، بل يتسابقون، وفي النهضة بمستوى المرأة لتفادي ما يُكاد لها يصيحون، وبتميز الولاء العقدي متميزون، وغيرهم تقذف بهم الأفكار، المصالح المزعومة في أحضان الأعداء، بعد أن يموّهوا على الأتباع بأنهم صاروا من الأصدقاء، فأي الفريقين أنفع لأمته؟ {نبئوني بعلم إن كنتم صادقين}(الأنعام: 143).
اعداد: أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني