كتاب قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام لمحمود محمد شاكر
صفية الشقيفي
محمد بن سلام وكتابه الطبقات
قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر بن أحمد الحسيني (ت: 1418هـ)
ويحسن بي هنا. أن أقص القصة في خلال مراجعتي نص كتاب >طبقات فحول الشعراء<، وتتبعي ما نقله العلماء من كتابه إلى كتبهم، وجدت الجاحظ قد نقل في مواضع من كتاب >الحيوان< خاصة، عن ابن سلام أقوالاً وأخبارًا هي بنصها موجودة في نسختي من >طبقات فحول الشعراء<، فثبت عندي أن الجاحظ قد اطلع على نسخة من كتاب ابن سلام، فنقل منها. والدليل على ذلك أن أبا عثما،، كما ذكر الأستاذ عبد السلام هارون في مقدمة >كتاب الحيوان< ومقدمة >كتاب البيان والتبيين<، قد اقعده الفالج قبيل مقتل ابن الزيات في سنة 233، وأنه ألف الكتابين في آخر حياته. وقد أوشك الدكتور طه الحاجري أن
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 16]
يقطع بوقت تأليف >كتاب الحيوان< في مقدمة كتاب البخلاء فقال: >أما كتاب الحيوان فنستطيع القطعَ في طمأنينة علمية بأنه كتبه في أواخر حياته، بعد مقتل المتوكل سنة 247<. وقد استظهرت أنا أيضًا أنه ألف كتابًا ثالثًا هو >كتاب البرصان والعرجان< في تلك العلة، ألفه مع الحيوان، وقبل كتاب البيان، لأنه ذكر فيه الأحنف بن قيس، وذكر شيئًا من اقواله ثم قال ص207: >وسنذكر فقرًا من كلامه في كتاب البيان والتبيان، إن شاء الله، وبالله التوفيق< .
وإذا كان >كتاب الحيوان<، الذي ألفه أبو عثمان في آخر حياته، يدل على أنه اطلع على كتاب ابن سلام ونقل منه، فإن كتاب >البرصان والعرجان< يدل دلالة قاطعة أخرى على ذلك. فإن أبا عثمان، بعد أن فرغ من ذكر البرصان، واستفتح القول في العرجان ص: 110، قال في تقدمة الباب: >وسنذكر شأن العرجان وأسمائهم وأنسابهم وصفاتهم وأقدارهم بمثل ذلك من الأشعار الصحيحة والأسانيد المرضية<، وقد وفى بما قال في شأن من ذكرهم إلا رجلاً واحدًا لم يذكر عنه خبرًا ولا صفة ولا بيانًا من بين جميع من عددهم وحلاهم من العرجان، من ص110، إلى ص270، بل أسقطه إسقاطًا في خلال العرجان وأخبارهم، فقال في ص: 128 >ومن العرجان: أبان بن عثمان البجلي الأعرج، وكان صاحب أخبار، وقد أكثر عنه محمد بن سلام الجمحي<، ولمي زد على ذلك شيئًا من خبر أو غيره. والذي ذكره من إكثار محمد بن سلام عنه في الرواية بين في كتاب الطبقات. فأنا أرجح أنه استفاد أنه >أعرج< من كتاب ابن سلام فضمه إلى عرجانه، لأن ابن سلام وصفه بالأعرج في موضعين من كتاب الطبقات (ص: 253، 482)، إذ كان أبو عثمان حديث عهد بكتاب ابن سلام، وكان أمر العرجان يشغله، فأخذه وضمه، ولكنه نسى أن يضيف إلى نسبته >البجلي<
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 17]
>الكوفي<، لأن ابن سلام لم ينسبه كذلك إلا في موضع واحد من كتابه (ص: 375)، وكوفيته لا تشغل أبا عثمان، إنما يشغله عرجه وهو يؤلف في العرجان. فهذا كما ترى قاطع الدلالة على أن الجاحظ قبل أن يؤلف >كتاب الحيوان< >وكتاب البرصان والعرجان< وقع إليه كتاب الجحمي بأخرة عند تأليفه، فقرأه ونقل منه ما نقل. وظني أن أبا عثمان، كان قد سمع بكتاب الطبقات بعد وفاة ابن سلام، ممن كان يختلف إليه من أصحابه وتلامذته، لأن ابن سلام لم يقرأ كتابه على أحد في حياته، فلما مات بقيت كتبه عند أهله، فأرسل أبو عثمان إلى بعض أهله، فاستعار الكتاب أيامًا، فقرأه على عجل ثم رده، ثم نقلت كتبه بعد ذلك من بغداد إلى البصرة، إلى ابن أخته أبي خليفة الفضل بن الحباب الجمحي، ولم يقرأه أو خليفة على الناس إلا بعد دهر طويل من وفاة ابن سلام.
ولما كان محمد بن سلام قد صدر كتابه في >طبقات فحول الشعراء<، برسالة في الشعر القديم وفي رواة هذا الشعر، ساقه النظر إلى ذكر الشعر فقال: >إن أوائل العرب لم يكن لهم من الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل في حاجته، وإنما قصدت القصائد وطول الشعر على عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف (ص: 26)، وأن >أول من قصد القصائد وذكر الوقائع المهلهل بن ربيعة التغلبي< (ص: 39)، ثم قال: >كان امرؤ القيس بن حجر بعد مهلهل، ومهلهل خاله، وطرفة، وعبيد، وعمرو بن قميئة، والمتلمس في عصر واحد< (ص41)، وأن امرأ القيس >سبق العرب إلى أشياء ابتدعها، واستحسنتها العرب، واتبعته فيها الشعراء: استيقاف صحبه، والتبكاء في الديار، ورقة النسيب، وقرب المأخذ وشبه النساء بالظباء والبيض، وشبه الخيل بالعقبان والعصى، وقيد الأوابد، وأجاد في التشبيه، وفصل بين النسيب وبين المعنى< (ص: 55) – ولما قرأ أبو عثمان مقالة ابن سلام في أول كتابه، أعجبته، وهزته، وذكرته بالخبر الهالك الذي جاء فيه أن امرأ القيس >صاحب لواء الشعراء إلى النار، وأنه أول من أحكم الشعر<، بدا له أني صوغ من ذلك كله قضية، يزيد فيها على ابن سلام، فاجتهد فصاغ قضيته الأولى: >أول من نهج سبيل الشعر وسهل الطريق إليه، امرؤ القيس ومهلهل بن ربيعة<، وأعجبه
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 18]
ما صاغ إعجابًا مفرطًا، فإنه ابتدع ما لم يسبق إليه، ولم يبال بهذا الفرق الظاهر بين قوله هو: >أول من نهج سبيل الشعر<، وقول ابن سلام: >أول من قصد القصائد<، وقولي الخبر الهالك أيضًا: >أول من أحكم الشعر<. فإن ألفاظ الخبرين جميعًا لا تتناول الحكم على أولية الشعر نفسه، بل هي مقصورة على أولية تقصيد القصائد وذكر الوقائع فيها، أو على أولية إحكام الشعر، وأن مهلهلاً وامرأ القيس كان لكل منهما الفضل الأول في ذلك. بيد أن أبا عثمان لم يبال طرفة عين أن ينقل هذه الأولية من معنى خاص محدود، هو تقصيد القصائد وتطويلها، إلى معنى عام مطلق جامع هو >الشعر< نفسه. واستحوذ على أبي عثمان إعجابه بنفسه، وثقته بحسن رأيه ونظره، أن يزداد سبقًا في الاستخراج والاستنباط، فزاغ زيغة منكرة مفرطة الغرابة، فأعاد صياغة القضية صياغة جديدة يلقيها مسلمة لا تحتاج إلى برهان فقال: >أما الشعر فحديث الميلاد صغير السن، أول من نهج سبيله، وسهل الطريق إليه: امرؤ القيس ومهلهل بن ربيعة<.
وصدر هذه القضية مشتق من قول ابن سلام: >وإنما قصدت القصائد وطول الشعر على عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف<، لقرب عهدهما من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو >محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف<. والأمر بين جدا كما ترى!!
ولم يقنع أبو عثمان بهذا، بل أراد أن يدعم هذه القضية بدليل مبتدع آخر لم يسبق إليه. فسول له إعجابه بنفسه وبرأيه، وبالقضية التي بهرته صياغتها حين صاغها، فزاغ زيغة أخرى أشد جورًا، فابتغى أن يحدد ميلاد الشعر تحديدًا لا يختلف عليه، فطلب من شعر امرئ القيس الذي كان عنده أول من نهج سبيل الشعر كما زعم، دليلاً أشد ظهورًا وتحديدًا، وأوثق حجة من قول ابن سلام في شأن أولية تقصيد القصائد على عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف، فأسعفه شعر امرئ القيس بأبيات فيها ذكر >حميري بن رياح بن يربوع بن حنظلة< و>عدس بن زيد بن عبد الله بن مالك بن حنظلة<، >وعدس<،
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 19]
هو رأس بني تميم في زمانه، وابنه زرارة بن عدس، رأس تميمًا أيضًا، وهو مشهور لا يخفى ذكره، لاقتران اسمه بأشنع يوم مذكور في بني تميم، يوم أن حرق عمرو بن هند مئة من تميم في يوم أوارة الثاني، وهو مشهور أيضًا معروف قرب تاريخ حدوثه من تاريخ مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذن، فما أيسر الأمر وما أبينه! وإذن، فقد أوفى أبو عثمان على الغاية، وسبق، فحق له أن يختم ما استخرجته براعته فيقول مدلا متبخترًا: >فانظركم كان عمر زرارة، وكم كان بين موت زرارة ومولد النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا استظهرنا الشعر، وجدنا إلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار، فمئتي عام<. وانتقال أبي عثمان من الاستدلال بالشعر الذي فيه ذكر >عدس<، دون أن يذكر أنه يعنيه أو يريده، ثم إلقاؤه اسم >زرارة< غفلا بعقب ذلك مباشرة دون أن يشير إلى أنه >زرارة بن عدس< واطراحه ذكر >يوم أوارة الثاني< الذي جاء عقب موت >زرارة<، وإغضاؤه عن الاحتجاج لتاريخ ذلك اليوم متى كان؟. أقول هذا الانتقال المفاجئ، وسياق عبارته في الأمر والاستفهام وتفويض الأمر كله إلى سامعه أو قارئه غاية في الإدلال والتشامخ ليس بعدها غاية! وما حاجة أبي عثمان إلى تفسير هذا الاستدلال الحسابي، إذا كان الأمر أوضح من أن يفتقر إلى بيان؟!! وقد بيناه نحن آنفًا إكرامًا لأبي عثمان!
وقد ظن أبو عثمان ما ظن في لطف ما سبق إليه، وفي براعة ما ابتدعه. واحتملته خيلاؤه التي لا تفارقه فقيده في أول >كتاب الحيوان<، وكان حديث عهد بقراءة كتاب ابن سلام، ليكون عند نفسه وعند الناس قد أربى على الجمحي، وافترع قولاً هو أحسن من قوله وأوثق، وأنه أتى على ما أبهمه ابن سلام فأضاءه ونفى عنه الظلام. بيد أن الحق دامغ، يغسل تهاويل الزينة الظاهرة عن وجه كل قضية باطنها باطل. وقضية أبي عثمان في أولية الشعر، هي كما رأيت، دعوى باطلة مركبة على دعوى باطلة أخرى لا أصل لها، وكلتاها لا حجة عليها يجب التسليم لها من نص أو نظر. لقد بطلت قضيته وتكشفت
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 20]
عنها زينتها، وعادت عجوزًا غير ذات خليل، كما يقول امرؤ القيس.
شمطاء جزت رأسها وتنكرت ... مكروهة للشم والتقبيل
فالعجب كل العجب بعد ذلك، لمن يعتمد قول الجاحظ في أولية الشعر وعمره، وحداثة ميلاده وصغر سنه! ولم يبق في أيدينا مما يعتمد عليه، إلا الذي لم يختلف عليه أحد، وهو أن من أقدم ما وصلنا من شعر الجاهلية، شعر مهلهل وامرئ القيس وأقرانهما، فإن شئت ألا تفجع أبا عثمان في قضيته وحسابه فزد على ذلك أن الذي بين الرجلين الشاعرين وأقرانهما وبين مجيء الله بالإسلام، يتراوح ما بين مئة وخمسين سنة، إلى مئتي سنة. هذا غاية ما يمكن التسليم بصحته، لا أكثر ولا أقل. ومع ذلك فالأمر على هذا الوجه ليس يقينًا جامعًا، ولا حقًا قاطعًا.
وإذن، فقد صار قول الجاحظ الآن لا يعنينا في شيء، والذي ينبغي أن يعنينا هو ما قاله ابن سلام في رسالة كتابه >طبقات فحول الشعراء<، فالرجل أشد من أبي عثمان تحريًا وضبطًا، وأبلغ منه تحققًا وتثبيتًا في رواية الشعر ونقده، وهو بلا ريب أعلم به منه وأخبر. فمن الحسن إذن أن نقبل بوجوهنا عليه، وأن نحاول أيضًا تحليل أقواله تحليلاً متأنيًا، يقفنا على أول مدرجة الصواب، ويجوز بنا طريق الشك إلى قرار الحق واليقين، ولا حول ولا قوة إلا بالله المخرجنا من ظلمات الحيرة والضلال إلى نور الهدى والطمأنينة.
وقبل كل شيء، وقبل النظر في مقالة أبي عبد الله محمد بن سلام الجمحي في كتابه، >طبقات فحول الشعراء<، أجده لزامًا لا مفر منه، أن أكشف عن شيء من منهجي في قراءة كتب القدماء من علمائنا رحمهم الله. فقد غبر علي زمان طويل في مدارسة كتبهم، على اختلاف موضوعاتها،
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 21]
واختلاف أزمنة مؤلفيها، ولقيت العنت وما فوق العنت في التردد ما بين الخطأ والصواب في فهم بعض ما يقولون، فأسلمني ذلك إلى حالة من الشك تأخذ بأكظامي، وأنا أقرأ بعض كلامهم، حتى ما أطيق أن أتنفس، وأظل حائرًا متهيبًا أن أقول برأي قاطع في فهم ما أقرأ، وتغلبني غمرة طاغية من قلة الثقة بفهمي وبمعرفتي. ورب حرف واحد في كلامهم ينقلني من موقف الواثق، إلى موقف مناقض ينفي هذه الثقة، ثم يأتي بعده حرف آخر يحملني من موقفي هذا، فيطرحني مرة أخرى إلى الموقف الأول في الثقة والاطمئنان، وهكذا دواليك حتى أضق بما أنا فيه. فمن أجل ذلك ألجأ دائمًا إلى إعادة النظر مرة بعد مرة، وأحاول أن أستوعب في كل مرة قدرًا من الشكوك وقدرًا من اليقين، وأعرض هذا على الكلام كله شيئًا بعد شيء، حتى أزيل التخالف الداعي إلى الشك ما استطعت. ومعنى ذلك: أن ألجأ إلى تحليل الألفاظ ثم الجمل تحليلاً دقيقًا، في خلال النص كله طال أو قصر، ثم أعيد تركيبه بعد أن يزول كل غموض يكتنف الألفاظ، وكل تشقق يسري في الجمل، وكل انتشار يبعثر مقاصد كاتبه على أنظارنا نحن المحدثين من أهل العربية. وهذا أمر يطول الحديث عنه، ولا يظهر ظهورًا جليًا إلا بمثل مضروب يدل عليه، وقد كان ذلك في بعض ما كتبت قديمًا، وكان منذ قليل في تحليلي لكلام أبي عثمان الجاحظ على وجه من وجوه هذا المنهج، وسيكون شيء منه بعد قليل من تحليل كلام ابن سلام في رسالة كتابه >طبقات فحول الشعراء<، وحتى عنوان هذا الكتاب نفسه لم يسلم عندي من الشك والتحليل.
وذلك أني منذ عهد قديم، وقفت حائرًا متلددًا في ضبط معنى بعض ألفاظ تدور بينا اليوم قريبة واضحة المعنى، ثم لا نجد في أنفسنا سببًا يحملنا على إعادة النظر في حقيقة معناها، ثم عند التوقف والشك، ومع الأناة والترداد، ظهر لي أن بعضها في كلام ابن سلام عند تحليله، أصبح محفوفًا بمعان غير
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 22]
المعاني التي ألفتها وألفها العلماء والأدباء في زماننا وقبل زماننا، لم يساورهم ولم يساورني أنا أيضًا من قبل شك في معناها الواضح المألوف عندنا. فلما توقفت فيها فيما بعد لأسباب كثيرة، لم يكن ذلك عندي مستغربًا، لأن بعض الألفاظ التي استحدثها قدماء علمائنا من أهل العلم، في كل فن منه، لم تكن يومئذ قد استقرت معانيها على الوجه الذي انتهى إلينا وألفناه نحن في كتب من بعدهم من العلماء والأدباء. وهذا أمر معروف مقرر بلا ريب فيه، ولكن الإلف يغطى عليه وينسيناه. فمن ذلك، مثلاً في كتاب ابن سلام لفظ >طبقة<، استعمله صاحبنا في ثنايا كتابه، ثم جعل جمعه >طبقات< عنوانًا لكتابه. وهذا اللفظ مألوف معروف عندنا وعند من سبقنا من العلماء، وسموا كثيرًا من كتبهم به، فقالوا: >طبقات الفقهاء<، >وطبقات الأدباء< و>طبقات الأطباء<، و>طبقات الشافعية< و>طبقات اللغويين والنحاة< و>طبقات الأمم<، و>طبقات الصوفية<، وعشراتٌ من الكتب تحمل لفظ >طبقات<، وهو في جميعها مفهوم واضح. ولما تعرض المحدثون من علمائنا لكتاب ابن سلام، حملوا معنى >الطبقة< و>الطبقات< عنده على ما ألفوه، فقالوا بتفضيل الطبقة الأولى من فحول الجاهلية على الطبقة الثانية منهم، وهكذا، لأنه ظاهر أنه لم يقسم هؤلاء الشعراء على وفق الزمن وتاريخ المولد والوفاة، فلم يبق في أيديهم إلا معنى واحد من معاني >الطبقة<، وهو تفضيل طبقة على طبقة، وهو معنى لا يريده ابن سلام، وليس في كتابه شيء يد لعليه، بل فيه ما يدل على أنه لا يريد هذا التفضيل البتة. وقد بينت في مقدمة الطبعة الثانية من نسختي من >طبقات فحول الشعراء< (ص24، 25) ما أنا فيه من التردد من فهم هذا اللفظ، ثم عدت في المقدمة نفسها، فحللت هذا اللفظ، وحاولت تتبع تاريخه، وانتهيت إلى ما أظن أنه حقيقة ما يعنيه ابن سلام بهذا اللفظ، وذلك في المقدمة من ص65 إلى ص69، ثم قلت في ختام ذلك: >وسيبقى أمر كتاب >طبقات فحول الشعراء< بعد ذلك، محتاجًا إلى دراسة وتفصيل وتتبع، وإلى تفلية لأصول ابن سلام في النظر، ولأسسه التي بنى عليها نقده في الشعر،
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 23]
وهو خليق بأن تبذل في دراسته الأعوام، لأنه أقدم كتاب وصل إلينا من كتب قدماء نقاد الأدب والشعر، بل لعله طليعة كتب النقد في الأدب العربي. وهو حقيق بهذه المنزلة من التقديم والجلال<. وهذا كاف إن شاء الله، في الدلالة على بعض منهجي في تحليل هذه الرسالة الجليلة التي استفتح بها أبو عبد الله بن سلام الجمحي، كتابه >طبقات فحول الشعراء<). [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 16-24]