
منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية
أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحنبلي الدمشقي
المجلد الثالث
الحلقة (177)
صـ 43 إلى صـ 50
قادرا إلا حين الفعل. وهؤلاء يقولون: إن القدرة لا تصلح للضدين عندهم (1) فإن القدرة المقارنة للفعل لا تصلح إلا لذلك الفعل، وهي مستلزمة له لا توجد بدونه، إذ لو صلحت للضدين على وجه البدل أمكن وجودها مع عدم (2) أحد الضدين، والمقارن للشيء مستلزم له (3) لا يوجد مع عدمه، فإن وجود (4) الملزوم بدون اللازم ممتنع، وما قالته القدرية [فهو] بناء على أصلهم (5) الفاسد، وهو أن إقدار الله المؤمن (6) والكافر والبر والفاجر سواء، فلا يقولون: إن الله خص المؤمن (7) المطيع بإعانة حصل بها الإيمان، بل يقولون: إن إعانته للمطيع (8) والعاصي سواء، ولكن هذا بنفسه رجح الطاعة ; وهذا بنفسه رجح المعصية. كالوالد الذي أعطى (9) كل واحد من ابنيه (10) سيفا، فهذا جاهد به في سبيل الله، وهذا قطع به الطريق، أو أعطاهما مالا، فهذا أنفقه في سبيل الله، وهذا أنفقه في سبيل الشيطان.
وهذا القول فاسد باتفاق أهل السنة والجماعة المثبتين للقدر، فإنهم متفقون على أن لله على عبده المطيع [المؤمن] (11) نعمة دينية خصه بها دون
_________
(1) عندهم: زيادة في (ن) ، (م) .
(2) عدم: ساقطة من (ع) فقط.
(3) ب، أ: المستلزم له.
(4) م فقط: فإن وجد.
(5) ن: وهذا قالته القدرية بناء على أصلهم، م: وهذا قالته القدرية على أصلهم.
(6) ع: وهو إقدار الله للمؤمن.
(7) المؤمن: ساقطة من (ع) .
(8) ب، أ: إعانة المطيع.
(9) ب، أ: يعطي.
(10) م فقط: كلا من ولديه.
(11) المؤمن: زيادة في (ب) ، (أ)
===================================
الكافر، وأنه أعانه على الطاعة إعانة لم يعن بها الكافر، كما قال تعالى: {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون} [سورة الحجرات: 7] ، فبين أنه حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم.
فالقدرية تقول: (1) هذا التحبيب والتزيين عام في كل الخلق (2) ، أو هو (3) بمعنى البيان وإظهار دلائل الحق. والآية تقتضي أن هذا خاص بالمؤمنين، ولهذا قال: (أولئك هم الراشدون) ، والكفار ليسوا راشدين.
وقال تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء} [سورة الأنعام: 125] .
وقال: {أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون} [سورة الأنعام: 122] .
وقال تعالى: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين} [سورة الأنعام: 53] .
وقال تعالى: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} [سورة الحجرات: 17] .
_________
(1) ب، أ، م: يقولون.
(2) ب، أ: والتزيين على كل الخلق.
(3) ن، م: إذ هو
==============================
وقد أمر الله عباده أن (1) يقولوا: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم} .
والدعاء إنما يكون لشيء مستقبل غير حاصل يكون (2) من فعل الله تعالى. وهذه الهداية المطلوبة غير الهدى الذي هو بيان الرسول صلى الله عليه وسلم وتبليغه.
وقال تعالى: {يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام} [سورة المائدة] .
وقال تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم} [سورة النور: 21] .
وقال الخليل صلى الله عليه وسلم: {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا} [سورة البقرة: 128] .
وقال تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} [سورة السجدة: 24] .
وقال تعالى: {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار} [سورة القصص: 41] .
ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة يبين سبحانه وتعالى اختصاصه (3) عباده المؤمنين بالهدى والإيمان والعمل الصالح، والعقل يدل على ذلك، فإنه إذا (4) قدر أن جميع الأسباب الموجبة للفعل من الفاعل كما هي من التارك، كان
_________
(1) ب: بأن وسقطت من (أ) .
(2) ب، أ: غير حاصل بل يكون.
(3) ب: يبين اختصاص، أ: يبين اختصاصه، ن: تبين تعالى اختصاص ; م: يبين الله اختصاص.
(4) ب، أ: فإذا
=============================
اختصاص الفاعل بالفعل ترجيحا لأحد (1) المثلين على الآخر بلا مرجح، وذلك معلوم الفساد بالضرورة. وهو الأصل الذي بنوا عليه إثبات الصانع، فإن قدحوا في ذلك انسد عليهم طريق إثبات الصانع.
وغايتهم أن قالوا: القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، كالجائع والخائف. وهذا فاسد، فإنه مع استواء الأسباب (2) الموجبة من كل وجه يمتنع الرجحان.
وأيضا فقول القائل: يرجح بلا مرجح، إن كان لقوله " يرجح " معنى زائد على وجود الفعل (3) فذاك هو السبب المرجح، وإن لم يكن له معنى زائد، كان حال الفعل قبل وجود الفعل (4) كحاله (5) عند الفعل (6) ، ثم الفعل حصل في إحدى الحالتين دون الأخرى (7) بلا مرجح، وهذا (8) مكابرة للعقل.
فلما كان أصل قول القدرية أن فاعل الطاعات وتاركها كلاهما في الإعانة والإقدار سواء، امتنع على أصلهم (9) أن يكون مع الفعل قدرة تخصه (10) ;
_________
(1) ب، أ: ترجيح أحد.
(2) ع، أ، ب: فإنه مع الأسباب.
(3) ع، أ، ب، فإنه مع الأسباب
(4) ساقط من (ب) ، (أ) ، والعبارة الأخيرة في (ع) فيها. . كان حال الفعل قبل وجود الفعل، وهو خطأ.
(5) ب، أ: لحاله.
(6) م فقط: كحاله بعد وجود الفعل.
(7) ب: أحد الحالين دون الآخر ; أ: إحدى الحالين دون الآخر ; م: أحد الحالين دون الأخرى، ع: إحدى الحالين دون الأخرى.
(8) ب، أ: فهذا.
(9) م فقط: امتنع عليهم.
(10) ب: أن تكون القدرة مع الفعل قدرة تخصه ; أ: أن يكون القدرة مع الفعل قدرة تخصه
==================================
لأن القدرة التي تخص الفعل لا تكون للتارك وإنما تكون للفاعل، والقدرة لا تكون إلا من الله، وما كان من الله لم يكن مختصا بحال وجود الفعل. ثم لما رأوا أن القدرة لا بد أن تكون قبل الفعل، قالوا: لا تكون مع الفعل، لأن القدرة هي التي يكون بها الفعل والترك، وحال وجود الفعل يمتنع الترك. فلهذا قالوا: القدرة لا تكون إلا قبل الفعل، وهذا باطل قطعا ; لأن (1) وجود الأثر مع عدم (2) بعض شروطه الوجودية ممتنع، بل لا بد أن يكون جميع ما يتوقف عليه الفعل من الأمور الوجودية موجودا عند الفعل، فنقيض قولهم حق، وهو أن الفعل (3) لا بد أن يكون معه قدرة، لكن صار أهل الإثبات هنا (4) حزبين؛ حزبا قالوا: لا تكون القدرة إلا معه، ظنا منهم أن القدرة نوع واحد [لا تصلح للضدين (5) ] ، وظنا من بعضهم (6) أن القدرة عرض فلا تبقى زمانين فيمتنع وجودها قبل الفعل.
والصواب الذي عليه أئمة الفقه والسنة أن القدرة نوعان: نوع مصحح للفعل يمكن معه الفعل والترك، وهذه هي التي يتعلق بها الأمر والنهي، فهذه تحصل (7) للمطيع والعاصي وتكون قبل الفعل، وهذه تبقى (8) إلى حين
_________
(1) ن، م، ع: فإن.
(2) عدم ساقطة من (ع) .
(3) ساقط من (ب) فقط.
(4) هنا: ساقطة من (ب) ، (أ) .
(5) لا تصلح للضدين: ساقطة من (ن) ، (م) .
(6) ع فقط: وظنا منهم.
(7) ب، أ: تصلح.
(8) ب، أ: وهذا يبقى
========================================
الفعل: إما ببقائها (1) عند من يقول ببقاء الأعراض (2) ، وإما بتجدد أمثالها عند من يقول: إن الأعراض لا تبقى، وهذه قد تصلح (3) للضدين.
وأمر الله لعباده مشروط بهذه الطاقة، فلا يكلف الله من ليست معه هذه الطاقة، وضد هذه العجز، وهذه المذكورة في قول الله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات} [سورة النساء: 25] ، وقوله تعالى: {وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون} [سورة التوبة: 42] ، وقوله في الكفارة: {فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا} [سورة المجادلة: 4] فإن هذا نفي لاستطاعة من لم يفعل، فلا يكون مع الفعل.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: " «صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا (4) ، فإن لم تستطع فعلى جنب» " (5) ، فإنما نفى استطاعة لا فعل معها.
_________
(1) ب، م: إما بنفسها ; أ، ن: إما بنفيها، وهو خطأ.
(2) ن، م: عند من يقول إن الأعراض تبقى.
(3) ب، أ، م: وهذا قد يصلح.
(4) ن، م: فجالسا.
(5) الحديث عن عمران بن حصين رضي الله عنه في: البخاري 2/48
=====================================
وأيضا فالاستطاعة المشروطة في الشرع أخص من الاستطاعة التي يمتنع (1) الفعل مع عدمها، فإن الاستطاعة الشرعية قد تكون مما يتصور الفعل مع عدمها وإن لم يعجز عنه (2) ، فالشارع ييسر (3) على عباده، ويريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، وما جعل عليهم (4) في الدين من حرج.
والمريض قد يستطيع القيام مع زيادة مرضه وتأخر برئه، فهذا في الشرع غير مستطيع لأجل حصول الضرر عليه، وإن كان يسميه [بعض] الناس مستطيعا (5) .
فالشارع لا ينظر في الاستطاعة الشرعية إلى مجرد إمكان الفعل، بل ينظر إلى لوازم ذلك، فإذا كان الفعل ممكنا مع المفسدة الراجحة لم تكن هذه استطاعة شرعية، كالذي يقدر أن يحج مع ضرر يلحقه في بدنه أو ماله، أو يصلي قائما مع زيادة مرضه، أو يصوم الشهرين مع انقطاعه عن معيشته، ونحو ذلك (6) فإن كان الشارع قد اعتبر في المكنة عدم المفسدة الراجحة، فكيف يكلف مع العجز؟ ! .
ولكن هذه الاستطاعة مع بقائها إلى حين الفعل لا تكفي في وجود الفعل، ولو كانت كافية لكان التارك كالفاعل، بل لا بد من إحداث إعانة
_________
(1) ن، م: تمنع.
(2) ب، أ: قد تكون ما يتصور بالعقل مع عدمها فإن لم يعجز عنه ; ع: قد تكون مما يتصور بالفعل مع عدمها وإن لم يعجز عنه ; ن، م: قد تكون ما يتصور الفعل مع عدمها وإن لم يعجز عنه. ولعل الصواب ما أثبته.
(3) ن، م: فإن الشارع ميسر.
(4) أ، ب، ع: عليكم.
(5) ن، م: وإن كان قد يسميه الناس مستطيعا ; ع: وإن كان يسميه بعض الناس مطيعا.
(6) ونحو ذلك: ساقطة من (ب) ، (أ)
=======================================
أخرى تقارن هذه (1) ، مثل جعل الفاعل مريدا، فإن الفعل لا يتم (2) إلا بقدرة وإرادة.
والاستطاعة المقارنة للفعل تدخل فيها الإرادة الجازمة، بخلاف المشروطة في التكليف، فإنه لا يشترط فيها الإرادة، والله تعالى (3) يأمر بالفعل من لا يريده، لكن لا يأمر به من لو (4) أراده لعجز عنه (5) .
وهذا الفرقان هو فصل الخطاب في هذا الباب. وهكذا أمر الناس بعضهم لبعض، فإن الإنسان (6) يأمر عبده بما لا يريده العبد، لكن لا يأمره بما يعجز عنه العبد. وإذا اجتمعت الإرادة الجازمة والقوة التامة (7) لزم وجود الفعل، ولا بد أن يكون هذا المستلزم للفعل مقارنا له، لا يكفي تقدمه عليه إن لم يقارنه، فإنه العلة التامة للفعل، والعلة التامة تقارن المعلول، لا تتقدمه. ولأن القدرة شرط في وجود الفعل [وكون الفاعل قادرا] ، والشرط في وجود الشيء [الذي به القادر يكون قادرا] لا يكون [الشيء] مع عدمه بل مع وجوده (8) ، [وإلا فيكون الفاعل (9) فاعلا حين لا يكون قادرا، أو غير (10) القادر لا يكون قادرا] (11) .
_________
(1) ب، أ: هذا.
(2) لا يتم: ساقطة من (ع) .
(3) ب، أ: فالله تعالى ; ن، م: والله سبحانه.
(4) لو ساقطة من (ب) ، (أ) .
(5) ب (فقط) : فعجز عنه.
(6) ب، أ: فالإنسان ; ن، م: والإنسان.
(7) م (فقط) : والإرادة التامة.
(8) ن، م: شرط في وجود الفعل، والشرط في وجود الشيء لا يكون مع عدمه بل مع وجوده.
(9) ب، أ: ولا يكون الفاعل.
(10) أ، ب: وغير.
(11) ما بين المعقوفتين ساقط من (ن) ، (م)
===============================