عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 10-07-2024, 08:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,786
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ مَرْيَمَ
المجلد الحادى عشر
صـ 4136 الى صـ 4150
الحلقة (447)




[ ص: 4136 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[28] يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا .

يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا استئناف لتجديد التعبير، وتأكيد التوبيخ، وتقرير لكون ما جاءت به فريا. وهارون هو النبي الشهير، صلوات الله عليه يعنون أنها مثله في الصلاح. لأن الأخ والأخت يستعمل بمعنى المشابه كثيرا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[29] فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا .

فأشارت إليه قالوا منكرين لجوابها: كيف نكلم من كان في المهد صبيا ولم يعهد تكليم عاقل لصبي في المهد.
القول في تأويل قوله تعالى:

[30] قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا [31] وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا .

قال إني عبد الله أنطقه الله بذلك. أولا تحقيقا للحق في شأنه وتنزيها لله تعالى عن الولد، ردا على من يزعم ربوبيته ونبوته: آتاني الكتاب أي: الإنجيل: وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت أي: كثير الخير حيثما وجدت. أبلغ وحي ربي لتقويم النفوس وكبح الشهوات والأخذ بما هو مناط السعادات. والتعبير بلفظ الماضي في الأفعال الثلاثة، إما باعتبار ما سبق في القضاء المحتوم، أو جعل الآتي، لا محالة، كأنه وجد: وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا أي: أمرني بالعبادة وإنفاق المال مدة حياتي.
[ ص: 4137 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[32] وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا [33] والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا [34] ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون [35] ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون [36] وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم .

وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا أي: مستكبرا عن طاعته وأمره.

والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ذلك أي: الذي فصلت نعوته الجليلة وخصائصه الباهرة: عيسى ابن مريم أي: لا ما يصفه به النصارى. وهو تكذيب لهم، فيما يزعمونه، على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهاني. حيث جعله موصوفا بأضداد ما يصفونه: قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون أي: ومن هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد؟

وهذا كقوله تعالى: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين ثم أشار إلى تتمة كلام عيسى من الأمر بعبادته تعالى وحده، بقوله سبحانه: وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم أي: قويم. من اتبعه رشد وهدي. ومن خالفه ضل وغوى.

[ ص: 4138 ] تنبيهات في فوائد هذه القصة:

الأول: لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام، وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته، ولدا زكيا طاهرا مباركا، عطف بذكر قصة مريم في إيجاد ولدها عيسى عليهما السلام منها من غير أب. فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة. ولهذا ذكرهما في آل عمران، وههنا، وفي سورة الأنبياء. يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى، ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه. وأنه على ما يشاء قدير. ومريم هي بنت عمران . من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل. وقد ذكر تعالى ولادة أمها لها في سورة آل عمران. وأنها نذرتها محررة للعبادة. وأنه تقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا فنشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة. فكانت إحدى الناسكات المتبتلات. وكانت في كفالة زكريا ورأى لها من الكرامات ما بهره فقد كان يجد عندها كلما دخل عليها المحراب رزقا. كما تقدم في سورة آل عمران.

الثاني: استدل بقوله تعالى: فأرسلنا إليها روحنا من قال بنبوة مريم. واستدل بقوله تعالى عنها: يا ليتني مت قبل هذا على جواز تمني المنون لمثل تلك الحال. وبقوله تعالى: وهزي إليك بجذع النخلة على التسبب في الرزق، وتكلف الكسب وإليه أشار القائل:


ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يساقط الرطب ولو شاء أحنى الجذع من غير هزه
إليها، ولكن كل شيء له سبب


في الآية أصل لما يقوله الأطباء، إن الرطب ينفع النساء. واستدل بقوله تعالى: فأشارت إليه بعد: فلن أكلم اليوم إنسيا على أن الحالف (لا يتكلم أو لا يكلم فلانا) لا يحنث بالإشارة. وعلى أن السكوت عن السفيه واجب، كما استنبطه الزمخشري ، قال: [ ص: 4139 ] ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافها. وفي قوله تعالى: ما كان أبوك امرأ سوء معنى قولهم في المثل: من أشبه أباه فما ظلم. وفيه أيضا تنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش .

الثالث: نقل الرازي عن القاضي في قوله تعالى: والسلام علي إلخ أن السلام عبارة عما يحصل به الأمان. ومنه السلامة في النعم وزوال الآفات. فكأنه سأل ربه وطلب منه ما أخبر الله تعالى فعله بيحيى. ولا بد في الأنبياء من أن يكونوا مستجابي الدعوة. وأعظم أحوال الإنسان احتياجا إلى السلامة هي هذه الأحوال الثلاثة: وهي يوم الولادة ويوم البعث. فجميع الأحوال التي يحتاج فيها إلى السلامة واجتماع السعادة من قبله تعالى، طلبها ليكون مصونا عن الآفات والمخالفات في كل الأحوال.

الرابع: قال القاشاني : وإنما تمثل لها بشرا سوي الخلق حسن الصورة، لتتأثر نفسها به وتستأنس. فتتحرك على مقتضى الجبلة. ويسري الأثر من الخيال في الطبيعة. فتتحرك شهوتها فتنزل كما يقع في المنام من الاحتلام وتنقذف نطفتها في الرحم فيتخلق منه الولد. وقد مر أن الوحي قريب من المنامات الصادقة ، لهذء القوة البدنية وتعطلها عن أفعالها عنده كما في النوم. فكل ما يرى في الخيال من الأحوال الواردة على النفس الناطقة المسماة في اصطلاحنا قلبا والاتصالات التي لها بالأرواح القدسية، يسري في النفس الحيوانية والطبيعية وينفعل منه البدن. وإنما أمكن تولد الولد من نطفة واحدة. لأنه ثبت في العلوم الطبيعية أن مني الذكر في تكون الولد، بمنزلة الأنفحة في الجبن. ومني الأنثى بمنزلة اللبن ، أي: العقد من مني الذكر والانعقاد من مني الأنثى. لا على معنى أن مني الذكر ينفرد بالقوة العاقدة ومني الأنثى بالقوة المنعقدة، بل على معنى أن القوة العاقدة في مني الذكر أقوى. والمنعقدة في مني الأنثى أقوى. وإلا لم يمكن أن يتحدا شيئا واحدا. ولم ينعقد مني الذكر حتى يصير جزءا من الولد. فعلى هذا إذا [ ص: 4140 ] كان مزاج الأنثى قويا ذكوريا، كما تكون أمزجة النساء الشريفة النفس القوية القوى، وكان مزاج كبدها حارا، كان المني المنفصل عن كليتها اليمنى أحر كثيرا من الذي ينفصل من كليتها اليسرى. فإذا اجتمعا في الرحم، كان مزاج الرحم قويا في الإمساك والجذب، قام المنفصل في الكلية اليمنى، مقام الذكر في شدة قوة العقد. والمنفصل من الكلية اليسرى مقام مني الأنثى في قوة الانعقاد، فيتخلق الوالد هذا. وخصوصا إذا كانت النفس متأيدة بروح القدس، متقوية، يسري أثر اتصالها به إلى الطبيعة والبدن، ويغير المزاج ويمد جميع القوى في أفعالها بالمد الروحاني، فيصير أقدر على أفعالها بما لا ينضبط بالقياس. والله أعلم.

ثم قال في قوله تعالى: وكان أمرا مقضيا في اللوح مقدرا في الأزل. وعن ابن عباس : فاطمأنت إليه بقوله: إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا فدنا منها فنفخ في جيب الدرع، أي: البدن، وهو سبب إنزالها على ما ذكرنا. كالغلمة مثلا والمعانقة التي كثيرا ما تصير سببا للإنزال. وقيل: إن الروح المتمثل لها هو روح عيسى عليه السلام عند نزوله واتصالها بها وتعلقه بنطفتها. والحق أنه روح القدس. لأنه كان السبب الفاعلي لوجوده كما قال: لأهب لك غلاما زكيا واتصال روح عيسى بالنطفة إنما يكون بعد حصول النطفة في الرحم، واستقرارها فيه، ريثما تمتزج وتتحد وتقبل مزاجا صالحا لقبول الروح. انتهى.

الخامس: التمثل مشتق من المثل. ومعناه التصور. وفيه دليل على أن الملك يتشكل بشكل البشر.

قال إمام الحرمين : تمثل جبريل معناه أن الله أفنى الزائد من خلقه أو أزاله عنه. لم يعده إليه بعد.

وجزم ابن عبد السلام : بالإزالة دون الفناء وقرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون انتقالها [ ص: 4141 ] موجبا لموته، بل يجوز أن يبقى في الجسد حيا. لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلا، بل بعادة أجراها الله تعالى في بعض خلقه، ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر تسرح في الجنة.

وقال البلقيني : ما ذكره إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه. بل يجوز أن يكون الآتي جبريل بشكله الأصلي. إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل. وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته. ومثال ذلك القطن، إذا جمع بعد أن كان منتفشا. فإنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة، وذاته لم تتغير. وهذا على سبيل التقريب. والحق أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه. الظاهر أيضا أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط. والله أعلم. كذا قال ابن حجر في فتح الباري.

ولا يخفى أن هذا البحث من الرجم بالغيب، واقتفاء ما لم يحط بكنهه. فالخوض فيه عبث ينتهي خائضه إلى حيث ابتدأ. لأنه من عالم الغيب الذي لا يصل علمنا إليه ولن يصل إليه بمجرد العقل. ولم يرد عن المعصوم صلى الله عليه وسلم فيه نص قاطع. وكل ما كان كذلك فليس من شأننا أن نبحث فيه. فاعرف ذلك فإنه ينفعك في مواضع عديدة.

السادس: قال بعضهم: أصل كلمة ( عيسى ): يسوع. فحرفه اليهود إلى (عيسو) تهكما فحوله العرب إلى ( عيسى ) تشبها باسم موسى . ولبدل الواو بالألف سبب مبني على قواعد اللغة العبرانية، بل والعربية. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[37] فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم .

فاختلف الأحزاب من بينهم أي: اختلف قول أهل الكتاب في عيسى ، بعد بيان أمره [ ص: 4142 ] ووضوح حاله. وأنه عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. فأصرت اليهود منهم على بهت أمه وقرفه بالسحر. وانقسمت النصارى في أمره انقساما يفوت الحصر. وكله ضلال وشرك وكفر. وقد هدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق بإذنه. وهذا من فضله تعالى ومنه: فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم يعني بالذين كفروا، المختلفين. عبر عنهم بالموصول إيذانا بكفرهم جميعا وإشعارا بعلة الحكم. وفي (مشهد) ستة أوجه. لأنه مصدر ميمي أو اسم زمان أو مكان. وعلى كل فهو إما من (الشهود) أي: الحضور أو (الشهادة). وهذا معنى قول الزمخشري: أي: في شهودهم هول الحساب والجزاء إلى يوم القيامة. أو من مكان الشهود فيه وهو الموقف. أو من وقت الشهود. أو من شهادة ذلك اليوم عليهم، وأن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر وسوء الأعمال. أو من مكان الشهادة أو وقتها.

وقيل: معناه ما شهدوا به في عيسى وأمه فعظمه لعظم ما فيه أيضا. كقوله: كبرت كلمة تخرج من أفواههم وفيه وعيد لهم وتهديد شديد. وذلك لأنه لا أظلم ممن كذب بالحق لما جاءه. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[38] أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين .

أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا تعجب من حدة سمعهم وأبصارهم يومئذ. ومعناه أن أسماعهم وأبصارهم يوم يأتوننا للحساب والجزاء جدير بأن يتعجب منهما بعد أن كانوا في الدنيا صما عميا. والآية كقوله تعالى: ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا الآية، أي: يقولون ذلك حين لا يجدي عنهم شيئا. ولو كان هذا قبل معاينة العذاب لأجدى: لكن الظالمون اليوم أي: في الدنيا: في ضلال مبين [ ص: 4143 ] لإغفالهم الاستماع والنظر. فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون. قال الزمخشري : أوقع الظاهر أعني (الظالمين) موقع الضمير، إشعارا بأن لا ظلم أشد من ظلمهم، حيث أغفلوا الاستماع والنظر، حين يجدي عليهم ويسعدهم.

تنبيه:

إنما أول التعجب في الآية بما ذكر، وأنه مصروف للعباد الذين يصدر منهم التعجب، لأن صدوره من الله تعالى محال. إذ هو كيفية نفسانية تنشأ عن استعظام ما لا يدرى سببه. ولذا قيل: إذا ظهر السبب بطل العجب. والمعنى تعجبوا من سمعهم وأبصارهم حيث لا ينفعهم ذلك. فهي كقوله تعالى: فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد أفاده الشهاب .

وهذه طريقة المتكلمين في تأويل ما يشترك في الإضافة إليه تعالى وإلى خلقه من الصفات المروية. وطريقة السلف المحققين إثبات ما ورد به السمع مع نفي التشبيه. إذ لا اتحاد بين صفات الخالق وصفات المخلوق . فما يضاف إليه تعالى هو على النحو الذي يجب أن يكون عليه جل جلاله. فما يقدر في حق المخلوقين من الصفات مستلزما للمحال، لا يجب أن يكون في حقه تعالى مستلزما لذلك. كما أن العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام فينا، يستلزم النقص والحاجة، ما يجب تنزيه الله عنه. وكذلك الوجود والقيام بالنفس فينا، يستلزم احتياجا إلى خالق يجعلنا موجودين. والله منزه في وجوده عما يحتاج إليه وجودنا. فنحن وصفاتنا وأفعالنا. مقرونون بالحاجة إلى الغير. والحاجة لنا أمر ذاتي لا يمكن أن يخلو عنه. وهو سبحانه، الغني له أمر ذاتي لا يمكن أن يخلو عنه. فهو بنفسه حي قيوم واجب الوجود، ونحن بأنفسنا محتاجون فقراء. فإذا كانت ذاتنا وصفاتنا وأفعالنا وما اتصفنا به من الكمال، من العلم والقدرة وغير ذلك، هو مقرون بالحاجة والحدوث والإمكان، لم يجب أن لا يكون لله ذات [ ص: 4144 ] ولا صفات ولا أفعال، وأن لا يقدر ولا يعلم. لكون ذلك ملازما للحاجة فينا. فكذلك كل ما جاء به السمع من الصفات، إذا قدر أنه في حقنا ملازم لحاجة وضعف، لم يجب أن يكون في حق الله تعالى ملازما لذلك. هذا ما قرره الإمام تقي الدين بن تيمية في خلال بعض فتاويه. وكلامه هذا بمثابة القاعدة الكلية لأمثال هذا الموضوع. فاحفظه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[39] وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون [40] إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون .

وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر أي: فرغ من الحساب وفصل بين أهل الجنة والنار، وصار كل إلى ما صار إليه مخلدا فيه: وهم في غفلة أي: وهم اليوم مستغرقون في غفلة عما يفعل بهم في الآخرة: وهم لا يؤمنون أي: لا يصدقون به اليوم وسيعاينونه. ثم أمر تعالى رسوله أن يتلو عليهم نبأ إبراهيم لكونهم ينتمون إليه فيعتبروا في توحيده الخالص، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[41] واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا [42] إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا .

واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا بليغ التصديق بما يجب لله من الوحدانية والتنزيه: نبيا إذ قال لأبيه أي: متلطفا في دعوته إلى التوحيد ونهيه عن عبادة الأصنام: يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا أي: فلا يدفع ضرا ولا يجلب نفعا.

قال أبو السعود : ولقد سلك عليه السلام في دعوته أحسن منهاج، وأقوم سبيل. واحتج عليه [ ص: 4145 ] أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق جميل. لئلا يركب متن المكابرة والعناد. ولا ينكب، بالكلية، عن محجة الرشاد. حيث طلب منه علة عبادته لما يستخف به عقل كل عاقل، من عالم وجاهل ويأبى الركون إليه، فضلا عن عبادته التي هي الغاية القاصية من التعظيم. مع أنها لا تحق إلا لمن له الاستغناء التام، والإنعام العام. الخالق الرازق المحيي المميت المثيب المعاقب. ونبه على أن العاقل يجب أن يفعل كل ما يفعل، لداعية صحيحة وغرض صحيح. والشيء لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا، قادرا على النفع والضر، مطيقا بإيصال الخير والشر، لكن كان ممكنا، لاستنكف العقل السليم عن عبادته. وإن كان أشرف الخلائق. لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة القاهرة الواجبة. فما ظنك بجماد مصنوع من حجر أو شجر، ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر؟
القول في تأويل قوله تعالى:

[43] يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا .

يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك أي: وحق القاصر اتباع الإنسان الكامل: فاتبعني أهدك صراطا سويا أي: معتدلا لا إفراط فيه بعبادة من لا يستحق، ولا تفريط بترك عبادة من يستحق، وكذا في باب الأخلاق والأعمال. قال المهايمي : أي: وإن كان حق الابن اتباع الأب في العرف ، لكنه باطل. لأن الحق اتباع الصواب.

قال الزمخشري : ثنى عليه السلام بدعوته إلى الحق مترفقا به متلطفا. فلم يسم أباه بالجهل المفرط، ولا نفسه بالعلم الفائق. ولكنه قال: إن معي طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك، وذلك علم الدلالة على الطريق السوي. فلا تستنكف. وهب أني وإياك في مسير، وعندي معرفة بالهداية دونك، فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه.
[ ص: 4146 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[44] يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا .

يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا ثلث عليه السلام بتثبيطه ونهيه عما كان عليه، بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل، ببيان أنه مع عرائه عن النفع بالمرة، مستجلب لضرر عظيم، فإنه في الحقيقة عبادة الشيطان. لما أنه الآمر به والمسول له، وقوله: إن الشيطان إلخ تعليل لموجب النهي وتأكيد له، ببيان أنه مستعص على ربك الذي أنعم عليك بفنون النعم. ولا ريب في أن المطيع للعاصي عاص. والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير. والاقتصار على ذكر عصيانه من بين سائر جناياته، لأنه ملاكها. والتعرض لعنوان الرحمانية، لإظهار كمال شناعة عصيانه. أفاده أبو السعود .
القول في تأويل قوله تعالى:

[45] يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا .

يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن لكونك عصيته وواليت عدوه، فيقطع رحمته عنك، كما قطعها عن الشيطان: فتكون للشيطان وليا أي: مقارنا له ومشاركا معه في عذابه.

قال الزمخشري : ربع عليه السلام بتخويفه سوء العاقبة، وبما يجره ما هو فيه من التبعة والوبال. ولم يخل ذلك من حسن الأدب، حيث لم يصرح بأن العقاب لا حق له، وأن العذاب لاصق به، ولكنه قال: أخاف أن يمسك عذاب فذكر الخوف والمس ونكر العذاب. وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه، أكبر من العذاب. وصدر كل نصيحة من النصائح الأربعة بقوله: يا أبت توسلا إليه واستعطافا.
وقوله تعالى:

[ ص: 4147 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[46] قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا .

قال أي: أبوه مصرا على عناده لفرط غلوه في الضلال: أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم أي: أمعرض ومنصرف أنت عنها. وإنما قدم الخبر على المبتدأ، لأنه كان أهم عنده. وصدره بالهمزة لإنكار نفس الرغبة، على ضرب من التعجب. كأن الرغبة عنها مما لا يصدر عن العاقل، فضلا عن ترغيب الغير عنها. وفيه تسلية للرسول صلوات الله عليه، عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه.

وقوله: لئن لم تنته لأرجمنك تهديد متناه. أي: لئن لم تنته عن القول فيها، وعن نصحك، لأرجمنك بالحجارة: واهجرني مليا أي: تباعد عني زمانا طويلا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[47] قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا .

قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا أي: مبالغا في اللطف بي. وفي جوابه بقوله عليه السلام: سلام عليك مقابلة السيئة بالحسنة. كما قال تعالى: وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما أي: لا أصيبك بمكروه بعد. ولكن سأدعو ربي أن يغفر لك. كما قال: واغفر لأبي قال الزمخشري : وفي الآية دليل على جواز متاركة المنصوح، والحال هذه. ويجوز أن يكون دعا له بالسلامة، استمالة له. ألا ترى أنه وعده بالاستغفار؟

وفي (الإكليل): استدل بعضهم بالآية على جواز ابتداء الكافر بالسلام .

[ ص: 4148 ] وقال ابن كثير : قد استغفر إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه مدة طويلة، وبعد أن هاجر إلى الشام وبنى المسجد الحرام. وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق في قوله: ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام. وذلك اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك. حتى أنزل الله تعالى: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله إلى قوله: إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك يعني إلا في هذا القول، فلا تتأسوا به.
ثم بين تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك ورجع عنه، فقال تعالى: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين إلى قوله: وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم وقوله:

القول في تأويل قوله تعالى:

[48] وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا .

وأعتزلكم أي: أتباعد عنك وعن قومك بالهجرة: وما تدعون من دون الله أي: من أصنامكم.

قال الزمخشري : المراد بالدعاء العبادة، لأنه منها ومن وسائطها. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: « الدعاء هو العبادة » . ويدل عليه قوله تعالى: فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله [ ص: 4149 ] وأدعو ربي أي: أعبده وحده: عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا أي: خائبا ضائع السعي. وفيه تعريض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم، مع التواضع لله بكلمة: عسى ، وما فيه من هضم النفس ومراعاة حسن الأدب، والتنبيه على أن الإجابة والإثابة بطريق التفضل منه تعالى .
القول في تأويل قوله تعالى:

[49] فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا .

فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وذلك بالمهاجرة إلى الشام : وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا أي: جعلنا له بنين وحفدة، أنبياء قرت عينه بهم في حياته بدل من فارقهم من أقربائه الكفرة الفجرة.
وقوله تعالى:

القول في تأويل قوله تعالى:

[50] ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا .

ووهبنا لهم من رحمتنا أي: ما عرف فيهم من النبوة والذرية وسعة الرزق وحوزة الأرض المقدسة: وجعلنا لهم لسان صدق عليا أي: ثناء حسنا. عبر باللسان عما يوجد باللسان. كما عبر بـ(اليد) عما يطلق باليد وهي العطية. وإضافته إلى الصدق ووصفه بالعلو، للدلالة على أنهم أحقاء بما يثني عليهم، وأن مجاهدتهم لا تخفى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[51] واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا [52] وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا .

واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا بكسر اللام أي: أخلص العبادة [ ص: 4150 ] عن الشرك وأسلم وجهه لله. وقرئ بفتحه. أي: أخلصه الله، أي: اصطفاه، كما قال: إني اصطفيتك على الناس وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الأيمن أي: من جانبه الأيمن من موسى حين ذهب يبتغي من تلك النار جذوة، فرآها تلوح فقصدها فوجدها ثمة. فنودي عندها: وقربناه نجيا أي: مناجيا، أي: كليما. إذ كلمناه بلا واسطة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[53] ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا .

ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا ليشد أزره في أداء الرسالة.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 46.36 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 45.73 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.35%)]