حل إشكالات الإنتصار
وضاح أحمد الحمادي
المسألة الثانية : (البيعان بالخيار)
هذه المسألة قد قتلت بحثاً في كتب الفقه بحيث تصعب الإفادة بالجديد .
قال ابن الفخار رحمه الله : "قال هذا القائل المتعسف : قال مالك رحمه الله في حديث النبي صلى الله عليه وسلم "البيعان بالخيار مالم يتفرقا" لا ندري ما معنى هذا الحديث ، وإنما البيع كلام ، فإذا وقع ذلك الكلام لزم البيع ، فترك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إقراره بصحته"
أقول : الحديث رواه مالك في (موطأه) قال : عن نافع عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (المتبايعان كل واحدٍ منهما بالخيار على صاحبه مالم يتفرقا ، إلا بيع الخيار)
قال مالك : عقبه : "ليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه"
ورواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : "إذا تبايع الرجلان فكل واحدٍ منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً ، أو يخير أحدهما الآخر ، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك ؛ فقد وجب البيع ، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحدٌ منهما البيع ؛ فقد وجب البيع" واللفظ لمسلم.
وروى أحمد وأصحاب السنن سوى ابنِ ماجة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "البائع والمبتاع بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون سفقة خيار ، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله"
وفيه رواية للدارقطني : "حتى يفترقا عن مكانهما" وصحح ابن الملقن إسنادها إلى عمرو بن شعيب على شرط مسلم.
وقال نافع رحمه الله : "وكان ـ أي ابن عمر رضي الله عنهما ـ إذا بايع رجلاً فأراد أن لا يقيله ؛ قام فمشى هنيهة ثم رجع"
وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَيْهِ فِي فَرَسٍ بَعْدَ مَا تَبَايَعَا وَكَانُوا فِي سَفِينَةٍ، فَقَالَ: لاَ أَرَاكُمَا افْتَرَقْتُمَا، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا".
قال ابن الفخار : "الجواب في ذلك أن يقال له : إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (البيعان بالخيار مالم يتفرقا) يقتضي تفريقين : تفريق كلام ، ثم تفريق أبدان ، فإلى أي التفريقين تذهب أنت أيها المعترض؟ إلى تفريق الكلام أو تفريق الأبدان؟ فإن قلت : إلى تفريق الأبدان . قيل له : وما دليلك على ذلك ؟ ولأي شيء علقت حكم إنفاذ البيع بين المتبايعين بأحد الفريقين دون أولهما. قال : وهل يكون التفرق بالكلام دون الأبدان؟ وهل يسمى تفرق الكلام تفرقاً وإن كانت الأبدان مجتمعة؟ قيل له : قد ورد القرآن بآي كثيرة تصرح بذلك."
أقول : الحديث لا يقتضي من جهة لفظه سوى تفرق الأبدان فقط ، ولو سلمنا دلالته على تفرق الكلام لغةً فهو في الحديث يقتضي إما تفرق الأبدان فقط ، أو تفرق الكلام والأبدان معاً عند من يحمل اللفظ على جميع معانيه الحقيقية والمجازية.
وقد فهم مالك رحمه الله من الحديث تفرق الأبدان ، لذا أتبعه بقوله : "ليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه"
فهذا منه اعتراض على الحديث ، ولو كان فهم منه تفرق الكلام ما اعترض ، وهو ما فهمه ابن رشد الجد من كلام مالك فقال في (البيان والتحصيل) 7/333 : "فرآه حديثاً متروكاً لم يصحبه عمل" ثم حكى عنه عبارته السابقة.
وكذا فهم ابن القاسم ذلك ففي (المدونة) 3/222 : "قلت لابن القاسم: هل يكون البائعان بالخيار ما لم يفترقا في قول مالك؟ قال: قال مالك: لا خيار لهما وإن لم يفترقا، قال مالك: البيع كلام، فإذا أوجبا البيع بالكلام وجب البيع، ولم يكن لأحدهما أن يمتنع مما قد لزمه"
ففهم ابن القاسم من عبارة السائل "هل يكون البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ..." أنه يسأل عن تفرق الأبدان ، مع أن السائل اقتصر على ذكر التفرق من غير تقييد له بما يفيد تخصيصه بتفرق الأبدان.
بل كل مالكي أجاب عن الحديث برده فهو مقر بدلالته على تفرق الأبدان ، إذ لو لم يدل عنده على تفرق الأبدان لما رده.
فإن قيل : وأين وجدت المالكية يردونه ؟
قلت : عامة من علل ترك العمل به بمخالفته لإجماع أهل المدينة أو بمعارضته للقياس ، أو بأنه غرر ، ونحو ذلك فهو يرده، فإنه لو فهم منه تفرق الكلام لما أتى بهذه الأعذار.
وكل مالكي حمل الحديث على تفرق الكلام فقد خالف مالكاً في فهم الحديث.
ثم نقول : التفرق لا يكون بالكلام ، فلو قال رجل لآخر : (كيف حالك) فأجابه (بخير) ثم جلسا ؛ لم يُسَمى كلامهما تفرقاً ولا سكوتهما بعده تفرقاً ، وإنما يسمى تفرقاً إذا كان التفرق من معاني ألفاظه أو تركيبه ، كقول الرجل : (سأفارقك) أو (فارقتك) أو قوله لامرأته : (هي طالق) أو قال (لن أجامعَك) أو (أجتمعَ معك) وغيرها مما يدل على الفراق هذه الدلالة ، فنفس الكلام باعتباره كلام من غير نظر إلى معانيه ودلالاته ، بل إلى مجرد كونه ألفاظاً مركبة من الإسم والفعل والحرف أو بعضها ؛ لا يدل على اجتماع ولا افتراق فضلاً عن التفرق.
بخلاف تفرق الأبدان فإنه متى حصل ؛ كان تفرقاً ، سواءً كان المتفرقان بأبدانهما متفقين أو مختلفين.
فإذا عرفت هذا ، فالسوم هو عبارة عن تراوضٍ بين البائع والمشتري على مقدار السلعة وثمنها وصفاتها ومقدارها ، كنحو قول المشتري : (بعني ذراعين بعشرة) فيجيب البائع (بل بعشرين) أو (بل ذراعاً بعشرة) فهذه الكلمات حال وجودها لا تسمى تفرقاً ولا افتراقاً لما قدمنا، وبعد انقضائها كذلك ، إذ ليس بعد انقضائها كلام ليوصف بالاجتماع والافتراق ، ويكفي عدم وجود النقل في ذلك.
ولا يكون التفرق بالكلام إلا إذا حملنا لفظ (البيعان) و(المتبايعان) على المتساومين ، وهو خلاف الحقيقة على رأي الجمهور وأبعد المجازين على رأي غيرهم.
ويمنع حمله على المتساومين أيضاً إنه يلغي فائدة الخبر قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله في (اختلاف الأئمة) ص59 : "وعلة من قال التفرق بالأبدان قيام الحجة على أن النبي صلى الله وعليه وسلم لا يجوز أن يخاطب أمته بما لا يفيدهم معنى فلما صح عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" لم يخل ذلك التفرق من أن يكون بالقول أو الأبدان فإن كان بالقول فلم يفد به معنى لأن البائع مالك سلعته قبل عقد البيع فلا معنى أن يقال له أنت بالخيار في بيع سلعتك لأنه لم يكن أحد من أهل الجاهلية والإسلام يعتقد أن1 بيع ملكه غير جائز وكذلك المشتري لا معنى لقول قائل أنت بالخيار في أن تشتري سلعة غيرك الجائز منه اشتراؤها لأنه لم يكن أحد يدين بتحريم الشراء إذا كان لا معنى2 له وإذا كان لا معنى لهذا القول صح أن معنى الخبر هو ما أفاد معنى لم يكن المخاطبون يعتقدونه قبل أن يخاطبوا به وهو أنهما إذا تواجبا فلهما الخيار ما لم يتفرقا عن مكانهما إلا أن يكون البيع بيع خيار لقول النبي صلي الله عليه وسلم (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار) حدثني بذلك علي عن زيد عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلي الله عليه وسلم" انتهى.
وأيضاً يمنع حمله على المتساومين رواية الشيخين المتقدم ذكرها.
أما ما استدل به ابن الفخار من الآيات فالجواب من وجهين : الأول أن يقال : فرق اللغويون بين التفرق والافتراق ، فالتفرق بالأبدان والافتراق بالكلام ، وهذا الحكم بالنسبة للاستعمال الحقيقي ، فلا يرد عليه اعتراض ابن العربي بقوله سبحانه {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} .
والثاني : أن جميعها دالٌ على انقطاع اجتماع كان ولو مقدراً أو متوهماً، وإذا جاز أن يكون التفرق بالكلام ، فهو عن اجتماع كان بالكلام ، كالطلاق الكائن عن نكاح واختلاف العقائد الكائن بعد اتفاقها، واختلاف القلوب مع توهم اجتماعها .
وليس كذلك التساوم لما قاله ابن حزم رحمه الله : " ... قَالُوا: مَعْنَى التَّفَرُّقِ أَيْ بِالْكَلَامِ؟ فَقُلْنَا: لَوْ كَانَ كَمَا يَقُولُونَل َكَانَ مُوَافِقًا لِقَوْلِنَا وَمُخَالِفًا لِقَوْلِكُمْ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُتَبَايِعَيْنِ آخُذُهُ بِعَشَرَةٍ، فَيَقُولُ الْآخَرُ: لَا، وَلَكِنْ بِعِشْرِينَ لَا شَكَّ عِنْدَ كُلِّ ذِي حِسٍّ سَلِيمٍ أَنَّهُمَا مُتَفَرِّقَانِ بِالْكَلَامِ، فَإِذَا قَالَ أَحَدُهُمَا بِخَمْسَةَ عَشَرَ، وَقَالَ الْآخَرُ: نَعَمْ قَدْ بِعْتُكَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ، فَالْآنَ اتَّفَقَا وَلَمْ يَتَفَرَّقَا فَالْآنَ وَجَبَ الْخِيَارُ لَهُمَا إذْ لَمْ يَتَفَرَّقَا بِنَصِّ الْحَدِيثِ؟" انتهى.
وقال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله بعد أن أورد ما استدل صاحب (الهداية) من آيات وأحاديث : "وفُرِّقَ بينهما بأن هذه الشواهد كلها ليس فيها تفرق بالأقوال التي هي تلفظ باللسان ، وإنما هي تفرق من عقده ، أعني في قوله تعالى : {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} والمتبايعان في حال مباشرة العقد إنما بينهما اتفاق على الثمن والمبيع بعد الاختلاف فيه ، ولو كان المعنى أنهما بالخيار حال مباشرة العقد قبل أن يفرغا منه ؛ لكانت العبارة الصحيحة عن ذلك (ما لم يتفقا) لا (ما لم يتفرقا)"
ثم نقل عن ابن عبد البر رحمه الله قوله : "وَأَمَّا مَا اعْتَلُّوا بِهِ مِنْ أَنَّ الِافْتِرَاقَ قَدْ يَكُونُ بِالْكَلَامِ وَأَنَّهُ جَائِزٌ أن يكون أري بِذِكْرِ الِافْتِرَاقِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الِافْتِرَاقُ بِالْكَلَامِ فَيُقَالُ لَهُمْ خَبِّرُونَا عَنِ الْكَلَامِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الِاجْتِمَاعُ وَتَمَّ بِهِ الْبَيْعُ أَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الِافْتِرَاقُ أَمْ غَيْرُهُ فَإِنْ قَالُوا هُوَ غَيْرُهُ فَقَدْ أَحَالُوا وَجَاءُوا بِمَا لا يعقل لأنه ليس ثم كلام غير ذلك وإن قالوا هو ذلك الكلام بِعَيْنِهِ قِيلَ لَهُمْ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الَّذِي بِهِ اجْتَمَعَا وَتَمَّ بَيْعُهُمَا بِهِ افْتَرَقَا وَبِهِ انْفَسَخَ بَيْعُهُمَا هَذَا مَا لَا يُفْهَمُ وَلَا يُعْقَلُ" راجع (التمهيد) 14/18.
فبان لك أن الحديث لا يقتضي من جهة لفظه وسياقه إلا تفرق الأبدان.
وإذا تنزلنا وقلنا بدلالته على التفرق بالكلام فهو ظاهر في التفرق بالأبدان دون التفرق بالكلام ، والأصل حمل الكلام على الظاهر.
وعمل الصحابة الذين رووا أحاديث الخيار بأحد المعنيين مرجحٌ له.
وأخيراً : لو فرضنا احتمال اللفظ للمعنيين ؛ فإما أن نحمله على أظهرهما كما تقدم أو نحمله عليهما معاً ، فيكون الحديث دال على تفرق الأبدان والتفرق بالكلام.
أما أن يترك جميع ذلك ويصار إلى أضعف المعنيين فصاحبه أولى باسم التعنت من ابن حزم أو المعترض أيّ كان.
... يتبع ...