حل إشكالات الإنتصار
وضاح أحمد الحمادي
قال رحمه الله : (مسألة : وقال هذا الرجل : قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لسليك إذا جاء والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال : "صليت؟" قال : لا ، قال : "قم فاركع" وخالف ذلك مالك، وقال : لا يركع ، ونهى عن ذلك أشد النهي)
أقول : قد روي الأمر بهما من حديث جابر في الصحيحين بلفظ : جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَقَالَ: «أَصَلَّيْتَ يَا فُلاَنُ؟» قَالَ: لاَ، قَالَ: «قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ» وحديث سليك رواه مسلم بعدة ألفاظ أحدها : عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَجَلَسَ، فَقَالَ لَهُ: «يَا سُلَيْكُ قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا» ثُمَّ قَالَ: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا»
وقد روى أبو سعيد الخدري قصة سليك فقال : " رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَ رَجُلٌ وَهُوَ يَخْطُبُ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ بِهَيْئَةٍ بَذَّةٍ، فَقَالَ: «أَصَلَّيْتَ» ؟ قَالَ: لا، قَالَ: «فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ» ، قَالَ: ثُمَّ حَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَأَلْقَوْا ثِيَابًا فَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا الرَّجُلَ ثَوْبَيْنِ.
فَلَمَّا كَانَتِ الْجُمُعَةُ الأُخْرَى جَاءَ الرَّجُلُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصَلَّيْتَ» ؟ قَالَ: لا، قَالَ: «فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ» ، ثُمَّ حَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ يَعْنِي: فَطَرَحَ، يَعْنِي: ذَلِكَ الرَّجُلُ أَحَدَ ثَوْبَيْهِ فَصَاحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: «خُذْهُ خُذْهُ» ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْظُرُوا إِلَى هَذَا جَاءَ تِلْكَ الْجُمُعَةَ بِهَيْئَةٍ بَذَّةٍ فَأَمَرْتُ النَّاسَ بِالصَّدَقَةِ فَطَرَحُوا ثِيَابًا فَأَعْطَيْتُهُ مِنْهَا ثَوْبَيْنِ فَلَمَّا جَاءَتِ الْجُمُعَةُ أَمَرْتُ النَّاسَ بِالصَّدَقَةِ فَجَاءَ فَأَلْقَى أَحَدَ ثَوْبَيْهِ»
وقال ابن الفخار : (الجواب عن ذلك إن كان قد أمرَ سليكاً بالركون وهو يخطب ، فقد أمرَ غيره بالجلوس، قال معاوية بن صالح حدثني أبو الزاهرية ، عن عبدالله بن بسر قال : كنت جالساً إلى جانبه يوم الجمعة فقال : جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة وسلو الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إجلس فقد آذيت و(أوذيت)"
أقول : قال ابن حزم رحمه الله : ( وَهَذَا لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، لِوُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ -:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؟
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ - لَوْ صَحَّ - أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَكَعَهُمَا، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رَكَعَهُمَا ثُمَّ تَخَطَّى، وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَكُونَ رَكَعَهُمَا، فَإِذْ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ لَا أَنَّهُ رَكَعَ، وَلَا أَنَّهُ لَمْ يَرْكَعْ -: فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ وَلَا عَلَيْهِمْ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ فِي الْخَبَرِ مَا لَيْسَ فِيهِ فَيَكُونُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدَ الْكَذَّابِينَ؟
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ حَتَّى لَوْ صَحَّ الْخَبَرُ، وَكَانَ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَكَعَ -: لَكَانَ مُمْكِنًا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ جَاءَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ بِالرُّكُوعِ، وَمُمْكِنًا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ، فَإِذْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لَهُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ؟
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ صَحَّ الْخَبَرُ وَصَحَّ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَكَعَ.
وَصَحَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ أَمْرِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَنْ جَاءَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ بِأَنْ يَرْكَعَ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ -: لِمَا كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ، لِأَنَّنَا لَمْ نَقُلْ: إنَّهُمَا فَرْضٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُمَا سُنَّةٌ يُكْرَهُ تَرْكُهَا، وَلَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ عَنْ صَلَاتِهِمَا؟ فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ الْفَاسِدِ جُمْلَةً - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ) انتهى.
أقول : معاوية بن صالح ثقة إن شاء الله كما قاله الذهبي رحمه الله في (ميزان الاعتدال) وإنما تكلموا فيه من أجل مناكير رواها عن مجاهيل أو رواها عنه ضعفاء ، وكان رحمه الله مكثراً يروي عن كل أحد ويحدث بكل ما سمع فيما يظهر من حاله ، وتكلموا في عدالته بما لا يقدح إن شاء الله ، وليس هو بدون الثقة إن شاء الله. وقول الذهبي فيه خير من قول ابن حجر رحمه الله في (التقريب) : "صدوق" وكل هذه الأوجه خير مما ذهب إليه ابن الفخار لأن الأصل عند التعارض بين الأخبار الجمع لا الدفع. ومن أوجه الجمع أن يقال : دل ظاهر الحديث على ازدحام المسجد ، فلعله صلى الله عليه وسلم رأى أنه لا مكان يكفي ليصلي فيه ركعتين ، فأمره بالجلوس. ولعله وصلَ ولم يبقَ من وقت الخطبة ما يسع الداخل ليصلِ ركعتين فاكتفى صلى الله عليه وسلم بدفع أذاه بأمره للجلوس.
قال ابن الفخار : (فقيل : إن أمره سليكاً بالصلاة ليتصدق عليه)
أقول : هو مردود بحديث أبي سعيد الخدري المتقدم ، وفيه أنه بعد أن تصدقوا عليه أمره كذلك في الجمعة التي تليها بأن يصلي ركعتي ، ولم يكن أمرهم بالتصدق عليه كما يدل عليه تصدقه هو نفسه بأحد ثوبيه. وبقوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر : " إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا" فدلت الزيادة على أن الأمر غير مختص بسليك رضي الله عنه ، قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله في صحيحه بعد إيراده حديث سليك بهذه الزيادة : "فَمَنِ ادَّعَى أَنَّ هَذَا كَانَ خَاصًّا لِسُلَيْكٍ - أَوْ لِلدَّاخِلِ وَهُوَ رَثُّ الْهَيْئَةِ وَقْتَ خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ خَالَفَ أَخْبَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَنْصُوصَةَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ» مُحَالٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ دَاخِلًا وَاحِدًا دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ» عِنْدَ الْعَرَبِ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَقَعَ عَلَى وَاحِدٍ دُونَ الْجَمْعِ"
وكذلك روى أبو قتادة رضي الله عنه قال : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ»
واستدل رحمه الله بالقياس على الملائكة ، وهو قياس مع الفارق وفي مقابلة النص ، أما النص فقد تقدم ، أما الفارق فلعدم الدليل على أنهم مكلفين بالصلاة تكليفنا.
وقال : (وصلاة النافلة ليست بواجبة ، واستماع الذكر واجب بالسنة ، فكذلك بنبغي طي الاشتغال بالنافلة ، كما طوت الملائكة صحفهم ...)
تقدم معك أن القياس على الملائكة في مقابلة النص ، كما أنه لم يأتِ نص بأن صلاة التحية نافلة لهم ، ولو جاء ، لم يدل لأنهم يأتون مبكرين فمن أين له أنهم لم يصلوا.
وجواب باقي كلامه داخلٌ فيما تقدم.
والله أعلم