
منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية
أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحنبلي الدمشقي
المجلد الثالث
الحلقة (176)
صـ 35 إلى صـ 42
فيه من المضرة، كما أن أمر الوالي بعقوبة الظالم يسر الوالي لما فيه من الحكمة (1) ، وهو عدله وأمره بالعدل، وذلك يضر المعاقب لما عليه فيه من الألم.
ولو قدر أن هذا الوالي كان سببا في حصول ذلك الظلم، على وجه لا يلام عليه، لم يكن عذرا للظالم، مثل حاكم شهد عنده بينة (2) بمال لغريم (3) ، فأمر بحبسه أو عقوبته، حتى ألجأه ذلك إلى أخذ مال آخر بغير حق ليوفيه إياه، فإن الحاكم أيضا يعاقبه [فيه] (4) ، فإذا قال: أنت (5) حبستني وكنت عاجزا عن الوفاء، ولا (6) طريق لي إلى الخلاص إلا أخذ مال هذا، لكان حبسه الأول ضررا عليه، وعقوبته ثانيا على أخذ مال [الغير] (7) ضررا عليه والوالي يقول: أنا حكمت بشهادة العدول، فلا ذنب لي في ذلك، وغايتي أني أخطأت، والحاكم إذا أخطأ له أجر. وقد يفعل كل من الرجلين بالآخر (8) من الضرر ما يكون فيه (9) معذورا، والآخر معاقبا، بل (10) مظلوما لكن بتأويل.
_________
(1) ن، م: لما له في ذلك من الحكمة.
(2) البينة هنا الشاهدان، قال الأصفهاني في غريب القرآن: والبينة الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة، وسمي الشاهدان بينة لقوله عليه السلام: البينة على المدعي واليمين على من أنكر.
(3) ن، م: للغريم.
(4) فيه: في (ع) فقط.
(5) أنت: ساقطة من (ب) ، (أ) .
(6) ع: لا، وسقطت من (أ) .
(7) ن، م، ع: على أخذ المال.
(8) بالآخر: ساقطة من (ب) ، (أ) .
(9) ع: ما لا يكون فيه. أ، ب: ما يكون.
(10) بل: ساقطة من (ب) ، (أ)
===============================
وهذه الأمثال ليست مثل فعل الله تعالى، فإن الله ليس كمثله شيء: لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فإنه سبحانه يخلق الاختيار في المختار، والرضا في الراضي، والمحبة في المحب. وهذا لا يقدر عليه إلا الله.
ولهذا أنكر الأئمة على من قال: جبر الله العباد، كالثوري والأوزاعي والزبيدي وأحمد بن حنبل وغيرهم، وقالوا: الجبر لا يكون إلا من عاجز، كما يجبر الأب ابنته على خلاف مرادها.
والله خالق الإرادة والمراد، فيقال: جبل، كما جاءت به السنة، ولا يقال: جبر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم [في الحديث الصحيح] (1) . (2) . (3) .
ومما يبين هذا أن الله سبحانه وتعالى جهة خلقه وتقديره غير جهة أمره وتشريعه، فإن أمره وتشريعه، مقصوده بيان ما ينفع العباد إذا فعلوه وما يضرهم، بمنزلة أمر الطبيب للمريض بما ينفعه، فأخبر الله على ألسن رسله بمصير السعداء والأشقياء، وأمر بما يوصل إلى السعادة، ونهى عما يوصل إلى الشقاوة.
_________
(1) في الحديث الصحيح: زيادة (ع) فقط
(2) قال لأشج عبد القيس: " إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة " فقال: أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما؟ قال: " بل خلقين جبلت عليهما " فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله
(3) الحديث عن ابن عباس وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم في مسلم 1/48 - 49 (كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله تعالى) ؛ سنن ابن ماجه 2/1401 (كتاب الزهد باب الحلم) المسند ط الحلبي 3/23، 4/206. سنن أبي داود 4/483 (كتاب الأدب باب في قبلة الرجل) . والحديث فيها عن أم أبان بنت زارع عن جدها زارع، سنن الترمذي 3/247 (كتاب البر والصلة، باب ما جاء في التأني والعجلة)
===============================
وخلقه وتقديره يتعلق به وبجملة المخلوقات، فهو يفعل لما فيه حكمة متعلقة بعموم خلقه، (1) وإن كان في ضمن ذلك مضرة لبعض الناس، كما أنه ينزل المطر لما فيه من الرحمة والنعمة العامة والحكمة (2) وإن كان في ضمن ذلك تضرر (3) بعض الناس بسقوط منزله وانقطاعه عن (4) سفره وتعطيل معيشته وكذلك يرسل نبيه [محمدا] صلى (5) الله عليه وسلم لما في إرساله من الرحمة العامة، وإن كان في ضمن ذلك سقوط رياسة قوم وتألمهم بذلك. فإذا قدر على الكافر كفره، قدره الله لما له في ذلك من الحكمة والمصلحة العامة، وعاقبه لاستحقاقه ذلك بفعله الاختياري وإن كان مقدرا (6) ، ولما له في عقوبته من الحكمة والمصلحة العامة.
وقياس أفعال الله على أفعال العباد خطأ ظاهر، لأن السيد إذا أمر عبده بأمر أمره لحاجته إليه ولغرض السيد فإذا أثابه على ذلك كان من باب المعاوضة، وليس له حكمة يطلبها إلا حصول ذلك [المأمور به] (7) وليس هو الخالق لفعل المأمور. فإذا قدر أن السيد لم يعوض المأمور، أو لم (8) يقم بحق عبده الذي يقضي حوائجه كان ظالما كالذي يأخذ سلعة ولا يعطي (9) ثمنها، أو يستوفي منفعة الأجير ولم يوفه أجره.
_________
(1) ساقطة من (ب) ، (أ) ، ومكانه فيها كلمة " كالمطر ".
(2) ساقطة من (ب) ، (أ) ، ومكانه فيها كلمة كالمطر.
(3) ن: يتضرر، م: ضرر.
(4) ن، م، ع: من.
(5) ن، م: يرسل نبيه صلى. . .، ب: رسالة نبيه صلى، أ: برسالة نبيه صلى. . .
(6) ب، أ، م: مقدورا.
(7) المأمور به: ساقطة من (ن) ، (م) .
(8) ب، أ: ولم.
(9) ب، أ: ولم يعط
===============================
والله تعالى غني عن العباد، إنما أمرهم بما ينفعهم، ونهاهم عما يضرهم فهو محسن إلى عباده بالأمر لهم، محسن (1) لهم بإعانتهم على الطاعة ولو قدر أن عالما صالحا أمر الناس بما ينفعهم، ثم أعان بعض الناس (2) على فعل ما أمرهم به ولم يعن آخرين، لكان محسنا إلى هؤلاء إحسانا تاما، ولم يكن ظالما لمن لم يحسن إليه. وإذا قدر أنه عاقب المذنب (3) العقوبة التي يقتضيها عدله وحكمته (4) ، لكان [أيضا] محمودا على هذا وهذا، وأين هذا من حكمة [أحكم الحاكمين] ، وأرحم الراحمين (5) ؟ ! .
فأمره (6) لهم إرشاد وتعليم وتعريف (7) بالخير، فإن أعانهم على فعل المأمور كان قد أتم النعمة على المأمور، وهو مشكور على هذا وهذا، وإن لم يعنه وخذله حتى فعل الذنب كان له في ذلك حكمة أخرى، وإن كانت مستلزمة تألم هذا، فإنما تألم بأفعاله الاختيارية التي من شأنها أن تورثه نعيما أو ألما، وإن كان ذلك الإيراث بقضاء الله وقدره فلا منافاة بين هذا وهذا، فجعله المختار (8) مختارا من كمال قدرته وحكمته، وترتيب آثار الاختيار عليه من تمام حكمته وقدرته.
_________
(1) أ، ع: محسنا، وفي (م) ، (ن) : بالأمر لهم وبإعانتهم. ن: وبإعانته.
(2) ن، م: ثم أعان بعضهم.
(3) ن، م: المذنبين.
(4) ب، أ: وحكمه.
(5) ن، م: لكان محمودا على فعل هذا وهذا، وأين هذا من حكمة أرحم الراحمين.
(6) ب، أ: وأمره.
(7) ب، أ: وتعريفهم.
(8) ب، أ: للمختار
==================================
لكن يبقى الكلام في نفس الحكمة الكلية (1) في هذه الحوادث، فهذه ليس على الناس معرفتها، ويكفيهم التسليم لما قد علموا أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها.
ومن المعلوم (2) ما لو علمه كثير من الناس لضرهم علمه، ونعوذ بالله من علم لا ينفع. وليس اطلاع كثير من الناس بل أكثرهم على حكم (3) الله في كل شيء نافعا لهم بل قد يكون ضارا. قال تعالى: {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [سورة المائدة: 101] .
وهذه المسألة (4) : مسألة غايات أفعال الله ونهاية حكمته مسألة عظيمة، لعلها أجل المسائل الإلهية، وقد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع، وكذلك بسط الكلام على مسائل القدر، وإنما نبهنا تنبيها لطيفا على امتناع أن يكون خلق الفعل (5) ظلما، سواء قيل: إن الظلم ممتنع من الله، أو قيل (6) : إنه مقدور، فإن الظلم الذي هو ظلم أن يعاقب الإنسان على عمل غيره، فأما عقوبته على فعله الاختياري، وإنصاف المظلومين من الظالمين، فهو من كمال عدل الله تعالى.
وهذا التفصيل في باب التعديل والتجوير (7) بين مذهب القدرية الذين
_________
(1) ب، أ: الكمية وهو تحريف.
(2) ب (فقط) : العلوم.
(3) ب، أ: حكمة
(4) ب، أ: وفي هذه المسألة.
(5) الفعل: ساقطة من (ع) .
(6) قيل: ساقطة من (ب) ، (أ) .
(7) ب، أ، ع: والتجويز، وهو خطأ
===========================
يقيسون الله بخلقه في عدلهم وظلمهم، وبين مذهب الجبرية الذين لا يجعلون لأفعال (1) الله حكمة (2) ، ولا ينزهونه عن ظلم يمكنه فعله، ولا فرق عندهم بالنسبة إليه بين ما يقال: هو عدل وإحسان، وبين ما يقال هو ظلم.
وقول هؤلاء من الأسباب التي قويت بها شناعات (3) القدرية، حتى غلوا في الناحية الأخرى، وخيار الأمور أوسطها، ودين الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه، وقد ظهر الفرق بين عقوبته على الكفر وغيره من المعاصي، وبين عقوبته على اللون والطول (4) ، كما يظهر الفرق بينهما إذا كان المعاقب بعض الناس، فإن الكفر وإن كان خلق فيه إرادته وقدرته عليه، فهو الذي فعله باختياره وقدرته، وإن كان كذلك كله (5) مخلوقا، كما يعاقبه (6) غيره عليه مع كون ذلك كله مخلوقا.
وأما قوله: " ولم يخلق فيه قدرة على الإيمان " فهذا قاله على قول من يقول من أهل الإثبات: إن القدرة لا تكون إلا مع الفعل، فكل (7) من لم يفعل شيئا لم يكن قادرا عليه، ولكن يكون (8) عاجزا عنه. وهؤلاء قد (9) يقولون لا يكلف
_________
(1) ب، أ: أفعال.
(2) ب (فقط) : لحكمة.
(3) ب، أ: ساعات، وهو تحريف.
(4) ب، أ: اللون والقصر والطول.
(5) ب، أ، م: وإن كان كل ذلك.
(6) ب، أ: كما يعاقب.
(7) ع: وكل.
(8) ب، أ، ن، م: ولكن لا يكون، وهو خطأ.
(9) قد: ساقطة من (ب) ، (أ)
================================
العبد (1) ما يعجز عنه، ولكن يكلف ما يقدر عليه (2) بناء على أن القدرة لا تكون إلا مع الفعل (3) .
وحقيقة قولهم أن كل من ترك واجبا لم يكن قادرا عليه. و [ليس] هذا (4) قول جمهور أهل السنة، بل جمهور أهل السنة (5) يثبتون للعبد قدرة هي مناط الأمر والنهي، وهذه قد تكون قبله لا يجب أن تكون معه، ويقولون أيضا: إن القدرة التي يكون بها الفعل لا بد أن تكون مع الفعل، لا يجوزون (6) أن يوجد الفعل بقدرة معدومة [ولا بإرادة معدومة] (7) ، كما لا يوجد بفاعل معدوم.
وأما القدرية فيزعمون أن القدرة لا تكون إلا قبل الفعل، ومن قابلهم من المثبتة يقولون: لا تكون إلا مع الفعل.
وقول [الأئمة] والجمهور (8) هو الوسط: أنها لا بد أن تكون معه، وقد تكون مع ذلك قبله (9) [كقدرة المأمور العاصي] (10) ، فإن تلك القدرة تكون متقدمة (11) على الفعل بحيث تكون لمن لم يطع (12) ، كما قال تعالى:
_________
(1) العبد: ساقطة من (ب) ، (أ) .
(2) ع: ولكن يكلف ما لا يقدر عليه، ن، م: ولكن لا يكلف ما لا يقدر عليه.
(3) م فقط: بناء على أن القدرة إنما تكون مع الفعل.
(4) ن، م: وهذا، وهو خطأ.
(5) عبارة ((بل جمهور أهل السنة)) ساقطة من (ب) ، (أ) .
(6) ن، م، ع: لا يجوز.
(7) ولا بإرادة معدومة: هذه العبارة ساقطة من (ن) ، (م) .
(8) ن، م: وقول الجمهور.
(9) ن، م: وقد تكون قبل ذلك.
(10) عبارة ((كقدرة المأمور العاصي)) ساقطة من (ن) ، (م) .
(11) ب، أ: مقدمة ; ن: مقدرة.
(12) ن، م: على الفعل تكون لمن يطيع
==================================
{ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} [سورة آل عمران 97] فأوجب الحج على المستطيع، فلو لم يستطع إلا من حج لم يكن الحج قد وجب إلا على من حج، ولم يعاقب أحد (1) على ترك الحج. وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام.
وكذلك قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [سورة التغابن 16] ، فأوجب التقوى بحسب الاستطاعة، فلو كان من لم يتق الله لم يستطع التقوى لم يكن قد أوجب التقوى إلا على من اتقى، ولا يعاقب من لم يتق (2) ، وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام.
وهؤلاء إنما قالوا هذا لأن القدرية والمعتزلة (3) والشيعة وغيرهم قالوا: القدرة لا تكون إلا قبل الفعل، لتكون صالحة للضدين: الفعل والترك، وأما حين الفعل (4) [فلا يكون إلا الفعل، فزعموا أو من زعم منهم أنه حينئذ] (5) لا يكون قادرا ; لأن القادر لا بد أن (6) يقدر على الفعل والترك، وحين الفعل لا يكون قادرا على الترك فلا يكون قادرا.
وأما أهل السنة فإنهم يقولون: لا بد أن يكون قادرا حين الفعل، ثم أئمتهم قالوا: ويكون أيضا قادرا قبل الفعل. وقالت (7) طائفة منهم لا يكون
_________
(1) ب، أ: ولم يعاقب أحدا.
(2) م فقط: ولم يعاقب الله من لم يتق.
(3) ن، م، ع: القدرية من المعتزلة.
(4) ب، أ: وأما من حين الفعل.
(5) ب، أ: وزعموا أن من زعم منهم، وسقطت العبارات بين المعقوفتين من (ن) ، (م) إلا كلمات قليلة في (م) .
(6) ع: لا بد وأن.
(7) ب، أ، ن: وقال
====================================