
منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية
أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحنبلي الدمشقي
المجلد الثالث
الحلقة (180)
صـ 67 إلى صـ 74
ومن المعلوم أن من أنذر بعدو يقصده لم يقل لنذيره: قل لله يخلق في قدرة على الفرار حتى أفر، بل يجتهد في الفرار، والله هو الذي يعينه على الفرار.
فهذا الكلام لا يقوله إلا مكذب للرسل، إذ ليس في الفطرة مع تصديق النذير الاعتلال بمثل هذا. وإذا كان هذا تكذيبا حاق به ما حاق بالمكذبين.
الوجه الثالث: أن يقول له: أنا ليس لي أن أقول لربي [مثل] (1) هذا الكلام، بل علي أن أبلغ رسالاته، وإنما علي ما حملت وعليك ما حملت، وليس علي إلا البلاغ المبين، وقد قمت به (2) .
الرابع: أن يقول: ليس لي ولا لغيري أن يقول له: لم لم [تجعل] (3) في هذا كذا وفي هذا كذا، فإن الناس على قولين: من يقول (4) : إنه لا حكمة إلا محض المشيئة، يقول إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. ومن يقول: [إن] له حكمة (5) ، يقول: لم يفعل شيئا إلا لحكمة، ولم يتركه (6) إلا لانتفاء الحكمة فيه.
_________
(1) مثل: زيادة في (ع) فقط.
(2) أ، ب: وقد تمت به.
(3) تجعل: ساقطة من (ن) ، (م) .
(4) ب، أ: منهم من يقول، وهو خطأ.
(5) ب، أ: ومنهم من يقول أن له حكمة، ن، م: ومن يقول له حكمة.
(6) ن، م: ولا تركه
===================================
وإذا كان كذلك لم يكن للعبد أن يقول له (1) مثل ذلك. ولهذا قال تعالى: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} [سورة الأنبياء: 23] .
الوجه الخامس: أن يقول: إعانتك على الفعل هو من أفعاله هو، فما فعله فلحكمة، وما لم يفعله فلانتفاء الحكمة، وأما نفس الطاعة فمن أفعالك التي تعود مصلحتها عليك (2) ، فإن أعانك كان فضلا [عليك] منه (3) وإن خذلك كان عدلا منه، فتكليفك ليس لحاجة (4) له إلى ذلك ليحتاج إلى إعانتك، كما يأمر السيد عبده بمصلحته.
فإذا كان العبد غير قادر أعانه حتى يحصل مراد الآمر الذي يعود إليه نفعه، بل التكليف إرشاد وهدى وتعريف للعباد بما (5) ينفعهم في المعاش والمعاد ومن عرف أن هذا الفعل ينفعه وهذا الفعل يضره، وأنه يحتاج (6) إلى ذلك الذي ينفعه، لم يمكنه أن يقول: لا أفعل الذي أنا محتاج إليه، وهو ينفعني (7) حتى يخلق في الفعل، بل مثل هذا يخضع ويذل لله حتى يعينه على فعل ما ينفعه، كما لو قيل: هذا العدو قد قصدك (8) ، أو هذا السبع، أو هذا السيل (9) المنحدر، فإنه لا يقول: لا أهرب وأتخلص
_________
(1) له: ساقطة من (ب) ، (أ) .
(2) ب، أ، ن: إليك.
(3) ن: كان ذلك فضلا منه. وعليك في (ع) فقط.
(4) ن، م: بحاجة.
(5) بما في (م) فقط. وفي سائر النسخ: ما.
(6) يحتاج في (ع) فقط، وفي سائر النسخ: محتاج.
(7) ب، أ: ينفعه.
(8) ع: هذا عدو وقد قصدك.
(9) ن، م: وهذا السبع، أو السيل
===============================
[منه] (1) حتى يخلق [الله] (2) في الهرب، بل يحرص على الهرب ويسأل الله الإعانة على ذلك، ويفر منه إذا عجز. وكذلك إذا كان محتاجا إلى طعام أو شراب أو لباس (3) ، فإنه لا يقول: لا آكل ولا أشرب ولا ألبس حتى يخلق الله (4) في ذلك، بل يريد ذلك ويسعى فيه ويسأل الله تيسيره [عليه] (5) .
فالفطرة مجبولة على حب ما تحتاج إليه، ودفع ما يضرها، وأنها تستعين الله عز وجل على ذلك. هذا [هو] موجب الفطرة (6) التي فطر [الله] (7) عليها عباده، وإيجابها ذلك، ولهذا أمر الله العباد أن يسألوا الله أن يعينهم على فعل ما أمر.
الوجه السادس: أن يقال: مثل هذا الكلام إما أن يقوله من يريد الطاعة، ويعلم أنها تنفعه، أو من لا يريدها ولا يعلم أنها تنفعه، وكلاهما يمتنع [منه] (8) أن يقول مثل هذا الكلام. أما الأول فمن أراد الطاعة وعلم أنها تنفعه أطاع قطعا إذا (9) لم يكن عاجزا، فإن نفس الإرادة الجازمة
_________
(1) منه: ساقطة من (ن) ، (م) .
(2) لفظ الجلالة ساقط من (ن) .
(3) ع، ن، م وشراب ولباس.
(4) لفظ الجلالة ساقط من (ع) ، (أ) ، (ب) .
(5) عليه: ساقطة من (ن) ، (م) .
(6) ب، أ: تستعين بالله على ذلك وهذا موجب الفطرة ; ن، م: تستعين بالله على ذلك. هذا موجب الفطرة. والمثبت من (ع) .
(7) لفظ الجلالة ساقط من (ن) ، (م) .
(8) منه: ساقطة من (ن) ، (م) .
(9) ع: فإذا
======================================
للطاعة مع القدرة (1) توجب الطاعة، [فإنها مع وجود القدرة والداعي التام توجب وجود المقدور] (2) فإذا كانت الطاعة بالتكلم (3) بالشهادتين، فمن أراد ذلك [إرادة جازمة] فعله قطعا [لوجود القدرة والداعي التام] ، ومن (4) لم يفعله علم أنه لم يرده، وإن كان (5) لا يريد الطاعة فيمتنع أن يطلب من الرسول (6) أن يخلقها الله فيه فإنه، إذا طلب من الرسول (7) أن يخلقها الله فيه كان مريدا لها (8) ، فلا يتصور أن يقول مثل ذلك إلا مريد، ولا يكون مريدا للطاعة المقدورة (9) إلا ويفعلها.
وهذا يظهر بالوجه السابع: (10) وهو أن يقال: أنت متمكن من الإيمان قادر عليه، فلو أردته فعلته، وإنما لم تؤمن لعدم إرادتك له، لا لعجزك وعدم قدرتك عليه. وقد بينا أن القدرة التي هي شرط في الأمر تكون موجودة قبل الفعل في المطيع والعاصي، [وتكون موجودة مع الأمر في المطيع] (11) بخلاف المختصة بالمطيع، فإنها لا توجد إلا مع الفعل.
_________
(1) ن: فإن نفس الإرادة للطاعة مع القدرة ; م: فإن نفس الإرادة للطاعة مع القوة.
(2) ما بين المعقوفتين ساقط من (م) ، (ن) .
(3) ن، م: التكلم.
(4) ن، م: فمن أراد ذلك فعله ن: فعليه قطعا ومن.
(5) ب، أ: أنه لا يريده فإن كان إلخ.
(6) ب، أ: أن يكون بطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم.
(7) ب، أ: من الرسول صلى الله عليه وسلم.
(8) لها: ليست في (ع) .
(9) ب، أ: المقدور وهو خطأ.
(10) ب، أ: وهذا يظهر. الوجه السابع ; ن: وهذا يظهر فالجواب السابع، م: وهذا يظهر بالجواب السابع.
(11) ما بين المعقوفتين ساقط من (ن) ، (م)
===================================
وقد بينا (1) أن من جعل القدرة نوعا واحدا: إما مقارنا للفعل (2) ، وإما سابقا عليه، فقد (3) أخطأ. هذا إذا عني بأحد النوعين مجموع ما يستلزم الفعل، كما هو اصطلاح كثير من النظار. وأما إذا لم يرد بالقدرة إلا المصحح فهي نوع واحد.
فإن للناس في القدرة: هل هي مع الفعل أو قبله؟ عدة أقوال (4) : أحدها: أنها لا تكون إلا مع الفعل، وهذا بناء على أنها المستلزمة للفعل، وتلك لا تكون إلا معه، وقد يبنونه على (5) أن القدرة عرض، والعرض لا يبقى زمانين.
والثاني: [أنها] (6) لا تكون إلا قبله، بناء على أنها المصححة فقط، وأنها لا تكون مقارنة.
الثالث: أنها تكون قبله ومعه، وهذا أصح الأقوال.
ثم من هؤلاء من يقول: القدرة نوعان: مصححة، ومستلزمة. فالمصححة قبله والمستلزمة معه.
ومنهم من يقول: بل القدرة هي المصححة فقط، وهي تكون معه وقبله. وأما الاستلزام فإنما يحصل بوجود الإرادة مع القدرة لا بنفس (7)
_________
(1) ع: وقد ثبت.
(2) ع: للفاعل.
(3) فقد: زيادة في (م) فقط.
(4) ب: أقوالا، أ: قولان، وسقطت كلمة " عدة ".
(5) ب، أ: وقد سبق أيضا.
(6) أنها في (ع) فقط.
(7) ب، أ: نفس
====================================
ما يسمى قدرة والإرادة ليست جزءا من مسمى القدرة، وهذا القول [هو] الموافق للغة القرآن (1) ، بل ولغات سائر الأمم هو أصح الأقوال.
وحينئذ فنقول: أنت قادر متمكن خلق فيك القدرة على الإيمان، ولكن أنت لا تريد الإيمان، فإن قال [له:] قل (2) له يجعلني مريدا للإيمان. قال [له] : (3) إن كنت تطلب منه ذلك فأنت مريد للإيمان، وإن لم تطلب ذلك فأنت كاذب في قولك، قل له: يجعلني مريدا للإيمان. فإن قال: فكيف تأمرني (4) بما لم يجعلني مريدا له، لم يكن هذا طلبا للإرادة، بل [كان] (5) هذا مخاصمة، وهذا ليس على الرسول جوابه، [بل] ولا (6) في ترك جوابه انقطاع، فإن القدر ليس لأحد أن يحتج به (7) .
[الوجه الثامن: أن يقال: كل من دعاه غيره إلى فعل وأمره به، فلا يخلو أن يكون مقرا بأن الله خالق أفعال العباد وإرادتهم (8) وأنهم لا يفعلون إلا ما شاءه، (أو لا يكون مقرا بذلك، بل يقول: إنهم يفعلون ما لا يشاؤه) (9) ، وهم يحدثون إرادات أنفسهم بلا إرادته. (10)
_________
(1) ب، أ: وهو القول الموافق للغة القرآن.
(2) له: في (ع) فقط.
(3) أ، ب: قل له ; ن، م: قال.
(4) أ، ب: يأمرني.
(5) كان: ساقطة من (ن) ، (م) .
(6) أ، ب: ليس على الرسول صلى الله عليه وسلم بل ولا ; ع، ن، م، ليس على الرسول جوابه، ولعل الصواب ما أثبته.
(7) بعد عبارة ((يحتج به)) يوجد سقط في نسختي (م) ، (ن) ، وسنشير إلى نهايته بإذن الله.
(8) ب، أ: وإرادتهم.
(9) ما بين القوسين في (ع) فقط.
(10) ب، أ: أو هم يجذبون إرادة أنفسهم بلا إرادته، وهو تحريف
=================================
فإن كان من القسم الأول فهو يقر بأن كل ظالم له أو لغيره (1) قد خلقت إرادته للظلم فظلمه (2) ، وهو لا يعذر الظالم في ذلك. فيقال له: أنت مقر بأن مثل هذا ليس بحجة (3) لمن خالف ما أمر به كائنا ما كان، فلا يسوغ لك الاحتجاج به وإن كان (4) منكرا للقدر امتنع أن يحتج بهذا، فثبت أن الاحتجاج بالقدر لإفحام الرسل لا يسوغ (5) لا (6) على قول هؤلاء ولا على قول هؤلاء.
فإن قال قائل: المدعي ليس له مذهب يعتقده بل هو ساذج.
قيل له: هب أن الأمر كذلك، ففي نفس الأمر إما أن يكون (الحق) (7) قول هؤلاء وإما أن يكون قول هؤلاء، وعلى التقديرين فالاحتجاج بالقدر باطل. فثبت بطلان الاحتجاج به باتفاق الطائفتين: المثبتة والنفاة.
الوجه التاسع: أن يقال مقصود الرسالة هو الإخبار بالعذاب لمن كذب وعصى، كما قال موسى وهارون عليهما السلام لفرعون: {إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى} [سورة طه: 48] .
وحينئذ فإذا قال: هو خلق في الكفر ولم يخلق في إرادة الإيمان.
_________
(1) ع: ولغيره.
(2) ب (فقط) : فظلم.
(3) ع: حجة.
(4) ب، أ: فلا يسوغ ذلك الاحتجاج وإن كان. . . إلخ.
(5) ب، أ: لا يجوز.
(6) لا: ساقطة من (ع) .
(7) الحق: في (ع) فقط
=====================================
قيل له: هذا لا يناقض وقوع العذاب بمن كذب وتولى، فإن كان لم يخلق فيك الإيمان فأنت ممن يعاقبه، وإن جعلك مؤمنا فأنت ممن يسعده (1) ونحن رسل مبلغون لك منذرون لك، فقد حصل مقصود الرسول (2) وبلغ البلاغ المبين، وإنما المكلف يخاصم ربه حيث أمره بما لم يعنه عليه، وهذا لا يتعلق بالرسول ولا يضره (3) ، والله سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
الوجه العاشر: أن يقال هذا السؤال وارد على (هذا) المصنف (4) وعلى غيره من محققي المعتزلة والرافضة الذين اتبعوا أبا الحسين البصري (5) حيث قال إنه مع وجود الداعي والقدرة يجب وجود المقدور، وذلك أن الله خلق الداعي في العبد. وقول أبي الحسين ومتبعيه في القدر (6) وهو قول محققي أهل السنة الذين يقولون: إن الله خلق قدرة العبد وإرادته، وذلك مستلزم لخلقه (7) فعل العبد، ويقولون: إن العبد فاعل لفعله حقيقة (ومحدث لفعله) (8) ، والله سبحانه جعله فاعلا له (9) محدثا له، وهذا قول جماهير
_________
(1) ب، أ: أسعده.
(2) ب، أ: الرسالة.
(3) ع: ولا يضره شيئا.
(4) ب، أ: على المصنف.
(5) وهو أبو الحسين محمد بن علي الطيب البصري المتوفى سنة 436 هـ، سبق الكلام عنه 1/395، 2/125، 283.
(6) في القدر: ليست في (ع) .
(7) ب، أ: لحقيقة.
(8) ومحدث لفعله: في (ع) فقط.
(9) له: ساقطة من (ع)
==================================